يهتم السالكون في طريق التكامل في التخلي عن الذنوب والتحلي بالصفات الحميدة كي يصلوا الى مرحلة (التجلي) والرقي في سلم القرب من الله جلّ ذكره ، ولكن النفس الأمارة بالسوء تمنع بعضهم من إكمال المرحلة الأولى (التخلي) فضلاً عن باقي المراحل ، حيث يرغّب الشيطان هذه النفس الى بعض المعاصي بحجة صغرها ولا تأثير لها على سلوك هذا الطريق البديع أو أنها ربما تؤثر ولكن لا يكون تأثيرها كتأثير غيرها من الذنوب الكبيرة ، فالمهم – كما يصوّر الشيطان – التخلص من الذنوب الكبيرة ومن ثم الالتفات الى الصغيرة منها .
ربما تكون هذه الحجة التي جاء بها الشيطان اللعين صحيحة باعتبار أن الشيطان كان عالماً عارفاً عابداً فيعرف طريق الحق لكنه يحرّفه لعباد الله حسداً منه لهم ، ولكن ما هي الذنوب الكبيرة وما هي الذنوب الصغيرة بحيث نقدم الأولى على الأخيرة ؟ وما هو المعيار في تحديد كبر الذنب عن صغره ؟ وما الذي يضمن أن لا يكون هذا الذنب الصغير هو مرقاة – سالبة – لارتكاب ذنب أكبر منه ؟ كل هذه الأمور وغيرها يجب معرفتها حتى نقبل – تنزلاً – بحجة إبليس عليه لعائن الله .
سنأخذ اليوم معياراً لتحديد مدى خطر كل ذنب عن غيره حتى نعرف أي الذنوب علينا الاهتمام والاجتهاد بتركها أكثر من الأخرى من دون إهمال ترك باقي الذنوب مهما قل خطرها في نظرنا ، وهذا المعيار هو (أثر الذنب) ، فكلما كان أثر الذنب كبيراً كان الذنب كبيراً ، كما يمكننا من خلال هذا المعيار أن نعرف سبب استغفار الصالحين من أمور سيئة ولكنها ليست ذنباً .
فارتكاب الذنب مهما كان كبيراً يمكن محوه بتوبة نصوحة طبق الرواية المروية ( لاصغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار ) وهذا من كرمه عز وجل بعباده ، ولكن أثر ذلك الذنب مهما كان صغيراً فإنه سيبقى ، وربما يُمحى بالاستغفار المتواصل ولكن إذا نظرنا الى استمرار أثر ذلك الذنب مع مرور الزمن ومع انتشاره في عدة اتجاهات ومستويات مع احتمالية الغفلة والانحراف والنكوص على الأعقاب والعياذ بالله فإن حجم الاستغفار قد لا يتناسب مع حجم ذلك الأثر ، لأن كل أثر لذنب سيكون بمثابة ذنب بحد ذاته فإذا لم يعي الإنسان أن أثر الذنب خطر لهذه لدرجة فقد لا يفكر أصلاً بالاستغفار منه لأنه يعتقد أن المشكلة في الذنب فيستغفر منه أما أثره فهو غافل عنه فيتركه .
عندما يكون هناك مكان متسخ ونمسح الوسخ فإن المكان ينظف إذا لم يكن هناك مصدر للوسخ ، أما إذا كان للوسخ مصدر فمهما مسحنا المكان المتسخ فإنه سيبقى غير نظيف الى أن نزيل مصدر الوسخ ، وهذا هو حال صحائفنا فهي ملوثة بالذنوب فعندما نستغفر يمحو الله هذه الذنوب بكرمه لكن آثار تلك الذنوب باقية فعلينا أن نقتلع الذنب نفسه إما بعدم ارتكابه أصلاً أو القيام بأعمال صالحة ممكن أن تعادل آثار تلك الذنوب أو بالاستغفار المتواصل الذي يقضي على تلك الآثار .
وهنا نعرف كم هو مهم أن نفكر بآثار الذنوب قبل التفكير بالذنوب نفسها ، لأن الذنب سيصبح مصدراً لذنوب أخرى وقد تكون معالجتها ليس بالأمر الهيّن ، هذا إذا كنا ملتفتين الى وجود آثار وضرورة التخلص منها ، ومع الالتفات فإن أسلوب التخلص منها أمر صعب لولا لطف الله وكرمه ، فمن يضمن أن تعادل الأعمال الصالحة – إن قُبِلت – حجم آثار الذنوب التي تولدت ؟ ومن يضمن أن يبقى التوفيق مستمراً لذلك العمل الصالح أو للاستغفار من هذه الذنوب وآثارها ؟ لذا فالوقاية خير من العلاج .
فيتصور البعض أن نظرته المثيرة للشهوة للجنس الآخر أنها ذنب مقارنة بغيره – وكما تنقله الروايات – بسيط ، وهو قد يكون في هذه الجزئية أمر صحيح ، ولكن لو فتشنا عن آثار هذا الذنب من تولد ضغط جنسي وما يتبعه من ضغوط نفسية ممكن أن تشنج العلاقة مع الأهل والأصدقاء والجيران وقد تصل الى قطع رحم ومشاجرات ممكن أن تتطور الى القتل ، وواقعنا يشهد الكثير من هذه الحالات ، هذا من غير ما يصدر منه معاصي من تكوين علاقات غير شرعية أو الاستماع الى الأغاني أو القيام بأعمال محرمة مثل الزنا والعياذ بالله ، سنعرف عندها قيمة هذا الذنب الذي يبدو صغيراً .
فإذا كانت النظرة المحرمة ممكن أن توصل صاحبها الى هذه المآسي – أو على الأقل الى إحداها – والتي جاءت بسبب تبرج وتزين بعض النساء بشكل يجذب الرجال أو من خلال الخضوع بالقول والضحكة والابتسامة أو بعض الحركات التي تثير شهواتهم ، فكم هو حجم ذنب تلك المرأة المتبرجة وكم حجم أثر ذلك الذنب ؟ وكم هو حجم ذنب أهل تلك المرأة أو الفتاة التي تبرجت وفتنت الرجال والشباب بالسماح لها وعدم توعيتها بحرمة وما تقوم به ؟ وكم هو حجم الذنب الذي يقترفه الزوج الذي يتباهى بإخراج زوجته بهيأة جذابة تثير كل من يشاهدها ؟ وليعلم أولئك الذين ينشرون على صفحات التواصل الاجتماعي ما يثير للشهوة من صور ومقاطع فيديو وكلمات وأشعار وغيرها كم هو حجم الذنب الذي يقترفونه .
هذا على مستوى الشهوة والنظرة المحرمة التي تعتبر من أدنى مراتب الذنوب إذا ما قورنت بالكذب والغيبة والغش وقطع الرحم وسرقة أموال الناس وظلم العباد وإقرار قوانين تخالف شرع الله أو معارضة إقرار القوانين التي أنزلها الله وووووو ، فكيف بآثار تلك الذنوب التي هي أعظم ؟؟؟ حتى ندرك حجم ما نرتكبه من ذنوب وسعة الرحمة التي يشملنا الله بها .
نسأل الله غفران الذنوب وستر العيوب