إحياء الدور: اليابان و”الدبلوماسية الواقعية لعصر جديد”

نوران عوضين

 

بالتزامن مع توليها رئاسة قمة مجموعة السبع، وانضمامها منذ بداية عام 2023، كعضو غير دائم بمجلس الأمن الدولي، تتجه اليابان نحو تأكيد حضور عالمي أكثر فاعلية ونشاطًا، وذلك باعتبارها قوة آسيوية مؤثرة، بهدف تدعيم أركان بيئتها الإقليمية لكي تصبح أكثر أمانًا واستقرارًا، إلى جانب إبراز اضطلاع اليابان بدور أكثر مسئولية على الصعيد العالمي.

يمكن اعتبار الكلمة التي ألقاها رئيس الوزراء الياباني “فوميو كيشيدا” في فعالية “حوار شانجريلا”، يونيو 2022، بمثابة إعلان عن الدور السياسي والأمني العالمي الذي ستتبعه اليابان خلال الفترة القادمة، وهو ما أطلق عليه “كيشيدا” اسم “الدبلوماسية الواقعية لعصر جديد”.

أوضح “كيشيدا” أن اليابان ستكون أكثر نشاطًا من أي وقت مضى في معالجة التحديات والأزمات، عبر الركائز الخمس التالية:

أولًا، الحفاظ وتعزيز النظام الدولي الحر والمفتوح القائم على القواعد. على وجه الخصوص، ستمضي اليابان قدمًا في إدخال التطورات الجديدة نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة، عبر تعزيز النقاش حول ضمان سبل السلام والاستقرار والتنمية بالمنطقة.

ثانيًا، تعزيز الأمن، عبر تعزيز القدرات الدفاعية اليابانية جنبًا إلى جنب مع تعزيز التحالف الياباني الأمريكي وتقوية التعاون الأمني مع الدول الأخرى ذات التفكير المماثل.

ثالثًا، تعزيز الجهود الواقعية لإيجاد عالم خالٍ من الأسلحة النووية.

رابعًا، تعزيز وظائف الأمم المتحدة، بما في ذلك إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

خامسًا، تعزيز التعاون الدولي في مجالات السياسة الجديدة مثل الأمن الاقتصادي.

يعود قرار تبني طوكيو دورًا عالميًا أكثر نشاطًا إلى تنامي القلق بأن “أوكرانيا اليوم قد تكون شرق آسيا غدًا”. وانطلاقًا من هذا الواقع، عبرت السياسات والتحركات الخارجية اليابانية عن ترجمة مباشرة للركائز الواردة بـ”الدبلوماسية الواقعية لعصر جديد”، حيث تضمن الأمر تحديث استراتيجيتها للأمن القومي، وطرح خطتها الجديدة لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، فضلًا عن تحركاتها اللافتة على أكثر من صعيد خارجي، ليبرز بذلك الانخراط الياباني في العديد من المسارح الإقليمية والدولية وبشكل أكثر فاعلية من أي وقت مضى.

قدرات دفاعية داعمة للدبلوماسية الواقعية

في السادس عشر من ديسمبر 2022، تُرجمت الركيزة الثانية من خطاب “كيشيدا” بـ”حوار شانجريلا” إلى خطوات فعلية تمثلت في إصدار اليابان ثلاث وثائق استراتيجية: استراتيجية الأمن القومي (NSS)، واستراتيجية الدفاع الوطني (NDS)، وبرنامج تعزيز الدفاع (DBP). وقد أوضحت هذه الوثائق التحديات الأمنية لليابان وكيف تخطط للاستجابة لها في العقد المقبل، كما أنها تعد أول مراجعة رئيسية لاستراتيجية الأمن القومي منذ إصدارها في عام 2013.

تسمح الوثائق الثلاثة بإجراء تعديلات مهمة على السياسة الموجهة حصريًا للدفاع، والمعروفة باسم (Senshu boei)، التي تتبعها اليابان منذ عام 1946، حيث السماح لليابان بالمشاركة بنشاط أكبر في الدفاع الجماعي عن النفس مع الولايات المتحدة وزيادة قدرتها بشكل كبير على إبراز القوة خارج حدودها. تعكس الاستراتيجية إعادة تقييم من قبل الحكومة اليابانية لما يمكنها وما يجب عليها القيام به لتعزيز الردع بشكل أكثر فعالية في مواجهة البيئة الأمنية المتدهورة بسرعة، وتغير ميزان القوى في شرق آسيا، ووصول “حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية”.

حددت استراتيجية الأمن القومي ثلاثة تحديات أمنية رئيسية ينبغي على اليابان تطوير قدراتها الدفاعية حيالها، وتتمثل في:

أولًا، تنفيذ الصين برنامج تحديث عسكري شامل وتنامي ضغطها البحري على اليابان في بحر الصين الشرقي، مع وجود شبه دائم لسفن خفر السواحل الصينية في المياه المحيطة بجزر سينكاكو. كما أكدت مناوراتها العسكرية حول تايوان في أغسطس 2022، والتي شملت إطلاق صواريخ باليستية هبطت في المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان، أن الصراع في مضيق تايوان سيؤثر بشكل مباشر على الأمن الياباني.

ومن الناحية الاقتصادية، لا تزال اليابان تعتمد على الواردات التي تنتقل عبر المناطق المتنازع عليها مثل بحر الصين الجنوبي، والذي يعد مصدر دائم للمخاطر وعدم الاستقرار بالمنطقة.

ثانيًا، مواصلة كوريا الشمالية تطوير برامج الأسلحة النووية والصواريخ، علاوة على ارتفاع وتيرة اختبار الصواريخ، فقد أجرت بيونج يانج 86 اختبارًا عام 2022، بالمقارنة مع 26 اختبارًا فقط عام 2019. ومنذ عام 2006، أجرت بيونغ يانغ ست تجارب نووية، بينما يحذر الخبراء من احتمالية حدوث التجربة السابعة قريبًا. كما أنها غيرت مؤخرًا عقيدتها النووية لتسمح لها بتوجيه ضربات استباقية، وباستخدام الأسلحة النووية التكتيكية في ساحة المعركة. وفي أكتوبر 2022، أطلقت صاروخًا باليستيًا متوسط المدى حلّق فوق اليابان.

ثالثًا، عجلت الحرب الروسية في أوكرانيا من وتيرة التحول في السياسة اليابانية. ففي أعقاب التدخل العسكري الروسي، انضمت طوكيو إلى مجموعة السبع في فرض عقوبات على موسكو، ووصفت روسيا اليابان بأنها دولة “غير ودية” وزادت من نشاطها العسكري بالقرب من حدودها، ولا يغيب عن البال أيضًا وجود نزاع حدودي ما بين اليابان وروسيا بشأن جزر الكوريل، التي سيطر عليها الجيش السوفيتي في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، والتي بسببها لم يتم توقيع معاهدة سلام ما بين الدولتين. ونتيجة موقفها من الحرب في أوكرانيا، أعلنت روسيا انسحابها من المحادثات مع اليابان والتي كانت تهدف إلى توقيع معاهدة سلام بعد تسويتهما للنزاع القائم حول جزر الكوريل.

من ناحية أخرى، فقد راقب المسئولون اليابانيون زيادة دعم الناتو لكييف بعد أن أظهر إرادة القتال، وخلصوا إلى أنه من خلال ضمان القدرة على الدفاع بشكل أفضل عن اليابان، فمن المرجح أن تقدم الولايات المتحدة والشركاء الآخرون الدعم لليابان في أي أزمة.

في مقاله المنشور على موقع Project Syndicate، أوضح “جوزيف ناي” أنه في مواجهة هذه التحديات، كان أمام اليابان أربعة خيارات لضمان أمنها، أولها تعديل النزعة السلمية من دستورها وإعادة التسليح بالكامل كدولة نووية، إلا أنه سيكون خيارًا مكلفًا وخطيرًا ويفتقر إلى الدعم المحلي. يتمثل ثاني الخيارات في السعي إلى الحياد والاعتماد على ميثاق الأمم المتحدة، لكنه لن يوفر الأمن الكافي، فيما قد يكون الخيار الثالث في تشكيل تحالف مع الصين، ولكن تتمثل إشكاليته في كونه سيعطي الأخيرة تأثيرًا كبيرًا للغاية على السياسة اليابانية. أخيرًا، يمكن لليابان الحفاظ على تحالفها مع القوة العظمى البعيدة. ويعد هذا هو الخيار الأكثر أمانًا وفعالية من حيث التكلفة. لكن منذ فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية في عام 2016، شعر بعض اليابانيين بالقلق من تحول أمريكا إلى الانعزالية.

ولذلك، كان التوجه نحو تعزيز التحالف بين الولايات المتحدة واليابان، إلى جانب تطوير القدرات الدفاعية اليابانية بشكل يجعلها شريكًا على قدم المساواة في التحالف، والعمل مع الآخرين في توفير الأمن المشترك.

وبناءً على ما تقدم، تمثلت أبرز التحولات في السياسة الدفاعية اليابانية فيما يلي: 

أولًا، تضاعف ميزانية الدفاع تقريبا خلال السنوات الخمس القادمة، من 27.47 تريليون ين إلى 43 تريليون ين (314 مليار دولار) بحلول عام 2027، الأمر الذي يعني زيادة الإنفاق الدفاعي الياباني إلى مستوى 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي الحالي. ومن شأن هذا التغيير أن يجعل اليابان (التي تحتل المرتبة التاسعة في الإنفاق العسكري عالميًا الآن) ثالث أكبر دولة تنفق على الدفاع عالميًا، بعد الولايات المتحدة والصين فقط، متجاوزة بذلك الهند والمملكة العربية السعودية والقوى الأوروبية الكبرى.

لا تعكس زيادة الإنفاق الدفاعي فقط الرغبة اليابانية في امتلاك قدرات جديدة ومكلفة (على سبيل المثال، الضربات المضادة؛ والأنظمة غير المأهولة) ولكن أيضًا الوعي بأنه بعد سنوات من قلة الاستثمار في القدرات الدفاعية الرئيسية هناك حاجة إلى موارد بشكل أكبر لتعزيز الردع والمرونة.

ثانيًا، امتلاك قدرات الضربة المضادة. ففي حال اندلاع حرب في كوريا أو تايوان، من المحتمل أن يستهدف الخصم القواعد اليابانية بهدف تدمير المطارات الرئيسية المستخدمة بواسطة القوات الأميركية. وبالنظر إلى تنامي القدرات الصاروخية لكل من الصين وكوريا الشمالية، أٌثير تخوف من أن الدفاعات الصاروخية اليابانية الحالية لم تعد كافية. لذا، اعتمدت الحكومة اليابانية مفهوم الهجوم المضاد، والذي بدوره يخضع لقيود محددة وهي: وجود تهديد حتمي لليابان أو لدولة صديقة يقود لتهديد حتمي لطوكيو، وألا توجد وسيلة أخرى لتفادي الضربات التي تعتبر معادية. فيما ستقتصر الهجمات المضادة على الدفاع عن النفس ولن تكون ضربات استباقية، كما لن يكون بالإمكان توجيه الهجمات المضادة إلا ضد الأهداف العسكرية، وستستخدم الحد الأدنى من القوة اللازمة لتحييد التهديد.

ثالثًا، إنشاء “قيادة مشتركة دائمة” تكون مسئولة عن التنسيق بين الفروع البرية والبحرية والجوية للجيشين الياباني والأمريكي. إلى جانب زيادة مدى الصواريخ، والتي كانت محدودة قبلًا بنحو 200 كم. وفي هذا الإطار، أشارت الوثائق إلى اتجاه اليابان نحو إدخال صواريخ “توماهوك كروز”، التي تنتجها الولايات المتحدة، ويبلغ مداها نحو 1610 كم، لإرسال رسالة قوية للخصوم بشأن استعداد اليابان الدفاع عن نفسها في حال وقوع هجوم عليها. وأخيرًا، تحسين قدرات الاستجابة في مجال الأمن السيبراني، حيث سيكون لقوات الدفاع الذاتي اليابانية دور في تنفيذ “الدفاع السيبراني النشط”، والذي يهدف إلى منع الهجمات الإلكترونية ضد الشبكات الحكومية والبنية التحتية المدنية الحيوية التي يمكن أن تسبب مشاكل خطيرة للأمن القومي.

رابعًا، اعتماد استراتيجية الأمن القومي لأول مرة مفهوم “المساعدة الأمنية الرسمية لليابان OSA”. في الخامس من أبريل 2023، اعتمد مجلس الأمن القومي الياباني المبادئ التوجيهية لتنفيذ المساعدة الأمنية، والتي تهدف إلى تقديم المساعدة إلى القوات المسلحة والمنظمات ذات الصلة بالبلدان المستفيدة في توفير المعدات والإمدادات وتطوير البنى التحتية، وتعميق التعاون الأمني مع البلدان وخلق بيئة أمنية مستقرة لليابان، علاوة على تعزيز البنية الدفاعية الشاملة في المنطقة، في شكل منح مساعدة، بدلًا من القروض، وذلك لأن البلدان المستفيدة هي من البلدان النامية.

لقد حددت اليابان أنها ستوفر مساعدتها الأمنية في ثلاثة مجالات لا تتعلق مباشرة بأي صراع دولي، وتتمثل هذه المجالات في: تعزيز قدرات الأمن والردع للبلدان المتلقية حتى يتمكنوا من المساهمة في السلام والاستقرار والأمن الإقليمي بأنفسهم (مثل تعزيز قدرات المراقبة في المياه الإقليمية والمجال الجوي، ومكافحة الإرهاب، ومكافحة القرصنة)، تحسين قدرات القوات المسلحة والمنظمات ذات الصلة بالبلدان المتلقية على تنفيذ المساعدة الإنسانية بشكل أكثر فعالية (مثل الاستجابة للكوارث وعمليات البحث والإنقاذ والرعاية الطبية)، تحسين قدرات القوات المسلحة والمنظمات المعنية على تنفيذ أنشطة التعاون الدولي بشكل أكثر فعالية (مثل المساعدة في تعزيز القدرات للمشاركة في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام).

وفي كلمته بكلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز في الولايات المتحدة، أكد رئيس الوزراء الياباني “فوميو كيشيدا” أن التحول الأخير في السياسة الأمنية اليابانية سيحقق فوائد لأمن منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بما في ذلك جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ والمحيط الهندي. فضلًا عن أن الدبلوماسية تحتاج إلى دعم بقدرات دفاعية وأن تعزيز القدرات الدفاعية سيؤدي أيضًا إلى الإقناع في تنفيذ جهود اليابان الدبلوماسية، فضلًا عن أهمية إرادة كل مواطن للدفاع بشكل استباقي عن البلاد. للمضي قدمًا، يجب أن يكون لدي اليابان القدرة على اعتبارها شريكًا موثوقًا به للجميع.

انعكاسات الدبلوماسية الواقعية على تحركات اليابان الخارجية

انعكست الركائز الخمس التي اعتمدها كيشيدا في تحركات اليابان الخارجية، ويمكن القول إنه منذ مطلع العام 2023، أصبحت ترجمة هذه الركائز هي مركز حركة السياسة الخارجية اليابانية، وهو ما يمكن رؤيته في ثلاثة اتجاهات رئيسية:

أولًا، تعزيز التعاون الدفاعي مع الدول ذات التفكير المماثل: يعد التحالف الياباني مع الولايات المتحدة هو في قلب الحركة اليابانية الخارجية، بل وتنظر اليابان إلى تعزيز قدرات الردع والاستجابة للتحالف الياباني الأمريكي من زاوية كونه حجر زاوية للسلام والاستقرار ليس فقط في المحيطين الهندي والهادئ، ولكن أيضًا في العالم بأسره.

على صعيد التعاون الأمني، أعلنت الحكومتان الأمريكية واليابانية في يناير 2023 عن خطط لتعزيز التعاون الدفاعي الياباني الأمريكي، عبر تحسين الموقف الدفاعي للحلفاء في الجزر الجنوبية الغربية لليابان وإنشاء فوج ساحلي أكثر مرونة للبحرية الأمريكية في جزيرة أوكيناوا جنوب اليابان، حيث ستنشر الولايات المتحدة بالجزيرة وحدة جديدة متنقّلة من سلاح مشاة البحرية الأميركية (المارينز)، وبحلول العام 2025 سيتم استبدال كتيبة مدفعية ستكون أكثر فتكًا وأكثر قدرة على الحركة في بيئة أمنية متزايدة الصعوبة. وفي السابع والعشرين من فبراير، أعلنت اليابان توجهها نحو شراء 400 صاروخ توماهوك من الولايات المتحدة، لتعزيز دفاعات البلاد ضد التهديدات المحيطة بها.

في الوقت نفسه، أقرت طوكيو ضرورة العمل إلى جانب الولايات المتحدة مع شركاء من الدول الآخرى ذات التفكير المماثل والتي تشترك معهما في القيم العالمية، بما في ذلك أعضاء مجموعة السبع بالإضافة إلى أستراليا وسنغافورة وكوريا الجنوبية والهند.

فيما توصلت لندن وطوكيو إلى اتفاقية دفاعية من شأنها تسريع التعاون الدفاعي والأمني بين اليابان وبريطانيا، والموافقة على نشر قوات كل منهما في كلا البلدين، والسماح لقواتهما بالتخطيط وتنفيذ التدريبات العسكرية على نطاق أوسع وأكثر تعقيدًا. يأتي هذا الاتفاق بعد عام من توصل اليابان مع أستراليا لاتفاق مماثل في يناير 2022.

لا يتوقف مسار التعاون الأمني الياباني مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بل هناك سعي ياباني نحو تعزيز الجهود لإبرام اتفاقيات نقل التكنولوجيا والمعدات الدفاعية مع دول الآسيان وتنفيذ مشاريع تعاون محددة وفقًا لاحتياجات هذه الدول.

وفقًا لليابان، من الممكن أن يمتد أفق التعاون الياباني مع الدول ذات التفكير المماثل إلى أبعاد اقتصادية وتنموية وتكنولوجية، بما يمكنهم من إدارة علاقتهم مع الصين بشكل موحد. فعلى سبيل المثال، أعلن كيشيدا من جامعة جونز هوبكنز أن بلاده ستعمل بالتعاون مع الولايات المتحدة والدول الأخرى ذات التفكير المماثل، على إنشاء صندوق رئيسي بقيمة 50 مليار ين بهدف تعزيز البحث الدولي المشترك وتنمية الموارد البشرية للباحثين الشباب، بجانب العمل على إطلاق Global Startup””، حيث تأمل اليابان من ذلك رسم حدود الجيل القادم، وإنشاء أسواق جديدة، ومن ثم توليد القيم التي من شأنها أن تتلاءم مع رؤاهم. كما أوضح كيشيدا أيضًا أن التعاون بين هذه الدول في مجالات مثل أشباه الموصلات والطاقة قد تمكنهم من التغلب على التحديات التي تواجه أمنهم الاقتصادي.

ثانيًا، تعزيز الرابطة الآسيوية: عطفًا على ما تقدم، تتجه اليابان نحو توطيد حضورها وتأثيرها داخل القارة الآسيوية، وتحديدًا داخل منطقتي جنوب وجنوب شرق آسيا، وهو ما يمكن رؤيته عبر الجولات الخارجية للمسئولين اليابانيين، فضلًا عن اتفاقات التعاون الثنائي المبرمة مع العديد من دول المنطقة. ويمكن فهم الدوافع من وراء تبني هذا الانخراط النشط وفقًا لاعتبارين أساسيين هما: تنسيق المواقف والجهود المعارضة للأنشطة الصاروخية التي تجريها كوريا الشمالية بين الحين والآخر، إلى جانب محاولة تقديم بديل عن النموذج الصيني بين دول المنطقة أو على الأقل الظهور كشريك موثوق به لدي هذه الدول.

على صعيد التعاون الثنائي، وقعت اليابان اتفاقًا في التاسع من فبراير مع الفلبين للإغاثة من الكوارث. يُنظر إلى الاتفاق على أنه مقدمة لتوثيق العلاقات الأمنية بين البلدين، ومن شأنه تسهيل وضع إطار قانوني أوسع يسمح للقوات اليابانية بالانتشار في الفلبين. وقد كان هذا الاتفاق جزءً من سبع اتفاقيات أخرى حول تطوير البنية التحتية والزراعة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بالإضافة إلى المساعدات الإنسانية.

كما تشير وتيرة التنسيق والتعاون الهندي الياباني إلى اتجاههما نحو تعميق علاقتهما الدفاعية والأمنية بشكل أكبر، ففي السادس عشر من يناير الماضي، أجرى البلدان أول تدريب مشترك بينهما على الطائرات المقاتلة، وبهذا كانت الهند خامس دولة تجري معها اليابان مثل هذه المناورات الثنائية، بعد الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا وألمانيا.

فيما كانت عودة العلاقات اليابانية الكورية الجنوبية بمثابة دفعة إيجابية جديدة لصالح الاستراتيجية اليابانية. ففي السادس عشر من مارس 2023، أجرى رئيس كوريا الجنوبية “يون سوك يول” الزيارة الأولى لرئيس كوري جنوبي منذ أثنى عشر عامًا إلى طوكيو، تم التأكيد فيها على ضرورة تجاوز خلافاتهما التاريخية، وأيضًا على إلحاح الوضع الأمني الإقليمي، والتهديد الذي تشكله كوريا الشمالية. ففي الساعات السابقة لزيارة يون، أطلقت كوريا الشمالية صاروخًا باليستيًا بعيد المدى سقط في البحر بين شبه الجزيرة الكورية واليابان، الأمر الذي استدعى تسوية الخلافات اليابانية الكورية الجنوبية، ومن ثم زيادة تعزيز التعاون الأمني بين البلدين مع الولايات المتحدة.

وعلى صعيد علاقتهما الثنائية، اتفق البلدان على إسقاط نزاع تجاري استمر ما يقرب من أربع سنوات بشأن بعض المواد عالية التقنية المستخدمة في صناعة الرقائق، كما اتفقا على إحياء الزيارات المنتظمة لدول بعضهما البعض واتفقا على استئناف الحوار الأمني الثنائي الذي تم تعليقه منذ عام 2018، بالإضافة إلى “التطبيع الكامل” لاتفاقية تبادل المعلومات الاستخبارية، المعروفة باسم GSOMIA، والتي هددت سيول بالانسحاب منها في عام 2019.

 وفي سبيل الحفاظ على حالة الزخم الهادفة إلى تحسين العلاقات، أجرى رئيس الوزراء الياباني زيارة إلى سيول في السابع من مايو الجاري للتأكيد على تجاوز البلدين لخلافاتهما، وتعاونهما على تشكيل جبهة موحدة ضد ما يواجهونه من تحديات إقليمية.

من ناحية أخرى، اتجهت اليابان أيضًا إلى تعزيز حضورها بين دول جزر المحيط الهادئ، ففي التاسع عشر من مارس 2023، أجرى وزير الخارجية الياباني “يوشيماسا هاياشي” أول زيارة لوزير خارجية ياباني إلى دولة جزر سليمان، والتي وقعت معها الصين اتفاق أمني العام الماضي أثار انتقادات من جانب الولايات المتحدة وأستراليا. وقد أعلن هاياشي استعداد بلاده تقديم المساعدة في مجال الأمن البحري، وذلك في إطار سعي طوكيو نحو إقامة شراكات مع دول جزر المحيط الهادئ لتعزيز السلام والاستقرار الإقليميين من خلال استراتيجيتها لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة FOIP.

واتصالًا بهذه الاستراتيجية، أعلن رئيس الوزراء الياباني “فوميو كيشيدا”، خلال زيارته الأخيرة إلى العاصمة الهندية نيودلهي، عن خطة اليابان لتقديم 75 مليار دولار لدول منطقة المحيطين الهندي والهادئ بحلول عام 2030، من خلال الاستثمار الخاص وقروض الينّ وعن طريق تكثيف المساعدات من خلال المنح والمساعدات الحكومية الرسمية. وقد أوضح كيشيدا أن خطته هذه تعزز من الخيارات المتاحة لكل دولة، فاعتماد الدول على العلاقات مع بلد واحد يولد ضعفًا سياسيًا، ولهذا تبرز أهمية خطته في إتاحة الإمكانية أمام كل دولة للتغلب على نقاط الضعف هذه وتحقيق مزيد من النمو الاقتصادي.

ثالثًا، استمرار الحوار مع الصين رغم الخلافات: أجرى وزير الخارجية الياباني “يوشيماسا هاياشي” زيارة إلى الصين يوم الأول من أبريل الماضي التقى فيها مع نظيره الصيني “تشين جانج”. وقد شهدت أول زيارة لوزير خارجية ياباني إلى بكين منذ أكثر من ثلاث سنوات مناقشات حول إمكانات التعاون والتحديات التي تواجه علاقات البلدين المتنافسين. تطرق الاجتماع إلى قضية احتجاز الصين لمواطن ياباني، وتوضيح خطة اليابان لإطلاق مليون طن من المياه المعالجة من حطام محطة فوكوشيما داي إيتشي للطاقة النووية في مياه البحر، إلى جانب مناقشة مخاوف طوكيو العميقة بشأن زيادة النشاط العسكري الصيني في بحر الصين الشرقي، بالقرب من الجزر المتنازع عليها بين البلدين والتي تسيطر عليها اليابان، والمعروفة في اليابان باسم سينكاكو وفي الصين باسم دياويو، فضلًا عن توضيح الموقف الياباني من الأزمة التايوانية، وخطط طوكيو الخاصة بتقييد صادرات 23 نوعًا من معدات تصنيع أشباه الموصلات، والتي دفعت الصين –بحسب العديد من المصادر الصحفية- إلى اتهام اليابان بأنها عميل لواشنطن، وأن هذا التقييد سيحفز فقط تصميم الصين على الاعتماد على الذات.

يتضح مما تقدم أن الاجتماع قد دار غالبًا حول التحديات والخلافات التي تواجه علاقات البلدين معًا، ولكن يظل مسألة انعقاد الاجتماع في حد ذاته مؤشر لوجود رغبة من قبل الجانبين لحلحلة تخوفاتهما المتبادلة، دون تطور الأمور إلى مواجهة مثل تلك الجارية بين واشنطن وبكين. يستدل على ذلك اتفاق الجانبين على استئناف المحادثات الثلاثية مع كوريا الجنوبية، بالإضافة إلى توالي وتيرة الاجتماعات اليابانية الصينية الرسمية. فقبل زيارة هاياشي إلى الصين، انعقد في طوكيو في الثاني والعشرين من فبراير الماضي أول محادثات أمنية رسمية صينية يابانية منذ أربع سنوات بهدف تخفيف حدة التوتر ما بين الجانبين. وفي الحادي والثلاثين من مارس الماضي، أعلنت الصين عن إقامة خط عسكري ساخن مباشر مع اليابان لإدارة القضايا والأزمات البحرية والجوية والسيطرة عليها، والمساعدة في الحفاظ على السلام والاستقرار الإقليميين. وفي العاشر من أبريل الماضي التقى مسئولون يابانيون وصينيون كبار لمناقشة المخاوف البحرية في المياه المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي، حيث تواجه سفن خفر السواحل من كلا البلدين بعضها البعض بانتظام في المياه المحيطة بالجزر المتنازع عليها.

رابعًا، تعزيز المشاركة مع بلدان الجنوب العالمي: بحسب التعريف الياباني الرسمي، يشير مصطلح الجنوب العالمي إلى الدول الناشئة والنامية، ويضم أكثر من 100 دولة، بما في ذلك القوى الإقليمية مثل الهند وإندونيسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا. أبرزت الحرب الروسية في أوكرانيا أن هناك توجهًا لدي دول الجنوب العالمي، يستند إلى عدم الانحياز إلى أي قوة عالمية، حيث لا تزال هذه الدول تميل إلى الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع القوى الدولية دون الانحياز لطرف على حساب الآخر. وبحسب ما جاء بالكتاب الأزرق للدبلوماسية اليابانية الصادر في أبريل 2023، تدرك الحكومة اليابانية أيضًا أن توجيه اللوم بين الحين والآخر إلى هذه البلدان يثير اتهامات مفادها اتباع الغرب لمعايير مزدوجة، حيث قبوله للحروب التي تندلع من قبلهم، وعدم قبوله للحروب التي يقوم بها آخرون. لذا، أكدت اليابان في كتابها الأزرق على العمل على تعزيز التعددية وبناء “نهج شامل يعمل على تجسير الخلافات” بين الغرب والجنوب العالمي.

وفي كلمته بجامعة جونز هوبكنز، أوضح رئيس الوزراء الياباني أنه عند التعامل مع دول الجنوب ينبغي أولًا فهم خلفياتهم التاريخية والثقافية بشكل جيد، وحينها يمكن أن يصبح المجتمع الدولي مدفوعًا بالقواعد وليس بالقوة. من جانبها، ستعمل اليابان على توطيد علاقتها الدبلوماسية مع دول جنوب آسيا، وجزر المحيط الهادئ، وأفريقيا، والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، ومنطقة البحر الكاريبي، وآسيا الوسطى، والقوقاز.

ومنذ مطلع عام 2023، لوحظ تكثف الزيارات الخارجية للمسئولين اليابانيين إلى دول جنوب الكرة الأرضية. ففي يناير الماضي، زار وزير الخارجية الياباني “يوشيماسا هاياشي” كلًا من المكسيك، والبرازيل، والإكوادور، والأرجنتين، فيما أجرى في مارس زيارة إلى جزر سليمان، وجزر كوك. من جانبه، أجرى رئيس الوزراء الياباني في مارس الماضي زيارة إلى الهند. وبدءً من يوم التاسع والعشرين من أبريل الماضي، أجرى “كيشيدا” جولة أفريقية تضمنت زيارة كلًا من مصر، وغانا، وكينيا، وموزمبيق، وهو ما تزامن مع جولة “هاياشي” اللاتينية والتي تضمنت زيارات إلى دول بيرو، وتشيلي، وباراجواي، وباربادوس، وترينداد وتوباجو. تتسق هذه الزيارات مع الهدف الياباني المتمثل في تقديم طوكيو كبديل سياسي واقتصادي أكثر استدامة وموثوقية لدي دول الجنوب العالمي، في الوقت الذي تكثف فيه كلًا من روسيا والصين مشاركتهما مع هذه الدول. من ناحية أخرى، تشير الجولة الأفريقية لكيشيدا السابقة لاستضافة بلاده قمة مجموعة السبع إلى رغبة اليابان في إكساب القمة زخمًا إضافيًا عبر جلب قضايا الجنوب العالمي – كقضايا تغير المناخ، وأمن الطاقة، والأمن الصحي، والأمن الغذائي، والنمو الاقتصادي الشامل – إلى طاولة مناقشات القادة.

تحديات السياسة الواقعية

تواجه “الدبلوماسية الواقعية لعصر جديد” تحديات على أكثر من صعيد، لا يتعلق الأمر هنا بإمكانية تنفيذها، وإنما بديمومتها وقدرتها على تلبية أهداف السياسة الخارجية اليابانية.

تحديات داخلية: كما سبق التوضيح، يرتبط تفعيل “الدبلوماسية الواقعية لعصر جديد” بقدرات دفاعية تمكنها من ممارسة دور خارجي أكثر تأثيرًا، وهو الأمر الذي انعكس في تحديث الحكومة اليابانية لاستراتيجية الأمن القومي. ومع ذلك، يواجه نجاح تنفيذ هذه الاستراتيجية العديد من التحديات الداخلية.

يرتبط التحدي الأول بالموافقة الشعبية على هذا التحديث. تشير استطلاعات الرأي إلى موافقة غالبية المستجيبين لهذه الاستطلاعات على خطة الحكومة لتعزيز القدرات الدفاعية لليابان، وإنما يكمن الانقسام في الرأي حول أمرين رئيسيين، أولهما خطط الحكومة لزيادة الإنفاق الدفاعي عبر زيادة الضرائب، إلى جانب تحويل جزءًا من عائدات الضرائب المخصصة لإعادة الإعمار بالمناطق الشمالية الشرقية – التي تعرضت عام 2011 إلى زلزال وتسونامي هائل-، لصالح تمويل الأغراض الدفاعية، وثانيهما مسألة حصول اليابان على “قدرة الهجوم المضاد”، والتي نُظر إليها شعبيًا على أن من شأن امتلاك هذه القدرة تأجيج التوترات مع الدول المجاورة.

وسياسيًا، هناك نقاش دائر بين الحزبين الحاكمين (الحزب الليبرالي الديمقراطي وحزب كوميتو) بشأن تصدير طوكيو أسلحة فتاكة إلى أوكرانيا. ففي الحزب الديمقراطي الليبرالي، هناك آراء ترى أنه ينبغي على اليابان تزويد أوكرانيا بصواريخ أرض – جو لاعتراض الصواريخ الروسية أو الطائرات بدون طيار الهجومية، وأيضًا أنه ينبغي السماح بتصدير السفن ذات القدرات القتالية إلى دول جنوب شرق آسيا. في المقابل، يريد أعضاء كوميتو – الملتزمين بمبادئ تعزيز السلام العالمي – تخفيف القيود بما يكفي للسماح للحكومة بزيادة الصادرات أو تقديم المساعدة لأوكرانيا في مجالات محددة مثل إزالة الألغام الأرضية، لكن دون تخفيف القيود أكثر من ذلك.

يتصل التحدي الثاني بمسألة تمويل النفقات الدفاعية. فالزيادات الكبيرة في ميزانية الدفاع هي شرط لا غنى عنه لتحقيق الكثير من رؤية اليابان الجديدة للأمن القومي، وكما سبق التوضيح، لا تزال خطط الحكومة الخاصة بزيادة الإنفاق الدفاعي محل معارضة لدي الكثيرين. بل، حتى داخل الحزب الديمقراطي الليبرالي الذي ينتمي إليه “كيشيدا”، ظهرت بالفعل انقسامات داخلية علنية.

من ناحية أخرى، تذهب تحليلات إلى أن الزيادات المخطط لها حاليًا في الميزانية لا تزال صغيرة جدًا، أمام ما خلفته عقود من الإنفاق المنخفض بقوة الدفاع اليابانية من بنية تحتية مادية متقادمة، ومخزونات ذخيرة منخفضة، وقدرات قديمة وغير كافية في النقل الجوي والبحري. وعليه، سيكون سد هذه الفجوة صعبًا وسيستغرق وقتًا. وخلال السنوات الخمس المقبلة، ستحتاج اليابان إلى استثمار 2% إضافية من الناتج المحلي الإجمالي بالإضافة إلى الزيادات المخطط لها فقط لتعويض النقص في الإنفاق، كما ستحتاج اليابان أيضًا إلى بناء أو الحصول على مجموعة واسعة ومكلفة من الأنظمة والأسلحة والبنية التحتية الحديثة والمتقدمة اللازمة للدفاع عن النفس ضد خصوم مثل الصين وكوريا الشمالية.

فيما يعد العامل الديموجرافي هو التحدي الأكبر أمام تفعيل استراتيجية الأمن القومي الياباني. تستعد اليابان للقيام بتعزيز دفاعي غير مسبوق، لكن دون زيادة حجم قوات الدفاع عن النفس. بدلًا من ذلك، سيكون هناك بعض إعادة توزيع الأفراد عبر الخدمات – حيث انتقال حوالي 2000 من قوات الدفاع الذاتي البرية إلى قوات الدفاع الذاتي البحرية وقوات الدفاع الذاتي الجوية – ولن يكون هناك نمو في الحجم الإجمالي للقوة. يعزو هذا إلى عاملي شيخوخة السكان وانخفاض معدلات المواليد، وبالتالي صعوبة تجنيد موظفين جدد. فعلى سبيل المثال، بينما أحرزت اليابان تقدمًا في بناء سفن جديدة، إلا أن لديها مجموعة محدودة من المجندين لتشغيل هذه السفن. قد يكون الدفع لإدخال قدرات غير مأهولة حلًا جزئيًا لقضية القوى العاملة، لكن لا يزال تشغيل هذه القدرات مرهونًا بوجود عدد محدد من الموظفين. هناك أيضًا تصورات مقترحة متعلقة على سبيل المثال، برفع سن التقاعد للموظفين، وتحسين ظروف المرأة، والاستفادة من الموظفين المتقاعدين للتدريب وتطوير الموظفين، والتعاقد والاستعانة بمصادر خارجية. ومع ذلك، لايزال من غير الواضح مدى فعالية أي من هذه المقترحات في تطوير قوة ردع أكثر قوة كما تتصورها الاستراتيجية.

استدامة الشراكات الإقليمية: تعمل اليابان على تعزيز علاقاتها الإقليمية عبر إرساء شراكات من شأنها المساهمة في مواجهة تحديات محيطها الإقليمي المعقد. وهنا، تبرز أهمية توطيد علاقات اليابان مع الهند وكوريا الجنوبية.

تتلاقى المخاوف اليابانية من الصين مع مثيلتها الهندية، وهو الأمر الذي دفع نحو إصرار البلدين على تسريع وتيرة تعاونهما الثنائي خلال السنوات القليلة الماضية، ومع ذلك لا تزال بعض النواحي في علاقتهما بعيدة عن الهدف المرجو.

فعلى الصعيد التجاري والاستثماري، لا تزال المؤشرات أقل بكثير مما كان متصورًا، وبعيدة كل البعد عن توقعات رئيس الوزراء السابق “شينزو آبي” الذي أشار عام 2006 إلى أن تجارة اليابان مع الهند قد تتجاوز التجارة مع أمريكا والصين في غضون عقد من الزمن. في المقابل، شكّلَت الصين في عام 2022 24% من واردات اليابان و22% من صادراتها، فيما مثلت الهند 0.8% فقط من واردات اليابان و1.7% من صادراتها. وفي عام 2014، تعهد آبي ومودي بمضاعفة الشركات اليابانية في الهند خلال خمس سنوات. لكن بحلول عام 2019 ارتفع العدد من 1156 إلى 1454 فقط، في حين كان في الصين في ذلك العام أكثر من 13000 شركة يابانية، وذلك بحسب ما أشارت إليه صحيفة الإيكونوميست.

وعلى الصعيد السياسي، على الرغم من التوافق بين البلدين إزاء الصين، لا يبدو مثيل لهذا التوافق إزاء روسيا، حيث كان رفض نيو دلهي السماح لطائرات الشحن العسكرية اليابانية التي تحمل مساعدات لأوكرانيا بالهبوط في الهند مخيبًا للآمال بشكل خاص لمجتمعات السياسة اليابانية، مما أثار الأصوات التي تشكك في الهند كشريك مستدام له نفس التفكير. ولكن، حتى هذه اللحظة، يظل التحدي الصيني بمثابة الدافع نحو استمرار مضي البلدين نحو تعزيز وتيرة تعاونهما الثنائي، لا سيما الأمني.

بينما في الجهة المقابلة، تتعدد مراكز التعارض الياباني الكوري الجنوبي. فمن ناحية، لم يتوصل البلدان بعد إلى تسوية نزاعهما الإقليمي حول جزر دوكدو (التي تطلق عليها اليابان جزر تاكيشيما، وتطالب بالسيادة عليها بين الحين والآخر).

من ناحية أخرى، لايزال الخلاف التاريخي بشأن انتهاكات الاحتلال الياباني لكوريا الجنوبية خلال فترة الحرب العالمية الثانية مصدر تهديد أمام استدامة التعاون الياباني الكوري الجنوبي، خاصة في ظل استمرار رفض المعارضة السياسية الكورية الجنوبية المسيطرة على الجمعية الوطنية (البرلمان)، وكذا نسبة كبيرة من الشعب الكوري الجنوبي (حسبما تظهره استطلاعات الرأي) لسياسات الرئيس يون التي من شأنها إصلاح العلاقات مع اليابان، الأمر الذي يحمل تساؤل حول مدى استدامة سياسات كوريا الجنوبية المتقاربة مع اليابان في حال ما إذا جاءت الانتخابات برئيس يحمل أفكار معارضة لتلك التي قدمها يون خلال فترة ولايته الرئاسية.

وتشير بعض التحليلات إلى أن الأمر هنا يتوقف على اليابان التي من ناحيتها ينبغي أن تظهر استعداد في المقابل لإصلاح العلاقات مع كوريا الجنوبية، بغرض ضمان قبول الرأي العام الكوري الجنوبي لعلاقات ودية أكثر استدامة مع اليابان.

استمرار تقارب المصالح الأمريكي الياباني: في كلمته بجامعة جونز هوبكنز، رحب رئيس الوزراء الياباني بـ”الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ “IPEF والذي أطلقه الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في مايو 2023. ولكنه أثار في الوقت نفسه مسألة انسحاب الولايات المتحدة عام 2017 من اتفاق “الشراكة عبر المحيط الهادئTPP “، وهو الاتفاق الذي أُنشئ هو الآخر بمبادرة أمريكية، بما يعكس وجود تخوف ياباني من تحول الولايات المتحدة مجددًا إلى الانعزالية كما حدث من قبل خلال ولاية ترامب الرئاسية.

من ناحية أخرى، تدرك اليابان أن مصالحها الاقتصادية لن تكون متوافقة دائمًا مع مثيلاتها الأمريكية، وذلك فيما يتعلق بالصين وروسيا.

فعلى الرغم من المحاولات الأمريكية المستمرة لفصل اليابان اقتصاديًا عن الصين، خاصة في الصناعات التكنولوجية، تستمر الصين في كونها الشريك التجاري الأول منذ عام 2007. وبحسب دراسة استقصائية أجريت من قبل منظمة التجارة الخارجية اليابانية، فإن 3.8٪ فقط من 679 شركة يابانية لديها استثمارات كبيرة في الصين قالت عام 2022 إنها تخطط لتقليل أو إلغاء عملياتها هناك.

وفي حين انسحبت الشركات الأمريكية والبريطانية من جميع مشاريع الطاقة الروسية في “سخالين” الروسية منذ بدء الحرب في أوكرانيا، لا تزال الشركات اليابانية مشاركة، حيث لا تريد اليابان التخلي عن هذه الشركات، التي تأمل من خلالها أن تساعد في التفاوض بشأن عودة جزر الكوريل من روسيا إلى اليابان، بل وتدعوهم إلى تعميق المشاركة بهذا المشروع لتأمين إمدادات مستقرة من الغاز الطبيعي المسال. وتجدر الإشارة إلى أن ما يقدر بنحو 9.5% من الغاز الطبيعي المسال الذي استوردته اليابان خلال عام 2022 قد جاء من روسيا، وذلك ارتفاعًا من 8.8% في عام 2021.

وبناءً على ما تقدم، تُعزَى تحركات اليابان الخارجية وتطوير سياستها الدفاعية بشكل أساسي إلى عامل البيئة. فكما سبق التوضيح، يُحيط باليابان بيئة إقليمية شديدة التعقيد تتطلب دورًا مبادرًا أكثر نشاطًا قادرًا على الدفع نحو إرساء بيئة آمنة ومستقرة. وعليه، تسعى اليابان إلى تطوير دور إقليمي ودولي قائم على المبادرة، ومن شأنه أن يكون حلقة وصل ما بين الغرب والآخرين في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وذلك دون تطور الأمر لمواجهة كاملة أو قطيعة مع الصين أو مع روسيا. بمعنى آخر، تميل اليابان إلى تبني القيم الغربية في النظام الدولي وفي إطار العلاقات الدولية مع الحفاظ على التوازن في العلاقات مع المنافسين، ولا سيما الصين وروسيا.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/34148/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M