اعتبارات اقتصادية: آثار ترسيم الحدود البحرية مع لبنان على الطبقة الوسطى في إسرائيل

اعتمدت الحكومة الإسرائيلية على مدار أربعة عقود ماضية على اعتبار الطبقة الوسطى هي ركيزة الاستقرار السياسي في إسرائيل، ويعني الاستقرار السياسي في إسرائيل “طول فترة بقاء الائتلاف الحكومي مقارنة بسابقيه”، فقد نجح نتنياهو في الاحتفاظ بسدة الحكم أطول فترة في تاريخ إسرائيل، وذلك بسبب تعزيزه وضع الطبقة الوسطى. من ناحية أخرى، سارعت حكومة لابيد (المناهضة لسياسات نتنياهو) إلى تقديم تنازلات محددة بغرض توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية، وسرعة استخراج الغاز من حقل “كاريش”. فيما عارض نتنياهو بشراسة هذا الاتفاق أو استخراج الغاز من الحقل. وانطلاقًا مما سبق يبحث التحليل في أسباب تصرف حكومة لابيد ببراجماتية ملحوظة لسرعة إتمام الاتفاق مع لبنان، ومدى تأثير الاتفاق على الطبقة الوسطى في إسرائيل.

الطبقة الوسطى الإسرائيلية في أرقام

وفق أحدث الإحصاءات الرسمية الإسرائيلية الصادرة عن الكنيست ومركز التعبئة والإحصاء، يتبين التالي موضحًا بالرسوم البيانية.

نسبة الطبقة الوسطى من المجتمع في إسرائيل من 2010 حتى 2017

تطور الدخل لدى الطبقة الوسطى في إسرائيل من 2010 حتى 2017

مصادر دخل الطبقة الوسطى في إسرائيل من 2010 حتى 2017

يتبين من الأشكال البيانية السابقة أنه منذ 2010 حتى 2017 نجحت الحكومات الإسرائيلية (ويعني هنا حكومة نتنياهو) في تقديم سياسات اقتصادية مالية محددة، وهي:

(1) زيادة إعانات الأطفال، وزيادة الحد الأدنى من الأجور من 3800 شيكل إلى 5300 شيكل شهريًا، مع تزايد توفير فرص العمل.

(2) زيادة معدل توظيف الحريديم والعرب في الوظائف التكنولوجية الفائقة والخدمات العامة.

(3) بناء المستوطنات لتقليل أسعار الوحدات السكنية، وهو ما يشير إلى أن بناء الوحدات الاستيطانية لا يدفعه عوامل أيديولوجية فقط، بل دوافع سياسية اقتصادية بهدف استقرار الطبقة الوسطى في إسرائيل. وهو ما يظهر على سبيل المثال في عدد المستوطنين القاطنين في الضفة الغربية، لعلاج أزمة ارتفاع أسعار الشقق.

(4) بالنظر إلى بيانات استهلاك الطاقة في إسرائيل خاصة في السنوات الأخيرة من 2018 إلى 2021 أي قبل فشل نتنياهو الاستمرار على رأس الحكومة، يتبين زيادة ملحوظة في استهلاك الطاقة الكهربية والغاز الطبيعي، كما يتبين أن الاستهلاك المنزلي هو القطاع الأكبر في مدى الاستهلاك السنوي.

تحديات الطبقة الوسطى الإسرائيلية 

أولًا: سارعت حكومة بينيت-لابيد، وبالتحديد في ولايتها الأولى لعقد الميزانية السنوية لعام 2022 سريعًا، دون دراسة مستفيضة لبنود الخدمات الاجتماعية (الصحة والتعليم)، والتشييد والبناء وهي البنود الأساسية التي تخدم الطبقة الوسطى في إسرائيل. وكان سبب العجلة في عقد الميزانية ثم التصديق عليها هو تكريس وضع الائتلاف الحكومي الهش، والحيلولة دون الدخول في فصل انتخابي جديد قد يعيد نتنياهو إلى الواجهة مرة أخرى.

بالنظر إلى الميزانيات السابقة من عام 2018 حتى ميزانية 2022 الحالية، يتبين أن حكومة بينيت-لابيد لم تلتزم بتطور الميزانيات المخصصة لبنود الخدمات الاجتماعية والتشييد والبناء مقارنة بالميزانيات المخصصة في عهد نتنياهو، وهو ما مثّل تحديًا على الطبقة الوسطى. كان السبب في المخصصات الضئيلة نسبيًا مقارنة بنظيرتها في الميزانيات السابقة، أن بينيت ولابيد فضّلا تخصيص موارد مالية أكبر للوزارات نتيجة اتساع الائتلاف وضمه تيارات سياسية متباينة، كذلك تفضيل زيادة مخصصات الأمن والدفاع لتمويل خطة تنوفا الاستراتيجية العسكرية تحت إشراف وزير الدفاع الحالي بيني جانتس.

ثانيًا: زادت أسعار الشقق في إسرائيل بنسبة 18%، وعلى الرغم من أن 85% من المالكين أو المستأجرين للشقق الحاليين لن يتأثروا بالتغيير نوعًا ما، إلا أن 65% من الـ85% السابق ذكرهم سينتهي عقدهم أول العام القادم 2023 وبالتالي ستنطبق عليهم الأسعار الجديدة التي تفلتت بسبب ارتفاع معدل التضخم في إسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة بنسبة 5.5% وقابلة للزيادة خلال العام القادم، وهو عكس النسبة المتوقعة لدى البنك المركزي الإسرائيلي بزيادة 3%.

ثالثًا: رغم توفير حكومة بينيت-لابيد الوظائف في مجال التكنولوجيا الفائقة (الهايتك) لفئة الحريديم والعرب في المجتمع الإسرائيلي؛ بعد تزايد معدل الفقر فيهما، ومحاولة علمنة المجتمعين وصهرهما في إسرائيل، إلا أنه لوحظ هروب الرجال الحريديم من تلك الوظائف لأسباب دينية تتعلق بحظر عمل الرجل في مقابل الاعتماد على عمل المرأة وهو ما انعكس بالفعل في تزايد توظيف الحريديات في الوظائف التقنية على حساب الرجال. كذلك الحال مع العرب الذين يرفضون العمل جنبًا إلى جنب مع الحريديم، القطاع الأكثر تشددًا في إسرائيل. وبالتالي فشلت محاولة الحكومة في توسيع نطاق العمل في الطبقات الفقيرة لتحقيق ما يسمى بالقفز الطبقي من الفقيرة إلى الوسطى.

مسارات تحرك الحكومة

لذلك سعت حكومة لابيد إلى سرعة إتمام اتفاق الترسيم وسرعة إنجاز التدفق العكسي لحقول الغاز لإدخالها إلى منظومة استخراج الغاز الطبيعي الإسرائيلي، إما للتصدير وكسب الدولارات أو بيعها للسوق المحلي المتزايد بالفعل بمعدل لافت خاصة الاستهلاك المنزلي.

ربحت إسرائيل بين يناير إلى يونيو 2022 ما يزيد على 250 مليون دولار أمريكي، أي بزيادة قدرها 48% عن العام الماضي، والمقدر أن تصل أرباح إسرائيل إلى 240 مليون دولار شهريًا بعد خمس سنوات من الآن. وتأتي هذه الأرباح نتيجة تحصيل الضرائب نظير ثلاثة اعتبارات؛ الحفاظ على أمن حقول الطاقة في البحر والسيادة الإسرائيلية عليه، استخراج الغاز، وبيعه إلى السوق الدولية أو المحلية.

رصدت حكومة لابيد تسريع عملية استخراج الغاز من الحقل الجديد (حقل كاريش) لكسب الأرباح الدولارية وضمها إلى الموازنة العامة لتحقيق الاعتمادات الائتمانية التي وعدت بها الحكومة لبنود الخدمات الاجتماعية والتشييد والبناء. حتى الآن لم تحقق الحكومة أية زيادات على مخصصات تلك البنود، وهو ما تسبب في تنامي استياء عام بين الطبقة الوسطى، انعكس على استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي الذي قدّم الاعتبار الاقتصادي على حساب الاعتبار الأمني الذي جاء في المرتبة الثالثة في ترتيب أولويات المواطن الإسرائيلي. ويعني ذلك أن عدم كفاية المطالب السياسية والاقتصادية للطبقة الوسطى تفرض ترتيبًا جديدًا لأولويات المصلحة العامة في ذهنية المواطن الإسرائيلي.

يدرك نتنياهو (أوفر المرشحين حظًا في تشكيل الحكومة الإسرائيلية القادمة حسب أحدث استطلاعات الرأي) أن سرعة وبراجماتية لابيد في توقيع الاتفاق يمكنها أن تمنحه فرصة اقتصادية قوية لإعادة ترميم علاقته مع الطبقة الوسطى في إسرائيل؛ لذا جاء اعتراضه مبررًا ليس لدوافع أيديولوجية ولكن لدوافع اجتماعية-اقتصادية قد تنعكس في نتيجة سياسية حتمية، لا سيما وأن نتنياهو يعد أكثر السياسيين حفاظًا على مستوى الطبقة الوسطى.

يستدل على ذلك أن أول برامج نتنياهو الانتخابية في شهر أغسطس (أي قبل الحرب الخامسة في غزة) كان تقديمه برنامجًا اقتصاديًا يعد فيه بتخفيض الضرائب، وزيادة إعانات الأطفال، وزيادة مخصصات التعليم والصحة، وبطبيعة الحال زيادة أعداد المستوطنات لتوفير برامج سكنية مدعمة ومعالجة تضخم أسعار العقارات في إسرائيل بنسب كبيرة.

جاءت التقديرات الاقتصادية الإسرائيلية لتؤكد أن البرنامج الاقتصادي الذي قدمه نتنياهو سيكلف ميزانية إسرائيل ما يقرب من 20 مليار شيكل، يمكن لنتنياهو توفير نصفهم من خلال تحصيل الضرائب على توريد الغاز المستخرج حاليًا، وحتى في حال نجحت إسرائيل بيع الغاز الطبيعي من حقل كاريش فلن توفر أرباحه كامل المخصصات اللازمة لتمويل البرنامج الاقتصادي الخاص بنتنياهو، هذا في حالة إن لم تقل أرباح التجارة للمستوطنات الإسرائيلية نتيجة سياسة صارمة من الاتحاد الأوروبي الذي أكد على أهمية حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي على أساس حل الدولتين.

لذلك سيحتاج نتنياهو إلى استثمارات أكبر من الدول العربية ضمن الاتفاق الإبراهيمي أو من تحالف U2I2 الذي يجمعها مع الهند والإمارات والولايات المتحدة، أو زيادة صادرات إسرائيل من الغاز مع مصر والأردن. وتتجه مصر بالفعل إلى زيادة صادرات غاز شرق المتوسط (بالإشارة إلى طلب مصر باستخراج الغاز الفلسطيني مؤخرًا) إلى السوق الأوروبي. ولكن تنامت في الأردن أصوات مناهضة لزيادة صادرات عمّان للغاز الإسرائيلي واعتماد الصناعة الأردنية على الطاقة الإسرائيلية.

ختامًا، يمكن القول إن الطبقة الوسطى في إسرائيل تمتلك قوة تأثير سياسية ملحوظة على عملية صناعة القرار في إسرائيل وتوجيه سياسات الحكومة. ولا زالت الطبقة الوسطى الإسرائيلية تحافظ على تحييد الأيديولوجية في حساباتها السياسية نتيجة فشل ضم الحريديم إلى الطبقة الوسطى حتى الآن، وهو احتمال قوي سيتجه نتنياهو في حالة فوزه إلى تحقيقه بكافة الطرق الممكنة، كما يمكن القول إن صادرات إسرائيل من الغاز الطبيعي ستكون عاملًا حيويًا في تعزيز الطبقة الوسطى التي تعاني كثيرًا في إسرائيل خاصة خلال الفترة يونيو 2021 حتى الآن أي خلال فترة حكومة لابيد. لذلك اندفاع إسرائيل لترسيم الحدود البحرية مع لبنان لا يدفعه اعتبارات أمنية فقط، بل اعتبارات اقتصادية-اجتماعية لعوامل طبقية تحافظ على الاستقرار السياسي للحكومات الإسرائيلية.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/21324/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M