الأوضاع الأفغانية المستجدة و مواقف أطراف الصراع

مصباح الله عبد الباقي

بعد الإعلان المفاجئ للرئيس الأميركي يوم 16 إبريل/نيسان 2021 حول سحب القوات الأميركية بصورة غير مشروطة من أفغانستان، تطورت الأوضاع في البلاد بصورة دراماتيكية، ووصل الأمر إلى سقوط المديريات ومراكز الشرطة والجيش بيد حركة طالبان واحدة تلو الأخرى. وقد فاق عدد المديريات التي سيطرت عليها حركة طالبان، حتى كتابة هذه السطور، 152 مديرية من مجموع 364 مديرية في أفغانستان. وبعد السيطرة على هذا العدد الكبير من المديريات والمناطق الشاسعة في مختلف الأقاليم والولايات، يواجه كثير من مراكز الولايات تهديد السقوط بيد طالبان، وهو مايطرح أسئلة حول مواقف كل طرف من أطراف الصراع بشأن هذه الظروف المستجدة؛ ماهي محددات رؤيتهم السياسية؟ وماذا سيكون مصير أفغانستان في ظل الظروف الحالية؟ وماذا يجب على الشعب الأفغاني فعله إزاء هذه الحالة؟ هذا ما تحاول الورقة أن تناقشه مع تقديم رؤية حول مستقبل أفغانستان.

ما الذي أوصل الحكومة الأفغانية إلى هذه الحالة؟

تُطرح أسئلة كثيرة عن التدهور المفاجئ للحالة الأمنية والعسكرية لحكومة أشرف غني، خاصة وأن الجهات الاستخباراتية الأجنبية كانت تظن قبل الإعلان عن انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان أن الحكومة الأفغانية يمكن أن تقاوم لمدة سنتين، لكن هذه الفترة مالبثت أن تناقصت في تخمينهم، ونقلت وسائل الإعلام عن مصادر استخباراتية أميركية بأن حكومة كابل ستسقط خلال ستة أشهر بعد الانسحاب الكلي من أفغانستان (1).

 كانت الحكومة الأفغانية تكذّب كل هذه التنبؤات، وتعتبرها نوعا من الحرب الإعلامية والنفسية من قبل حركة طالبان أو حلفائها، وقد صرح بذلك الرئيس الأفغاني محمد أشرف غني مرات عديدة. وفي إحدى المقابلات الصحفية رفض غني هذه المقولة، وعلل ذلك بأن القوات الأفغانية تقوم منذ سنتين بإجراء أكثر من 90% من العمليات العسكرية بصورة مستقلة ومن غير مساعدة القوات الأجنبية، لكنه استدرك وقال: إن حلفاءنا لن يتخلوا عنا، وكان يقصد أن الحكومة قادرة على الدفاع إذا استمرت المساعدات العسكرية الغربية (2).

مع كل هذه التطمينات من قبل الحكومة الأفغانية تدهورت الأحوال الأمنية والعسكرية لحكومة أشرف غني، ويبدو أنها ضيعت بذلك فرصة كبيرة؛ فلو أجرت محادثات جادة مع حركة طالبان قبل انسحاب القوات الأميركية وقوات الناتو، لكانت في وضع أفضل ولأمكن لها أن تملي بعض شروطها على الحركة على طاولة الحوار، لكنها لم تفعل ذلك وأخرت المحادثات عن الوقت المحدد لها.

وكان قد تقرر في اتفاقية السلام بين أميركا وحركة طالبان أن تبدأ المحادثات الأفغانية يوم 10 آذار/مارس 2020 إلا أنها أخرت المحادثات مع حركة طالبان بذرائع مختلفة، فقد رفضت في البداية إطلاق سراح معتقلي حركة طالبان، وقالت إنها لن تطلق سراح واحد منهم، وأن هذا خط أحمر بالنسبة لهم وأنهم لن يتجاوزوه (3). ثم ما لبثت أن خضعت للضغوط الأميركية وتجاوزت خطوطها الحمراء، ثم ضيعت أكثر من ثلاثة أشهر في وضع لائحة تحدد أخلاقيات الحوار والجو العام لمجالس الحوار.

 وكان من أهم ما أثاروا جدلا حوله أن حركة طالبان اقترحت أن المرجع عند الاختلاف أثناء المحادثات الثنائية سيكون هو الكتاب والسنة، فاعترض فريق الحكومة وقال هذه المادة فضفاضة؛ لأن الكتاب والسنة يفهمان بطرق متنوعة، فعلى أي فهم سيتم الاعتماد. وأجاب فريق حركة طالبان إن أغلبية الشعب الأفغاني من الحنفية، فبناء عليه سيكون الإطار الذي يحدد لنا فهم الكتاب والسنة هو الفقه الحنفي، فأخذوا هذه القضية مدخلا لتضخيم الخلاف، واتهموا حركة طالبان بأنها لا تعترف بالفقه الجعفري والشيعي، وأدخلوا في الموضوع قضية الأحوال الشخصية للشيعة، ووسعوا دائرة الموضوع.

وكان من الممكن مناقشة القوانين المنظمة للحياة في المستقبل، لكن الإصرار على وضعها على لائحة الحوار منذ البداية جاء بهدف تأخير المحادثات. و من هنا فقد استمرت هذه المناقشات العقيمة لفترة طويلة، ثم ضيعوا فترة أخرى في مبنى الحوار الأفغاني؛ هل هو اتفاقية الدوحة بين الولايات المتحدة الأميركية و حركة طالبان؟ أم وثيقة أخرى؟ (4)، وكانت هناك محاولات أخرى كثيرة من هذا القبيل لتأخير المحادثات وتضييع الوقت، وضيعت الحكومة بذلك الكثير من الفرص، وكان السبب وراء هذا التأخير المتعمد مصالح آنية تجلت في المظاهر التالية:

أولا: كانت حكومة أشرف غني تصر على مفهومها الخاص للمصالحة، فالمصالحة مع حركة طالبان كانت تعني لديها اندماج حركة طالبان في حكومة غني، وانضمامها إليها على غرار ما فعله الحزب الإسلامي التابع لحكمتيار بفارق أن تعطى حركة طالبان مناصب أكثر، وكان يصر على هذا التصور للمصالحة، وكان هذا التصور مرفوضا من الأساس لدى حركة طالبان.

ثانيا: كانت حكومة أشرف غني مصرة على أن الطريق الأمثل للوصول إلى الاتفاقية مع حركة طالبان هو النموذج الذي توصلت به إلى اتفاق السلام مع الحزب الإسلامي، وكان ذلك النموذج هو الحوار المباشر من غير وساطة، وهذا النموذج لم يكن لينجح في حالة الحوار مع حركة طالبان، لأنها لم تكن مستعدة للتنازل مثل الحزب الإسلامي، ولأجل هذا القرار الخاطئ حاربت حكومة أشرف غني كل الجهات التي يتوقع منها وساطة جادة في الحوار بينها وبين طالبان، وبذلك أفشلت فرصا جادة للحوار المثمر.

ثالثا: إفشال المحادثات للبقاء في السلطة: المجموعة المقربة من أشرف غني والمسيطرة على مقاليد الأمور في القصر الرئاسي تعتبر البقاء في السلطة أولوية، والمحادثات الجادة كانت ستقصر فترة حكمها ومن هنا كان قرار هذه المجموعة أنها لن تتنازل عن الحكم مهما كانت الظروف (5). وكانت هذه السياسة سببا لضياع الكثير من الفرص.

رابعا: التعلق بالقشة: لقد أخطأ أشرف غني في الحسابات؛ فقد أجّل المحادثات مع حركة طالبان على أمل أن يفوز “بايدن” الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ومن المعروف عن الديموقراطيين الاهتمام بالحضور العالمي للولايات المتحدة، وكان أشرف غني يتوقع أن الرئيس الأميركي الجديد سيعيد النظر في الاتفاقية التي أبرمها سلفه دونالد ترامب مع حركة طالبان، لكن موقف بايدن كان أشد من ترامب، وأخذ وقتا قصيرا لمراجعة الاتفاقية الموقعة مع حركة طالبان، وقرر سحب القوات الأميركية من أفغانستان من غير أن يربط الانسحاب بتهيئة الظروف لذلك (6).

أرسل وزير الخارجية الأميركي رسالة إلى أشرف غني يخطره بأنه ليس في الوقت متسع، و أنه يخاف أن تعود ظروف تسعينيات القرن الماضي إلى أفغانستان، و يمكن أن توسع حركة طالبان رقعة سيطرتها في أفغانستان، وتتردى الأوضاع الأمنية في البلد إذا سحبت القوات الأميركية من غير ترتيبات المصالحة مع حركة طالبان (7). وكان من الملاحظ أن فريق أشرف غني لم يحمل كل هذه التصريحات على محمل الجد، وكان يحاول إلى آخر لحظة أن يضغط على الحكومة الأميركية لتتراجع عن قرار سحب قواتها من أفغانستان عن طريق علاقاته الواسعة واللوبيات التي استحدثها. وكان هذا من أهم أهداف زيارته الأخيرة إلى واشنطن حيث حاول إقناع الحكومة الأميركية بتأجيل سحب قواتها بشتى الطرق، وكان منها مطالبة أصدقائه أن يضغطوا على الرئيس الأميركي لإلغاء قراره، فقد نشر السناتور ميتش مكان رئيس المعارضة في مجلس الشيوخ الأميركي بعد اللقاء بالوفد الأفغاني إفادة إعلامية طالب فيها حكومة بايدن بتأجيل سحب القوات الأميركية من أفغانستان (8). وكل هذه المحاولات أخذت وقتا وجهدا أدى إلى ضياع فرص إجراء المحادثات الجادة مع حركة طالبان.

2
الرئيس الأفغاني أشرف غني خلال مؤتمر صحفي في واشنطن(رويترز)

خامسا: الضغط على طالبان عن طريق باكستان: حاول فريق الرئيس الأفغاني الضغط على حركة طالبان عن طريق باكستان؛ مستغلا موقف باكستان الرافض لأن تتولى حركة طالبان منفردة زمام الأمور في أفغانستان، وترى أن ذلك سيؤدي إلى إحياء الحليف الفكري والعقدي لطالبان والمتمثل في “حركة طالبان باكستان” مرة أخرى، وتكون النتيجة الطبيعية لذلك زعزعة الاستقرار في المناطق القبلية المتاخمة لأفغانستان، وهو أمر لا يمكن لباكستان أن تقبله. وقد أبدى قادة الجيش والاستخبارات قلقهم إزاء تقدم حركة طالبان في المعارك الأخيرة في جلسة مغلقة مع أعضاء البرلمان الباكستاني، و صرح الجنرال قمر باجوا رئيس أركان الجيش الباكستاني والجنرال فيض حميد رئيس الاستخبارات الباكستانية (ISI) في تلك الجلسة أن تقدم حركة طالبان في ميدان المعركة أو وصولها إلى الحكم في أفغانستان سيؤدي إلى أن تتجرأ حركة طالبان باكستان و تعود إلى العمل، وأن الجيش قلق بسبب ذلك (9).

و بناء على هذه المستجدات حصل تقارب كبير بين حكومة أشرف غني والجهات السيادية في باكستان من الجيش والاستخبارات والحكومة السياسية، وتكررت زيارات قادة الجيش الباكستاني وقادة الاستخبارات والسياسيين إلى كابل (10)، و رافق الجنرال قمر باجوه في أحد أسفاره إلى كابل الجنرال نيكلاس باتريك كارتر قائد القوات البريطانية المسلحة (11)، وتسربت أنباء عن سفر الرئيس الأفغاني خفية إلى المطار العسكري في راولبندي، وعن محادثاته المطولة والسرية مع قادة الجيش الباكستاني (12)، لكن باكستان لم تقدم عمليا على ممارسة الضغط على طالبان. و قد أعلن عمران خان في نهاية الأمر أن باكستان لا تملك أية وسيلة للضغط على الحركة. و بذلك فشلت مساعي حكومة أشرف غني للضغط على حركة طالبان عن طريق باكستان، و في نفس الوقت ضيعت أفغانستان فرصا كثيرة للمحادثات الأفغانية الجادة.

وبناء عليه تتحمل حكومة أشرف غني مسؤولية تدهور الأوضاع الأمنية، وهو تحليل وصلت إليه جهات مختلفة، فقد قال التحليل الرسمي لوزارة الخارجية الروسية إن مسؤولية تأخير المحادثات الأفغانية وتدهور الأوضاع الأمنية ووصولها إلى ما هي عليه اليوم يقع على عاتق المسؤولين في حكومة كابل.

 وقال سرجي لافروف وزير الشؤون الخارجية الروسي: إن السبب الحقيقي وراء تدهور الأوضاع الأمنية في أفغانستان هو التعامل غير المسئول وغير المبالي للمسؤولين في حكومة كابل، بالإضافة إلى الانسحاب المتعجل لقوات الناتو من أفغانستان، و أضاف قائلا: إن الأوضاع تقلقنا؛ فإن تعامل بعض المسؤولين في كابول مبني على اللامبالاة، و قال: الذين يحكمون أفغانستان ويحاولون تطويل و تأخير سير المحادثات بكل الحيل الممكنة يجب أن يفكروا في عواقب عملهم هذا على بلدهم”! (13)

ويبدوا أن اهتمام حكومة أشرف غني بالمحادثات الأفغانية، يأتي كلما تعرضت للضغوط الداخلية أو الخارجية حيث تقر بالمحادثات والحل السلمي، ولأجل تحقيق هذا الغرض كتب محمد أشرف غني مقالا في مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs) بعنوان ” Afghanistan’s Moment of Risk and Opportunity” (14)  أبدى فيه استعدادا للتنازل عن كرسي الرئاسة، كما أبدى استعداده للقبول بحكومة انتقالية، لكنه لم يخط خطوة واحدة نحو التحقيق العملي للمصالحة، ولم يقدم أي تنازل على طاولة المحادثات يهيئ المناخ للمصالحة، ويبدو أن حكومة غني اختارت سياسة “إما أنا أو لا شيء” فهي تريد أن يكون سقوطها مدمرا لجميع مؤسسات الدولة.

تعامل حركة طالبان مع قضية المصالحة

لم يختلف تعامل حركة طالبان مع ملف المصالحة عن تعامل حكومة أشرف غني، فإن كانت الحكومة مصرة على احتكار السلطة و تحاول البقاء في الحكم بأي ثمن، فحركة طالبان حاولت حتى الآن أن تقدم نفسها على أن تكون هي البديل الوحيد.

 وتحاول الحركة أن تحتكر السلطة و أن تحل القضية عن طريق إعمال القوة، و لأجل ذلك فالصلح في نظرها هو الاستسلام الكامل لسلطتها، وتعتقد أنها حسمت المعركة بتقدمها الأخير، وأن المصالحة والاستقرار في استسلام الجميع لها.

 تقول حركة طالبان في بيان رسمي على موقعها “صداي جهاد” (صوت الجهاد) في عمود “تبصره هفته” (تحليل الأسبوع) الذي يبين وجهة النظر الرسمية للحركة: إن بعض المحللين الأجانب كانوا يخمنون أن الحرب ستطول في أفغانستان بعد انسحاب قوات الاحتلال، و أنها ستتحول إلى حروب أهلية.. لكننا نشاهد عمليا أن مثل هذه التقديرات والتخمينات كانت خاطئة، لقد رأينا عددا كبيرا من الجنود في صفوف نظام كابل اختاروا طريق الصلح والانضمام إلينا لأجل المستقبل الزاهر للبلد وللشعب بدل التمادي في القتال، و خلال عدة أسابيع ماضية سلموا أكثر من 120 مديرية ومئات القواعد العسكرية بكل ما فيها من الأسلحة الثقيلة والخفيفة والعتاد العسكري لمجاهدي الإمارة الإسلامية، و استقر بذلك الصلح الشامل في جميع تلك المناطق بدل استمرار الحرب” (15).

وما يمكن اعتباره سببا لوخامة الأوضاع و أساسا للمشكلة تعتبره حركة طالبان صلحا واستقرارا، تقول الحركة في بيان رسمي لها: “تعتبر الإمارة الإسلامية الحوادث الأخيرة (إشارة إلى استيلاء الحركة على عدد كبير من المديريات) خيرا للبلد وللشعب، لأنها كانت سببا لطي بساط القتال في العديد من المديريات، وعمّ بسببها الصلح والاستقرار، ونرجو أن يكون ذلك بداية لطي بساط كل المصائب من البلد” (16).

تطويل المحادثات من قبل حركة طالبان

مع أن حركة طالبان تتهم الحكومة بتعطيل سير المحادثات الأفغانية في الدوحة، لكنها هي نفسها لم تتعامل مع ذلك الملف بجدية مطلوبة، لأنها كانت تظن أن موقفها سيكون ضعيفا على طاولة المحادثات ما دامت القوات الأميركية في أفغانستان. و من هنا فقد كانت تتذرع بالمماطلة والتأخير المتعمد من قبل حكومة أشرف غني في المحادثات، وكان الزمن لصالح حركة طالبان، والحكومة كانت تظن أنها تستطيع أن تغير قرار الحكومة الأميركية بسحب قواتها، لكنها لم تتمكن، وكانت نتائج تأخير المحادثات مدمرة للشعب الأفغاني.

مبررات التصعيد الحالي

كانت حركة طالبان تشترط سابقا للحوار والمحادثات الأفغانية انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان (17). ولما انسحبت القوات الأجنبية بدأت حركة طالبان بتغيير خطابها، وأدخلت عنصرا جديدا في خطابها لإقناع مقاتليها باستمرار قتال القوات الأفغانية، مع أنها دخلت في الهدنة مع القوات الأجنبية، وكان هذا العنصر الجديد هو إقامة النظام الإسلامي، وهذا النظام الذي يريدون إقامته لم يقدموا شيئا من ملامحه للشعب، و إذا سئلوا عن تفاصيله يحيلون الأمر إلى المحادثات الأفغانية، يقول نائب أمير حركة طالبان للشؤون السياسية الملا عبد الغني برادر: “نحن ندرك التخوفات التي تدور في أذهان الشعب الأفغاني و أذهان المجتمع الدولي حول كنه النظام الذي سيأتي بعد انسحاب القوات الأجنبية؛ أريد أن أقول لمن يطرح مثل هذه التخوفات أن هذا الأمر مفوض للمحادثات الأفغانية” (18). ويبرر قادة حركة طالبان التصعيد الحالي بذلك، ويقولون كان الجهاد لأجل طرد المحتل وتحرير أفغانستان من وجوده، وكان الهدف الثاني هو إقامة النظام الإسلامي، وقد حققنا الهدف الأول بتوقيع اتفاقية الدوحة، وسنستمر في جهادنا لتحقيق الهدف الثاني. وهم يدركون جيدا، وبالأخص ساستهم، أن استمرار القتال يقلل من فرص إقامة النظام الإسلامي في أفغانستان، ولذلك يبدو أن أهدافهم الحقيقية من وراء التصعيد العسكري الحالي، هي:

  • تقوية موقفهم على طاولة المحادثات مع الحكومة الأفغانية، والحصول على نصيب الأسد في النظام القادم.
  • تحاول حركة طالبان الضغط على الحكومة لإطلاق سراح سبعة آلاف معتقل من أفراد الحركة، لأن الحكومة لا تريد أن تطلق سراحهم، وتقول بأنها ليست ملزمة بالاتفاقية التي وقعتها حركة طالبان مع الولايات المتحدة الأميركية، وتطلب مقابل ذلك وقف إطلاق النار، ولأن الحكومة لم تلب هذه المطالب لحركة طالبان، رفضت الحركة المشاركة في جلسة إسطنبول للمصالحة الأفغانية (19).
  • إخراج أسماء قادة حركة طالبان من القوائم السوداء التابعة لمجلس الأمن، لقد أكد الملا عبد الغني برادر على إخراج أسماء قادة حركة طالبان من القوائم السوداء، وقال إن إطلاق سراح باقي المعتقلين، وإلغاء القوائم السوداء الجائرة وتطبيق باقي بنود اتفاقية الدوحة يهيئ الظروف لإنهاء المعضلة الأفغانية (20).
  • إجبار الجهة المقابلة على المحادثات الجادة؛ فإن حركة طالبان قد فقدت الثقة تماما في الرئيس الأفغاني محمد أشرف غني وفريقه وخاصة نائبه الأول أمر الله صالح، و يبدو أنها تريد عن طريق التصعيد العسكري الحالي أن تتجاوز الحكومة الحالية التي لا تثق فيها، وتهيئ الظروف لتتولى مسؤولية المحادثات معها جهة أخرى مكونة من الأحزاب السياسية والجهات المؤثرة في المجتمع.

قد يكون التصعيد العسكري الحالي مبررا لإجبار الحكومة على إجراء محادثات جادة مع حركة طالبان أو تحقيق بعض الأهداف المرحلية الأخرى، لكن إن كان الهدف منها السيطرة على مقاليد الحكم في أفغانستان فإن حركة طالبان تخطئ خطأ فادحا في الحسابات؛ فإن الاستيلاء على العاصمة الأفغانية كابل ليس صعبا، لكنها لن تهنأ بحكم أفغانستان، وستدخل بعد الاستيلاء على الحكم في حلقة مفرغة من الحروب الداخلية، ستتغير المواقع، وسيكون مقاتلو حركة طالبان داخل المدن و من سيحاربهم سيكونون بدلهم في الجبال والصحاري والقرى، وسيسطرون كما تسيطر اليوم حركة طالبان.

دور أميركا في وخامة الأوضاع الحالية

سبب الانسحاب الأميركي غير المنظم الفوضى الموجودة حاليا، وقد تحدثنا عن ذلك قبل سبع سنوات في ورقة نشرت على موقع الجزيرة للدراسات بعنوان “الانسحاب الأميركي من أفغانستان: السيناريوهات المحتملة” وقد اختارت أميركا السيناريو الأكثر سوءا من بين السيناريوهات المحتملة، ونتيجة لذلك تتعرض أفغانستان للنتائج التي كانت واضحة لكل ذي لب.

كانت الإدارة الأميركية تعرف يقينا أن الأوضاع ستسوء بانسحابهم الفوضوي وغير المدروس، وصرح وزير الخارجية الأميركي في رسالته إلى الرئيس الأفغاني بأنه متخوف من أن تسوء الأوضاع بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، و إن استمرت المساعدات الأميركية للحكومة الأفغانية. وقال قائد القوات الأميركية في أفغانستان إسكات ميلر إثر إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن سحب قواته من أفغانستان: إنه يتوقع وخامة الأوضاع الأمنية وتزايد العنف في أفغانستان بعد انسحاب قوات أميركا وحلفائها منها (21)، وقد أبدت مؤسسات استخباراتية أميركية مثل هذه التخوفات كذلك، ومع كل هذه التخوفات والتحذيرات لم تراع أميركا ظروف أفغانستان، وسحبت قواتها من غير أن تنتظر لملمة الأوضاع من قبل الفرقاء الأفغان، و كررت خطأها السابق الذي ارتكبه في تسعينيات القرن الماضي.

وهذا يدل على أن الولايات المتحدة الأميركية ليست بصديق يعتمد عليه، وكان الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي قد عرفهم على حقيقتهم، فقد شرح، عندما رفض توقيع الاتفاقية الأمنية معها عام 2014، في حوار خاص مع الإذاعة الحرة، رؤيته للموقف الأميركي بالقول: إن أميركا لا تبالي بالاتفاقية الأمنية، إذا قررت أميركا أن تغادر أفغانستان فإنها ستغادرها وإن وقعنا معها آلاف الاتفاقيات الأمنية كما فعلت بعد الانسحاب السوفيتي من أفغانستان؛ فإنها لم ترض أن تستبقي موظفا صغيرا في سفارتها بكابل، مع أننا أصررنا على بقائهم في ذلك الوقت الذي كنت أشغل فيه منصب نائب وزير الخارجية للشؤون السياسية، فإنها لن تبقى إن لم تكن لها منافع في أفغانستان، ليس لنا أية أهمية في نظرها، وليس وجودها هنا لأجلنا ولمصلحتنا، إن كانت أميركا تصر اليوم على البقاء في أفغانستان فإن ذلك ليس لسواد أعيننا بل لمصالحها هي وحدها، سواء كانت تلك المصالح مصالح أمنية أو مصالح اقتصادية كبرى، أو كان ذلك لمصالح أخرى (22).

خلاصة القول

يواجه الشعب الأفغاني نتيجة تصاعد الصراع ظروفا إنسانية مقلقة، وإذا استمر القتال ستواجه أفغانستان كوارث لاتحصى، ولذلك لا بد من الدفع باتجاه حل حقيقي يعالج القضية من جذورها، ومما سبق يتبين تماما أن العائق الحقيقي أمام المحادثات الأفغانية المثمرة أمران:

الأول: إصرار محمد أشرف غني على البقاء في السلطة مع مجموعة صغيرة من مؤيديه بأي ثمن، مع غياب للثقة فيه من قبل حركة طالبان خاصة وأنه لم يف بشيء من وعوده. و ما دامت الثقة مفقود فلن تنجح عملية المصالحة، لأن المحادثات بحاجة إلى جو تسوده الثقة المتبادلة.

الثاني: العائق الثاني أمام عملية المصالحة هو الموقف الغامض لحركة طالبان، فهي من جهة تحاول إنهاء القضية عن طريق الحرب والقتال، ومن جهة أخرى يصرح قادتها السياسيون بأن الحركة  تؤمن بإنهاء القضية عن طريق المحادثات الأفغانية، وهذا التناقض في الفعل والقول يحير الشعب.

والحل ليس في توزيع السلطة بين طرفي الصراع كما اقترحته الخطة الأميركية التي قدمها قبل شهور المفوض الأميركي في القضية الأفغانية زلماي خليل زاد، بل الحل في أن تتولى الأمم المتحدة هذا الملف، وتعمل على عقد مجلس الأعيان الاضطراري (لويا جركا) ويجب أن ينبثق من هذا المجلس كيانان:

الأول: إدارة لتسيير الأمور بدل حكومة أشرف غني التي لا تثق فيها حركة طالبان، لتعود حركة طالبان إلى محادثات جادة، وتوافق على وقف إطلاق النار، وهذه الإدارة لا تكون لها علاقة بملف المصالحة، لأنها لو كان لها دخل في المحادثات لحصلت لديها رغبة في تطويل أمد المحادثات، ولعطلت المحادثات، لتطول أمد حكمها كما فعلت حكومة أشرف غني، ويجب أن تكون فترة هذه الإدارة مختصرة لا تتجاوز ستة أشهر.

الثاني: ويجب أن ينبثق من مجلس الأعيان الاضطراري مجلس مكون من ثلاثين إلى خمسين شخصا يمكن أن يسمى بالمجلس العالي للمصالحة الوطنية، وهذا المجلس يتولى أمر المحادثات مع حركة طالبان، وتكون كل الترتيبات بعد ذلك خاضعة للنتائج التي يتوصل إليها الطرفان أثناء الحوار.

تعترف الأطراف المؤثرة في القضية بدور الأمم المتحدة، فحكومة أشرف غني طالبت أكثر من مرة بتفعيل دور الأمم المتحدة في ملف المصالحة، وحركة طالبان كذلك، والدول المجاورة كذلك تعتبر الأمم المتحدة المنصة المناسبة لجمع الفرقاء، و من هنا يبدو أن رعاية الأمم المتحدة للمصالحة الأفغانية هي الإطار المطلوب للحل.

مراجع

1- “سقوط در 6 شش ماه برنامه أمريكا يا تحليل واقعيت؟” التنبؤ بالسقوط خلال ستة أشهر؛ خطة أميركية أم تحليل للوضع؟ موقع “خبر گزاری جمهور”، 5/4/1400هـ ش، الموافق 26/6/2021 (2 يوليو/تموز/2021):   http://www.jomhornews.com/fa/note/140081

2- راجع خبرا بعنوان: “أفغانستان: غني احتمال سقوط حكومت بعد از خروج نيروهاي خارجي را رد كرد” “أفغانستان: أشرف غني نفى احتمال سقوط الحكومة بعد انسحاب القوات الأجنبية”، داتش ويلي الألمانية بالفارسية، 19ابريل/نيسان/2021م(3 يوليو/تموز/2021م)  : https://p.dw.com/p/3sCtG

3- حسيب بهش، “گام سوم عقب نشینی، غنی فرمان رهایی پنج هزار زندانی طالب را صادر کرد” (التنازل الثالث؛ أصدر محمد أشرف غني مرسوم إطلاق سراح خمسة آلاف معتقل لحركة طالبان)، موقع هشت صبح، 21/حوت/1398ه ش (30 يونيو/حزيران 2021م)  ي: (https://8am.af/step-3-ghani-resignation-releases-5000-taliban-prisoners/)  و راجع كذلك:”رئيس جمهور: هیچ تعهدی برای رهایی زندانیان طالبان نداریم” (رئيس الجمهورية: لم نقدم أي وعد بالإفراج عن سجناء طالبان)، جريدة (أفغانستان ما) اليومية،12/حوت/1398هـ ش الموافق 2/مارس/ أذار2020م،(5 يوليو/تموز/2021م): http://www.dailyafghanistan.com/national_detail.php?post_id=152327

4- معلومات وصلت للباحث من أعضاء فريق الحكومة وفريق حركة طالبان للحوار الأفغاني في الدوحة، من خلال مجلس نقاش عن بُعد.

5- أحاديث جرى تداولها في مجالس خاصة.

6- “جو بایدن: خروج نیروهای امریکایی از افغانستان اول ماه می آغاز می شود” (جوبايدن: يبدأ انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان من أول شهر مايو)، موقع إذاعة داتش ويلي باللغة الفارسية، 14ابريل/ نيسان /2021م، (4 يوليو/تموز/2021م) : https://p.dw.com/p/3s27s

7- ” نامه بلینکن به غنی: در مورد صلح و آینده سیاسی افغانستان اقدام فوری شود” (رسالة بلينكن إلى محمد أشرف غني: يجب أن تخطى خطوات فورية حول المصالحة والمستقبل السياسي لأفغانستان)، يوم 7 مارس/آذار 2021، (6 يوليو/تموز/2021):  https://www.bbc.com/persian/afghanistan-56307135

8- غنی و عبدالله در واشنگتن؛ رئیس اقلیت سنا از بایدن خواست خروج نیروهای آمریکایی از افغانستان را به تاخیر بیندازد” (غني و عبد الله في واشنطن: قائد المعارضة أو الأقلية في مجلس الشيوخ طلب من بايدن أن يؤجل سحب القوات الأميركية من أفغانستان) بي بي سي يوم 25يونيو/حزيران/2021،(1 يوليو/تموز/2021):   https://www.bbc.com/persian/afghanistan-57610674.

9- “پاکستاني پوځي چارواکي د طالبانو پرمختګ او د لر او بر شعار په اړه اندیښمن دي” قادة الجيش الباكستاني قلقون لتقدم حركة طالبان و لشعار وحدة البشتون في باكستان وأفغانستان”، بي بي سي بالبشتو، يوم 6 تموز/ يوليو/2021: (8 يوليو/تموز/2021) https://www.bbc.com/pashto/57735968

10- شكيلا إبراهيم خيل؛ “سفر هیئت پاکستانی به افغانستان؛ اسلام آباد در پی چیست؟” (سفر الوفد الباكستاني إلى أفغانستان؛ عم تبحث إسلام آباد) المنشور على موقع داتش ويلي بالفارسية، 25ابريل/نيسان/2021م،(7 يوليو/تموز/2021)  : https://p.dw.com/p/3sY0d.

11- “فرمانده نیروهای مسلح بریتانیا و رئیس ستاد ارتش پاکستان با غنی در کابل دیدار کردند” قائد القوات البريطانية المسلحة برفقة رئيس أركان الجيش الباكستاني يلتقي بالرئيس غني في كابول”، موقع إذاعة بي بي سي بالفارسية يوم 10 مايو/أيار 2021م، (7 يوليو/تموز/2021م):   https://www.bbc.com/persian/afghanistan-57047930

12_  “سفر پنهانی غنی به راولبندی: واقعیت یا پروپاگندا؟” (سفر أشرف غني السري إلى راولبندي: حقيقة أم دعاية)، موقع خبرگزاری جمهور بالفارسية، 29ابريل/نيسان/2021م،(8 يوليو/تموز/2021م):    http://www.jomhornews.com/fa/note/138552/

13- “روسيه حكومت أفغانستان را به درازا كشاندن مذاكرات صلح متهم كرد” (اتهمت روسيا الحكومة في أفغانستان بتطويل محادثات المصالحة”، صوت أميركا باللغة الفارسية 2يونيو/حزيران/2021م ،(8 يوليو/تموز/2021م):  (https://www.darivoa.com/a/russia-blasts-the-afghan-government-for-dragg…)

14-Ashraf Ghani,Afghanistan’s Moment of Risk and Opportunity, May 4, 2021, (accessed: July 10 2021): https://fam.ag/2UCFU54

15- التصريح الرسمي لحركة طالبان على موقعها (صداى جهاد) صوت الجهاد باللغة الفارسية المنشور يوم 2 يوليو/تموز/2021، (6 يوليو/تموز/2021):     http://alemarahdari.net/?p=116310

16- “البيان الرسمي للإمارة الإسلامية حول آخر المستجدات في البلاد” باللغة الفارسية المنشور على صفحة (صداى جهاد)، الموقع الرسمي لحركة طالبان يوم 23يوليو/ حزيران2021م ،(4 يوليو/تموز/2021م):    http://alemarahdari.net/?p=115583

17- “محادثات تسوية القضية الأفغانية.. آفاق وموانع“، مركز الجزيرة للدراسات، 25ابريل/نيسان2013م، ،(8 يوليو/تموز/2021م): https://bit.ly/3k6oybe

18- الملا عبد الغني برادر،”كيف يمكن أن تكون أفغانستان مستقرة، قوية ومتطورة؟”،20 يونيو/حزيران2021م،(6 يوليو/تموز/2021م):  https://alemarahdari.net/?p=115481

19- آزادی 7 هزار زندانی؛ سنگ بزرگ طالبان در مسیر استانبول “إطلاق سراح سبعة آلاف معتقل؛ العقبة الكأداء أمام طالبان إلى جلسة إسطنبول”، “خبر گزاری جمهور”، 7مايو/أيار/2021م ،(6 يوليو/تموز/2021م): http://www.jomhornews.com/fa/note/138705/

20- الملا عبد الغني برادر “كيف يمكن أن تكون أفغانستان مستقرة، قوية ومتطورة؟” ، مرجع سبق ذكره

21- مجلس نمایندگان افغانستان: خروج نیروهای خارجی از کشور مسئولانه باشد؛ هشدار فرمانده ارشد آمریکایی (البرلمان الأفغاني: يجب أن يكون انسحاب القوات الأجنبية مدروسا، وتحذير قائد القوات الأميركية)، موقع بي بي سي باللغة الفارسية، 17 مايو/أيار 2021م،(8يوليو/تموز/2021م): https://www.bbc.com/persian/afghanistan-57140371

22- راجع كلاما صريحا للرئيس الأفغاني في (مصاحبهء اختصاصی با حامد کرزی رییس جمهور افغانستان) حوار خاص للرئيس الأفغاني حامد كرزاي مع الإذاعة الحرة منشور يوم 7/9/1392هـ الموافق: 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، (8 يوليو/تموز/2021): http://da.azadiradio.org/content/article/25181160.html

رابط المصدر:

https://studies.aljazeera.net/ar/article/5066

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M