الإرهاب في إفريقيا: خرائط متحوّلة وخطابات نمطية

د. محمد عبد الكريم أحمد

(منسِّق أبحاث إفريقيا- معهد الدراسات المستقبلية- بيروت)

لا يمكن فصل ظاهرة انتشار الإرهاب في القارة الإفريقية وامتداده جغرافيًّا إلى مناطق واسعة عن أزمة الدولة الإفريقية بشكل عام، رغم سيادة الخطاب “الأمني” في مقاربة هذه الظاهرة دون غيره، عن محاولات تفكيك الظاهرة على خَلفية عَجْز الدولة التقليدي عن تقديم حلول تنموية مستدامة وخفض المخصَّصات الأمنية والعسكرية لصالح جهود تنموية تفيد القاعدة الأكبر من سُكّانها، وكذلك خَفْض أعباء الارتباط بشركاء دوليين دون تحقيق أيّ تقدُّم في نجاعة الحلول الأمنية للظاهرة، بل في ظل ما ينظر له قطاعات كبيرة من سكان دول إفريقية عدة، لا سيما في إقليم الساحل الإفريقي، من أن “الوجود العسكري” الأجنبي قد عمَّق الظاهرة وفاقَم مِن تهديدات الجماعات الإرهابية وعُنفها، ولم يُحجِّم انتشارها على النحو المتوقَّع والذي سبق إعلانه في أكثر من مناسبة.

خرائط انتشار الإرهاب المتحولة:

انتشرت الظاهرة الإرهابية في إفريقيا طوال عقود في “نقاط ارتكاز” رئيسة عقب تداعيات أزمة فشل الدولة (كما في الصومال)، أو في ظل فشل جزئي لدول في فرض سيادتها وخططها التنموية على أجزاء داخل حدودها (كما في الحالة النيجيرية بشكل أبرز، وفي تجلٍّ لتاريخ طويل من تعقيدات أزمة الدولة الوطنية في واحدة من كبريات دول القارة)، عوضًا عن تمدُّد الظاهرة السابق في دول الشمال الإفريقي. وبينما سجل مشروع بيانات موقع وحدث النزاع المسلح  Armed Conflict Location and Event Data Project (ACLED) وقوع 381 هجومًا إرهابيًّا استهدف مدنيين في القارة الإفريقية، وأسفرت عن مقتل 1394 شخصًا، فقد ارتفعت هذه الأرقام في العام 2020 إلى 7108 هجومًا إرهابيًّا أودى بحياة 12519 شخصًا، ووفقًا لشركة فيرسك مابلكروفت Verisk Maplecroft للاستشارات حول المخاطر العالمية (مقرها لندن) فإن قائمة أكثر عشر دول في العالم عُرْضة للمخاطر الإرهابية شملت سبعًا من القارة الإفريقية وحدها([1]).

كما أكدت تقديرات أنه طوال العام 2020م فإن أربعًا من خمس دول شهدت أكبر تراجعات في مؤشر الكثافة الإرهابية Terrorism Intensity Index في العالم كانت في إفريقيا، وشهدت بوروندي الزيادة الأكبر في الخطورة وَفق هذا المؤشر بتراجعها 37 مركزًا لتصبح في المركز 27 عالميًّا للدول الأكثر عرضة لخطر الإرهاب، ثم تنزانيا (32)، وكل من تشاد وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وكينيا وموزمبيق والسنغال التي شهدت جميعًا تراجعات مشابهة([2]).

وفي مؤشِّر على تحوُّلات خرائط الإرهاب تأتي حالة ساحل العاج التي شهدت في الأسابيع الأخيرة هجمات إرهابية على امتداد حدودها مع بوركينا فاسو أسفرت عن قتل العديد من الجنود الإيفواريين؛ وأرجعت السلطات في أبيدجان الهجمات “لكتيبة ماسينا” التابعة لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين.

ورغم أن عدد الحوادث الإرهابية المسجَّلة في ساحل العاج حتى الآن صغير نسبيًّا وأنه يُنظر لها على أنها من ترتيب عناصر خارجية؛ فإن مراقبين يلفتون إلى خطورة تبنّي هذه المقاربة، وملاحظة أن العنف المتطرف يكون في الغالب مزيجًا من الديناميات الخارجية والداخلية، وأن المتطرفين يَجْنحون لاستغلال الأوضاع الهشَّة مثل الصراعات المحلية وقصور الحوكمة والثغرات الأمنية وأنشطة التهريب للاندماج في البيئة الداخلية للدول المستهدفة وتجنيد مواطنين من داخلها([3]). وامتدت هذه الخرائط إلى مناطق أخرى مثل شمالي موزمبيق وأطراف أنجولا وغيرهما.

الإرهاب في إفريقيا: المقاربة الدولية البرجماتية

عاد الاهتمام الدولي بمسألة الإرهاب في إفريقيا قبل نهاية يونيو الجاري عقب تصريحات الجنرال ستيفن تاونسند S. Townsend رئيس القيادة الأمريكية في إفريقيا بأن الإرهاب يكتسح إفريقيا “كالنار في الهشيم”، وملاحظة خبراء أمريكيين أن مسؤولي البنتاجون الذين قضوا أكثر من عشرين عامًا في مواجهة “الجماعات المسلحة” في الشرق الأوسط يرون الآن أن إقليم الساحل -الذي يضم عشر دول إفريقية (سواء تقع بالكامل داخله أو أطراف منها فقط- يعاني من استمرار تدهور الوضع، وعدم إمكان تحسن الوضع في محاربة الإرهاب في الإقليم دون “استثمارات إضافية من فرنسا والولايات المتحدة والمجتمع الدولي”، وهذا ما توقعه محللون آخرون في تصريحات متقاربة.

ويعبّر الاهتمام الغربي الحالي بالظاهرة، وسط تفاعلات متسارعة بين الحلفاء الغربيين لتبنّي مواقف وسياسات “موحدة” إزاء القضايا الإفريقية ومن بينها مسألة الإرهاب، عن برجماتية واضحة ومبررة في واقع الأمر؛ إذ تقوم بنية هذه المقاربة على الاتساق مع المستجدات وترتيب أولويات هذه الدول. فالولايات المتحدة -التي سحبت قواتها من الصومال قبيل بدء رئاسة الرئيس الأمريكي جو بايدن الحالية- تُراجع سياساتها ذاتها على خلفية مخاوفها من تمدُّد النفوذ الصيني بشكل متزايد في إقليم القرن الإفريقي، ودول جواره.

 بينما تواجه فرنسا انتقادات من حلفائها الغربيين بخصوص شفافية توجيه الموارد التي تتحصل عليها للأهداف المتفق عليها في “الحرب على الإرهاب”.

وإجمالًا فإن الاهتمام “الموسمي” بظاهرة الإرهاب في إفريقيا لا يدفع للاعتقاد بقرب تبنّي سياسات شاملة وناجعة لمواجهة الظاهرة التي تتمدد جغرافيًّا وتتزايد عنفًا، وبقدر كبير من الذكاء في استغلال تناقضات السياسات الوطنية الإفريقية والدولية في مناطق متفرقة من القارة.

الإرهاب بين تكريس “الأمننة” والمقاربة السوسيولوجية : 

في مقال شهير لديفيد شين D. Shinn، السفير الأمريكي البارز في إثيوبيا وبوركينا فاسو وأستاذ الشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن حاليًا، يختبر فيه مقولة الصلة بين الفقر والإرهاب في إفريقيا، وقد نفى نفيًا قاطعًا أن يكون الفقر سببًا (مجرد سبب وليس رئيسًا) للإرهاب في إفريقيا جنوب الصحراء، معتبرًا أن الفقر واحدًا من عوامل كثيرة أسهمت في توفر بيئة مكَّنت التنظيمات الإرهابية من الحصول على الدعم. وأنه بينما يكون قادة هذه التنظيمات مدفوعين بالأساس بالأيديولوجيا والرغبة في السلطة السياسية والاقتصادية فإن أتباعهم يأتون من فئات الشباب صغير السن الذي يعاني من الفقر والبطالة والتفاوت الاقتصادي والتهميش السياسي والذين لا تتوفر لديهم رؤية واضحة لحياتهم مستقبلًا في النظام السياسي والاقتصادي للدولة. كما أن الموارد المخصصة لمكافحة الإرهاب محدودة، بينما يحتاج القضاء على الفقر لمخصَّصات مُكلِّفة، ورغم دعوته المجتمع الدولي لتوجيه موارد لمواجهة الفقر في إفريقيا فإنه لا يرى أن ذلك سيسهم –إلا بشكل متواضع للغاية- في مواجهة الإرهاب وانتشار الجماعات الإرهابية([4]) في إفريقيا جنوب الصحراء.

وفي مقابل هذه الرؤية التقليدية، والتي تتناقض داخليًّا بشكل واضح في الفصل المصطنع بين قيادات وأعضاء التنظيمات الإرهابية أيديولوجيًّا على الأقل من جهة، وكذلك التقليل من شأن تداعيات تحسين السياسات التنموية في القضاء على الإرهاب لا سيما إذا طابقنا خرائط انتشار الإرهاب بالمناطق المهمشة والفقيرة في إفريقيا، وكذلك بالرغم من زخم التناول الإعلامي الحالي لقضية الإرهاب في القارة الإفريقية، والذي يبدو من القراءات المكثفة أنه يتبنَّى خطابًا متشابهًا للغاية، فإن تناول الأسباب المحلية الجوهرية للظاهرة، وتشابكها مع نتائج السياسات الدولية (لا سيما الفرنسية والأمريكية) الداعمة لسلطوية وعسكرة دول مثل تشاد ومالي، ظل محدودًا للغاية، ويظهر على استحياء بالغ.

وتتضح تلك المعضلة في حالة بوركينا فاسو، التي شهدت في مطلع يونيو واحدًا من أعنف الحوادث الإرهابية في تاريخها، وفي العالم في السنوات الأخيرة، نتج عنه مقتل نحو 140 مواطنًا بوركينيًّا في إقليم ياغا Yagha؛ إذ تتشابك عوامل السخط الاجتماعي في هذه الدولة؛ مما يعتبره سكان ريفها (لا سيما في إقليم ياغا) استغلالًا مِن قِبَل النُّخَب الحضرية بها لعائدات مناجم الذهب وعدم توزيع الدولة لهذه العائدات بشكل عادل، مع نزوع الجماعات الإرهابية –بالتعاون مع سكان محليين- للاستيلاء على احتياطيات من الذهب لتمويل أنشطتها لشراء السلاح وتجنيد العناصر([5]).

خلاصة:

توضِّح الحالات السابقة أنه ثمة تعارض كبير بين “أمننة” الظاهرة الإرهابية في المقام الأول، والتي تَجْنح إلى توصيف سطحي للظاهرة يتَّسق مع رؤية صُنّاع القرار في الغرب والعديد من الدول الإفريقية؛ بحيث يتم التجاوز عن قصور “الدولة الوطنية” والتفاعلات الدولية ذات الصلة في مواجهة الأسباب الجذرية للظاهرة أو على الأقل التي توفر بيئة حاضنة لها، وفكرة البحث في الظاهرة إفريقيا في سياقاتها المجتمعية الأشمل للوصول لمعالجات حقيقية للظاهرة وتجريف “البيئات الحاضنة” لتمدُّد الجماعات الإرهابية، بل وحرمان بعض نُظُم الحكم الإفريقية من مسوِّغات استمرار الاستبداد والإقصاء المجتمعي، وما يمكن وصفه بتكريس التخلف.


[1] Joseph Mroszczyk and Max Abrahms, Terrorism in Africa: Explaining the Rise of Extremist Violence Against Civilians, E-International Relations, April 9, 2021 https://www.e-ir.info/2021/04/09/terrorism-in-africa-explaining-the-rise-of-extremist-violence-against-civilians/

[2] Alexandre Raymakers, Terrorism: 7 of 10 highest risk countries now in Africa – Index, December 11, 2020 https://www.maplecroft.com/insights/analysis/terrorism-7-of-10-highest-risk-countries-now-in-africa–index/

[3] William Assanvo, Terrorism in Côte d’Ivoire is no longer just an external threat, Institute of Security Studies, June 15, 2021 https://issafrica.org/iss-today/terrorism-in-cote-divoire-is-no-longer-just-an-external-threat

[4] David Shinn, Poverty and Terrorism in Africa: The Debate Continues, Georgetown Journal of International Affairs , Summer/Fall 2016, Vol. 17, No. 2 (Summer/Fall 2016), p. 22.

[5] Martina Schwikowski, Burkina Faso: Amid growing instability, France signals it will reduce military presence, DW, June 15, 2021 https://www.dw.com/en/burkina-faso-amid-growing-instability-france-signals-it-will-reduce-military-presence/a-57859136

 

.

رابط المصدر:

https://www.qiraatafrican.com/home/new/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A5%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-%D8%AE%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D8%B7-%D9%85%D8%AA%D8%AD%D9%88-%D9%84%D8%A9-%D9%88%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%86%D9%85%D8%B7%D9%8A%D8%A9#sthash.ZtIXg7d1.5RAspKIE.dpbs

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M