الاستكبار والاستضعاف في القرآن _ تأملات قرآنية من سورة سبأ

بهاء النجار

 

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)

التأمل الأول :
ليكن في علم الجميع أننا جميعاً مؤمنون بالقرآن نظرياً ولكننا كافرون به عملياً ، ولكن نسبة الكفر هذه تتفاوت بين مؤمن وآخر حتى تكون صفراً عند المعصومين عليهم السلام ، وهذا الكفر العملي يدفعنا الى الظلم ، سواء كان الظلم لأنفسنا بارتكاب المحارم ومخالفة أوامر ربنا جل وعلا أو ظلم الآخرين بسنّ تشريعات وإصدار أحكام وفتاوى تخالف النهج القرآني ، والظلم الثاني أشد عذاباً وأسوأ مصيراً من الأول ، لأن الأول ضالٌ ولكن الثاني مضلٌ ، فالضال من المستضعفين الذين دفعهم ضعفهم الى إتباع المستكبرين المضلين فضلّوا ، والأتباع عادة أكثر من القيادات لذا فأغلبنا أتباع ، وحتى لا نضِل علينا البحث عن قيادة غير مستكبرة وغير مضلة كي لا نكون من الضالين ، ولا ينفعنا حينها مجادلة المستكبرين وإثبات أننا مؤمنون .

التأمل الثاني :
يبدو أن الإستضعاف الذي تعيشه بعض الشعوب هو ذاتي بالدرجة الأساس وليس خارجياً ، أما المستكبرون فاستضعفوا تلك الشعوب لكون الأخيرة تعيش حالة الإستضعاف في ذوات أفرادها ، بمعنى أن أفراد هذه الشعوب ( المستضعفة ) ليست ضعيفة في ذاتها لأن الله تعالى لا يقبل للناس أن يكونوا ضعفاء فلم يخلقهم ضعفاء وحثّهم على البحث عن مصادر القوة وأرسل الأنبياء ليوقظوا تلك القوة في نفوسهم ، ولكن بعض الشعوب وبعض أفرادها تترك طريق الرسل الذي يمثل طريق الإيمان فتستضعف أنفسها وتزعزع ثقتها بذاتها وتستصغر طاقاتها ، بينما تنظر للظالمين باستكبار فيستكبر الظالمون .

التأمل الثالث :
إن الإستضعاف الذي تعيشه بعض الشعوب – ومنها بعض الشعوب الإسلامية – قد لا يكون مقابل إستكبار حكامهم الظَلَمَة بدليل أننا نرى انتفاض هذه الشعوب ضد الظالمين حتى وصل الأمر الى قلب الحُكم وتسنّم أبناء هذه الشعوب مقاليد الحكم بدل الظالمين .
لكنّ إستضعاف هذه الشعوب كان أمام القوى المستكبرة من خارج الحدود ممن يريدون الاستحواذ على طاقات الشعوب ، فأما من استضعفوا أنفسهم فقد استسلموا لهذه القوى وسلّموهم ما يملكون من طاقات طبيعية وبشرية وغيرها ، وأما الشعوب المؤمنة فبقيت قوية فلا يستضعفها أحد .

التأمل الرابع :
ينبغي أن يكون المؤمن بالقرآن حكيماً يُحكّم عقله بعد أن أبلغه القرآن الكريم بأن هناك جدلاً عقيماً سيدور بين المستكبرين ( القيادات ) والمستضعفين ( الأتباع ) ممن كفروا بالقرآن كفراً عملياً ، باعتبار الكفر النظري مُستبعَد لأنه مخالفٌ للإيمان بالقرآن ، وبما أن أغلبنا أتباعٌ – لكون القيادات هي القلة – علينا أن نستفيد من جدل المستضعفين مع قياداتهم المستكبرة ، فلو افترضنا أن إدعاءهم ( لولا المستكبرون لكان المستضعفون مؤمنين ) صحيح ، فما فائدة صحة هذا الإدعاء في ذلك في ذلك الموقف الرهيب ؟! بينما نجد فائدته في هذا العالم بأن يبتعد الأتباع عن إتباع القادة المستكبرين وليثبتوا إيمانهم الآن حتى لو دفعوا أثماناً دنيوية .

التأمل الخامس :
لننظر الى الإستضعاف والإستكبار نظرة نسبية ، بمعنى أن المستضعَف قد يكون قوياً ولكن محاولة إضعافه قلّلت من قوته ، بغض النظر عن من صاحب هذه المحاولة هو نفسه أو غيره ، والمستكبِر ضعيفٌ ولكن يحاول أن يكون أقوى باستكباره ، وهنا نستفيد من هذه النقطة تنموياً ، فالإنسان قوي دائماً مهما حاول الآخرون إضعافه ، وإذا كان ضعيفاً فليحاول أن يقوّي نفسه ولكن طبعاً ليس على حساب الآخرين .
وهنا نستذكر مقولة المفكر الشهيد محمد باقر الصدر ( الجماهير أقوى من الطغاة مهما تفرعنوا ) أي مهما حاول المستكبرون إضعاف الجماهير فيبقى الجماهير أقوياء ويبقى المستكبرون ضعفاء .

التأمل السادس :
إذا كان الموقوفون – من المستكبرين والمستضعفين – عند رب العزة والعظمة يتجادلون بمحضره جلت قدرته ولا يبالون لذلك الموقف العظيم ومصيرهم الأليم فمن باب أولى أنهم لا يكترثون لوجوده سبحانه وهُم في دار الدنيا التي تحجب الغافلين عن العظمة الإلهية ، وهذا يثبت كفرهم الحقيقي بالله تعالى فضلاً عن كفرهم بالقرآن وبشكل واقعي وعملي وملموس أمام الخلق أجمعين ، لأن إيمان الإنسان وتقواه وورعه وكفره وفسقه وفجوره وظلمه في الدنيا سيتجسد في الآخرة بأشكال معينة ، ولو كان من الممكن أن يكون هؤلاء المستضعفون مؤمنين – كما زعموا في جدالهم مع المستكبرين – لما سمحوا لأنفسهم بالجدال في الحضرة الإلهية المقدسة .

التأمل السابع :
في الوقت الذي نرى بعض الذين استُضعِفوا قد أدى إستضعافهم الى الكفر والخروج عن جادة الإيمان – كما يدعون – والدخول في مجادلة عقيمة مع الذين استكبروا في الحضرة الإلهية المقدسة نجد البعض الآخر من الذين استضعفوا يمنّ الله عليهم ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين لنهج الرسالة المحمدية الحقيقية ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) ، إذ لم يكن إستضعافهم ذريعة للكفر ولا سبباً للظلم ، بل رغم إستضعافهم كانوا أولياء الله وأوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله فكانوا هم القرآن الناطق المجسدون لتعاليمه على أرض الواقع .

التأمل الثامن :
يحاول المستكبرون الرد على المستضعفين لدفع الإتهام عن أنفسهم وتحميل المستضعفين مسؤولية الضلال والصد عن الهداية بسبب إجرامهم ، والظاهر أن هناك إتفاقاً بشرياً إنسانياً على أن الإجرام من مسببات الصد عن الهدى وبالتالي هو من أسباب الضلال ، لأن المستكبرين – باعتبارهم أحد أصناف الظالمين والكافرين – احتجوا به بوجه خصومهم المستضعفين ، وفي الوقت نفسه يؤمن المؤمنون بأن الإجرام من أسباب الضلال ، لأن أي انحراف عن الصراط المستقيم هو إجرام ويؤدي الى الضلال ، لذلك ندعو ربنا في سورة الفاتحة بأن يهدينا الصراط المستقيم كي لا نكون من الضالين .

التأمل التاسع:
تُعلِمُنا سورة الفاتحة أن من مقدمات وأسباب الهداية هي العبادة والاستعانة بالله تعالى ، ( إياك نعبد وإياك نستعين ، إهدنا الصراط المستقيم ) ، وبالتالي قد يكون الصد عن الهداية من خلال الصد عن العبادة والاستعانة بالله سبحانه ، وهذ ديدن المستكبرين المجرمين لإستضعاف المؤمنين ، لأنهم يشعرون ويدركون أن قوة المؤمنين بالهداية الناتجة من العبادة والاستعانة بالله جل جلاله .
وليس بالضرورة أن يكون الصد عن العبادة والاستعانة بالله جل شأنه علنياً ، بل إن هذا الصد أصبح من أسلوباً قديماً مفضوحاً ، لذا اتجه المستكبرون لتضييع روح العبادة والاستعانة بالله من خلال الغزو الثقافي وتحريف الحقائق ، وبالتالي لا يصل المؤمن الى مبتغاه وسر قوته وهي الهداية .

التأمل العاشر :
رغم أن من الإجرام أن يستضعف الإنسان نفسه مقابل الآخرين ليستكبروا عليه ولكن هذا لا يعني أن الإستكبار على الآخرين ليس بإجرام ، بل ربما هو أولى بالإجرام ، فبحسب الحديث القدسي المروي أن ( الكبرياء ردائي من نازعني عليه أدخلته النار ولا أبالي ) .
وعلى المستضعفين أن يتخلصوا من إجرامهم لأنفسهم واستضعافهم لها حتى يرفعهم الله تعالى ويضع المستكبرين ، كما نقرأ ليلياً في شهر رمضان في دعاء الافتتاح الشهير ، وأن يكون ضعفهم – وحتى استضعفاهم لأنفسهم – أمام الله تعالى وحده لا شريك له ، لأنه هو صاحب الكبرياء والعظمة .

التأمل الحادي عشر :
إن الأسياد والقادة يكونون مستكبرين عندما يكفرون بدين الله وكتابه ويبتعدون عنه سبحانه ، وهنا الكفر والابتعاد عن الله درجات ، فمنهم من يكون كفره مطلقاً بمعنى أنه لا يؤمن بالله عز وجل أصلاً ، ومنهم من يؤمن به بلسانه وقلبه ولكنه لا ينعكس على سلوكه وحياته ، والقسم الثاني ربما منتشرٌ اليوم أكثر من الأول ، فأصحاب النفوذ ومالكو الشركات الكبرى وزعماء الأحزاب وشيوخ العشائر وحتى بعض القيادات الدينية وغيرهم من مصاديق القسم الثاني عندما يأمرون بأوامر مخالفة لدين الله ، فمثلاً يأمرونهم بالسرقة أو القتل أو التجسس أو الفتنة بين الناس أو تضليلهم أو خداعهم أو إشاعة الفاحشة من خلال التبرج وبث السموم غير الأخلاقية ، فإذا كان الأتباع من ضعيفي الإيمان سينقادون وراءهم وإلا فيتركونهم .

التأمل الثاني عشر :
أحياناً تكون أوامر المستكبرين للمستضعفين بعصيان الله جلت قدرته – وكأنه غير موجود – بشكل سري (ليلاً) خوفاً من ردود الأفعال أو حفاظاً على سمعتهم التي ربما يريدونها تلائم الجو العام الرافض لبعض المعاصي ، وهذا هو الوضع السائد في كل زمان ومكان مع الأسف ، وهذا يكشف عن نفاق هؤلاء المستكبرين الذي يُعتبر كفراً عملياً ، وأحياناً تكون هذه الأوامر المخالفة لشرع الله سبحانه نهاراً جهاراً وبلا خجل أو وجل ، لأن الجو العام يقبل بهذه المخالفات .
وما يجعل تلك الأوامر سرية أو علنية هو الجو العام ، وهذا يكشف دور الناس والرأي العام في إشاعة المستكبرين – من مسؤولين ومدراء شركات ووسائل إعلام وغيرها – للمعاصي من عدمه .

التأمل الثالث عشر :
علينا أن لا نحصر الاستكبار والاستضعاف بالقضايا المجتمعية الداخلية الضيقة ، فمن المعلوم أن هناك إستكباراً دولياً عالمياً مقابل استضعافٍ لدول وشعوب ، إذ تطمح الدول المستكبرة أن تكون الدول المستضعَفَة أداة بيدها تنفّذ أجنداتها بما فيها ما يتعارض مع دين الله من خلال تنفيذ أوامرها التي تكون مرة بشكل سري تحت عناوين جذابة كالديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية ودعم القطاع الخاص وغيرها من العناوين التي يتفق على ضرورتها الجميع ولكن تستغلها الدول المستكبرة ومن خلال اتفاقات دولية مع الدول المستضعَفَة لتطبيق رؤاها السياسية والثقافية والفكرية المخالفة لشرع الله جل وعلا الذي يكشف عن كفرها العملي .
وأحياناً تكون أوامر الدول المستكبرة علنية وفي وضح النهار عندما تشن حروباً عسكرية واستخبارية وإعلامية وسيبرانية وغيرها .

التأمل الرابع عشر :
في عالمنا الإسلامي قد لا نجعل شخصاً نداً لله عز وجل بدرجة عبوديته من دون الله تعالى ، لأننا مؤمنون – نظرياً – بأن الله وحده لا شريك له ، ولكن من الطبيعي أن نجعل أنداداً لله سبحانه في المستويات الأدنى ، فمثلاً عندما نجعل نداً لدين الله وتشريعاته فإننا جعلنا نداً لله على المستوى التشريعي ، فمن يفعل ذلك غير مؤمن بأن التشريعات الإلهية يجب أن لا يعارضها شيء ، فالمصارف الربوية أصبحت أمراً طبيعياً والغناء والتبرج أمراً لا يمكن التنازل عنه والخمور مسألة ضرورية لجذب السياح وهكذا ، وكل هذه وغيرها يقوم بها المستضعفون الذين استضعفوا دينهم في قلوبهم بأمر وضغط من المستكبرين .

التأمل الخامس عشر :
كثير من الذين استكبروا لا يجعلون لله أنداداً ، لكنهم يجعلون لأولياء الله أنداداً ، وكما نعلم فإن الله تعالى شاء أن تكون طاعته من خلال طاعة ولاة أمره من الأنبياء والأوصياء عليهم السلام ، فعندما يجعل لهم المستكبرون أنداداً أمثال السلاطين ووعاظهم وأئمة السوء والكفر والمضللين فإنما يريدون أن يجعلوا لله أنداداً ولكن بشكل غير علني كي لا يضج الضاجون وينتفض المنتفضون ، عندها يسهل توجيه الأوامر – بشكل غير مباشر – الى المستضعفين التي تؤدي الى الكفر العملي ما دام الكفر النظري بعيد المنال ، وما دام المستضعفون قد استضعفوا دينهم في قلوبهم فقد أصبحوا مستعدين لقبول ما يأمرهم به المستكبرون كطاعة السلاطين ووعاظهم وغيرهم باعتبارهم بُدلاء عن أولياء الله تعالى .

التأمل السادس عشر :
إن الاستكبار الناشئ من التكبر مرفوض بلا شك ، وانطلاقاً من مبدأ ( التكبر على المتكبر هو التواضع بعينه ) يمكن أن يكون الاستكبار على المستكبرين مقبولاً ، وبما أن الاستكبار والتكبر لا يعنيان أن المستكبر والمتكبر كبيرين وإنما يحاولان أو يتصوران أنهما كبيران ، وبالتالي فعلى المستضعفين من المؤمنين أن يكونوا مستكبرين أمام المستكبرين فإن ذلك سيُضعف جانب الكفر ويقلل من الأنداد لله تعالى ولشريعته وأوليائه ، وأن لا يبقوا مستضعفين من دون محاولة للتكبر من استكبر عليهم ، وإلا سيندمون على استضعاف قدراتهم وسيكونون مكبلين بالأغلال وهم عملياً أقرب للكفر من الإيمان .

التأمل السابع عشر :
مما لا يحتاج الى إثبات أن الاستكبار على الآخرين أو البقاء تحت نير الاستكبار أمر مرفوض ، ومن باب الإنصاف فإن رفضنا لاستكبار الآخرين علينا يجب أن يرافقه رفض لاستكبارنا على الآخرين ، ولنحمي أنفسنا من الاستكبار ( سواء كان علينا أم على الآخرين ) فإن الحل يكمن في التجسيد العملي لعبارة ( الله أكبر ) ، هذه العبارة التي طالما يرددها المؤمنون في حياتهم بألسنتهم ولكنهم لا يتفاعلون معها على أرض الواقع رغم أن تجسيدها يعني التوحيد العملي ، فلا أنداد لله جل جلاله ما دمنا نراه أكبر من أي شيء ، أكبر من كل مستكبر ، وأكبر من كل من يأمر بالكفر ( عملياً كان أم نظرياً ) ، وأكبر من أنفسنا التي قد تميل الى التكبر حتى على تشريعات الله الأكبر .

التأمل الثامن عشر :
لو دققنا النظر في مصطلحي الاستكبار والاستضعاف لوجدنا أنهما منبثقان من مصدر واحد وهو الاستضعاف ، لأن الاستكبار هو عبارة عن استضعاف المستكبر للآخرين أو استضعاف الآخرين للمستضعَف ، وفي الوقت نفسه – وكما بينا سابقاً – أن المستضعَف قد استضعف نفسه فاستضعفه الآخرون فاستكبروا عليه وتأمّروا عليه الى درجة إجباره على الكفر بالله ( نظرياً كان أم عملياً ) وجعل الأنداد له ولشريعته وسفرائه ، فلا يستطيع أحدٌ أن يستكبر على أحدٍ ويستضعفه إذا كان هذا المستضعَف في نفسه كبيراً .

التأمل التاسع عشر :
ذكرنا سابقاً أن المستضعفين يكون إستضعافهم في كثير من الأحيان من دواخلهم ، أي أنه إستضعاف ذاتي ، بحيث يستضعفون أنفسهم وقيمهم ومبادئهم وثوابتهم ودينهم فيستضعفهم الآخرون ، وأحياناً أخرى يكون هذا الإستضعاف صفة ذاتية متجذرة ومتأصلة ، بحيث تكون هناك رغبة عند المستضعفين بالاستضعاف ، بمعنى أنهم يرغبون بالإستضعاف فإن استطاعوا إضعاف غيرهم استضعفوهم فيكونوا مستكبرين وإن لم يستطيعوا فيستضعفوا أنفسهم فيكونوا مستضعفين .
وعندما يكون الاستضعاف بهذا المستوى وبهذا الشكل فمن الطبيعي أن يأتمروا ويأمروا بالكفر وأن يجعلوا أنداداً لله تعالى ولشريعاته وأوليائه .

التأمل العشرون :
هناك رأي تفسيري يذهب الى أن (الذين استكبروا) ليس كالمستكبرين بل هم أدنى استكباراً ، و (الذين استضعفوا) ليس كالمستضعفين بل هم أقل استضعافاً إلا أن تكون هناك قرينة تثبت العكس ، ووفق هذا الرأي فإن فهمنا للآية الكريمة يكون أقرب الى اعتبار (الذين استكبروا) و (الذين استضعفوا) هم من يكفرون بالله تعالى عملياً وليس نظرياً ، باعتبار أن الكفر العملي هو أقل مرتبة من الكفر النظري ، وهذا يعني أن ذلك يشمل المسلمين المؤمنين بالله سبحانه نظرياً لكنهم يكفرون به عملياً من خلال ارتكابهم للمعاصي وجعل أنداد لدينه وأوليائه من دون أن يجعلوا أنداداً له جل وعلا .

التأمل الحادي والعشرون :
على المستوى الأسري والعائلي نجد هناك إستكباراً وإستضعافاً أيضاً وليس فقط على المستوى السياسي ، وهذا ما يهمّ غالبيتنا ، إذ نجد آباءاً وأزواجاً مستكبرين وأبناءاً وزجات مستضعفين ، هذا الإستكبار والإستضعاف يشمل الجانب السلوكي والجسدي وكذلك الجانب الفكري ، إذ أن هناك آباءاً وأزواجاً يجبرون أبناءهم وأزواجهم على قناعات يتبنونها ، هذه القناعات تصل الى حد الكفر ( النظري أو العملي ) وجعل أندادٍ لله تعالى وأندادٍ لشريعته وأوليائه ، أما الأبناء والزوجات فقد يضعفوا أمام هذا الاستكبار وربما يروق لهم لإرضاء أنفسهم الأمارة بالسوء فيستجيبوا لما يؤمروا به .

التأمل الثاني والعشرون :
ربما يشعر المستَضعَفون بالندامة عندما يروا العذاب أكثر المستكبرين ، باعتبار أن المستكبرين قد حصلوا على شيء ما من الدنيا ، أما المستَضعَفون فقد خسروا الدنيا والآخرة ، خسروا دنياهم باستسلامهم لأوامر من تكبّر عليهم حتى وصل الأمر الى الكفر بالله تعالى ، وخسروا آخرتهم نتيجة ذلك الاستسلام .
وبما أن غالبية الناس أتباع ، والقليل منهم قادة ، وحتى لا يكون في موقف الندامة يوم القيامة عليهم أن يعيدوا النظر في القيادات التي إتبعوها ، فإن كانت قيادات مستكبرة تأمر بالكفر بالله سبحانه – حتى لو كان عملياً – مما يدفعهم الى جعل أنداد لله ولشرعه وأوليائه فعليهم أن يتركوا هذه القيادات ويتخلصوا من الانقياد وراءها .

 

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M