الاستهلاكية وعلمنة رمضان

د. عثمان أمكور

شهر رمضان؛ شهر تدبر القرآن، شهر الرحمة والتقوى والغفران قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، شهر تضيء فيه نفوس المؤمنين بضياء رباني يخترق المدى ويهدي به الشاردين، بضياء يقيم صرحَ الروحِ ويعيد البدنَ الى توزانه!، شهر يختزن قيمًا عظيمة من الرحمة والخيرية قال تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184]، وهو مدرسة للمسلم فيه يسلك المرء مسلك الاستقامة وينهجُ منهج التدبر، مدرسة تعطي للأمة انسان العُمران، إنسانا يتجاوز فهمه وإدراكه حدود المساحات المحسوسة والأشياء المادية.

غير أننا مع الأسف أصبحنا نشهد تعاملاً جديدًا مع رمضان، تعاملٌ يعربُ عن تسللِ مجموعة قيم الاستهلاكية غير محايدة تحجبُ عظمة وفضل هذا الشهر عن الإنسان، تجعل من شهر الرحمة شهرًا استهلاكيًا بامتياز؛ حيث نشهد توظيف هذا الشهر من طرف شركات رأسمالية لا تبتغي منه سوى رفعِ وتيرة مبيعاتها فتخصص له منتوجات خاصة فتُفقِدُ المسلمَ بوصلة الرحمة وتدخله في جلبةٍ ومتاهة لا يدري أين سبيل الفكاك منها ولا يعلم طريق الخروج من هذا النسيج الاستهلاكي المُحكم الذي أصبح يطوقه!

لقد تغيرت نظرتنا لرمضان، وتغيرَ فقه تعاملنا معه، فبدلا من أن يكون هذا الشهر مناسبة لإقامة صرحِ الروح والرَّفعِ من قيمة التراحم والتكافلِ والتعاضد المجتمعي/ الجماعي، نجده مع الاسف يظهر شيء فشيء قيما استهلاكية وتفكيكية لتراحمية الانسان؛ ويظهر لنا هذا جليا حينما نلحظ تعامل كثير من الناس فيه حيث ترتفع نسبة الانفاق عندهم بشكل خرافي ليصبح هَمُ الصائم حينها هو اعداد طاولةٍ تغصُ بأنواع و«مركات» مختلفة من الطعام بُغية اشباع نهمه وضمانِ بقائه! متجاهلا صوت كل فقيرٍ جائع! ولا ننسى الهجوم الاعلامي الشرس الذي يشنه الإعلام على الصائم كل سنة فيجعله محاصرًا بين المسلسلات والبرامج ومئات الاعلانات التجارية! التي لا تكف كلها من ارسال قيم استهلاكية شهوانية تصرف الصائم عن أداء رسالته، بل وتحاولُ جاهدة تشويه رسالة رمضان فتحوله من شهرِ الرحمة إلى شهر “الترفيه” وكأن رمضان مناسبة لا يتجاوز دور الصيام فيها حد صيام الجوارح!! وهذا ما يذكرنا بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الْجُوعُ.. »، وهي إشارة بليغة تحذرنا من اختزال الصيام في وظائفه البيولوجية وعدم ربطه بالعالمِ المتجاوز.

لم يعد همُ «الصائم الاستهلاكي» في هذا الشهر ربطَ عالمِ الغيبِ بالشهادة ولكنه أصبح مناسبة لضمان عالم الشهود الذي لا يتجاوز حدود مساحاتِ الملموس والمحسوس وهذا ما يجعل الانسان ينفصلُ انفصلا تدريجيا من هويته وانسانيته هذا ما يجعلنا أمام رمضان ممسوخ فاقدٍ لخصوصيته، ان تغول الفقه الاستهلاكي في رمضان يسلبُ منا هذا الشهر ويسلبُ منا فضله ويجعلنا نقف أمام رمضانٍ أجوف خالٍ من المعاني المتجاوزة؛ يجعل «الصائم الاستهلاكي» يغترب عن رمضان الرحمة والقيم الإنسانية ويجنحٌ الى رمضان مادي شائِه مطوقٍ بقيمٍ العَلمانية؛ فيكون الفقه الاستهلاكي حينها بابًا من أبوبِ علمنة رمضان!

ولذلك كان لزامًا علينا أن نمتلكَ الوعي الساعي القادر على تجاوزِ هذا النسيج المحكم من القيم الدُنيانية التي تحيط بنا بُغية الفكاك منها ولا سبيلَ لذلك سوى بإقامة صرحِ الروح التي تتجاوز ترانيمه حدود المادة لتشكيلِ رابطة تجمعُ بين عمقِ عالمِ الشهود وعالمِ الغيب وبناء مرجعية متجاوزة ومتمركزة حول قيم القرآن وسنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم الصحيحة؛ هذا هو سبيل اعادة ألقِ القيم الربانية والتراحمية، التكافلية والإنسانية التي تميز هذا الشهر العظيم.

 

رابط المصدر:

https://www.nama-center.com/Articles/Details/421

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M