التجاذبات المتعارضة … تفجير “تقسيم” وحدود جديدة للمعادلة التركية الداخلية والخارجية

محمد منصور

 

بالنظر إلى السياقات الداخلية الحالية في تركيا، والتطورات التي طرأت خلال الأشهر الأخيرة، على المحيط الأقليمي لأنقرة، سواء في سوريا وشرق المتوسط، أو في القوقاز وأوكرانيا، وكذا التغيرات التي شابت العلاقات التركية مع بعض الدول ومنها إيران وروسيا وإسرائيل، بالنظر لكل ما سبق لم يكن مفاجئاً أن تتعرض الجبهة الداخلية التركية لهزة قوية، جاءت هذه المرة على شكل تفجير أصاب مفصل سياحي حيوي ورمز تركي مهم، ألا وهو ميدان “تقسيم” وسط مدينة أسطنبول.

التفجير، الذي تم حسب ما يتوفر من معلومات أولية، عبر عبوة ناسفة موضوعة داخل حقيبة وضعتها امرأة داخل إحدى الحاويات المخصصة للأشجار في الميدان، أسفر عن مقتل ستة أشخاص وإصابة نحو 53 أخرين، وقد جاء في سياق زمني حرج، أصاب المرحلة الختامية من الموسم السياحي التركي، وعلى بعد أشهر من أنتخابات رئاسية وبرلمانية مفصلية، ستتم في شهر يونيو المقبل.

التفاصيل تجميع بين المشتبه بهم في تفجير اليوم

تفاصيل هذا الحدث، من حيث الشكل، جعلت بعض الجهات التركية تشتبه في أمكانية ان يكون هذا التفجير “أنتحارياً”، خاصة أن التحقيقات الأولية تحدثت عن ضلوع أمرأة فيه، وهو ما اعاد إلى الأذهان التفجيرات الإنتحارية التي نفذها سابقاً الطرفين اللذان يمكن الإشتباه بهما في تفجير اليوم، وهما تنظيم داعش وحزب العمال الكردستاني، اللذان تبادلا تنفيذ العمليات الإنتحارية في الداخل التركي، خاصة خلال عامي 2015 و2016، لكن تراجعت حظوظ فرضية التفجير الإنتحاري -ولو مؤقتاً – لصالح الفرضية الأقرب حالياً وهي “العبوة الناسفة”.

أصابع الاتهام التركية لم توجه حتى الآن – بشكل رسمي – إلى حزب العمال الكردستاني او تنظيم داعش، اللذان نفذا سلسلة من العمليات في الداخل التركي، خلال حزب العمال الكردستاني، صاحب التاريخ الطويل من النشاط المسلح ضد تركيا، وكانت آخر عملياته في الداخل التركي في أكتوبر 2018، حين تم تفجير سيارة مفخخة قرب عربة مدرعة تابعة للجيش التركي، في محافظة “باطمان”. تنظيم داعش من جانبه، نفذ عدة عمليات في الداخل التركي بين عامي 2015 و2017، أهمها تفجير ميدان السلطان أحمد في مدينة اسطنبول في يناير 2016، وتفجير انتحاري آخر تم في مارس 2016، في منطقة قرب المنطقة التي حدث فيها تفجير اليوم، وأسفر حينها عن مقتل عدة سياح أجانب، من بينهم إسرائيليين، بجانب عملية الهجوم على نادي “رينا” الليلي في مدينة أسطنبول، في مطلع عام 2017، ما أسفر عن مقتل 39 شخص، غالبيتهم من الأجانب.

بصمات حادث اليوم، ربما تجعل أتهام تنظيم داعش بالتسبب به أكثر منطقية من الميل نحو اتهام حزب العمال الكردستاني، او فصائل كردية اخرى مثل “صقور حرية كردستان”، رغم ان اتهام الطرف الكردي قد يحمل جانب من الوجاهة، نظراً للتاريخ الطويل من الصراع بين الجانبي، وإطلاق أنقرة منذ أسابيع عملية عسكرية ضد المواقع الكردية شمال العراق، وتلويحها بعملية مماثلة في شمال شرق سوريا، لكن عمليات تنظيم داعش في الداخل التركي، خاصة التفجير الإنتحاري في فبراير 2016، تتشابه بشدة مع تفجير اليوم.

يضاف إلى هذا، قيام السلطات التركية في مايو الماضي، بالقبض على ثلاثة أعضاء أجانب في تنظيم داعش، في ولاية “بورصة” غرب البلاد، قبل تنفيذهم إحدى العمليات، بجانب القبض على عشرة أجانب أخرين في “كوجا إيلي” غرب البلاد، و”قيصري” وسط البلاد، للاشتباه بانتمائهم للتنظيم، علماً أن الشرطة التركية سبق وأحبطت قبل أيام من هذه الاعتقالات، محاولة لتنفيذ عملية انتحارية، كان يعتزم أحد المنتسبين السوريين لتنظيم داعش تنفيذها في ولاية “شانلي أورفا” جنوب البلاد، ليصبح العنصر العاشر الذي يتم القبض عليه هذا العام، قبل تنفيذ عملية انتحارية.

العامل الداخلي والخارجي في تفجير “تقسيم”

بغض النظر عن اليد المنفذة، تبدو الحاجة ضرورية للبحث عن الجهات المستفيدة من تفجير مماثل في هذا التوقيت الحرج داخليا وخارجياً في تركيا، فعلى المستوى الإقليمي، يبدو التموضع التركي أكثر “استقراراً” من الوضع الداخلي، خاصة في ظل دور أنقرة المتزايد والمتشعب في ملفات الأزمة الأوكرانية، وخطواتها الأخيرة في تركيا والعراق، واحتفاظها بورقة العلاقة مع موسكو، وتصعيدها المكتوم للموقف مع اليونان، وهي جميعها نقاط ساهمت في تحسين شعبية أردوغان، التي تأثرت خلال الفترة الأخيرة جراء الأوضاع الأقتصادية.

ما سبق لم يمنع أن أنقرة تواجه توتراً لافتاً مع دولة مهمة في محيطها الإقليمي، ألا وهي إيران، وحقيقة الأمر أن التوتر بين طهران وأنقرة تزايد خلال الأشهر القليلة الماضية، على خلفية عدة ملفات، أهمها ملف العلاقة مع إسرائيل، خاصة بعد أن ألقت المخابرات التركية في يونيو الماضي، القبض على خلية اغتيالات إيرانية في مدينة إسطنبول، كانت تستعد لمهاجمة مصالح إسرائيلية في تركيا. هذه الخلية تألفت من ثمانية أفراد، خزنوا كميات من الأسلحة والذخائر في فندق بمدينة أسطنبول، وهو ما أكد التحذيرات الإسرائيلية من احتمالات قيام إيران بتنفيذ عمليات انتقامية ضد رعاياها في تركيا، والذي صدر مطلع نفس الشهر الذي تم فيه اعتقال الخلية الإيرانية.

إذن يمكن وضع طهران ضمن دائرة المشتبه بهم، في حالة ما إذا أثبتت التحقيقات وجود سياح إسرائيليين ضمن الضحايا والمصابين، او ان مواطنين اسرائيليين كانوا متواجدين قرب موقع الحادث، لكن بغض النظر عن نتيجة البحث في هذا الصدد، ستبقى التهديدات الإيرانية بأستهداف المصالح الإسرائيلية في الخارج قائمة، وستبقى تركيا مسرحاً متوقعاً لهذا الاستهداف.

العامل الداخلي – خاصة السياسي – يبقى مهماً في ما إذا أردنا النظر إلى المستفيد من التطورات الأخيرة، فمع اقتراب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، لوحظ تصاعد حاد في الزخم المرتبط بهذه الأنتخابات، في ظل أجواء تراجعت فيه بشكل او باخر شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم، وعادت فيه المحاولات السابقة للأحزاب المعارضة، خاصة الأحزاب الستة الرئيسية، وعلى رأسها حزب “الشعب الجمهوري”، لإيجاد صيغة مشتركة يمكن من خلالها التوافق بشكل كامل على شخصية يمكن أن تقود التيار المعارض خلال الأنتخابات الرئاسية المقبلة، ناهيك عن الدعوة للعودة مرة اخرى لنظام الحكم السابق، وهو النظام البرلماني.

بطبيعة الحال هذا الزخم يرتبط بشكل كبير بالملفات الأبرز على الساحة الداخلية التركية الآن، وهي الملف الأقتصادي، الذي يشهد تراجعاً في ما يتعلق بالتضخم ونسبة البطالة ومستوى الأسعار، بجانب ملفات اجتماعية اساسية على رأسها “ملف المهاجرين”، وهما ملفات تشترك الحكومة التركية والمعارضة في الرهان على إحداث تطورات بهما، تسمح بترجيح كفة أحدهما على الأخر، خاصة الجانب الحكومي الذي يرغب في استغلال النشاط الدبلوماسي الملحوظ لتركيا في المحيط الإقليمي، لإضافة نقاط ايجابية على المستوى الاقتصادي الداخلي، بحيث يدخل حزب العدالة والتنمية الحاكم الانتخابات، والبلاد تعيش اوضاعاً اقتصادية أفضل.

خلاصة القول، ان تفجير ميدان “تقسيم” اليوم، يحمل ارتباطات هامة بالوضع الداخلي والخارجي لتركيا، أيا كانت الجهة المنفذة له، كما أنه يحمل إشارة لافتة إلى مشاكل جدية في المنظومة الأمنية التركية، وهي نقاط تحمل في مجملها تحديات جدية أمام أنقرة، قد تدفعها إلى القيام بخطوات دراماتيكية في محيطها الأقليمي، قد تشمل إطلاق العملية العسكرية شمال شرق سوريا، والتي عملت موسكو بشكل كبير على تأجيل إطلاقها خلال الفترة الماضية.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/73978/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M