السياسات التنموية والثورات العربية: الواقع والتحديات

ويفي خيرة

 

مقدمة

تشترك مجمل الدول العربية في العديد من الأزمات و المشكلات، على مختلف الأصعدة، كحالة الجمود السياسي، غياب المشاركة السياسية وافتقاد الحريات الفردية والجماعية، هذا إلى جانب مشكلات البطالة والفقر وتدهور مستوى المعيشة، وتراجع مستوى التعليم والخدمات الصحية، إلى جانب انعدام المساواة إزاء القانون وإزاء موارد الدولة، وهي عوامل كانت بمثابة العنصر المحفز للثورات والاحتجاجات الشعبية السائدة في المنطقة العربية منذ نهاية سنة 2010 وبداية 2011 م، والتي تعرف بـ “ثورات الربيع العربي”.

هذه الثورات والاحتجاجات لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن السياسات الاجتماعية والتنموية التي تنتهجها كل دولة، وهي العلاقة التي أكدها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تقريره الثاني سنة 2011 م  بعنوان : “تحديات التنمية في الدول العربية 2011 م”، حيث أرجع التقرير ثورات الربيع العربي إلى تفاقم حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن سوء استخدام نظم الحكم للفرص التنموية للنهوض بشعوب المنطقة على الرغم من امتلاكها الإمكانيات المادية والطبيعية وغيرها.

فالتحديات التي تواجه التنمية في الدول العربية بعد ثورات الربيع العربي  والتي تشكل تحديا في حد ذاتها، تتمثل في التحديات الفنية، قلة التمويل، التحديات السياسية خاصة فيما يتعلق بمستوى التنسيق والتعاون، التحديات الأمنية من نزاعات مسلحة وتطرف وإرهاب وأزمة اللاجئين والمهجرين والنازحين، هي تحديات فرضت على عملية صوغ السياسات التنموية العربية وتنفيذها، كما أنها تؤثر على مكتسبات هذه الدول التنموية كذلك، خاصة في ظل ما يطرحه البرنامج العالمي للتنمية المستدامة 2016 م ــ 2030م،الذي يضع 17 هدفا لتحقيق عالم أفضل في أفق سنة 2030 م و التي من بينها إنهاء الفقر والجوع بجميع صورهما وصون الكرامة والمساواة.

وعليه تعتبر السياسات التنموية من أهم الحلول للوصول إلى إحداث التنمية المنشودة، كما يتطلب نجاح السياسات التنموية توفر الكثير من الشروط التي يرى الكثير أنه تأتي في مقدمتها توفير مؤسسات ديمقراطية تمكن المواطنين من المشاركة السياسية والمفاضلة بحرية واستقلالية بين الخيارات التنموية المتاحة وسبل بلوغها، مع ضرورة أن تأتي هذه السياسات والقوانين والتشريعات محققة للعدالة الاجتماعية ومنصفة للطبقات والفئات الضعيفة في المجتمع.

من هذا المنطلق تطرح الإشكالية من خلال السؤال التالي:

كيف يمكن أن تساهم الثورات العربية في صوغ وتبني سياسات تنموية لتحقيق العدالة الاجتماعية وصون الكرامة والمساواة، في ظل التحديات التي تواجه التنمية في الدول العربية؟.

I ــ السياسات التنموية والثورة: دراسة نظرية:

تعد التنمية اليوم محورا مشتركا لمعظم العلوم الإنسانية، كما يعتبر موضوع التنمية من المواضيع التي حظيت باهتمام كبير من الباحثين في مختلف الميادين الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية وكذا البيئية، وتطرح العديد من الدراسات وكذا التقارير الدولية أن غياب التنمية أو فشل السياسات الاجتماعية والتنموية التي تنتهجها الدولة، من شأنها أن تكون عاملا محفزا وسببا رئيسيا في قيام الاحتجاجات واندلاع الثورات بهدف التغيير.

1 ــ مفهوم السياسات التنموية:

لقد برز مفهوم التنمية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وأصبح ضرورة حتمية ومطلبا أساسيا لكل الدول وليس فقط الدول المستقلة حديثا أو المتخلفة، ولقد اقتصر مفهوم التنمية في البداية على الشق الاقتصادي من خلال مفهوم ” التنمية الاقتصادية “، وفي فترة خمسينيات القرن العشرين اهتم بالرفاه الاجتماعي، ليظهر في منتصف السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات من القرن العشرين مفهوم ” التنمية الشاملة ” أي التنمية في مختلف المجالات، ثم مصطلح ” التنمية البشرية ” خلال التسعينيات حيث أصبح هدف التنمية هو توسيع الخيارات الرئيسية للناس في التمتع بحياة أفضل والتمتع بالحرية السياسية وضمان حقوق الإنسان، لنصل إلى مصطلح ” التنمية المستدامة “، وهو المصطلح المستخدم إلى غاية اليوم.

وقد قدم المفهوم لأول مرة خلال مؤتمر الأمم المتحدة المتعلق بالبيئة البشرية المنعقد في “ستوكهولم” سنة 1972م، والذي خرج بوضع سلسلة من التوصيات أدت إلى إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، وفي سنة 1983 م الأمم المتحدة مع اللجنة العالمية المعنية بالبيئة والتنمية وتم تأسيس لجنة للتكفل بتزايد المخاوف من انهيار البيئة البشرية والموارد الطبيعية وما نجم عن هذا الأخير من آثار على التنمية الاقتصادية والاجتماعية (1).

وعرف إعلان ” الحق في التنمية ” الذي أقرته الأمم المتحدة سنة 1986 م عملية التنمية بأنها : «عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، تهدف إلى تحقيق التحسن المتواصل لرفاهية كل السكان وكل الأفراد، والتي يمكن عن طريقها إعمال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية »(2).

أما تعريف التنمية المستدامة الأكثر شيوعا واستخداما فهو التعريف الذي جاء في تقرير “مستقبلنا المشترك” والمعروف بتقرير ” برونتلاند ” في مؤتمر الأمم المتحدة سنة 1987 م والذي نص على : «التنمية المستدامة هي التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة»(3).

فحسب الباحثة ” فاطمة مبارك ” تتكون التنمية المستدامة من سبعة مفاهيم أساسية وهي(4) :

  • الاعتماد المتبادل: من خلال فهم كيفية وجود علاقات مترابطة بين البيئة والاقتصاد.
  • المواطنة والإشراف: بمعنى المسؤوليات التي ينبغي على كل فرد تحملها داخل المجتمع.
  • احتياجات وحقوق الأجيال القادمة: أي فهم الاحتياجات الأساسية للمجتمع لتلبية احتياجات الأجيال القادمة.
  • التنوع: أي احترام الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
  • جودة الحياة: من خلال الاعتراف بأن تحقيق المساواة والعدالة على مستوى العالم عناصر أساسية للاستدامة.
  • عدم اليقين والاحتياطات: أي الاعتراف بالمناهج المختلفة لتحقيق الاستدامة.
  • التغير المستدام: بمعنى فهم أن الموارد محدودة وهو ما من شأنه أن يؤثر تأثيرا سلبيا على أساليب الحياة.

وقد تم تطوير مبادئ التنمية المستدامة في ” قمة الأرض ” في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية (WCED) بـ “ريو دي جانيرو” سنة 1992 م، وكذا كيفية تحقيقها لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، مع التأكيد على ضرورة اعتماد استراتيجية وطنية للتنمية المستدامة، هذا إلى جانب قمة الأرض الثانية سنة 2002 م بـ “جوهانزبورغ” تحت شعار “القمة العالمية للتنمية المستدامة”، والتي تم فيها كذلك تحديد أولويات التنمية المستدامة.

وبالتالي فمفهوم التنمية المستدامة هو « مفهوم مستقبلي متكامل يجعل من تنمية العنصر البشري أول أهدافه، ويعمل على الحفاظ على رأس المال البشري والقيم الاجتماعية والاستقرار النفسي للفرد والمجتمع، ويحرص على تأكيد الحق في الحرية، الديمقراطية، العدل والمساواة، مما يعني أن المفهوم الحديث للتنمية يستوجب القضاء على أهم مصادر الحرمان من الحرية كالفقر، انعدام الفرص الاقتصادية، الحرمان الاجتماعي، اللامساواة، ومظاهر القمع السياسي والاقتصادي، مما يعني كذلك تعزيز دور الناس في المشاركة في تحقيق التقدم وكذا تقييم مدى مساهمة التنمية في تعزيز وتوسيع الحريات التي يتمتع بها الناس»(5).

ومنه فهي تهدف إلى تحقيق حياة أفضل للسكان عن طريق عمليات التخطيط وتنفيذ السياسات التنموية والتركيز على مجالات النمو وتحقيق نمو للمجتمع في مختلف القطاعات، هذا إلى جانب احترام البيئة الطبيعية، وذلك بالحفاظ عليها حيث يؤدي ذلك إلى تحسين شروط العيش والعمل، ولعل من بين أهم ما تهدف إليه التنمية المستدامة هو توعية السكان بالمشكلات والمخاطر البيئية وبالتالي الحث على إيجاد الحلول الملائمة، فضلا عن الاستغلال الأمثل والعقلاني للموارد حفاظا على متطلبات الأجيال المقبلة(6).

بالإضافة إلى ما تقدم، تعتبر التنمية المستدامة عملية مركبة تشتمل على أبعاد متعددة، وتتمثل في ثلاثة أبعاد متداخلة ومتشابكة في إطار تفاعلي وهي(7):

  • البعد الاقتصادي: حيث تعني الاستدامة بتحقيق الاستمرارية، من خلال العمل على المحافظة على مستوى معين من التوازن بين النمو الاقتصادي المستديم، كفاءة رأس المال والعدالة الاقتصادية وتوفير وإشباع الحاجات الأساسية، كما تعني التنمية المستدامة بالنسبة للدول المتقدمة إجراء تخفيض الطاقة، وتعني استغلال وتوظيف الموارد لرفع مستوى المعيشة والحد من ظاهرة الفقر بالنسبة للدول المتخلفة.
  • البعد الاجتماعي: وذلك من خلال اعتبار الإنسان جوهر وهدف التنمية، وذلك من خلال الاهتمام بالعدالة الاجتماعية، مكافحة الفقر، توفير الخدمات الاجتماعية للجميع، والعمل على استقرار النمو السكاني ورفع مستوى الخدمات الصحية والتعليمية خاصة في المناطق الريفية، مع ضمان مشاركة الشعوب في اتخاذ القرار بشكل ديمقراطي.
  • البعد البيئي: بمعنى حماية الموارد الطبيعية والاستخدام الأمثل للأراضي الزراعية والموارد المائية، حيث يجب وضع حدود للاستهلاك والنمو السكاني والتلوث واستنزاف المياه والموارد غير المتجددة وغيرها، وبالتالي فالمحافظة على البيئة تعد عنصرا أساسيا ضمن أي نشاط تنموي.

ويربط الاتجاه الحديث في أدبيات التنمية بين التنمية والديمقراطية، حيث تبرز أهمية الديمقراطية من خلال أن إفساح المجال أمام المواطنين للمشاركة في صنع القرار من شأنه أن يمكن من وضع الحاجات الإنسانية في مقدمة أولويات التنمية، فمواجهة قضايا التنمية تتطلب الاعتراف بحقوق الفرد وتمكينه من المشاركة الفعالة. إذ يؤكد الاقتصادي ” أمارتيا سن ” (Amartya Sen) على أن الحريات والإصلاح السياسي عملا مكملا وداعما للإصلاح الاقتصادي وللتنمية بشكل عام، من خلال أن ممارسة الحقوق المدنية والسياسية والمشاركة السياسية والاجتماعية قيمة جوهرية في رفاهية الإنسانية، كما أن التنمية حسبه هي عملية توسع في الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس، وهي إزالة مصادر افتقاد الحرية كالفقر، الاستبداد، ندرة الفرص الاقتصادية والحرمان الاجتماعي(8) .

وحسب الأستاذ “بطرس بطرس غالي” وآخرين، فإن مفهوم الديمقراطية والتنمية مفهومان مكملان لبعضهما البعض، وقد أشار إعلان فيينا سنة 1993 م إلى أوجه التفاعل وطبيعة العلاقة بين الديمقراطية والتنمية، وأن الأداة الكفيلة لتوطيد العلاقة بينهما هي احترام حقوق الإنسان، كما أكدت لجنة حقوق الإنسان في دورتها الـ 56 القرار2000/47 وجوب تدعيم الديمقراطية لتعزيز التنمية المستدامة عن طريق اتخاذ تدابير فعالة تهدف إلى الإعمال التدريجي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كالحق في التعليم، الرعاية الصحية، السكن، الخدمات الاجتماعية وغيرها، هذا إلى جانب اتخاذ تدابير تهدف إلى التغلب على أوجه عدم المساواة الاجتماعية والقضاء على الفقر، اتباع سياسات فعالة لتوفير فرص العمل وإنشاء إطار تشريعي وتنظيمي لتعزيز التنمية المستدامة، وبالتالي فالإنسان هو محور كلا من الديمقراطية والتنمية فهو الغاية والهدف معا(9).

إلى جانب هذا، هناك اتصال عضوي بين العدالة الاجتماعية والتنمية، حيث تبرز الحاجة لانتهاج التنمية القائمة على نهج حقوق الإنسان من خلال الأخذ بعين الاعتبار قدرات الدول والحاجة في تلبية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وترتكز العدالة الاجتماعية على جملة من العناصر لتحقيقها أهمها: المساواة في الحقوق والواجبات وعدم التمييز وتكافؤ الفرص، التوزيع العادل للموارد والأعباء، الضمان الاجتماعي والعدالة بين الأجيال، وبالتالي فالعدالة الاجتماعية تشكل حالة ينتفي فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو من كليهما، وكذا غياب الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي وغياب الفروق غير المقبولة اجتماعيا بين الأفراد والجماعات(10).

هذا فيما يتعلق بالتنمية أما السياسات التنموية فيمكن تعريفها بأنها « جزء من السياسة العامة للدولة التي تتعلق بالتنمية، وهي عبارة عن مجموعة من المبادئ والأهداف والمعايير والقيم، التي تحكم نشاط الدولة اتجاه عمليات تنظيم التنمية المختلفة وإدارتها ورقابتها وتقييم نظمها وأنشطتها، لتحقيق أفضل النتائج التنموية الممكنة، وتأتي هذه السياسات في إطار مجموعة التشريعات والقواعد التي تسنها الدولة للتحكم في حركة النشاط التنموي في المجتمع، في إطار جملة من المحددات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي يمكن تحقيقها في شكل خطط وبرامج ومشروعات يتم تنفيذها في إطار تدابير وإجراءات متعددة »(11).

وتعني السياسات التنموية كذلك « مجموعة القرارات التي تتضمن اتجاهات منظمة ومجالات وطرقا واجب استخدامها لتحديد الأهداف التنموية للمجتمع، أو أنها نتاج التفكير المنظم الذي يوجه الخطط والبرامج التنموية، حيث تنبع تلك السياسات من إيديولوجية المجتمع، لتعبر عن أهدافه البعيدة، وتوضح مجالات هدافه في

البرامج والخطط التنموية، وتحدد الاتجاهات العامة لتنظيمها وأدائها، كما يمكن القول أن السياسات التنموية هي مجموعة المبادئ والقرارات التي تتوصل الحكومة والتنظيمات والجماعات والقوى السياسية والمهنية والاجتماعية في إطار ديمقراطي، وبمقتضاها تتحدد الأساليب والغايات التنموية للمجتمع، ويتم تحديد تلك السياسات في إطار مجموعة من المحددات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي تأخذ صورة تشريعية في أغلب الأحيان وتحقق الأهداف التنموية المبتغاة »(12).

2 ــ الثورة وفشل التنمية:

لقد ظل مصطلح الثورة حتى القرن التاسع عشر الميلادي يعني اضطرابا شعبيا فقط، وقد تطور مفهوم الثورة مرحليا واختلف الباحثون في ذلك كل حسب أيديولوجيته وتوجهه، ويعد ” أرسطو ” السباق في تقديم أول محاولة شاملة لدراسة الثورة، حيث خصص لها جزءا مهما من مؤلفه ” السياسة “، والذي طرح فيه أن الثورة هي ظاهرة سياسية تمثل عملية أساسية لإحداث التغيير الذي قد يؤدي إلى استبدال الجماعات الاجتماعية، مؤكدا على أن كل أنماط الحكم معرضة للثورة، فالأنظمة الأوليجاركية والديمقراطية تحتوي على عناصر من العدالة، لكنها تصبح معرضة لخطر الثورة، عندما لا يتلاءم نصيب الحكام أو الشعب من الحكم مع تصورهم المسبق له، وبالتالي فهو يقسم الثورات إلى نوعين: نوع يؤدي إلى تغيير الدستور القائم، وبالتالي الانتقال من نظام حكم إلى نظام حكم آخر، ونوع يغير الحكام في إطار بنية النظام القائم(13).

مع الثورة الفرنسية سنة 1789 م بدأ مفهوم الثورة يأخذ معان جديدة، وطرح أن حتمية الحركة الثورية تكمن في عدم ملاءمة النظام القديم وضرورة استبداله بنظام آخر أكثر تعبيرا عن جماهير الشعب، وهنا يتضح الطابع السياسي للثورة.

وتعرف الثورة على أنها: «أسلوب من أساليب التغيير الاجتماعي تشمل الأوضاع والبنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعملية التغيير لا تتبع الوسائل المعتمدة في النظام الدستوري القديم للدولة، وتكون جذرية وشاملة، تؤدي إلى انهيار النظام القائم وصعود نظام جديد، ويفترض أن يكون تقدمي قياسا بسابقه، ويترتب على نجاح الثورة سقوط الدستور وانهيار النظام الحكومي القائم، ولكن لا تمس شخصية الدولة ومؤسساتها وكادرها في مختلف المجالات، ولا تؤدي إلى إنهاء العمل بالتشريعات السابقة عليها بطريقة فوضوية، وخاصة الإيجابية منها وذات الصلة بالحياة العامة »(14).

وتعرف كذلك على أنها «الإطاحة بالنظام السياسي والاقتصادي السائد الذي يقوم على الاستغلال، أي بناء نظام جديد يرفع إلى أعلى مستوى رخاء القسم الأعظم من الجماهير، والذي ينتج أقصى قدر من حقوق الإنسان والحرية، وتستبدل أخلاق السادة بأخلاق تقوم على الحرية والمساواة والتضامن»(15).

كما يستخدم معظم المفكرين المعاصرين مصطلح الثورة للدلالة على «تغيرات فجائية وجذرية تتم في الظروف الاجتماعية والسياسية، أي عندما يتم تغيير حكم قائم والنظام الاجتماعي والقانوني المصاحب له بصورة فجائية وأحيانا عنيفة بحكم آخر»(16).

كما يستخدم كذلك للتعبير عن تغيرات جذرية غير سياسية، حتى وإن تمت بشكل بطيء وسلمية، حيث تستخدم هذه التغيرات المعاصرة لوصف تغيرات شاملة في عديد المجالات، حيث أن جوهر مصطلح الثورة هو “التغيير”.

وتعرفها موسوعة علم الاجتماع بأنها: « التغيرات الجذرية في البنى المؤسسية للمجتمع، تلك التغييرات التي تعمل على تبديل المجتمع ظاهريا وجوهريا من نمط سائد إلى نمط جديد يتوافق مع مبادئ وقيم وإيديولوجية وأهداف الثورة، وقد تكون الثورة عنيفة دموية، كما قد تكون سلمية، وتكون فجائية سريعة أو بطيئة تدريجية»(17).

يعرف ” كرين برينتن ” (Crane Brinten) الثورة في كتابه ” تشريح الثورة ” الذي ألفه سنة 1938 م ووسعه سنة 1964 م بأنهاـ : « عملية دينامية تتميز بالانتقال من بنيان اجتماعي إلى آخر، وأنها تغيير عنيف في الحكومة القائمة بشكل يتجاوز الحد القانوني »(18). كما أن فكرته عن الثورة هي أنها عملية قلب السلطة مما يؤدي إلى تولي المتطرفين السلطة ثم تهدأ الأمور، مشبها إياها بحمى ترتفع بسبب شكاوى أفراد شعب ما، كما أن الثورة عنده هي جدول معين للأحداث التي يفترض أن تحدث، وهي عبارة عن عملية وأنه لا يحدث تغيير جوهري من مرحلة ما قبل الثورة إلى مرحلة ما بعد الثورة، مستندا في نظريته حول الثورة قبل سنة 1945 م.

وحسب “جيدنز” فالثورات « تمثل طليعة الأساليب غير التقليدية في الحركات الجماهيرية المنظمة التي تحدث تغييرات جذرية في النظام السياسي السائد باستخدام العنف، وتتطلب هذه الحركات شروطا أساسية لاشتعال الثورة من أهمها أساليب استهواء الجماهير وتوجيهها ويصاحبها عادة توترات وصراعات»(19).

وعادة ما تبدأ الثورة في شكل احتجاجات شعبية لتتحول إلى غضب شعبي عارم، ويشير ” إيرك هوبزباوم” (Eric Hobsbawm) إلى أربعة عناصر حول الثورة وهي(20):

  • الخصوصية: حيث لكل ثورة خصوصيتها من حيث الزمان والمكان، ولا يوجد تشابه أو تطابق بين ثورتين.
  • النصر: أي انتصار منظومة جديدة على منظومة قديمة.
  • البعد الجغرافي أو نظرية انتشار العدوى: الذي له تأثير في مناطق دول الجوار، حيث تمتد الثورة إلى الدول المتقاربة جغرافيا والتي تشترك في عناصر كالدين واللغة والتاريخ.
  • التراكمية: أي انفجار الثورة نتيجة تراكم لعوامل مختلفة عبر سنوات عديدة، شكلت ضغوطات ذات طابع اجتماعي وسياسي واقتصادي، على القاعدة الشعبية، مما أدى إلى تفجر الثورة.

وعليه فالثورة ترجع إلى عدة أسباب، والتي تتعدد بتعدد الظروف، فهناك من يحصرها في الأسباب الاقتصادية وعلى رأسهم المفكرين اليساريين، أما دعاة نظرية التخلف، فيؤكدون على أن التخلف يعد عاملا حاسما للتغيير، حيث تؤدي سيطرة طبقة أوليجاركية على الثروة في المجتمع دون مراعاة حاجيات الشعب، إلى جعل الثورة أمرا حتميا ونتاجا عن عدم المساواة في التوزيع، كما ترجع دراسات أخرى أسباب الثورة إلى احتكار الحكم، غياب العدالة الاجتماعية وسيطرة فئة قليلة على قدرات البلاد مما يولد الظلم الاجتماعي، تحالف رجال الأعمال والسياسيين، مما يجعل الدولة وقدراتها وحتى شعبها تحت سيطرة هؤلاء، وهو ما يؤدي إلى تركز الثروة في يد هذه القلة على حساب الغالبية وانتشار الفقر نظرا لغياب التنمية. وفي هذا الإطار يقول ” غازي عبد الرحمن القصيبي ” أن التنمية كانت وراء كل ثورة شهدها القرن العشرون وكذا وراء كل ثورة مضادة(21).

وفي دراسة حديثة طرحت فكرة أن التفاوت المشاهد في مستويات التنمية حول العالم يمكن تفسيره بالاختلافات المشاهدة في المؤسسات السياسية، التي تتوفر عليها مختلف المجتمعات، وتصنف هذه المؤسسات إلى مؤسسات تضمينية (تعددية) ومؤسسات إقصائية، وبمرور الزمن تفرز المؤسسات الأولى مؤسسات اقتصادية فعالة توفر الحوافز الاقتصادية لأفراد المجتمع لتعظيم منافعهم، بينما تفرز الثانية مؤسسات اقتصادية غير فعالة تعمل على إثراء النخبة الممسكة بالسلطة السياسية دون الالتفات إلى مصالح أفراد المجتمع، وبالتالي فتخلف الهياكل المؤسسية السياسية التي سادت وتسيدت لفترة طويلة من الزمن، يؤدي إلى اندلاع الثورة لاقتلاع النظام الحاكم والتغيير(22).

وترجع الثورة كذلك حسب جهود الباحثين في أواخر الثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين إلى المستوى المتعلق بالقوى والتحالفات على أرض الواقع، وكذلك المستوى المتعلق بالأفكار والثقافة والقيم والمعتقدات التي تحفز تلك القوى أو الفاعلين على الحركة الثورية، كما ترتقي هذه الجهود بالدراسات السابقة المتصلة بدور البنية الاجتماعية في الحدث الثوري، من خلال إعادة الاعتبار لأدوار الجماعات الإثنية والعرقية والدينية، وبالتالي تسليط الضوء على دور العوامل الثقافية والإيديولوجية في إحداث التغيير الاجتماعي والسياسي.

II ــ الثورات العربية وفشل السياسات التنموية: دراسة في الواقع والأسباب:

عرفت المنطقة العربية أواخر سنة 2010 م أحداث تونس، و التي شكلت انطلاقة ما يسمى بـ “الربيع العربي”*، الذي يشكل موجة ثورية من المظاهرات والاحتجاجات على حد سواء العنيفة وغير العنيفة وأعمال الشغب، حيث اندلعت الثورة التونسية فيما بين 17 ديسمبر 2010 م و 14 جانفي 2011م، وانطلقت كثورة شعبية ذات مطالب اجتماعية واقتصادية، لتتطور إلى مطالب سياسية من خلال المطالبة بالتغيير الراديكالي للنظام القائم، لينتقل ذلك إلى العديد من الدول العربية، حيث تركز الهدف الأساسي للانتفاضات والاحتجاجات في إسقاط الأنظمة السلطوية، سواء كان ذلك بشكل كلي عن طريق تغيير شامل للنظام، أم جزئي عن طريق إدخال الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تركزت في المناداة بضرورة إطلاق الحريات السياسية، تحقيق الديمقراطية، العدالة والمساواة الاجتماعية والاقتصادية.

لقد أرجع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تقريره الثاني سنة 2011 م بعنوان “تحديات التنمية في الدول العربية 2011 م” ثورات الربيع العربي إلى تفاقم حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن سوء استخدام نظم الحكم للفرص التنموية للنهوض بشعوب المنطقة على الرغم من امتلاكها الإمكانيات المادية والطبيعية وغيرها.

وكان تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2004 م “نحو الحرية في الوطن العربي” قد أكد على مسؤولية غياب الحرية عن الفشل الذي أصاب ليس فقط التنمية، بل كذلك عملية بناء الدولة في المنطقة العربية.

وعليه فثورات الربيع العربي جاءت نتيجة عدم الرضا بشأن سيادة الحكومات المحلية، إلى جانب قضايا الدكتاتورية، انتهاكات حقوق الإنسان، الفساد السياسي، التدهور الاقتصادي، البطالة، الفقر، وعدد من العوامل الهيكلية الديمغرافية، كما شملت المحفزات للثروات تركيز الثروة في أيدي المستبدين في السلطة، وتحالف أصحاب المال وأصحاب السلطة للسيطرة على البلاد سياسيا واقتصاديا، الافتقار إلى الشفافية في إعادة التوزيع، زيادة أسعار المواد الغذائية، هذا إلى جانب سيطرة الدولة على الاقتصاد وتشجيع الاستثمار الأجنبي اللذان أديا إلى تفاقم حالات الفقر والتفاوت الاجتماعي، مما عقد المشكلات السياسية والاقتصادية للحكومات، هذا إلى جانب غياب حكم القانون، افتقاد الآليات لتنفيذ هذا الأخير، وكذا هيمنة السلطات التنفيذية على السلطات التشريعية والقضائية.

إذ يمكن تفسير هذه الثورات على أنها حركة متأنية من انقطاع العقد الاجتماعي الموروث منذ فترة خمسينيات القرن العشرين ولم يتطور خلال حركة الفترات الزمنية الماضية، فهو يعبر عن فشل الاستراتيجيات الاقتصادية الليبرالية والتدخلية الحكومية المنتهجة التي لم تتلاءم مع الأوضاع الظرفية والمعطيات الهيكلية العربية .

وعليه فهذه العوامل الاقتصادية والاجتماعية الكثيرة قد وضحت للعيان سيطرة سياسات منغلقة مبنية على اقتصاد موجه، كما أثبتت الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008 م والانتفاضات الشعبية في المنطقة فشل السياسات الاقتصادية التي تفرضها المؤسسات الدولية كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي في البلدان النامية في إطار برامج التعديل الهيكلي منذ الثمانينات، إذ لم تتطور السياسات الاقتصادية الحكومية مع النمو الاقتصادي، حيث تشير مؤشرات البنك العالمي حول هذا الموضوع خلال سنة 2012م إلى أن البلدان العربية تمر بكساد وركود ملحوظين منذ سنوات عديدة في هذا المجال، إذ تشهد هذه الدول صعوبات جمة تحد من نجاعة هياكلها التسييرية والتقريرية بهدف إحداث الفاعلية بالنسبة لرأس المال المادي والبشري وإدارة البلاد عموما(23).

فصندوق النقد الدولي والبنك الدولي أشرفا على تطبيق سياسات على الدول النامية ومن بينها الدول العربية منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، والتي تعرف بـ”حزم سياسات توافق واشنطن”، والتي هدفت إلى إعادة توجيه اقتصادياتها بحيث يتم تخصيص الموارد فيها من خلال آلية السوق، ووعدت الدول التي تقوم بالتطبيق بتحقيق معدلات مرتفعة للنمو الاقتصادي، وتشمل على الانضباط المالي بواسطة الحكومات، الإصلاح الضريبي عن طريق البنك المركزي وفض اشتباكه مع وزارة المالية، تحديد أسعار صرف تنافسية وتحرير التجارة وخوصصة المؤسسات العامة وغيرها، وقد أدى تطبيقها في الفترة ما بين سنوات 2000 م و 2010 م في كل من تونس ومصر نتائج تجميعية من معدلات نمو وتضخم وغيرها إيجابية ورضا المؤسسات الدولية، إلا أنه اندلعت الثورات معبرة عن عدم اقتناع الشعوب بما أنجز و عدم رضاها عن السياسات التي أفرزتها هذه النتائج والتي اعتبرتها قد فشلت في تحقيق النمو الاقتصادي وكان لها تأثير سلبي على الجوانب الاجتماعية (24).

حيث ركّزت حزم السياسات التنموية على الاستثمار العام في التصنيع وحماية الصناعات الوليدة، والتراكم السريع لرأس المال واستغلال فائض العمالة في القطاعات الريفية وتقديم خدمات التعليم والرعاية الصحية للأفراد بأقل التكاليف، وقد اتبعت الدول النامية بما فيها الدول العربية التوجهات العامة هذه في صوغها سياسات الإنفاق العام وقد ترتب على ذلك إنجازات تنموية بدى فيها دور الدولة ونشاطها في المجال الاقتصادي واستفاد من ذلك شرائح معينة وترتب على هذه المكتسبات التنموية هذه صفقة تسلطية، حيث قايض المواطنون التقييد على الحريات السياسية مقابل التمتع بالأمن الاقتصادي وتوفير الخدمات للمواطنين(25).

ولم تتمكن كل الخطط والسياسات الليبرالية والاشتراكية الحكومية من الحد من حدة الإشكاليات التي أدت إلى تحولات مخيفة عنيفة في غالب الأحيان عبر انتفاضات شعبية، ولم تتمكن منذ سبعينيات القرن العشرين السياسات التصحيحية الهيكلية وتحرير السوق وخصخصة المؤسسات الاستراتيجية من إخراج البلدان العربية من التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبط فيها الآن والتي أنتجت رفضا شعبيا تاما. حيث لم تؤد سياسات التنمية التي اتبعتها الدول العربية التي قامت فيها الثورات إلى محاربة البطالة  وزيادة التشغيل والحد من الهجرة غير الشرعية وعدم كفاءة سياسات التوزيع العادلة، هذا إلى جانب تفاوتات الأجور والفجوة بين الدخول العليا والدنيا، إلى جانب التباينات الإقليمية من خلال استئثار المناطق الحضرية والحواضر العربية بالنصيب الأوفر من الإنفاق العام مما ولد النزوح نحو المدن وبالتالي الحرمان، فعلى الرغم من أن بعض الدول العربية كان يحقق فيها معدلات نمو اقتصادي سنوي معتبرة مع ذلك لم تصل إلى الجماهير نظرا لغياب عدالة التوزيع والعدالة الاجتماعية.

إضافة إلى هذا فقد روجت بعض أنظمة الحكم في العالم العربي لفكرة التناقض بين الديمقراطية والتنمية، وقد أثبت الواقع أن أحد الأسباب الجوهرية لإخفاق مشروعات التنمية في أغلب الدول العربية هي غياب الديمقراطية والمشاركة الشعبية، حيث لا توجد محاسبة لصناع القرار في حالة اتخاذ إجراءات ضد العملية التنموية مع غياب رغبة المواطنين في المشاركة في عملية التنمية (26).

ففي تونس، انتهجت القيادة التونسية خلال فترة الستينيات من القرن العشرين سياسة اقتصادية اشتراكية، ثم حاولت هذه القيادة تغيير هذا النهج و التحول إلى الليبرالية الاقتصادية، وعلى الرغم من تحقيق هذا النهج للعديد من التطورات خاصة في قطاع السياحة، إلا أن ذلك خلف العديد من الانعكاسات السلبية على المجتمع بشكل خاص، حيث عرف الاقتصاد التونسي ركودا وتدهورا، تزامن مع الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 1986 م، كل هذا انعكس على الجانب الاجتماعي من خلال ارتفاع نسبة البطالة، التمايز الاجتماعي، خاصة مع رفع الدعم الحكومي وانخفاض الدخل القومي.

كما خلفت السياسة الاقتصادية التي اتبعها زين العابدين بن علي ” آثارا عديدة كسوء توزيع النمو والاهتمام بقطاع الخدمات والسياحة، تفشي الفساد المالي واستغلال النفوذ والسيطرة على اقتصاد البلاد، تفاقم المحسوبية والرشوة. حيث أحكمت العائلات الحاكمة والمتصاهرة قبضتها على الأعمال المربحة واستخدموا أجهزة الدولة للثراء. وقد أوضحت أحداث مدينة ” سيدي بوزيد ” عمق الأزمة في المجتمع التونسي، حيث تقدر الإحصائيات أن 15% من نسبة السكان الناشطين عاطلين عن العمل، وحسب تقرير البنك الدولي لسنة 2008 م، فالبطالة في تونس طالت الفئات ذات المستوى التعليمي العالي، والتي تضاعف عددها خلال سنتي 2006 م و 2007 م إلى ما يقارب 336 ألف بطال. هذا إلى جانب انتشار الفقر والبطالة وانعدام التوازن في التنمية خاصة في المناطق الداخلية.

أما من الناحية السياسية، فتتمثل في الأزمات السياسية التي يعاني منها النظام السياسي التونسي، من أزمة الهوية التي بدأت مع مرحلة الرئيس الراحل ” بورقيبة ” من خلال محاولة إنشاء دولة علمانية، وطمس معالم الهوية التونسية العربية الإسلامية، ونشر الثقافة الغربية واللغة الفرنسية، هذا إلى جانب أزمة الشرعية والمشاركة السياسية نتيجة سيطرة الطبقة الحاكمة على جميع مجالات الحياة، وانتهاج التعبئة الشعبية.

وقد سار ” بن علي ” على نفس نهج بورقيبة، من خلال حجب الفضائيات والمواقع الإلكترونية الدينية، إلى جانب تضييق المجال السياسي والتضييق على أنشطة الحقوقيين، كبت الحريات العامة والقمع والتعتيم الإعلامي ومنع المظاهرات، حيث كان نظامه يعتمد كليا على جهاز البوليس السياسي، على الرغم من كونه كان ينادي بالديمقراطية والتداول على السلطة وغيرها.

أما في مصر، فكان احتكار السلطة وغياب العدالة الاجتماعية أحد أهم أسباب اندلاع ثورة الـ 25 يناير 2011 م، حيث تجاوز  حجم البطالة 8 مليون شاب، أي ما يعادل 25% من القوى العاملة في مصر وارتفاع البطالة إلى حوالي 12 % سنة 2011 م وإلى حوالي 13 % سنة 2012 م، إلى جانب عدم الاهتمام بالتعليم من خلال عدم ارتباط التعليم بسوق العمل، وعلى الرغم من تزايد عدد المدارس الخاصة سنة 2011 م لأكثر من 5000 مدرسة إلا أن ذلك لم يؤد إلى الاهتمام بالتطوير في المجال التعليمي، فضلا عن عدم توفير مظلة التأمين الصحي خاصة لمحدودي الدخل والمسنين، إلى جانب حرمان الفئات الفقيرة والطبقة الوسطى من فرص حقيقية للسكن، واستمرار التضخم المرتفع والتأثير السلبي له على الفقراء، وهناك مؤشرات على مظاهر اللامساواة والفقر والحرمان واتجاه معظم المؤشرات للتفاقم في سنوات ما قبل الثورة، ومنها أنه لم يحصل أفقر 20 % من السكان على أكثر من 9 % من الدخل في عام 2010 /2011 م وتزداد درجة اللامساواة في الحضر عنها في الريف، كما زادت نسبة الفقراء من 40 % في عام 2004 /2005 م  إلى حوالي 48 % في عام 2010 /2011 م، وكذا وجود لا مساواة في توزيع الدخل، ، كما فشلت مصر في خلق الوظائف حيث لم تراعي ذلك استراتيجيات التنمية التي اتبعتها مصر من خلال أنها اعتمدت صناعات كثيفة رأس المال وتعتمد على الأيدي العاملة الماهرة مما زاد في عدد العاطلين وتأجيج الثورات، فضلا عن تزايد العجز في الموازنة العامة إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 11 %، كما وصل معدل التضخم سنة 2010 م إلى 10,12 %(27).

من خلال ما تقدم نجد أن الشعارات التي غلبت على التظاهرات الشعبية العربية قد تمحورت حول الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهي مفاهيم محورية في تعريف التنمية بطريقة موسعة كما جاء بها ” أمارتيا سن “، فالحريات السياسية من ديمقراطية والتسهيلات الاقتصادية والفرص الاجتماعية بمعنى الترتيبات الاجتماعية لتوفير التعليم والرعاية الصحية، وضمانات الشفافية بمعنى الحيلولة دون الفساد واللامسوؤلية المالية وتوفير شبكة ضمان اجتماعي للعناية بالفئات الضعيفة بالمجتمع وغيرها، هي قضايا لها علاقة مباشرة بعدد كبير من السياسات التنموية التي تهم دول الثورات العربية، وقد احتوت على مضمون عال من مطالبات الثورات العربية، خاصة  فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية التي تقع في صلب مطالب التغيير والإصلاح في العالم العربي، خصوصا في علاقتها بدور الدولة في تحقيق التنمية بمفهومها الواسع أي توسيع الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس ليعيشوا الحياة التي يرغبون فيها(28).

III ــ تحديات صوغ السياسات التنموية بعد الثورات العربية:

إذا كانت الثورات العربية قد اندلعت أساسا نتيجة فشل السياسات التنموية المتبعة، ورفعت مطالب تتعلق بالتنمية كذلك، فالتحديات التي تواجه التنمية في الدول العربية بعد ثورات الربيع العربي والتي تشكل تحديا في حد ذاتها، هي تحديات فرضت على عملية صوغ السياسات التنموية وتنفيذها، كما أنها تؤثر على مكتسبات هذه الدول التنموية كذلك، خاصة في ظل ما يطرحه البرنامج العالمي للتنمية المستدامة 2016 م ــ 2030م، الذي يضع 17 هدفا لتحقيق عالم أفضل في أفق سنة 2030 م و التي من بينها إنهاء الفقر والجوع بجميع صورهما وصون الكرامة والمساواة.

حيث اعتمدت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الـ 193 بتاريخ 25 سبتمبر 2015 م في مؤتمر قمة التنمية المستدامة المنعقد بمقر الأمم المتحدة بنيويورك، برنامجا عالميا جديدا للتنمية المستدامة تحت عنوان ” تحويل عالمنا: خطة التنمية المستدامة لعام 2030 “، ويعتبر هذا البرنامج العالمي أشمل وأوسع من أهداف الألفية للتنمية لكونه ينطبق على كل الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، كما يحتوي على 17 هدفا و 169 غاية و 230 مؤشرا تغطي الأبعاد الثلاثة للتنمية المستدامة، إلى جانب مجالات جديدة تتعلق بالعدالة والسلم والحوكمة الرشيدة، وهو نتاج عمل تشاركي ساهمت فيه إلى جانب حكومات الدول الأعضاء، مؤسسات الأمم المتحدة، المجتمع المدني عالميا ووطنيا، عالم الأعمال والصناعة، الوسط العلمي والجامعي وكذا المسيرين السياسيين(29).

وقد جاء هذا البرنامج نظرا لتخلف الأهداف الإنمائية التي أطلقت سنة 2000 م وتواصلت إلى حدود نهاية سنة 2015 م، حيث تتمحور أهداف البرنامج العالمي للتنمية المستدامة 2016 ــ 2030 حول خمس مجالات رئيسة وهي(30):

  • الناس: بإنهاء الفقر بجميع أشكاله والجوع بتوفير الأمن الغذائي وتعزيز التغذية المستدامة، ضمان الكرامة بضمان تمتع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية وضمان التعليم وتعزيز فرصه للجميع، إلى جانب تحقيق المساواة، وكذا المساواة بين الجنسين وغيرها.
  • الكوكب: بحماية الموارد الطبيعية والمناخ للأجيال الحالية والمستقبلية، وذلك بتوفر المياه وخدمات الصرف الصحي للجميع وإدارتها إدارة مستدامة، اتخاذ إجراءات عاجلة للتصدي لتغير المناخ وآثاره، هذا إلى جانب وقف فقدان التنوع البيولوجي وغيرها.
  • الازدهار: بتمكين جميع الناس من حياة مزدهرة تلبي طموحاتهم في انسجام مع الطبيعة، وذلك بتعزيز النمو الاقتصادي الطرد والشامل للجميع والمستدام والعمالة الكاملة والمنتجة وتوفير العمل اللائق للجميع، هذا إلى جانب الحد من انعدام المساواة داخل البلدان وفيما بينها وغيرها.
  • السلام: بالتشجيع على إقامة مجتمعات مسالمة لا يهمش فيها أحد من أجل تحقيق التنمية المستدامة، وإتاحة إمكانية وصول الجميع إلى العدالة وبناء مؤسسات فعالة وخاضعة للمساءلة وشاملة للجميع على جميع المستويات.
  • الشراكة: بتعزيز وسائل التنفيذ وتنشيط الشراكة العالمية من أجل تحقيق التنمية المستدامة.

وسيتم رصد واستعراض تقدم إنجاز البرنامج وأهدافه باستخدام المؤشرات التي وضعها الخبراء وتمت الموافقة عليها من اللجنة الإحصائية للأمم المتحدة في مارس 2016 م، وعلى الرغم من أن أهداف التنمية المستدامة غير ملزمة قانونيا، إلا أنه ينتظر من الحكومات أن تضع أطرا وطنية لتحقيقها ومؤشرات لمتابعتها، وبذلك تلعب الدول دورا رئيسيا في متابعة التقدم المحرز وإعداد التقارير الوطنية حول تقدم إنجاز الأهداف وطنيا والمساهمة بها على المستوى الإقليمي والعالمي، في إطار إعداد التقرير المرحلي السنوي للأمين العام للأمم المتحدة(31).

وعليه تطرح جملة من التحديات أمام تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، خاصة في بلدان الثورات العربية، حيث ذكر الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية ” بدر الدين علالي “، في الفعالية العربية الذي عقدت بمشاركة كل من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والإسكوا وجامعة الدول العربية ومنظمة المرأة العربية، والتي ناقش فيها المشتركون التحديات التي تواجه المنطقة العربية في إطار تنفيذ أهداف التنمية المستدامة 2030 والآليات العملية والعناصر الرئيسية لتحقيق أهداف التنمية، ذكر أن: « النزاعات المسلحة والصراعات التي تعيشها دول مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا، وظاهرتا التطرف والإرهاب اللتان أصبحتا تهددان المجتمعات العربية تؤثر سلبا على مكتسباتها التنموية، كما أن تزايد موجة المهجرين قسريا واللاجئين والنازحين التي تنتج عن هذه الاضطرابات، فاقمت من الضغوط ليس على الدول المعنية والمجاورة بل كذلك على عدد من دول العالم »(32).

كما قالت السفيرة ” ميرفت التلاوي ” مديرة منظمة المرأة العربية أن استمرار حالة الحرب والصراعات العرقية والإيديولوجيات المختلفة في المنطقة العربية يزيد من العوائق ضد تحقيق أهداف التنمية، بالإضافة إلى استمرار تدخل الدول الكبرى في سياسات المنطقة واعتبارها ساحة للحرب بين الأطراف الكبرى ومساعدة الإرهابيين والجماعات المتطرفة بالمال والسلاح، وأضافت: « التحديات التي تواجه تنفيذ أهداف التنمية المستدامة في المنطقة العربية إلى جانب التحديات الفنية التي تواجه كل المناطق، هي قلة التمويل وعدم وجود إحصائيات كافية لتغطي كل الأهداف السبعة عشر واستخدام التكنولوجيا الحديثة كعامل مساعد في تحقيق التنمية ». مؤكدة على أن المرأة هي أكثر الفئات تضررا من آثار النزاعات المسلحة في المنطقة، حيث تشكل النساء والأطفال ما يقارب 80 % من إجمالي عدد اللاجئين والنازحين، الأمر الذي يبقى على رأس التحديات التي تواجه الدول العربية في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة 2030(33).

هذا إلى جانب تأكيدها على  « عدم وجود تضامن دولي في هذه القضايا، حيث لا يجب إلقاء العبء كله على المستوى الوطني، ولكن هناك مستوى دولي لا بد أن يساهم  بالتضامن مع هذه الدول، التنسيق والتعاون الفني ما بين المستويات المختلفة المحلية والإقليمية والدولية، ثم الشركاء في التنمية كل لا بد أن يسير في اتجاه واحد بحيث تحقق التنمية »(34).

لقد برز من تناول تجارب الثورات العربية المختلفة ومساراتها أن ثلاثة عوامل أساسية ميزت الاختلاف من حيث نجاحه وفشله أو تعثره أو حتى دخوله تعقيدات تحرفه عن مساره وهذه العوامل هي:  أولا: مدى وجود تأثير الانقسامات الإثنية أو القبلية أو الطائفية، ثانيا: مدى قدرة نظام التسلط على استغلالها لصالحه من جهة أو أثرها السلبي في استدعاء تدخلات إقليمية خارجية على حساب التغيير الداخلي إلى جانب الدور الذي يضطلع به الجيش والقوى الأمنية في الدفاع عن النظام أو التزامهم الحياد في الصراع وثالثا: مدى توفر شرعية تقليدية تاريخية للأنظمة(35).

فالتجربة الأسرع والأكثر انتقالا نحو مهمات بناء نظام بديل هي التجربة التونسية، وهذا في ظل تجانس المجتمع التونسي وغياب الانقسامات العمودية، وكذا حيادية الجيش، أما في مصر فقد لعبت المؤسسة العسكرية دورا مهما وبارزا في إعادة إنتاج النظام، أما في اليمن فقد ساهمت الانقسامات القبلية وانقسام الجيش والمؤسسات الأمنية في تعقيد الأوضاع الأمنية وإطالة الصراع وارتفاع عدد الضحايا، وانتشار الأوبئة والأمراض والمجاعة، ولا يزال الصراع مستمرا بكل تعقيداته حتى بعد مقتل الرئيس “علي عبد الله صالح” وفي ليبيا برز الخلاف القبلي والجهوي خاصة بين شرق ليبيا وغربها ليبيا واستمر الصراع حتى بعد مقتل ” معمر القذافي”(36).

وفي سوريا بدأت الأمور بثورة شعبية مطالبة بالإصلاح ثم تحولت إلى حرب أهلية فحرب دولية بالوكالة، وتحول موضوع النزاع في سوريا من إسقاط النظام إلى الحرب على الإرهاب، ليصبح حاليا وحدة الدولة السورية، مع احتمالات تقسيم سوريا.

كما يطرح تقرير التنمية البشرية لسنة 2014 م أن التنمية البشرية في تحسن في المنطقة العربية، ولكن الفوارق كبيرة بين البلدان، فبعضها يحل في مجموعة التنمية البشرية المرتفعة، بينما تواجه المنطقة بمجملها تحديات ضخمة تعوق التنمية، جراء ما تواجهه من نزاع وبطالة في صفوف الشباب وعدم المساواة، وهي مخاطر، إذا ما بقيت من غير معالجة، يمكن أن تعطل مسيرة التنمية البشرية اليوم وفي المستقبل، وفي هذا الإطار قالت “هيلين كلارك” ، مديرة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «وبدرء المخاطر يصبح للجميع حصة من التقدم في التنمية، وتصبح التنمية البشرية أكثر إنصافا واستدامة، فالصراع في سوريا، إضافة إلى الصراعات الأخرى التي تشهدها المنطقة، أصاب الأسر بأضرار جسيمة، وخلف أكبر الأعداد من النازحين واللاجئين في العالم، الذين باتوا اليوم يعيشون في ظروف اقتصادية واجتماعية قاسية حسبما يفيد به التقرير، ويعيش الأطفال والنساء، الذين يشكلون أعلى نسبة من أعداد النازحين، الحرمان بأوجه متعددة، كثيرًا ما يعيشون في فقر، محرومين من الخدمات العامة الأساسية كالرعاية الصحية والتعليم، وهذا الحرمان يمكن أن يؤدي إلى مشاكل صحية تعيش مع الفرد مدى الحياة، فتؤثر على نموّه العقلي، وتفقده سبل معيشته، وتقوض إمكاناته على المدى الطويل»(37).

وعموما فالتحديات الأبرز التي تواجه أكثر الدول العربية تتمثل فيما يلي:

  • تكيف تيارات الإسلام السياسي مع المعطى الديمقراطي المدني، وهو ما يتعلق بهوية الدولة ما إذا كانت مدنية أم إسلامية ويتمحور على الدستور والقوانين الناظمة لها، ويدور بشكل رئيسي حول موقع ودور الإسلام والشريعة الإسلامية في القوانين والتشريع بما يطال الحقوق الأساسية، حقوق الإنسان، حقوق المرأة وحقوق الأقليات، بالإضافة إلى شرعية الحكم والمؤسسات المنتخبة والأساس المدني لها.
  • بناء المؤسسات الديمقراطية، أي تحدي التعامل مع بناء المؤسسات الديمقراطية وفق مبادئ فصل السلطات واستقلالية القضاء ومهنية أجهزة الشرطة والأمن، أي إعادة تحديد دور الجيش والمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية وضبطها ضمن الأصول الديمقراطية.
  • دور الدولة في الاقتصاد والتوزيع أو إعادة تحديد هذا الدور وتطوير السياسات الاجتماعية من توفير فرص العمل وتحسين مستوى الخدمات الصحية ونوعية التعليم وغيرها، كما يعد التركيز على تعديل السياسات الاقتصادية وتنظيم القطاعات المنتجة ومواجهة معدلات البطالة المرتفعة على قدر عال من الأهمية.
  • حقوق الإنسان وحقوق المرأة خاصة فيما يتعلق بالمساواة في القوانين وإلغاء التمييز، وهو ما يطرح خاصة بين القوى الاجتماعية الإسلامية والتقليدية المحافظة من جهة وبين منظمات المجتمع المدني وعلى رأسها الحركات النسوية من جهة أخرى.

VI ــ سياسات التنمية البديلة بعد الثورات العربية:

لقد تمحورت مطالب الثورات العربية أساسا حول المطالب التنموية وعلى رأسها العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية، حيث فرضت هذه المطالب نفسها على جدول أعمال الدولة والمجتمع مع اندلاع هذه الثورات وبعدها، لكن ومن خلال رصد واقع الدول العربية خاصة بلدان ثورات الربيع العربي، نجد أنها تعيش صعوبات اقتصادية كمية ونوعية، وحالات تخبط، كما أن حالة عدم الاستقرار التي تعيشها هذه الدول، قد أدت إلى هروب الاستثمارات الأجنبية منها، حيث تعاني هذه الدول من انخفاض حاد في حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتراجعا واضحا في تدفقات هذه الاستثمارات في كل من مصر، تونس، ليبيا، اليمن، وسوريا، حيث أن عودة هذه الاستثمارات مرهونة بعودة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأمني داخل هذه الدول، هذا إلى جانب استمرا البطالة والفقر والتهميش وغيرها من القضايا الاجتماعية والاقتصادية، والتي كان الشارع ينتظر معالجتها بعد انتفاضته.

فهذه المسألة تبدو صعبة نظرا لقصر الفترة الزمنية على اندلاع الثورات، حيث لا يمكن معالجة هذه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتجذرة في فترة وجيزة، وفي ظل التحديات التي تواجه تنفيذ أهداف التنمية المستدامة 2030 في هذه الدول، تظهر الصعوبة في طرح سياسات تنموية بديلة، وعلى الرغم من إدراك هذه الصعوبة تطرح العديد من المقترحات في هذا المجال.

وعليه فإن السياسات البديلة لا بد أن تكون سياسات تتعامل مع الواقع خاصة الواقع الذي أفرزته هذه الثورات، وتحترم خصوصية المجتمعات، مع الحاجة إلى منوال تنموي وطني ومستقل ومعتمد على الثروات والموارد الداخلية البشرية والطبيعية.

ولعل أهم ما يطرح حول هذه السياسات البديلة هو ضرورة وضع سياسات بديلة بعيدة ومختلفة على السياسات التي تمليها المؤسسات الدولية، والتي اتبعتها الدول النامية ومنها الدول العربية منذ ثمانينيات القرن العشرين، وبالتالي إعادة تفعيل دور الدولة وإحيائه لفائدة نموذج إنمائي مندمج مسير اقتصادي وضامن للعدالة الاجتماعية بغية تيسير الرفاهية لكل فرد، حيث تبرز أهمية دور الدولة في استعادة النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي عبر التفكير بجدية في منوال تنموي جديد يكون أكثر استقلالية يعتمد أساسا على الموارد المالية والبشرية للبلدان العربية، وهذا خلافا للسياسات النيوليبرالية التي طالبت بدولة الحد الأدنى(38).

هذا إلى جانب ضرورة تشجيع الاستثمار العمومي لتحقيق التنمية وتوفير العمل والحد من الفوارق الاجتماعية والجهوية والعمل على اندماج الجهات والأقاليم وتطوير التعاون والتكامل الاقتصاديين بينهما، فالاقتصاد الاجتماعي والتضامني يمثل العامل الرئيسي الملائم على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، فضلا عن الانفتاح الاقتصادي والتكامل التجاري والمالي والاعتناء بالمهارات العلمية والتكنولوجية الموجودة والسهر على النهوض بمكوناتها، مع رسم استراتيجية متكاملة للتصنيع وتطوير القطاع الفلاحي والخدماتي  وتحديد وضبط علاقة الاقتصاد الوطني بالخارج عبر إعداد مخطط اقتصادي اجتماعي(39).

كما تطرح ضرورة اعتماد استراتيجية اقتصادية إنمائية وطنية وتعاونية إقليمية عربية تهدف إلى تبسيط النظم المالية العربية وتعزيز الامتثال الضريبي وإصلاح الإدارة الجبائية وتنشيط الأسواق المالية بواسطة تشجيع الاستثمارات العربية المباشرة.

كما تجمع العديد من الأدبيات الدولية والوطنية حول عدد من العناصر الجوهرية لتعزيز العدالة الاجتماعية أهمها ما يلي(40):

  • الحاجة إلى نمط جديد للتنمية يتجاوز أهداف النمو الاقتصادي إلى تلبية احتياجات الناس، أي التنمية المستدامة بأبعادها الثلاثة والحد من التباينات بين الأغنياء والفقراء، وتحقيق هدف العمل اللائق للجميع، وتدعيم إطار استثمار مجدي، وتطوير أسواق العمل كي تصبح أسواقا شاملة وعادلة.
  • إعادة النظر في الحدين الأعلى والأدنى للأجور والأخذ بعين الاعتبار البدلات والمكافآت والحوافز.
  • إعطاء مسألة توفير فرص عمل للشباب، خاصة بعد الدور الذي أطلقوه في ثورات الربيع العربي.
  • إعادة النظر في السياسة الضريبية من خلال تبني سياسات ضريبية أكثر تدرجا لتمويل البرامج الرئيسية كالتعليم والحماية الاجتماعية.
  • توفير ضمان اجتماعي جيد التصميم يضمن توسيع نطاق مظلة التأمينات الاجتماعية القائمة على الاشتراكات وإعانات البطالة، مع إرساء أرضية حماية اجتماعية لأكثر الناس استضعافا، تسعى باستمرار إلى تلبية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

وفي الأخير ضرورة اعتماد التوجه الحديث في التنمية الذي يربط بين التنمية والديمقراطية، في علاقتها بمعايير الحوكمة الفاعلة بهدف إعادة إحياء دور الدولة بعد هذه الثورات، وبالتالي فالحوكمة الفاعلة التي تقوم على أساس مقاييس كمية ونوعية ترمي إلى دفع التنمية الشاملة والمستدامة واحترام حقوق الإنسان، وما يتبع ذلك من محاربة للفقر والإقصاء والتهميش وحماية البيئة، هذا إلى جانب العمل على إعادة هيكلة معنى المواطنة وشروطها وتحديد قواعد المشاركة السياسية ومساهمة الأفراد في صنع القرار خاصة القرار الاقتصادي والتنموي، فضلا عن مراجعة أنماط الحوافز والتعديلات التشريعية والقانونية الممكنة وتفعيل مؤسسات المساءلة المختلفة، أي أن يكون لمعنى ” التنمية حرية ” والتي طرحها “أمارتيا سن” وجودا واقعيا في الدول العربية.

الخاتمة

من خلال هذه الدراسة يتضح لنا فشل السياسات التنموية التي انتهجتها الدول العربية منذ ثمانينيات القرن العشرين، لم تتمكن من النهوض بالشعوب العربية إلى المستوى المطلوب من تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والمساواة، حيث خلفت هذه السياسات التي فرضتها المؤسسات المالية الدولية على الدول النامية ومنها الدول العربية، بما يتوافق وأهداف العولمة التي تستند على القيم الليبرالية الجديدة، العديد من الآثار الاقتصادية والاجتماعية على رأسها الفوارق الاجتماعية، زيادة نسبة الفقر، ارتفاع معدلات البطالة، انعدام المساواة في تكافؤ الفرص وفي توزيع الثروات، سيطرة الحكام على اقتصاد البلاد، هذا إلى جوانب الاستبداد السياسي، تغييب المشاركة السياسية والتقييد على الحريات، وقد أدى عدم رضا الشعوب على ما أنجز في الفترة ما بين سنوات 2000 و 2010 م إلى اندلاع الثورات العربية أو ما يعرف بالربيع العربي.

حيث رفعت شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وشكلت مطالبا ملحة لشريحة واسعة من المجتمعات العربية، وهذا ما شكل تحديا في حد ذاته للتنمية في هذه الدول، وأمام ما يطرحه البرنامج العالمي للتنمية المستدامة 2016 ــ 2030، تبرز العديد من التحديات أمام تنفيذ أهداف هذه البرنامج في الدول العربية خاصة بلدان الثورات، مما يستدعي ضرورة تبني سياسة تنموية بديلة تكون مستقلة وتعتمد على الإمكانيات الداخلية للدول العربية من إمكانيات طبيعية وبشرية، للوصول إلى الاستخدام الأفضل للفرص التنموية، وهذا في ظل تبني نهج ديمقراطي يضمن مشاركة الأفراد في العملية التنموية.

الهوامش:

  • ــ فاطمة مبارك، ” التنمية المستدامة: أصلها ونشأتها “، بيئة المدن، (ع 13، يناير 2016 )، ص 15.
  • ــ مأمون أحمد محمد النور، ” التنمية المستدامة “، الأمن والحياة، ( ع 361 ، جمادى الثانية، 1433)، ص 57.
  • ــ اللجنة العالمية للبيئة والتنمية، مستقبلنا المشترك، ترجمة: محمد كامل عارف، ( سلسلة عالم المعرفة 142، أكتوبر 1989)، ص 69.
  • ــ مبارك، مرجع سابق، ص13.
  • ــ معتز بالله عثمان، ” أنماط التنمية وسبل تحقيق العدالة الاجتماعية “، في التنمية والديمقراطية وتطوير النظام الإقليمي العربي ( بحوث ومناقشات ندوة دولية )، تحرير محسن عوض، كرم خميس، ( القاهرة: المنظمة العربية لحقوق الإنسان، 2013 )، ص ص 91 ــ 92.
  • ــ عثمان محمد غنيم، ماجدة أبو زنط، التنمية المستدامة فلسفتها وأساليب تخطيطها وأدوات قياسها، ( عمان: دار الصفاء، 2010 )، ص ص 30 ــ 31.
  • ــ محمد الصالح الشيخ، الآثار الاقتصادية والمالية لتلوث البيئة ووسائل الحماية منها، ( الإسكندرية: مكتبة ومطبعة الشعاع، 2002 )، ص 94.
  • ــ علي الزعبي، السياسات التنموية وتحديات الحراك السياسي في العالم العربي: دراسة حالة الكويت، ( الكويت: مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية، 2015 )، ص 31.
  • ــ مقدم عبيرات، عبد العزيز الأزهر، ” التنمية والديمقراطية في ظل العولمة “، مجلة العلوم الإنسانية، ( ع 11، ماي 2007 )، ص 224.
  • ــ خالد عبد الوهاب البنداري الباجوري، ” العدالة الاجتماعية والتنمية في ظل الثورات المصرية “، في: www.must.edu.eg.( 04/03/2018).
  • ــ الزعبي، مرجع سابق، ص 25.
  • ــ المرجع نفسه، ص ص 25 ــ 26.
  • ــ وفاء علي داود، ” التأصيل النظري لمفهوم الثورة والمفاهيم المرتبطة بها “، في:ahram.org/eg/news/422.(04/03/2018).
  • ــ قراءات نظرية، الثورات السياسية، المفهوم والأبعاد، إعداد المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، إدارة البحوث والدراسات، 17 إبريل 2016، في: http:eipss– eg.org(04/03/2018).
  • ــ المرجع نفسه.
  • ــ موسوعة السياسة، عبد الوهاب الكيالي، ( لبنان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ج1، ط3، 1997)، ص 870.
  • ــ شعبان الطاهر الأسود، علم الاجتماع السياسي: قضايا العنف السياسي والثورة، ( القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2003)، ص ص 46 ــ 47.
  • ــ أنظر: كرين برينتن، تشريح الثورة، ترجمة: سمير عبد الرحيم الجبلي، ( الإمارات العربية المتحدة: الفارابي، الكلمة، 2009).
  • ــ علي داود، مرجع سابق.
  • ــ المرجع نفسه.
  • ــ غازي القصبي، التنمية… الأسئلة الكبرى، ( الأردن: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1992)، ص 7.
  • ــ علي عبد القادر علي، ” العدالة الاجتماعية وسياسات الإنفاق العام في دول الثورات العربية “، عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية، ( ع 9، المجلد 3، صيف 2013)، ص 10.

* ــ  يعود مصطلح الربيع العربي إلى الثورات التي حدثت سنة 1848 م التي تعرف كذلك بـ ” ربيع الأمم ” و ” ربيع براغ ” سنة 1968 م، كما استخدم المصطلح في أعقاب حرب العراق من جانب العديد من المدونين والمعلقين ، حيث كان من المتوقع حركة عربية كبرى صوب الديمقراطية، وبدأ الاستخدام الأول لمصطلح الربيع العربي  كما استخدم للدلالة على هذه الأحداث مع مجلة فورين بوليسي.

أنظر: ثائر مطلق عياصرة، ” العوامل الرئيسية وراء اندلاع الاحتجاجات والثورات التي شهدتها بلدان الربيع العربي 2009 ــ 2011 م “، دراسات ــ العلوم الإنسانية والاجتماعية، ( المجلد 43، الملحق 4، 2016 )، ص 1883 ــ 1884.

  • ــ عبد الفتاح العموص، عبد الفتاح غربال، إحياء دور الدولة بالبلدان العربية المتوسطية، ( تونس: مطبعة نوفا برانت، 2015)، ص ص 8 ــ 17,
  • ــ عبد القادر علي، مرجع سابق، ص ص 11 ــ 12.
  • ــ المرجع نفسه، ص 8.
  • ــ الزعبي، مرجع سابق، ص17.
  • ــ البنداري الباجوري، مرجع سابق، ص ص 27 ــ 31.
  • ــ عبد القادر علي، مرجع سابق، ص8.
  • ــ برنامج التنمية المستدامة، في: http://unictunis.org.tn/files/2016/12/files_ODD_Ar.pdf.(04/03/2018).
  • ــ المرجع نفسه.
  • ــ المرجع نفسه.
  • ــ تحديات سياسية وأمنية في المنطقة العربية أمام تنفيذ أهداف التنمية المستدامة 2030، في: http://news.org/ar/audio/2016/07/353072.(04/03/2018).
  • ــ تحديات سياسية وأمنية في المنطقة العربية أمام تنفيذ أهداف التنمية المستدامة 2030، مرجع سابق.
  • ــ المرجع نفسه.
  • ــ مجموعة باحثين، الربيع العربي ثورات الخلاص من الاستبداد دراسة حالات، ( الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية، شرق الكتاب، 2013)،ص 19.
  • ــ المرجع نفسه، ص 20.
  • ــ تقرير التنمية البشرية لعام 2014: النزاع والبطالة وعدم المساواة عوائق أمام التنمية البشرية في المنطقة العربية، في:

http://alarab.co.uk.(04/03/2018).

  • ــ العموص، غربال، مرجع سابق، ص ص 8 ــ 17.
  • ــ المرجع نفسه، ص 18.
  • ــ عثمان، مرجع سابق، ص ص 99 ــ 101.

 

.

رابط المصدر:

https://eipss.site/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%86%d9%85%d9%88%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%88%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%a7%d9%82%d8%b9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ad%d8%af%d9%8a%d8%a7%d8%aa/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M