انفتاح جديد: مؤشرات ودلالات الحراك الدولي المتنامي تجاه ليبيا

محمد فوزي

 

شهدت الساعات والأيام الماضية تصاعدًا لافتًا على مستوى الحراك الدولي الرامي إلى حلحلة الأزمة الليبية، وإخراج البلاد من حالة التأزم السياسي، وتصاعد المؤشرات على إقدام البلاد على اضطرابات أمنية إثر هذه الحالة. في هذا السياق، أصدر مجلس الأمن الدولي للقرار 2656 بخصوص التمديد للبعثة الأممية لدى ليبيا لمدة عام، وشهدت العاصمة البريطانية لندن اجتماعًا نوعيًا لممثلي الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة وفرنسا ومصر وتركيا، وهو الاجتماع الذي ركز على سبل دعم المبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا، بما يُفضي إلى إجراء الانتخابات الليبية، وهي مؤشرات تعكس توجه الأطراف الفاعلة الدولية إلى تبني بعض المبادرات التي تدفع باتجاه بناء قاعدة دستورية يمكن على أساسها إجراء الانتخابات، وإنهاء حالة الفوضى الحالية.

تمديد مهام البعثة الأممية في ليبيا

بالتزامن مع حالة التأزم السياسي التي تشهدها الساحة الليبية، خصوصًا في ضوء الصراع بين الحكومة المنتهية ولايتها بقيادة عبد الحميد الدبيبة، وحكومة فتحي باشاغا، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2656 بخصوص التمديد للبعثة الأممية في ليبيا لمدة عام، وقد أكد القرار على دعم مسار المصالحة الوطنية التي يقودها المجلس الرئاسي الليبي، وأشار القرار إلى دعم السنغالي عبد الله باتيلي، الذي تولى مهامه كمبعوث أممي لليبيا في منتصف أغسطس، كذلك شدد مجلس الأمن على أولوية بناء توافقات ليبية بخصوص القاعدة الدستورية، بما يضمن الوصول إلى مرحلة عقد الانتخابات.

ومع التسليم بأهمية قرار الأمم المتحدة على مستوى مساعي إحداث اختراق للأزمة الليبية، إلا أن هذه الجهود الأممية تواجه العديد من التحديات، ومن أبرزها:

1 – حالة التأزم السياسي التي تشهدها البلاد، وذلك في ضوء الصراع بين حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها بقيادة عبد الحميد الدبيبة، والحكومة المكلفة من مجلس النواب الليبي، بقيادة فتحي باشاغا؛ فعلى الرغم من انتهاء عهد حكومة الوحدة الوطنية في ضوء قرار مجلس النواب بتشكيل حكومة “باشاغا”، وانتهاء اتفاق جنيف في 21 يونيو الماضي، إلا أن حكومة “الدبيبة” رفضت تسليم السلطة، وبدأت في تبني العديد من الإجراءات التصعيدية، التي مثلت إنذارًا بعودة البلاد إلى مربع عدم الاستقرار.

وفي هذا السياق لا تقف تداعيات هذا الانقسام عند حدود حالة الاستقطاب السائدة حاليًا، بل إنها تمتد لتشمل تقليل هامش الاستقلالية لدى البعثة الأممية، وتدفع باتجاه تقليل فرص الوصول إلى توافقات بخصوص القاعدة الدستورية اللازمة لإجراء الانتخابات. وهي كذلك تكرس لأزمة شرعية؛ إذ تغيب سلطة تنفيذية واضحة معنية بالإشراف على الاستحقاقات الانتخابية والدستورية. ويمثل هذا المشهد استنساخًا للمشهد الليبي بشكل عام خلال السنوات الأخيرة، حيث يغيب النظام العام، وتتعدد الهياكل والأطر المؤسسية السياسية، ويحدث نزاع على الشرعية فيما بين هذه الأطر المختلفة.

2- تعاني الجغرافيا الليبية من أزمات أمنية متفاقمة مثلت أحد ارتدادات الأزمة السياسية الممتدة في البلاد خلال السنوات الماضية، وقد كان آخر تجليات هذه الأزمة الأمنية في تلك المواجهات التي اندلعت في أواخر شهر أغسطس الماضي في العاصمة طرابلس بين داعمي حكومة الوحدة المنتهية ولايتها، والحكومة المكلفة، وهي المواجهات التي أسفرت عن سقوط عشرات القتلى والجرحى.

كذلك يقع ملف المرتزقة وتوحيد المؤسسة العسكرية على رأس التحديات الأمنية التي تواجه البعثة الأممية، مع الإشارة إلى حدوث تقدم نسبي في هذا الملف وذلك مع موافقة اللجنة العسكرية الليبية المشتركة “5+5″، يوم 27 أكتوبر، على إنشاء لجنة فرعية مكلفة برسم خرائط الجماعات المسلحة، والعمل على انسحاب المرتزقة والمقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية، وذلك وفقًا للبند الرابع من اتفاق وقف إطلاق النار. وتتصاعد أهمية التعامل الأممي مع ملف القوات الأجنبية والميليشيات في ضوء ما تمثله هذه الاتجاهات من عائق أمام توحيد المؤسسة العسكرية الليبية، وقد أشار “باتيلي” في هذا الصدد إلى أن حالة الحشد والحشد المضاد من قبل أطراف الأزمة المختلفين تمثل تحديًا رئيسًا أمام البعثة الأممية.

3- حالة الصراع والانقسام التي تشهدها المؤسسات الاقتصادية النوعية في البلاد، وبالتحديد مؤسسة النفط الوطنية، والبنك المركزي الليبي. وتعوق هذه الانقسامات والصراعات التي تعصف بالمؤسسات الاقتصادية مساعي التنسيق الأممي مع هذه المؤسسات، وتزيد هذه الحالة من حالة التأزم الاقتصادي الذي تشهده البلاد، خصوصًا وأن قطاع النفط يشكل المورد المالي الأكثر أهمية بالنسبة لليبيا.

4- تُشير تجربة البعثات الأممية في ليبيا إلى أن القوى الدولية الفاعلة في هذا الملف اعتادت على تبادل الاتهامات فيما بينها بالهيمنة على عمل البعثة، وتوجيهها بما يُخدم على مصالحها، وقد تصاعدت هذه الأزمة مع تباين الرؤى الدولية للتعاطي مع التطورات والمتغيرات التي تشهدها الساحة الليبية، تبعًا لأجندة كل دولة، وهو اعتبار يزيد من حجم التحديات التي تواجهها البعثة الأممية في ليبيا.

5- أدت الخلافات الكبيرة بين القوى الإقليمية والدولية في ليبيا، وكذا حالة الفشل التي سيطرت على البعثة الأممية خلال السنوات الأخيرة، وفقدانها الفاعلية المطلوبة في ضوء صلاحياتها المنزوعة وعدم امتلاكها الأدوات اللازمة التي تمكنها من الإشراف على تنفيذ الإصلاحات والتسويات المطلوبة؛ إلى فقدان الثقة في البعثة الأممية من قبل الأطراف الليبية المختلفة.

لكن ومع هذه التحديات الكبيرة التي تواجه مهام البعثة الأممية في ليبيا، إلا أن تجديد الثقة لمدة عام إضافي من قبل مجلس الأمن الدولي هو خطوة مهمة قد تدفع البعثة إلى تفعيل دورها مرة أخرى في الوساطة بين الأطراف المختلفة، بما يضمن بناء قاعدة دستورية تُمهد لإجراء الانتخابات، مع الإشارة إلى وجود حاجة ملحة إلى تبني الدول المنخرطة في الأزمة لإجراءات عملية على أرض تمكن البعثة الأممية من أداء مهامها.

اجتماع دولي في لندن بخصوص ليبيا

في إطار التحركات الدولية المرتبطة بالأزمة الليبية، اجتمع ممثلو مجموعة الاتصال الدولية بشأن ليبيا، وهم ممثلو دول: الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة وفرنسا ومصر وتركيا، في لندن، في الفترة من 26 إلى 28 أكتوبر، واتفقوا على دعم جهود الممثل الخاص للأمين العام رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، عبدالله باتيلي، بما يضمن بناء أساس دستوري يمهد لانتخابات حرة ونزيهة، وفق ما صرحت به سفيرة المملكة المتحدة لدى ليبيا كارولين هورندال.

وترتبط أهمية هذا الاجتماع وما سبقه من اجتماعات خصوصًا اجتماعات برلين التي عُقدت في سبتمبر الماضي بعامل مهم وهو درجة التأثير الكبيرة للقوى الدولية في المشهد الليبي، إلى الحد الذي جعل طريقة تعاطي هذه القوى مع التطورات الليبية أحد المحددات الحاكمة لديناميات واتجاهات الأزمة.

في هذا السياق، يعكس عقد هذا الاجتماع حرص القوى الغربية وبالتحديد الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا على التأكيد على موقعهم المحوري في أي توجهات خاصة بتسوية الأزمة، خصوصًا مع التخوفات لدى هذا المحور والمرتبطة بالانخراط الروسي المتزايد في ليبيا، وترتكز مقاربة هذه الدول على أولوية استئناف العملية السياسية خصوصًا على مستوى بناء قاعدة دستورية تمهد لإجراء الانتخابات، وإرساء حالة من الاستقرار داخل مؤسسة النفط الليبية واستئناف عملها بشكل كامل، وهو مرتكز تتعاظم أهميته في ضوء البحث الأوروبي عن بدائل للطاقة عن روسيا.

بالنسبة لأنقرة، يبدو أن تأييدها لمخرجات اجتماع لندن يأتي في إطار محاولتها في الأشهر الأخيرة الظهور بمظهر الفاعل الذي يتبنى مقاربة متوازنة تجاه أطراف الأزمة الليبية، خصوصًا في أعقاب الانفتاح على معسكر الشرق الليبي، إلا أن قرار تركيا بتوقيع مذكرات تفاهم مع حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، في 3 أكتوبر، هو قرار مثل نفيًا للسردية التركية التي تُروج لتبني سياسة محايدة ومتوازنة في ليبيا، لتعود أنقرة مرة أخرى إلى سياسة تغليب المصالح الخاصة على حساب السيادة الوطنية الليبية، وافتعال الأزمات التي تضاعف من حدة الانقسام السياسي الليبي.

أما مشاركة مصر في الاجتماع ودعمها لمخرجاته فتأتي في إطار المواقف والالتزامات الثابتة للدولة المصرية تجاه ليبيا، وهي المواقف التي ارتكزت دائمًا على أولوية الحفاظ على الدولة الوطنية الليبية، وضرورة تفكيك منظومة الميليشيات والمرتزقة، والتسوية السياسية للأزمة بناءً على حوار جامع بين أطراف الأزمة.

وفي الختام، يمكن القول إن هذه التحركات المتزايدة للأطراف الدولية تجاه الأزمة الليبية تُعبر في مجملها عن استئناف حالة الانفتاح الدولي على الأزمة الليبية، وهو المتغير الذي يرتبط ببعض المحددات وعلى رأسها الأزمة الروسية الأوكرانية وتداعياتها التي زادت من الأهمية الجيوسياسية والجيواقتصادية لليبيا، فضلًا عما يمثله استمرار حالة التأزم في ليبيا من تهديد مباشر وضمني لهذه الدول، كذلك فإن هذا الانفتاح يرتبط إلى حد كبير بتصاعد المؤشرات على وجود تهدئة إقليمية بين العديد من الأطراف.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/73693/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M