انكماش وركود: تبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي

أسماء فهمي

 

أظهرت جائحة كورونا ومن بعدها الحرب الروسية الأوكرانية مخاطر على السطح من التضخم للديون، وما استتبع ذلك من اتخاذ الأسواق المتقدمة (الولايات المتحدة الأمريكية، ومنطقة اليورو، والمملكة المتحدة) سياسة نقدية تشديدية تقوم على رفع أسعار الفائدة بهدف تحقيق التوازن بين السيطرة على التضخم دون التسبب في ركود عميق أو طويل الأمد، وحماية المواطنين من تبعات خدمة الديون المرتفعة.

وكما تركت تداعيات الحرب الأوكرانية الاقتصاد البريطاني في حالة من التخبط والاضطراب، وتسببت في خضوع الاقتصاد لتغيرات هيكلية كبيرة، إلا أنه في حالة الاقتصاد البريطاني يظهر سبب آخر ألقى بظلاله على الأوضاع الاقتصادية في بريطانيا ألا وهو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي تسبب مع العوامل السابقة في تسجيل معدلات التضخم في بريطانيا أعلى مستوياتها القياسية، كما ارتفعت معدلات البطالة وهو ما أدى إلى حرمان شريحة كبيرة من السكان من العمل اللائق أو الرواتب وسيادة حالة من عدم اليقين الاقتصادي المتزايد أفضت إلى اتخاذ أكثر من نصف مليون عامل بريطاني قرار الإضراب على إثر زيادة معدلات التضخم حول الأجور وظروف العمل.

خلفيات الأزمة

بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتوقيع رئيس وزراء بريطانيا آنذاك “بوريس جونسون” اتفاق التجارة لينظم العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وصرح رئيس الوزراء حينها بأن صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ستمكّن الشركات البريطانية من التوسع في أعمالها مع الاتحاد الأوروبي، وستمنح بريطانيا الفرصة لإبرام الصفقات التجارية مع العالم بجانب التصدير للأسواق الأوروبية، وبعد أشهر من توقيع الاتفاق، ظهر فيروس كورونا بأضراره المختلفة على الاقتصاد البريطاني والذي أخفى تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لفترة قصيرة، إلا أنه مع استمرار الوباء ظهرت تكلفة الخطوة التي اتخذتها بريطانيا، وأوضحت الأرقام الرسمية أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أضر بالاقتصاد البريطاني.

وبالرغم من أن الميزان التجاري للمملكة كان في عجز منذ عام 1998، إلا أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ساهم رسميًا (في ديسمبر 2020) في تراجع صادرات المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي من السلع بنسبة 30% خلال السنة الأولى من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومع انتشار الوباء والحرب الروسية الأوكرانية وأزمة الطاقة زاد من وقع الأزمة، وأدى إلى إلحاق الضرر بقدرة المملكة المتحدة على جني السيولة من الصادرات، لتتسع الفجوة بين صادرات وواردات المملكة المتحدة من 2.4 مليار جنيه إسترليني لتصل إلى 26.8 مليار جنيه إسترليني، وهو عجز ناتج عن انخفاض الصادرات من كل من السلع والخدمات. وباستثناء تحركات الذهب، كان العجز التجاري بمثابة عائق كبير، حيث بلغ 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الرابع من العام الماضي، وتعاني المملكة من عجز تجاري مع الصين والنرويج وألمانيا وإسبانيا وبولندا وروسيا وإيطاليا والهند.

تحديات الاقتصاد

بنهاية عام 2022 يشهد الاقتصاد البريطاني حالة من الانكماش، وتُشير التوقعات إلى استمرار الانكماش وصولًا للركود خلال عام 2023، وذلك مع تراجع معدلات النمو وارتفاع معدلات التضخم، وارتفع الاقتراض الحكومي الذي بلغ 128.1 مليار جنيه إسترليني في السنة المالية حتى ديسمبر 2022 وفقًا لآخر تقدير مؤقت لمكتب الإحصاء الوطني، بزيادة 5.1 مليارات جنيه إسترليني عن الفترة نفسها من العام الماضي. وفي نهاية ديسمبر 2022، كان صافي دين القطاع العام يعادل 99.5% من الناتج المحلي الإجمالي على غرار مستواه قبل عام. أما الدين الأسري فقد بلغ 133.8% من الدخل المتاح في الربع الثالث من عام 2022، وقد ظل بالقرب من هذا المستوى منذ منتصف عام 2017.

وبالنسبة للعجز التجاري: فقد اتسع العجز التجاري للمملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي إلى مستوى قياسي في الربع الأخير من عام 2022 ليصل إلى 39.9 مليار دولار وهي أكبر فجوة منذ عام 1997، وذلك مع ارتفاع الواردات من الاتحاد الأوروبي بنسبة 3.8% مدفوعًا بارتفاع مشتريات الآلات ومعدات النقل، وخاصة السفن وارتفاع أسعار الوقود. وفي المقابل، انخفضت الصادرات البريطانية للاتحاد الأوروبي مما يعكس بعض الحواجز الجمركية التي ظهرت بعد مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، والذي ترك أثره على الأسعار في الداخل مع ارتفاع معدلات التضخم، والذي أضاف إلى أزمة تكلفة المعيشة في المملكة المتحدة.

 وفيما يتعلق بمعدلات نمو الاقتصاد البريطاني: بالرغم من التحسن الطفيف في الاقتصاد البريطاني بنسبة 0.4% على أساس سنوي في الربع الأخير من عام 2022، إلا أنه يظل أضعف أداء منذ الربع الأول من عام 2021، ويمكن متابعة تطور معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة من خلال الشكل التالي:

يُبين الشكل السابق انكماش الاقتصاد البريطاني، فبعد التحسن الذي شهده معدل النمو في بداية يناير 2021، ووصوله إلى القمة في يوليو 2021؛ إلا أنه عاد لينخفض ليصل إلى 0.4% في يناير 2023، وكان التراجع مدعومًا بانخفاض قطاع الإنتاج بنسبة 4.2%، مسجلًا تراجعًا خامسًا على التوالي، وتباطأ كل من قطاع البناء (5.1% مقابل 6.3%) وناتج قطاع الخدمات (1.2% مقابل 3.2%). بالنظر إلى عام 2022 بالكامل، ونما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4%، بعد نمو قياسي بنسبة 7.6% في عام 2021، لكن الاقتصاد البريطاني لا يزال أصغر بنسبة 0.8% مما كان عليه قبل جائحة كوفيد.

وانخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 0.5% بين أكتوبر ونوفمبر 2022 وكان أقل بنسبة 2.5% من مستويات ما قبل الوباء (فبراير 2020)، من 13 قطاعًا فرعيًا ساهمت بشكل سلبي في النمو، وانخفض الإنتاج الصناعي للأشهر الثلاثة حتى نوفمبر 2022 بنسبة 1.2% عن الأشهر الثلاثة حتى أغسطس 2022، وفي الأشهر الثلاثة حتى نوفمبر 2022، انخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 6.2% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.

وبمقارنة تغير الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لمجموعة السبع مقارنة بمستوى ما قبل الجائحة في الربع الثالث من عام 2022 مقارنة بالربع الرابع من عام 2019 فنجد أن المملكة المتحدة هي الوحيدة التي حققت ناتجاً محلياً سالباً مقارنة بمجموعة السبع، ويمكن متابعة ذلك من خلال الشكل التالي:

وقد أظهرت توقّعات وزارة الخزانة البريطانية في يناير 2023 نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي بمقدار 4.2% لعام 2022 ليحقق تراجعًا عما كان عليه 7.5% عام 2021، كما جاءت التوقعات للعام الحالي 2023 بنمو الناتج المحلي الإجمالي بنحو -0.9%.

أما فيما يتعلق بمعدلات التضخم: فخلال العام السابق وصلت معدلات التضخم ذروتها لأعلى مستوى لها في 41 عامًا عند 11.1% في أكتوبر مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، وتراجعت قليلًا بعد ذلك حتى يناير 2023؛ إلا أنها تظل مرتفعة عن معدلاتها السابقة، ويمكن متابعة تطور معدلات التضخم من خلال الشكل التالي:

يوضح الشكل السابق ارتفاع مستويات التضخم منذ منتصف عام 2021 أي قبل أشهر من الحرب الروسية الأوكرانية، وبالفعل ارتفعت معدلات التضخم بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها من صدمات أسواق السلع الأساسية وارتفاع أسعار الطاقة في الأسواق المتقدمة، إلا أن التضخم في بريطانيا ظل أعلى مما هو متحقق في تلك الدول، وبسبب ارتفاع معدلات التضخم رفع بنك إنجلترا أسعار الفائدة إلى 3.5% في 15 ديسمبر بزيادة من 3.0% وكانت هذه هي الزيادة التاسعة على التوالي.

وبخصوص معدلات التوظيف: ظلّ معدل التوظيف في المملكة المتحدة دون تغيير عند 75.6% في نوفمبر من 75.6% في أكتوبر من عام 2022، وشهدت مستويات التوظيف تراجعًا من 76.3% في فبراير 2020 إلى 71.6% في ديسمبر 2020، لترتفع بعد ذلك لتصل إلى 75.9% في أبريل 2022، ويمكن متابعة تطور معدلات التوظيف من خلال الشكل التالي:

وارتفع معدل البطالة في الفترة من سبتمبر إلى نوفمبر 2022 بمقدار 0.2% ليصل إلى 3.7% بحوالي 1.3 مليون شخص عاطلين عن العمل، وارتفع عدد العاطلين عن العمل لمدة تصل إلى ستة أشهر مدفوعًا بمن تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عامًا. وخلال جائحة كورونا شهدت جميع الدول الكبرى تقلص قوتها العاملة، ولكن تعافت معظم الاقتصادات المتقدمة منذ ذلك الحين، إلا أنه لا يزال عدد العاطلين عن العمل في المملكة المتحدة يزيد بنحو 200 ألف عاطل عما كان عليه في ديسمبر 2019، وبلغ عدد العاطلين عن العمل 1.24 مليون شخص عاطل عن العمل في سبتمبر ونوفمبر 2022 بانخفاض 138 ألف عن العام السابق.

وفيما يتعلق بمعدل الأجور الذي يُعد الدافع الرئيسي لسلسلة الإضرابات التي أعلنت عنها عدة نقابات العام الماضي وبدايات العام الحالي، فنجد أنه واجه عمال القطاع العام الذين يمثلون حوالي سدس القوى العاملة أكبر انخفاض في رواتبهم على الإطلاق منذ فبراير مقارنة بالشهر نفسه من عام 2021، حيث أظهرت الأرقام الشهرية أن العجز بين نمو الأجور ومؤشر أسعار المستهلكين قد اتسع إلى 4.2%، ونمت الأجور الأساسية للعاملين في القطاعين العام والخاص بمعدل بطيء في الأشهر الأخيرة من عام 2022 لترتفع بنسبة 5.9% على أساس سنوي خلال الفترة من أكتوبر إلى ديسمبر، كما تراجعت قيمة الأجور مدفوعة بمعدلات التضخم المرتفعة، مع الإشارة إلى أن الانخفاض الحالي في الأجور الحقيقية ليس من المتوقع أن ينتهي حتى أواخر عام 2023. وبصفة عامة، لم يكتمل تعافي سوق العمل في بريطانيا بعد جائحة كورونا واستمرار ضعف الاستثمار والإنتاجية.

ومن هنا نلاحظ أنه تعددت أسباب الانكماش الاقتصادي الذي تشهده بريطانيا من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومن بعدها جائحة كورونا، وأخيرًا أزمة الطاقة الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية. وبالرغم من التحسن في أسعار الغاز العالمية والتراجع الطفيف في معدلات التضخم في بريطانيا، إلا أن التوقعات تشير إلى استمرار حالة الانكماش للاقتصاد البريطاني خلال العام الحالي وذلك مع تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي وتراجع معدلات الاستثمار والإنتاجية.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/32897/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M