تأملات قرآنية من الآية الثامنة من سورة فاطر

بهاء النجار

 

أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)

 

التأمل الأول :

من أسوأ ما يمر به الإنسان في مسيرته العقائدية والإيمانية أن يُزيَّن له سوء عمله فيراه حسناً ، لأن هذا الاعتقاد الخاطئ هو ضلال في الحقيقة ، ومثل هذا الشخص قد انعكست عنده الموازين وقُلِبَت عنده الصورة ، وبدأ برؤية اليمين يساراً واليسار يميناً ، والأسوأ من ذلك أنه يزداد في عمله السيء لأنه يظن  أنه حسناً .

وهذا ما يسمى ( الجهل المركب ) ، إذ أنه يجهل ويجهل أنه يجهل ، فيجهل أن عمله سيء ويجهل أنه يجهل لأنه يراه حسناً مع إنه سيء ، وفي هذه الحالة يكون الضلال في قمته ، وبالتالي فإن صعوبة هدايته تكون في القمة أيضاً ، كيف لا تكون شديدة الصعوبة وأن الله تعالى مُضلُّه ، فحتى التحسر – وهو محرّك لكثير من الأفعال – على ضلاله يكون لا داعي له فضلاً عن التفكير بهدايته والسعي لها .

 

التأمل الثاني :

ربما يتبادر الى ذهن البعض سؤالٌ : من الذي يميز العمل الحسن عن العمل السيء بحيث نعتبر العمل الحسن (ظاهراً) سيئاً في الحقيقة ؟

من الواضح أن الكل يتفق على أن هناك أشخاصاً يعملون سوءاً ولكنهم يظنون أن عملهم حَسناً ، ولكن الاختلاف يكون في تحديد الحسن والسيء بسبب اختلاف وجهات النظر والقناعات بين البشر ، فالمؤمنون مثلاً يعتبرون شرب الخمر والربا والتبرج أموراً سيئة ، بينما يعتبر الضالون هذه الأمور حسنة ، وبالنتيجة فإن لكل إنسان أو فئة من الناس مرجعاً في تحديد الحسن من السيء ، وعليه يرجع المؤمن الى القرآن الكريم والسنة المطهرة للنبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله ، ولكون الرجوع الى هذين الأساسين المباركين يحتاج الى عمق في التخصص فلا بد أن يرجع المؤمن الى الفقهاء المختصين ليعرف الحسن والسيء ، فيعمل الحسنَ حتى وإن اعتبره غيره سيئاً ويترك السيء حتى وإن اعتبره غيره حسناً .

 

التأمل الثالث :

إذا أردنا مناقشة الأسباب التي تجعل رؤى الإنسان منقلبة بحيث يرى سوء عمله حَسناً فيرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً كي يتجنبها فيمكن الرجوع الى الحديث الشريف المروي عن النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله : (( كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَدَ نِسَاؤُكُمْ وَ فَسَقَ شُبَّانُكُمْ، وَ لَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ لَمْ تَنْهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ؟!» فَقِيلَ لَهُ: وَ يَكُونُ ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اَللَّهِ ؟! قَالَ: «نَعَمْ، وَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ وَ نَهَيْتُمْ عَنِ اَلْمَعْرُوفِ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ ، وَ يَكُونُ ذَلِكَ؟! قَالَ: «نَعَمْ، وَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ اَلْمَعْرُوفَ مُنْكَراً وَ اَلْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً؟! )) ، إذ يؤكد الحديث الشريف أن ترك أسمى الفرائض وأشرفها وهي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – هذه الفريضة المظلومة المعطلة – عند ظهور بوادر الفساد والفسق في المجتمع فسيصل الأمر الى إنقلاب في الرؤية .

 

التأمل الرابع :

من طُرق الاستدراج الذي وعد به الله سبحانه أن يُزيّنَ سوء العمل للمُستدرَج فيراه حَسناً ، ويأتي الاستدراج بعد وصول الهداية الى طريق مسدود فيتحول المستدرَج الى طريق الضلال المفتوح والذي بتزيين العمل السيء سيبقى مفتوحاً الى ما شاء الله تعالى .

ولو أخذنا مقدمات وأسباب الاستدراج التي سبقت آيات الاستدراج لوجدناها عبارة عن تكذيب بآيات الله عز وجل والذي يشمل ما جاءت به السنة المطهرة من أحاديث وروايات ، ( فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَ?ذَا الْحَدِيثِ ? سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ) / (القلم 44 ) و ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ) / (الأعراف 182) ، ولو عَلِمَ المستدرَجُ أنه مستدرَجٌ وأن عمله السيء سيئاً وليس حسناً لانتبه لنفسه وترك السيء من العمل الى الحسن منه ، ولكنّ تكذيبه بأسس بيان السيء من الحَسَن من العمل جعله مُستدرَجاً .

 

التأمل الخامس :

(الزينة) مصطلح إن لم يكن مذموماً فهو ليس بممدوح ، بعكس (الحسن) الذي يعتبر ممدروحاً دائماً ، والتزيين في أحيان كثيرة يجعل ظاهر (المزيَّن) مخالفاً لحقيقته ولو بشيء بسيط ، كتجميل السيارات قبل بيعها والعرائس قبل زواجها وغيرها ، وعندما تُزال الزينة تظهر الحقيقة . وهناك عدة أطراف تزيّن العمل السيء ، منها النفس الأمارة بالسوء التي تحاول أن تظهر بمظهر العامل المحسن حتى عندما ترتكب السيئات ، ومن هذه الأطراف الشيطان سواء كان من الجن أو من الإنس ، والغاية من هذا التزيين خداع الشخص العامل للسيئات بأن عمله حَسنٌ ، لأن العقل والفطرة يحترمان العمل الحسن ويبغضان العمل السيء والعمل المزيَّن ، فهذا العامل لم ير عمله مُزيَّناً وإنما رآه حسناً ، ولو رآه مُزيَّناً لحاول التراجع عنه وتركه ، وهذا ما لا يخدم إبليس والنفس الأمارة بالسوء .

 

التأمل السادس :

تزيين السوء من العمل مستمر الى يومنا هذا وإلى ما شاء الله وغير مقتصر على صدر الإسلام ، فإلى الآن يضخ الإعلام ومن يقف وراءه أفكاراً لتزيين بعض الأعمال السيئة ، إذ يغلّفوها بعناوين براقة جميلة كي تكون حسنة ليتقبلها المغفلون والجهلة ، أما الواعون المتسلحون بالوعي القرآني فيميزونها ويعلمون أنها أعمال سيئة مُزيَّنَة وليست حسنة .

ومن هذه الأعمال دعاوى الحرية التي تغطي عشرات الأعمال السيئة كشرب الخمر والتبرج والشذوذ الجنسي وغيرها ، أو مناهضة العنف الأسري التي تستبطن التفكيك الأسري ، أو حقوق المرأة التي يستهدفون بها عفة المرأة وشرفها ودينها ، والديمقراطية التي سوِّقَت ليكون الحكم للشعب حتى لو كان مخالفاً لحكم الله عز وجل .

 

التأمل السابع :

إن من زُيِّنَ له سوء عمله بحيث يراه حسناً يحسب أنه يحسن صُنعاً ، فيزداد في عمله كمّاً ونوعاً ، وهو بهذه الحالة يزداد بُعداً ، كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام : ( العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق، فلا تزيده سرعة السير الا بُعداً ) ، ومن يزداد بُعداً عن الهدى يكون أكثر ضلالاً ، وبالتالي هو الأكثر خسراناً ، فأعماله السيئة – التي يراها حسنة – زادته خسراناً ولم تزده ربحاً ومكسباً ، وهذا الخسران في الدنيا لأنه سيجهد نفسه ويصرف أموالاً ويضيع وقته ، وفي الآخرة خسرانٌ فإن لم يدخل النار فلن يدخل الجنة ، وقد بيّن لنا القرآن الكريم من هم الأخسرون أعمالاً بشكل واضح وصريح ، وهم ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) .

 

التأمل الثامن :

عندما نجسّد سورة الفاتحة التي نقرأها في اليوم الواحد عشر مرات على الأقل فإننا يمكن أن نحمي أنفسنا من الإيهام الذي يزيّن للبعض أعمالهم السيئة فيصورها لهم أنها حسنة ، فالهداية الى الصراط المستقيم تكون خاضعة لمشيئة الله تعالى العاصمة من الوقوع في ما يغضبه سبحانه المانعة من الضلال ، وحاشا لله رب العالمين الرحمن الرحيم أن يخيّب عبداً يحمده ويستعين به من أن يهديه الى الصراط المستقيم الذي من خلاله يرى العبدُ العملَ السيءَ سيئاً والحسنَ حسناً ، بعكس من يرى عمله السيء حسناً .

وهذه إحدى بركات هذه السورة المباركة ، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن المصلّين الخاشعين في صلاتهم والمتدبرين لما يتلونه فيها بعيدون – بإذن الله – عن تزيين الأعمال السيئة فتكون حسنة .

 

التأمل التاسع :

النظرة الى سوء العمل وحسنه تكون أحياناً نظرة نسبية وليست مطلقة ، بمعنى أن العمل يكون سيّئاً بالنسبة للعمل الأحسن منه وقد لا يكون في ذاته سيئاً ، كما ويمكن أن يكون العمل حسناً إذا ما قارناه بالعمل الأسوأ منه وقد لا يكون في ذاته حسناً ، عند ذلك فإن البعض يُزيَّن له العمل الحسن الأدنى على أنه عملٌ حسنٌ أعلى .

أو أن يجعل المؤمن العمل الحسن غاية وليس وسيلة ، وهذا الأمر سيئاً ، فينبغي للمؤمن أن تكون غاية عمله الحسن هو الله سبحانه ومقدار ما يقربه هذا العمل منه عز وجل ، أو على الأقل تكون غايته الوصول مستوى إيماني عملي أرقى وأقرب الى الله تعالى .

نستنتج مما تقدّم أن المؤمن يمكن أن يُبتلى بتزيين الأعمال أيضاً وعليه أن يحذر .

 

التأمل العاشر :

إذا صنّفنا العمل الى دنيوي وأخروي ، فإن كان العمل سيئاً فهو عمل دنيوي حتى وإن زُيِّنَ لنا بحيث نراه حسناً ، وإن كان العمل حسناً فهو عمل أخروي حتى وإن حاول البعض التقليل من قيمته لنراه سيئاً ، فكيف نميّز العمل السيء من العمل الحسن كي نصنفه الى دنيوي وأخروي ؟

الجواب عند من صنّف الحياة الى دنيا وآخرة ، وهو شريعة الله السمحاء ، فما وصفته هذه الشريعة المطهرة بأنه سيء فهو عمل دنيوي ، والعمل الحسن أخروي ، وقد حذرتنا شريعة الإسلام من تزيين الشيطان لأعمالنا ، وبحُكم معرفتنا بالشيطان فإنه يزيّن الأعمال السيئة ليخدعنا بأنها حسنة لننشغل بزينة الحياة الدنيا فنضل عن الهدف الذي وضعها الله تعالى لنا وهو الآخرة .

 

التأمل الحادي عشر :

الضالون قسمان : الأول مضلل يضلل الآخرين ، ومما يقوم به هذا القسم هو تزيين العمل السيء للآخرين حتى يروه حسناً ، والقسم الثاني هو ضحية القسم الأول ، الذي قد يتمنى أن لا يكون من الضالين فضلاً عن سعيه – بعمد – لإضلال الآخرين ، ولكنه ضلّ بسبب تضليل المضللِين ، وبعض أفراد القسم الثاني مهما كان ضالاً ومنحرفاً إلا أنه يفكر ويسعى – بقصد – الى إضلال غيره .

لذا لا بد أن يتصدى الهاديون المهديون بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتزيين الإيمان لمعادلة كفة الضلال ليهدوا الضالين المضللَين (بالفتح) بل وهداية حتى المضللِين (بالكسر) كي يقطعوا أصل الضلال ، فإذا بقى المضللِون على تضليلهم سوف لن يتمكن الهاديون المهديون من القضاء على الضلال .

 

التأمل الثاني عشر :

هناك نوعان من التزيين ، تزيينٌ إيجابي من قبيل ( وَلَ?كِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) ويكون ذلك عندما يريد الله تعالى أن (يهدي من يشاء) ، وهو التزيين الذي يبتدئه الله تعالى تجاه عباده ، بل ويعطي ميزة أخرى ( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ? ) لتتم الهداية .

وهناك تزيينٌ سلبي من قبيل ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ) وهو تزيين إضلال ، وبناء الفعل (زُيِّنَ) للمجهول يشير الى أن الفاعل بالتزيين غير مُشخَّص ، أو لنقل هناك عدة مزيّنين ، فالنفس الأمارة بالسوء تزيّن الأعمال السيئة التي ترتكبها ، والشيطان يزيّن باعتباره ( عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) ، وعندما لم يستفد العبد من التزيين الإيجابي يزيّن الله تعالى التزيين السلبي حينما يريد أن (يضل من يشاء) ، كما في سنّة (الإستدراج) التي تكلمنا عنها في تأمل سابق .

 

التأمل الثالث عشر :

يبدو أن الحُسن أمر فطري ويقبله العقل ، بحيث من يريد أن يخدع أحداً ويضله يزيّن له عمله السيء كي يكون حسناً باعتبار العمل الحسن محبوب عند جميع البشر إلا أنهم يختلفون في المصاديق ، فبعض يعتبر التجارة أمراً حسناً والبعض الآخر يعتبر الربا أمراً حسناً ، وغير ذلك مما يختلف فيه المختلفون فكرياً ، ولو عَلِم الإنسان أن ما يراه أمرٌ مُزيَنٌ وليس حسناً لما قَبِلَه ولرفضه ، وكذلك بالنسبة للأمر السيء ، فكل الناس ترفض أن توصَف أعمالهم بالسيئة كما أنهم يحبون أن توصف بالحسنة ، لذا يأتي التزيين ليغيّر صورة السيء الى حسنٍ ، وهذا التزيين غير مقبول عقلياً لأنه شكل من أشكال الإيهام والخداع ، لأن فطرة الإنسان تميل لمعرفة الحقيقة .

أما الزينة والتزيين المحمود عقلياً فهو الذي يهدي الى الحقائق المغطاة بغبار التزييف والتضليل والإضلال ، خاصة إذا كان القائم بمهمة التزيين عليماً حكيماً لطيفاً رحيماً كتزيين الإيمان في قلوب الناس من قبل الله عز وجل .

 

التأمل الرابع عشر :

قد لا يتلفت بعض العاملين الحريصين على فعل العمل الحسن إلى أمرٍ وهو أن هذا الحرص يدفعهم الى أن يتولّد عندهم شكٌ في الأعمال الحسنة التي يقومون بها ، إذ أنهم يحتملون أن هذه الأعمال (الحسنة) أعمال سيئة زيّنها لهم الشيطان فرأوها حسنة ، وبالنتيجة أنهم يبدأون بترك هذه الأعمال الحسنة خوفاً من أن ينشغلوا بها ويتبين أنها سيئة فيما بعد .

هذا الفعل يمكن أن يكون مبرراً وصحيحاً إن كانت هناك أعمال بديلة يضمن العامل أن تكون حسنة وإحتمال كونها أعمالاً سيئة مُزيَّنة من قبل الشيطان إحتمال ضعيف ، فيترك الأعمال ذات الاحتمال الأكبر لصالح الأعمال ذات الاحتمال الأضعف ، أما أن يكون البديل هو الترك العمل لمجرد إحتمال فهذا غير مبرر وغير مقبول ، وكان الله في عون العاملين .

 

التأمل الخامس عشر :

إن تزيين سوء العمل للإنسان حتى يراه حسناً يكون عادة نتيجة لأفعال ذلك الإنسان وليس رغماً عنه ، لأنها حالة مأساوية – على المستوى الأخروي – ولا يُعقَل أن يمر الإنسان بهذه الحالة من دون إرادته لأن الله تعالى أرحم وألطف بأن يترك عبده يضل بهذه الطريقة وهو – أي العبد – متمسك بربه .

ومع هذا كله فإن المؤمن الرسالي عندما يرى مثل هذه الحالات المؤلمة يتحسّر عليها بل يكاد يموت حسرات عليها أسوة برسوله الكريم صلى الله عليه وآله ، فإذا كان التحسّر على ضلال جاء بإرادة الضال فكيف يكون التحسّر على من يقع ضحية للتضليل ومن دون قصد ؟ بالتأكيد سيكون التحسّر أكبر ، فهنيئاً لمن ذاق طعم الحسرات على ضلال الضالين .

 

التأمل السادس عشر :

التحسّر على ما وقع فيه أولئك الذين زُيّنَ لهم سوء أعمالهم فرأوه حسناً يمكن أن يكون من باب التعاطف والشفقة عليهم لما يحمله الإنسان من عواطف تجاه أخيه الإنسان ، وعدم حمل هذه المشاعر إما لعدم فِهم حجم المصيبة التي وقع فيها أولئك المزيَّنة أعمالهم أو أن هناك خللاً في قلوبهم بحيث تحتاج الى مزيد من الرأفة والرحمة تجاه أبناء جنسهم .

أما إذا حكّمنا العقول فسوف نجد أن ما وقعوا فيه هو نتيجة طبيعية لأفعالهم ، وليس من المنطقي أن يفعل الإنسان ما يريد من دون نتائج سلبية لأفعاله ، لذا يكون التحسر العقلي على فوات فرصة هدايتهم ، كما روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله عندما رآى جنازة يهودي قال : نفس أفلتت منّي إلى النار .

 

التأمل السابع عشر :

إن التزيين يكون للسوء من الأعمال كي يراها صاحبها حسنة ، أما الحسن من هذه الأعمال فلا تُزيَّن لها، إذ لا داعي لتزيين عمل أصله حسن ، ووفق ذلك يمكن تقسيم البشر الى أقسام :

1) الأول : مَن كلُ أعمالِه سيئة ويرى جميعها حسنة – والعياذ بالله – وهذا أسوأ الجميع .

2) الثاني : وهو فرع من الأول ، إذ أن جميع أعماله سيئة ولكنه يرى بعض هذه الأعمال سيئة ، والمزَيَّنة منها يراها حسنة .

3) الثالث : مَن أن أعماله سيئة وحسنة ( وهذا حال أغلبنا إن لم نقل جميعنا ) ، ومن هؤلاء مَن زُيِّنَ له كل سوء عمله فرآه حسناً ، مع بقاء البعض الحسن حسناً .

4) الرابع : وهو فرع من الثالث ، إذ أن أفراد هذا القسم يرون بعض سوء أعمالهم سيئاً كما هو ، والبعض الآخر من سوء أعمالهم يرونه حسناً بسبب تزيينه .

5) الخامس : وهو الأرقى والأكمل وهو القسم الذي لا سوء في أعمالهم ، وبالتالي لا تزيين لأعمالهم ، فيرى الحسن حسناً والسيء سيئاً ، وهم المعصومون .

 

التأمل الثامن عشر :

عندما يشاء الله سبحانه أن يضل أحداً فليس لعداوة معه ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، وإن أراد أن يهدي أحداً فليس لقرابة معه ، وإنما يكون الإضلال والهداية مبنياً على أسس ومعلومات ، فَعِلمُ الله عز وجل بما يصنع البشر أحد أسس الإضلال والهداية ، ولو أن الله جل جلاله لا يعلم بما يصنعون لكان إضلال البشر وهدايتهم محل إشكال ، وبعبارة أخرى أن من يطرح هذا الإشكال غافل أو غير مؤمن بأن الله تعالى عليم بما يصنع الخلق .

بالنتيجة فإن الإنسان هو من يحدد ضلاله وهدايته من خلال ما يصنعه من صنائع وأفعال ، ومن خوّله بهذا التخويل وأعطاه هذه الصلاحية هو الله جلّ شأنه ، وهو فهمٌ آخر لمعنى إضلال الله سبحانه للبشر وهدايته لهم .

 

التأمل التاسع عشر :

تُرى هل يمكن أن يتخلق المؤمن بأخلاق الله في موضوع إضلال من يشاء وهداية من يشاء ؟

في البداية لا بد أن نعلم أن التخلق بأخلاق الله لا يعني أن نكون مثله سبحانه الذي ليس كمثله شيء ، ولكن أن نحاول التحلي بالأخلاق الإلهية بقدرنا ، عند ذلك سنرى من الممكن – من حيث المبدأ – التخلق بصفتي الهداية والضلال ، وربما لا اعتراض على أن يكون المؤمن هادياً للآخرين خاصة وأن من أُمِرنا أن نتأسى به صلى الله عليه وآله كانت من صفاته (الهادي) ، أما المشيئة فينبغي أن لا تكون وفق الهوى ، وإنما وفق الشروط المتوفرة لتحقيق الهداية . أما الإضلال فلا يكون بالمباشر وإنما يكون مثلاً بإلقاء الحجة على الآخرين فإن أخذوا بها صاروا مهتدين ، وإن لم يأخذوا بها صاروا ضالين ، وهذا وجه من أوجه فِهم الحديث الشريف ( يا علي أنت قسيم الجنة والنار ) وذلك لأنه حجة الله على الناس .

 

التأمل العشرون :

لو أردنا دراسة أسباب تزيين العمل السيء التي تجعله حسناً في نظر صاحبه سنجد أحد هذه الأسباب هو مرض (العُجب) الذي يقع فيه الكثيرون إلا عباد الله الخُلّص ، فالعُجب يصوّر العمل أكبر من حجمه ، إذ يجعل العمل البسيط (الحسن في الأصل) عظيماً ، وبالتالي ستتحول ثمرة هذا العمل (الحسن) الى ثمرة سيئة بدل أن تكون ثمرة حسنة، ولكن هذا المعجب بعمله لا يرى هذا الشيء لأنه تحت خدر (العُجب) ، وما يراه أنه عملٌ حسنٌ .

وكعلاج أولي … علينا أن نستصغر كل عمل نعمله لنواجه آفة (العُجب) التي قد تصيب قلوبنا من حيث لا نشعر ، وأن نحتمل أن تكون أعمالنا الحسنة هي سيئة ، فكل عامل منا قد يكون عمله الذي يراه حسناً هو في الحقيقة سيئ قد زُيِّنَ له والعياذ بالله .

 

التأمل الحادي العشرون :

بعض المؤمنين من حيث لا يشعرون – إما لغفلة أو لقلة وعي أو لجهل – يركّزون على المستحب أكثر من تركيزهم على الواجب ، وبالتالي يقدّمون المستحب على الواجب ، أو يقدّمون الواجب القابل للتأخير ( غير العاجل ) على الواجب العاجل غير القابل للتأخير ، كما يفعل بعض الموظفين من أداء الصلاة أثناء العمل مع وجود عمل غير قابل للتأجيل أو أن في تأجيله ضرراً على الشركة أو المؤسسة التي يعمل فيها أو على المراجعين من المواطنين .

ومثل هذا التقديم إنما هو تزيين للعمل الأدنى والأقل أهمية فيراه حسناً معتقداً أنه أفضل وأحسن ، وهذا يعني أن المؤمنين بغير مَأمَنٍ من التزيين الذي قد يُوقِعُهم في محاذير شرعية ليست بالهينة ، كالتورط بالتقصير بحق المجتمع مقابل الإلتزام بواجب فردي يمكن أداؤه ولو بعد حين .

 

التأمل الثاني العشرون :

يقع الشباب في أحيان كثيرة في مصيدة تزيين الأعمال السيئة ظانين أنها حسنة ، إذ يستغل الشيطان هذه المرحلة الانتقالية لتكوين الشخصية لإيهامه بأنه أصبح رجلاً كامل الأهلية لاتخاذ القرارات الصعبة والمهمة ، ويصل خداعه الى درجة أنه يرى نفسه متفوقاً حتى على أبيه في القدرة على إدارة الأزمات والأمور المصيرية .

ولا يمكن أن ينكر أحدٌ أن للشباب الحيوية التي لا تمتلكها فئة عمرية أخرى ، وكما أنهم تميزوا بهذه الميزة فإن الفئات العمرية الأخرى يتميزون بميزات أخرى ، وخصوصاً من هم أكبر سناً الذين يمتلكون من الخبرة في الحياة ما تفوق الخبرة عند الشباب ، ويإمكانهم أن يزيلوا بعض هذا التزيين لدى الشباب بشرط أن يقبل الشباب بنصيحتهم . وفي الوقت نفسه قد يُزيَّن للكبار سوء أعمالهم فيظنون أنهم حكماء فيفرضون على الآخرين آراءهم ، وبالتالي على الجميع أن يضع في حسبانه أن رأيه صحيح يحتمل الخطأ وأن آراء الآخرين خاطئة تحتمل الصواب .

 

التأمل الثالث العشرون :

من النماذج القرآنية التي بيّنها لنا القرآن الكريم كمقدمات وأسباب لتزيين الأعمال السيئة هم المسرفون (

كذلك زُيّن للمسرفين ما كانوا يعملون ) ، فالمسرف يتصور أن ما يقوم به من إسراف أمرٌ حسنٌ ، والمؤمنون ليسوا بمأمنٍ من الإسراف ( وبالتالي تزيين الأعمال السيئة ) خاصة إذا اعتبرنا الإسراف مراتب ودرجات وليس منحصراً بالفاسقين أو المنافقين أو الكافرين . إذ نرى كثيراً من المؤمنين يسرفون في المال عندما ينفقونها في جانب من جوانب حياتهم ، كالإسراف على المأكل والملبس والمسكن ، إذ يُنفقون على هذه الجوانب أكثر من ما تستحق ، إذ يفهمون التوسعة على العيال أو إكرام الضيف مثلاً فهماً إسرافياً ، وبما أن صفة الإسراف مرفوضة قرآنياً ويمكن أن يُستدرَج بها الإنسان الى ما لا يُحمَد عقباه فيُفتَرض أن نهتم بها إهتماماً مناسباً ، فلا إفراط ولا تفريط ، بل أمرٌ بين أمرين .

 

التأمل الرابع العشرون :

بما أن الإسراف متعلقٌ بتزيين الأعمال ( كذلك زُيّن للمسرفين ما كانوا يعملون ) ، إذ أنه بلا شك يعتبر عملٌ سيء وفق المنظور القرآني إضافة الى المنظور العقلي ، فلا بد أن نهتم بالموارد التي يكون الإسراف فيها باباً من أبواب تزيين الأعمال ، وفي هذا المجال نرى التركيز غالباً على الإسراف في القضايا المادية كالأموال والطعام والملبس وما شابه ، ولكن نادراً ما يُطرَح الإسراف في القضايا غير المادية كالوقت مثلاً ، رغم أن الوقت أغلى من المال وباقي الأمور المادية التي نهتم بها ، وهذا بحد ذاته إسراف في الوقت ، لأن النظرة الهامشية للوقت تجعل الإنسان يقضيه في أمور غير ضرورية وقد تكون تافهة ، ولو سألنا هذا المسرف في الوقت عن سبب إسرافه ربما سيبرر إسرافه بأمور حسنة كصلة الرحم ونصرة الدين عبر النقاشات والإطلاع على ثقافات الآخرين وغيرها ، مع إن هذه الأمور رغم أهميتها إلا أنه يجب أن يكون لها وقتاً مخصصاً لا مفتوحاً ، لأن التكاليف الملقاة على عاتق الإنسان كثيرة وكبيرة لا يسعها عمره كله .

 

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :

https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M