تأملات قرآنية من الآية الثامنة من سورة سبأ

بهاء النجار

أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)

1) التأمل الأول :
هناك حقائق يذكرها القرآن باعتباره ناطقاً عن الله تعالى العالم بكل شيء ، وهذه الحقائق لا يمكننا معرفتها من غير القرآن الكريم ، ومن هذه الحقائق أن الذين لا يؤمنون بالآخرة يعيشون في العذاب والضلال البعيد ، وبما أن الإيمان بالآخرة درجات فإن العذاب والضلال الذي يعيشه غير المؤمنين بها درجات أيضاً ، تبدأ ذروته عند الذين لا يؤمنون بالآخرة بشكل مطلق ( وهم الكفار ) ثم يتناقص – العذاب والضلال – عند الذين يؤمنون بها بشكل ضعيف ، حتى ينتهي عند الذين يؤمنون بالآخرة بشكل مطلق .فليشكر المؤمنون بالآخرة ربهم جل وعلا لتخليصهم من العذاب والضلال البعيد .

2) التأمل الثاني:
الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بأن الله رب العالمين هو مالك يوم الدين ، ولأنهم يدركون أن من لا يؤمن بالآخرة في العذاب والضلال البعيد فإنهم يحمدونه تعالى على إيمانهم بالآخرة ، وهذا الإيمان بالآخرة ليس إيماناً شكلياً بل يتطلب من المؤمن أن يترجمه الى عبادة لله سبحانه وطاعة له كي يُثبت إيمانه بالآخرة ، وإلا ما فرق المؤمن عن غير المؤمن إن لم يكن لله عابداً مطيعاً ؟! كما يتطلب هذا الإيمان استعانة بالله جلّت قدرته ليتمكن من طاعته وعبادته لينعم الله عليه بالهداية ليكون من غير المغضوب عليهم فيستحق العذاب ، ولا من الضالين كونه في ضلال بعيد .

3) التأمل الثالث :
علينا أن ندرك أن الصراط المستقيم هو الذي ينجينا من العذاب الدنيوي والأخروي بسبب الضلال البعيد ، هذا الصراط الذي أنعمه الله تعالى على المعصومين لأنهم لم يكونوا يوماً مغضوباً عليهم أو ضالين ، ومن يهتدي لهذا الصراط فسينجو من الغضب الإلهي الذي يوجب العذاب – سواء في الدنيا وفي الآخرة – ، وبحسب هدايته ستكون نجاته ، فكلما كانت هدايته كبيرة كانت فرصته في النجاة كبيرة ايضاً والعكس بالعكس ، وإذا قلّت هدايته زاد ضلاله حتى يكون ضلاله بعيداً عندما تكون هدايته صفراً .

4) التأمل الرابع :
هناك ضلال بعيد وعميق وضلال غير بعيد يمكن تداركه وحلّه ، أو بعبارة أخرى هناك عدة مستويات للضلال أعلاها يكون بعيداً وعميقاً ثم تتدرج بالنزول الى أن يكون الضلال صفراً أو غير موجود ، ولكل مستوى من مستويات الضلال عذاب يناسبه ، فالضلال البعيد – كضلال غير المؤمنين بالآخرة – يستحق عذاباً مضاعفاً وكبيراً وأكبر من المستويات الأدنى من الضلال ، وقد يكون العذاب دنيوياً وأخروياً ، بينما من يؤمن بالآخرة يمكن أن يكون عذابه دنيوياً فقط أو أخروياً فقط .
والضلال البعيد يمكن أن يكون لغير المؤمن بالآخرة لا نظرياً ولا عملياً ، وهناك من يؤمن بها نظرياً لا عملياً
فهو أقل ضلالاً .

5) التأمل الخامس :
قد يقتنع الكثيرون مِن أنّ مَن لا يؤمن بالآخرة في ضلال بعيد ولكنهم قد يستغربون من أنهم في العذاب ، فأي عذاب هم فيه ونراهم يعيشون في بيئة جميلة وراقية تجذب النفوس ؟! وفي الوقت نفسه أن الأعم الأغلب مِن مَن يؤمن بالآخرة في عذاب نفسي ومعيشي واجتماعي وسياسي !
القرآن الكريم مستودع الحقائق المعرفية يحل لنا هذا الاستغراب ، إذ يبيّن لنا أن الكافرين – ومنهم مَن لا يؤمن بالآخرة – يألمون كما يألم المؤمنون ، ولكن الفرق أن المؤمنين يرجون من الله ما لا يرجاه الكافرون ، وبالتالي فأيهم أفضل من يألم ويرجو أم من يألم ولا يرجو ؟

6) التأمل السادس :
العذاب الدنيوي يمكن أن يكون على شكل بلاء ، فبعضٌ بلاؤه المرض والفقر والجهل والظلم وما شابه وهو حال أغلب المؤمنين بالآخرة ، ومع هذا فما دام هؤلاء المؤمنون يؤمنون بأن هذه الحياة محدودة ولا بد أنتنتهي وسيجازون على صبرهم على هذا البلاء فإن ذلك سيُخفَّف عنهم .
أما من لا يؤمن بالآخرة فليس من السهل أن يعيش براحة إن كان يرى عمره محدوداً بسنوات معدودة ، فيكون بلاؤه الهمّ والغمّ الناتج من انعدام القناعة فيطمع في حقوق الآخرين ليسلبها ، لذا فليس من الغريب أن يكون بلاء المؤمنين بالآخرة هو بسبب من لا يؤمن بها ، وهذا هو الضلال البعيد .

7) التأمل السابع :
من يظن أن رسالة الرسول صلى الله عليه وآله – وعموم الرسل عليهم السلام – افتراءاً من عنده أو يعتقد أن به جِنّة – وحاشاه – فهو في الحقيقة لا يؤمن بالآخرة ، وهذه مبررات ليخدع نفسه ويسمح لها بارتكاب الظلم والفواحش ، وإلا ما دام هناك دليل وحجة على رسالته وعلى رجاحة عقله فلا يمكن لأحد أن لا يقبل بما جاء به .
لذلك نجد أصحاب هذه المبررات يواجهون الدين ومن ينتمي للدين من أشخاص وعناوين حتى قيل ( أن الدين أفيون الشعوب ) لأنهم يعتبرونه افتراءاً وضرباً من أضراب الجنون التي تخدّر عقول الشعوب ، وهذا ضلال بعيد جعلهم يعيشون بعذاب الحسد .

8) التأمل الثامن :
إتهام الرسول صلى الله عليه وآله بالإفتراء لم ينحصر بشخصه الكريم بل شمل أوصياءه وأتباعه وكل من يحمل همّ رسالته من الرساليين ، لأن المتهِمين يعلمون أن ورثته سينقلون تراثه الى العالم ، بل وصل الأمر الى أن بعض أتباعه يتهمون أتباعه الآخرين بالإفتراء .
ولكون الإفتراء كحالة موجود لا يمكن نكرانها لوجود النفس الأمارة بالسوء ، وتعميمها على الجميع يعكس عمق الضلال الذي يعيشه المتهِمون والعذاب النفسي الذي يعيشونه ، لذا لا بد من وضع حلٍ لذلك ، ويكمن الحل في أن يدخل المتهِمون الى المدارس العلمية لِوَرَثةِ الرسول صلى الله عليه وآله ويتحرّون عن مكامن الإفتراء إن وجدت ، وإلا فليتركوا هذا الإتهام إن كانوا يريدون التخلص من ضلالهم البعيد .

* مشاركتها ثواب لنا ولكم

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M