تأملات_قرآنية من الآية السابعة والثلاثين من #سورة_فاطر

وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (37)

التأمل الأول :
إذا لم يكن يوم القيامة للظالمين من نصير فهل يمكن أن يكون في الدنيا للظالمين من نصير ؟ بالتأكيد لا ، فمن كان في هذه – أي الدنيا – أعمى فهو في الآخرة أعمى ، ومن كان للظالمين نصير في الدنيا فسيكون ظالماً أيضاً ، وقد يكون له في الدنيا نصير ولكن لن يجد له في الآخرة نصيراً .
أما المؤمن فلا ينصر الظالمين ، بل ويفضِّل أن يصطرخ في دنياه من الآلام على الرفاه الذي يكون نتيجة لنصرة الظالمين ، لأنه متذكّر عندما جاءه النذير ، سواء كان هذا النذير هو النبي محمد صلى الله عليه وآله أو من ينوب عنه ، بعكس الذي لم يستفد من النذير وفضّل الرخاء في ظل نصرة الظالمين ، ولم يتذكر بأنه سيصطرخ يوم القيامة من العذاب الأليم .

التأمل الثاني:
إن اللهَ ربُ العالمين ، ربُ الظالمين وغير الظالمين ، وهو الرحمن الرحيم ، قد يُحرَم الظالمون من رحمته الرحيمية بسبب ظلمهم ، ولكن رحمته الرحمانية تسع الجميع بما فيهم الظالمون ، ومع هذا فإنهم عندما يدعون ربهم جل وعلا ليخرجهم مما منه يصطرخون ليعملوا صالحاً لا يستجيب لهم بل ويأمر بأن يذوقوا العذاب ، لأنهم ظلموا أنفسهم ولم يتذكروا عندما جاءهم النذير محمد صلى الله عليه وآله ، وأهم ما جاء به هو أن يعبدوا الله سبحانه ويستعينوا به على السعي للهداية الى الصراط المستقيم ، ومن لا يهتدي الى الصراط المستقيم بملئ إرادته يكن من المغضوب عليه ومن الضالين ، وهؤلاء بلا شك سيذوقون العذاب ولا ينصرون لأنهم ظالمون .

التأمل الثالث:
البعض يفكّر بالنصر في الدنيا وآخرون يفكرون بالنصر في الآخرة ، فضلاً عن النصر في الدنيا والآخرة ، فما دام الإنسان غير ظالم في الدنيا فلا يهمه إن انتصر في الدنيا أم لم ينتصر ، سواء كان النصر عسكرياً أم سياسياً أو انتخابياً أم اقتصادياً ، المهم عنده أنه في الآخرة منتصر أو على الأقل لا يذوق الاصطراخ في العذاب .
وكخطوات عملية للابتعاد عن الظلم هو التذكر بما جاء به النذير صلى الله عليه وآله ومن سار على نهجه في النذر ، إذ أنذرنا بأن لا نكون ظالمين ولو بمقدار مثقال ذرة لأننا سنرى بقدره شراً ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) فضلاً عن الظلم العظيم ، وبالتالي فإن الانتصار على النفس في ساحة الجهاد الأكبر هو الابتعاد عن ظلمها بالمعاصي ، ومن انتصر على نفسه سوف لن يرى عذاباً حتى يصطرخ فيه .

التأمل الرابع:
إذا انتصر الكافرون في معركة ، سواء كانت معركة عسكرية أم إعلامية أو اقتصادية أو سياسية أو تكنلوجية غيرها ، هل يدل هذا على أن المشركين على حق ؟! لا يوجد مسلم حقيقي يقول (نعم) ، ولو أنهم انتصروا في الآخرة لكانوا على حق ، ولكن لا نصير للكافرين كما أن الظالمين لا نصير لهم ، باعتبار ( والكافرون هم الظالمون ) كما يشير ذلك القرآن الكريم ، ومن كان للكافرين والظالمين نصيراً في الدنيا فليأخذ أجر نصرته لهم في الآخرة .
وأن انتصار الكافرين والظالمين في الدنيا لا يعني أن الله تعالى نصرهم ، إذ لا دليل على ذلك ، لأنه سبحانه جعل الدنيا سباقاً للإنسان ، وهداه النجدين إما شاكراً أو كفوراً ، والكافرون والظالمون اختاروا طريق الكفر على طريق الشكر .

التأمل الخامس:
إن النذير صلى الله عليه وآله أنذرنا بأن في يوم القيامة يُثاب مَن يعمل صالحاً ويعاقَب مَن يظلم ، فمن آمن بهذه النذُر وتذكر آمن بيوم القيامة ، وبالتالي لا يمكنه أن ينصر الظالمين لأنهم معاقَبين وسيصطرخون من عذابهم نستجير بالله ، وإلا سيكون مثلهم ومعهم .
وهنا تُوجّه الأسئلة الى من يدّعون أنهم مؤمنين بيوم القيامة : هل تعلمون أن تشريع قانون لا يوافق الشريعة الإسلامية يعتبر ظلماً ومن يسعى الى هذه التشريعات يكون من الظالمين ؟ وأن من يقف مع هؤلاء وينصرهم وينصر قوانينهم يعتبر من الظالمين أيضاً ؟ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

التأمل السادس:
ينحصر الظلم في تفكير الكثيرين بالحاكم الظالم ، وأسوأ من ذلك أنهم يحصرون ظلم الحاكم بظلم حكّام بلادهم ، ويغفلون عن الظلم الذي يسود العالم ، مع إن الجميع متفقون على أن العالم أصبح قرية صغيرة ، وأن العولمة هي أحدى نتائج تلك القرية الصغيرة ، ولكون العولمة اليوم تقاد من دول بعيدة عن الإسلام بل ومعادية للإسلام في كثير من مبادئها وأسسها ، فإن من مصاديق الحاكم الظالم في وقتنا الحالي هي الدول المسيطرة على العالم والمؤثرة عليه بشكل كبير خاصة بعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي ، وعليه فإن من ينصر هؤلاء سياسياً او اقتصادياً أو ثقافياً أو في أي مجال آخر سيكون ظالماً لا ناصر له يوم القيامة وسيصطرخون من عذاب يومئذ .

التأمل السابع:
هناك ثقافة خاطئة منتشرة بين المؤمنين وهي التركيز على العلاقات الاجتماعية حتى لو كان هناك تقصير في العلاقة مع الله تعالى ، فمثلاً يُقيَّم الإنسان بحسب تعامله مع المجتمع فإن كان محسناً فهو عند الله مرضي وإن لم يكن كذلك فهو ظالم ، بغض النظر عن علاقته بربه عز وجل ، حتى لو كان مشركاً ، مع إن القرآن يصرّح بشكل صريح ( إن الشرك لظلم عظيم ) ، وهذا الظلم سيؤدي الى عذاب عظيم يصطرخ منه المشركون ولا نصير لهم يومئذ منه ، لأنهم من أوضح مصاديق الابتعاد عن التذكر لما جاء به النذير من المرسلين .
فلا إفراط بالعلاقة مع المجتمع ينتج عنها تفريط بالعلاقة مع الله سبحانه ، ولا العكس ، وإلا فهو ظلم أيضاً .

التأمل الثامن:
من الاستراتيجيات التي ينبغي أن يركّز عليها المؤمن هو الاهتمام بالحقائق الأخروية وعدم توفير أسبابها في الدنيا ، لأن أعمالنا الدنيوية ستتجسد بشكل أو بآخر، مثالها أن من يأكل مال اليتيم ظلماً فإنه يأكل في بطنه ناراً ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ) ، هذا يعني أن من لا يريد أن يأكل ناراً في الآخرة فعليه أن لا يأكل مال اليتيم ظلماً .
وعليه فمن أراد أن يخرجه ربه من عذاب الاصطراخ ليعمل صالحاً فليخرج من عذاب المعصية والانحراف وذل طاعة النفس الأمارة بالسوء وليعمل صالحاً ، ومن أراد أن يكون له نصير في الآخرة فعليه أن لا يكون نصيراً للظالمين في دنياه ، وهكذا .

التأمل التاسع:
في البداية لا بد أن نقر بأننا جميعاً ظالمون ، ولكن يبقى مستوى الظلم مختلف بين شخص وآخر ، فشخص ظلم نفسه بمقدار ضئيل وقد لا يكون بارتكاب محرم ولكن كان بإمكانه أن يطوّر نفسه ولم يطورها ، وتوقف عند هذا الحد من الظلم ، والبعض الآخر ظلم نفسه بالمعصية ، وبعض آخر ظلم نفسه بظلمه للآخرين ، وهناك من ظلم نفسه باتخاذ عقيدة فاسدة ومنحرفة ، وهكذا هي مستويات الظلم .
ولكي نقلل من مستوى ظلمنا ونحصل على فرصة أكبر من النصرة يوم القيامة وتخليصنا من مستويات الظلم العليا والاصطراخ من العذاب المناسب لها فلا بد أن نتذكر ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ، كل واحد منا يُذكّر نفسه فيتذكر، ثم يذكّر الآخرين فيتذكروا كي يبتعدوا عن الظلم ، وهو لون من ألوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

التأمل الثامن:
النذير هو من ينذر الآخرين وبكثرة وربما بشدة في بعض الأحيان إن تطلب الأمر ، وعادة ينذرهم ويحذرهم ويخوفهم من أمرٍ خطير إن ارتكبوه فستكون عاقبتهم مأساوية كالاصطراخ من عذاب الله جل جلاله ، وهذا ما تشتمل عليه فريضة النهي عن المنكر الذي يؤدي الى مصير سيء .
والمفروض أننا نتذكر إن أنذرنا نذير ، باعتباره ناصح لنا ومنقذ ، خاصة إن كنا نعلم بصلاحه وصدقه وأمانته كما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله الذي لقّبه قومه بالصادق الأمين ، الذي أنذر حتى عشيرته الأقربين ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ولكن لم يتذكروا ، وهذا من أسوأ اشكال الظلم ، لذا فإن دخولهم للنار وعدم إخراجهم منها ومنع نصرتهم كانت نتيجة طبيعية لذلك الظلم .

التأمل التاسع:
إن من يتبنى منهج الإنذار ويريد أن يكون نذيراً متأسياً بالبشير النذير محمد صلى الله عليه وآله فعليه أن ينطلق من منطلق الرحمة لهذه الأمة ، كي لا يصطرخون من العذاب ، يومئذ لا تنفع دعوات الإخراج من النار للعمل الصالح ، وحرصاً عليهم ورأفة بهم كي لا يكونوا من الظالمين ، يوم لا نصير لهم ، وهذه الرحمة هي المحرك الأساس لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليست القسوة والشدة كما يصورها بعض الجهلة وينقلها المغرضون ، وإن لم يتذكر الناس لهذا الإنذار فلا بد من تغيير الأسلوب والآلية وأن لا يكلّ أو يملّ ويترك هذا العمل المبارك لتكتمل صورة التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله الذي كان طبيباً دوّاراً بطبه .

التأمل العاشر:
إن الربوبية مرتبطة بالرحمة – رحمانية كانت أم رحيمية – كما نرى ذلك في سورة الفاتحة ، إذ أُلحِقَت الرحمة مباشرة بالربوبية ، ونرى ذلك أيضاً عند رب الأسرة الذي يكون عادة رحيماً بأسرته ، يريد الخير دائماً لهم إلا من شذّ وندر ، وهذا ما ينبغي أن يتمتع به رب العمل ، فمن الضروري أن يراعي موظفيه وعُمّاله ويعطف عليهم ويداري شؤونهم ويتفقدهم ، وأن لا يكون همّه امتصاص كل طاقتهم وكأنهم آلات ومعدات .
لذا فإن الظالمين الذين يصطرخون من العذاب ينادون الله عز وجل بربوبيته لشعورهم بأن هذه الربوبية ترافقها الرحمة الرحمانية ، ولكن هيهات هيهات ، فقد جاءهم نذير ولم يتذكروا عندما كانت الرحمة الرحمانية والرحيمية بمتناول أيديهم ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .

التأمل الحادي عشر:
إن الإنسان العامل يكون مُحترَماً في مجتمعه وحتى عند باقي المجتمعات ، بحيث نفضله على غير العاملين من أبناء مجتمعنا ، ولكن يا ترى هل كل عامل مجد في عمله ينبغي احترامه ؟ بالتأكيد (لا) ، وإنما يكون الاحترام لمن يعمل صالحاً ، أما من يعمل عملاً غير صالحٍ فينبغي أن لا نحترمه حتى لو كان مجداً في عمله ، بل إن جِدَّه في عمله غير الصالح يزيد من بعده عن جادة الصواب .
ومعايير صلاح العمل من وجهة نظر قرآنية هو أن ينقذ صاحبه يوم القيامة من العذاب ، وبلا شك فإن الأعمال المخالفة للشريعة تكون غير صالحة ، لذا علينا عرض عمل العاملين المجدين على الشريعة فإن وافقها فنحترم العمل والعامل ، والعكس بالعكس ، عندها سنصل الى نتيجة قد يستغرب منها البعض ، أن العامل غير المجد الذي يعمل عملاً صالحاً أفضل من العامل المجد الذي يعمل عملاً غير صالحٍ .

التأمل الثاني عشر:
لا بد من لفت انتباه بعض المؤمنين الغافلين الذين يعملون عملاً ، أساسه وظاهره صالح إلا أن حقيقته ظلمٌ ونصرة للظالمين ، ولا نريد البحث من الناحية الفقهية وإنما من الناحية الأخلاقية ، فكثير من المؤمنين يحصلون على شهادات عليا ومهارات فنية مميزة ويعملون بإتقان عند جهات ( جامعات أو شركات أو ما شابهها ) واردتها وأرباحها تصب في جيوب الظالمين ، فهؤلاء أمامهم طريقان للتخلص من الورطة التي يمكن أن يورطوا بها أنفسهم يوم القيامة :
1) أن لا يعملوا مع هذه الجهات ، وأن يميلوا للعمل مع الجهات التي تكون أقل خطراً وشراً وظلماً ، والأفضل أن يكون العمل مع جهات غير ظالمة .
2) أن يجعلوا عملهم مشروطاً ، فيعملوا إن كانت فائدتهم ومكسبهم من هذا العمل أعلى من فائدة ومكسب تلك الجهات جراء العمل معهم ، وأن تُسخَّر الفائدة من عملهم هذا لنصرة الجهات غير الظالمة .

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M