تجسس ـ عملاء الصين يخترقون ألمانيا!

تختبر العلاقة بين الاستخبارات الصينية والألمانية مناطق مختلفة من التفاعل تتراوح بين الاتفاق والاتهامات المتبادلة والمُواءمة أحياناً، ولكنها ترتبط أساساً بسياقات اقتصادية واستثمارية تحكم علاقة الطرفين بما لا يسمح بالنفور من منطقة الوسط، وهو ما ظهر جلياً في تداعيات صفقة الاستثمار بين شركة هواوي وألمانيا.

راجعت الشرطة في ألمانيا يوم 25 أكتوبر 2022 إمكانية إقامة الصين مكتب غير مرخص من أجل دعم عمل الشرطة الصينية في فرانكفورت. وكانت وسائل إعلام هولندية نشرت يوم الأربعاء الماضي أن الصين أقامت مكاتب شرطة غير قانونية في أمستردام وروتردام. تحقق السلطات الألمانية فيما إذا كانت الحكومة الصينية تدير مركز شرطة غير قانوني في فرانكفورت. وقال متحدث باسم وزارة الداخلية في ولاية هيسن بوسط البلاد يوم 29 أكتوبر 2022 “إن سلطات هيسن تبحث فيما إذا كان مثل هذا المكتب الخدمي أو مركز الشرطة الصينية موجودًا في فرانكفورت”. ويشارك مكتب الشرطة الجنائية بالولاية ومكتب حماية الدستور (المخابرات الداخلية) في هذا التحقيق. وقالت وسائل الإعلام أن هناك مكاتب شرطة مماثلة في عدة دول أخرى يمكن لأبناء الشعب الصيني تجديد رخص القيادة الخاصة بهم في هذه المكاتب، ولكن يجب على المكاتب أيضًا تسهيل عمل الشرطة الصينية في الخارج وجمع المعلومات.

عملاء الصين داخل ألمانيا

في ضوء المنطقة الوسطية حتى الآن بين استخبارات البلدين، فأن ألمانيا كشفت خلال الأعوام القليلة الماضية عدد من الاختراقات لأمنها القومي والرقمي. الاستخبارات الألمانية كشفت استخدام الاستخبارات الصينية لحسابات مزورة على موقع التواصل الاجتماعي الخاص بنشر السير الذاتية (linked in) لجمع المعلومات عن ساسة ألمانيا واختراق حسابات أكثر من عشرة الاف مواطن ألماني بغية تجنيدهم لصالحها ما فسرته ألمانيا بأنه تخريب لسياستها.

زعم عدد من الشركات الألمانية الكبرى مثل Siemens ، Henkel، BASF  قد تعرضت لهجمات سيبرانية عبر مجموعة برامج ضارة تعرف بـ(وينتي) متهمين الصين بتنفيذ الهجوم، الأمن الألماني داهم مكاتب ومنازل ثلاثة عناصر يشتبه في تورطهم بالتجسس لصالح الصين، أحدهما مواطن ألماني كان  يعمل كدبلوماسي في الاتحاد الأوروبي، وهي القضية التي اعتبرها البعض الأكثر إثارة ضمن ما كشف مؤخرًا.

 الاستخبارات الصينية والألمانية

برز التشعب الاستخباري بين البلدين على أوجه في معركة شركة الاتصالات الصينية هواوي وتصاريح بناء شبكات الجيل الخامس (G5) في ألمانيا، ففي مايو 2019 أكد رئيس الوكالة الفيدرالية للشبكات الألمانية يوخن هومان أن بلاده لن تستبعد هواوي من الشركات المصممة لشبكة الجيل الخامس إذ لا تتوافر أي معلومات مؤكدة على تهديد الشركة للأمن السيبراني والمعلوماتي لألمانيا، وتبعه في ذلك فرنسا والمملكة المتحدة، بحسب رواية شبكة الأخبار يورو نيوز.

الأمر الذي أجج الخلاف بين دول الاتحاد الأوروبي وبالأخص ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية التي أقصت هواوي من تفعيل خدمات الجيل الخامس بالبلاد، معللة ذلك بعلاقتها بالاستخبارات الصينية، وأن بكين تستخدمها بالأساس لإدارة التجسس عالمياً، وفي ضوء ذلك صعدت واشنطن إجرائتها ضد الشركة في مايو 2020 لتمنع صناع أشباه الموصلات ممن يستخدمون التكنولوجيا والبرمجيات الأمريكية في تصميم الرقائق الإلكترونية من التعامل مع هواوي دون إذن مسبق من الحكومة بهدف تضييق الخناق على استثمارات الشركة الصينية، طبقًا لموقع بي بي سي.

هاجس التجسس على ألمانيا

وعلى الرغم من مخالفة برلين لتوجه الولايات المتحدة تجاه هواوي، فإن الأولى لم تكن على وفاق أمني دائم مع الشركة. فمنذ بداية الحديث عن الصفقة والاتهامات بالتجسس والخطورة على الأمن القومي قائمة، ففي 17 يناير 2019 أشارت شبكة رويترز إلى أن الحكومة الألمانية تناقش منع هواوي من العمل على شبكات الهواتف المحمولة بالبلاد خوفًا من انتهاك أمنها القومي وفقًا لمعلومات الاستخبارات الأمريكية والأسترالية والنيوزيلندية، ومن ثم قررت برلين في مارس 2019 منح رخصة العمل لهواوي على أن تتعهد بعدم التجسس أو المساس بمصالح الأمن إذ قال رئيس وكالة الأمن السيبراني الألمانية، آرني شونبوم، وفقًا لفايننشال تايمز، إن بلاده ستمنح هوواوي الفرصة اقترانًا بتعهد بكين بضمان أمن البيانات وعدم استغلال الشركة.

وهو ما شكك فيه المتابعون لملف العلاقات الصينية الألمانية فالأولى تعرف بالحزب الواحد الذي يتحكم في جميع مقاليد البلاد والثانية يعيش فيها بعض الأيغور والمواطنين المعارضين للسلطة الشيوعية مثل الكاتب لياو ييوو والفنان أي ويوي وغيرهم فهل ستحجم بكين رغبتها في التنصت على هؤلاء أو حتى على الألمان ذاتهم في حال تصاعد أي قضايا جدلية بين الطرفين لأي سبب، ومن الواضح أن حكومة ألمانيا لم يكن لديها أيضاً الثقة الكاملة في الشركة الصينية فطبقًا لرئيس جهاز الاستخبارات الألماني «BND»، برونو في 29 أكتوبر 2019 بحسب بلومبيرج فأن هواوي لا يمكن الوثوق بها بشكل كامل، ليكن ذلك التصريح كاشفًا للوضع بعد عدة أشهر قليلة من الموافقة الرسمية للتعامل مع الشركة.

وهنا يحتدم التساؤل حول المتغير الحاكم للطرفين وهو في غالب الأطروحات متغير اقتصادي، فمع توارد الأنباء عن تحفظات الوكالة الأمنية حول الشركة لجأت بكين لتهديد ألمانيا بقطع التعاون الاقتصادي إذا تراجعت عن الصفقة مع هواوي، ففي ديسمبر 2019 قال السفير الصيني في ألمانيا ووكين إن بلاده ستنتقم من برلين إذ منعت هواوي عن العمل في البلاد لافتًا إلى احتمالية وقف استثمارات السيارات الألمانية في الصين والتي بلغ حجم استثمارات ماركة واحدة منها  وهي فولكس فاجن حوالي (15) مليار يورو في 2018 بحسب شبكة سي ان ان، ما يفسر جزأ من التوجه الألماني تجاه شركة الاتصالات الصينية.

ومع ذلك لم تتوقف مخاوف ألمانيا برغم التهديدات، إذ نقلت رويترز عن هواوي في 29 يناير 2020 قولها بإن المزاعم التي تقدمها الصحف الألمانية بشأن معلومات استخبارية تؤكد تجسس الشركة على البلاد هو أمر عار من الصحة وأن الشركة لم تفعل ما يضر أمن عملائها.

محركات وخوادم الإنترنت التي تعتمدها برلين

في الوقت الذي منحت فيه ألمانيا تطوير الهواتف المحمولة للشركة الصينية فأن أغلب محركات البحث الإلكتروني والخوادم التي يعتمد عليها المواطنين هي إصدارات أمريكية في أغلبها، فبحسب موقع (stat counter) الإحصائي فأن الفترة من أبريل 2019 حتى أبريل 2020 شهدت اعتماد الألمان على محرك البحث الأمريكي (Google) بنسبة 92.95%، بالإضافة لمواقع التواصل الاجتماعي الأمريكية.

وإزاء الاستقطاب الإلكتروني الذي تعانيه ألمانيا بين الصين والولايات المتحدة التي تسعى للتحكم في بيانات ومعلومات المواطنين بالاتحاد الأوروبي اعتمادًا على ما تبقى لها من سطوة عسكرية واستخباراتية زرعتها في برلين إبان الحرب الباردة، وبالأخص بعد ما كشفه العميل الأمريكي سنودن من فضائح تجسس طالت الهاتف الشخصي لانجيلا ميركل، أطلقت البلاد في أغسطس 2013 مبادرة (صنع في ألمانيا) تقرر بموجبها اندماج الشركتين يونايتد إنترنت وتيليكوم اللائي يستخدمهن حوالي ثلثي الألمان في شركة واحدة لحماية المستخدمين عبر ضبط خوادم إلكترونية ألمانية بدلاً من الأمريكية، وفقًا لدويتشيه.

كما عملت المبادرة على تشفير الرسائل الإلكترونية عبر تقنية SSL لمنع اختراقها، إذ قال مسؤول قسم الأمن المعلوماتي في شركة تيليكوم، توماس تشيريش إن التقنية المستخدمة تسمح بتخزين البيانات وفق القانون الألماني الذي يضمن احترام خصوصية البيانات للحفاظ عليها من الانتهاك، وإلى جانب ذلك أطلق ضمن المبادرة خدمة البريد الإلكتروني الألماني والاستغناء عن شركات البريد الإلكتروني الأمريكي لمزيد من الحماية.

تقييم 

بناء عليه يبقى مستقبل العلاقات بين البلدين مرهونًا بما أفرز سابقًا من مواقف متبادلة وما تطلع إليه الأنظمة السياسية من تحسين لأوضاعها الدولية بما في ذلك من سياقات مختلفة يفرضها العالم المتغير سريعًا، فمن جهتها تسعى برلين إلى التحرر من السيطرة الأمريكية على فضاء المعلومات والبيانات في البلاد والقارة العجوز بشكل عام ولكنها في سبيل ذلك ارتبطت تكنولوجيًا بنظام استبدادي يرسخ المراقبة الشخصية اللصيقة ما يدفع جديًا نحو الشك في التزام بكين بتعهدها بعدم التجسس على ألمانيا من شبكات هواوي.

كما أن الطرفين (الصين والولايات المتحدة الأمريكية) يستخدمان ذات التهديد لردع برلين عن التخلي عن المنطقة الوسط في العلاقات بينهم وهو التهديد بحرمان سياراتها الفارهة والمتعددة الإصدارات من الأسواق الغنية والواسعة في البلدين ما يضغط عليها اقتصاديًا، ولكن بمراقبة التطورات الأخيرة في الخطاب السياسي الألماني تجاه الصين تبرز الرغبة في تعديل المواقف والتركيز على الممارسات العنيفة للحكومة كمنحنى تسلط برلين الأضواء عليه.

إذ دعا الرئيس الألماني فرانك والتر شتاينمايرالصين والولايات المتحدة وروسيا إلى التوقف عن زعزعة استقرار الأمن الدولي، مشيرًا إلى أن بلاده وبلاد الاتحاد الأوروبي يجب أن توازن علاقتها مع الصين بين التعاون والمنافسة الشديدة بين الأنظمة، منتقدًا سياسات بكين في إزعاج جيرانها الآسيوين وتصرفاتها تجاه الأقليات لاسيما الأيجور مؤكدًا أن هذه الممارسات تسبب القلق لبلاده، ما يوحي بأن ألمانيا بتتت تطلع إلى وقف الابتزاز الصيني لمصالحها استغلالا لرغبتها في التحرر من واشنطن.

وبالتالي ترجح بعض الأطروحات أن ألمانيا ستستغل رئاستها للاتحاد الأوروبي خلال المرحلة المقبلة لرسم إطار جديد لتعاون القارة بشكل عام مع الصين، ومن المرجح ان يكون إلى ألمانيا دورًا أقوى على الصعيد العالمي في المستقبل، ولكن ما يحمله ذلك من نتائج يبقى مرهونًا بالوضع الاقتصادي للدولة والاتحاد أيضًا.

ومع تطور فيروس كورونا عالميًا وتأثيره على اقتصاديات الجميع قد تتوارى محاولات برلين في صد بكين أو الإعلان صراحة عن توقف خدمات هواواي لديها، وهنا يجب أن نضع في الاعتبار الاتهامات التي تصيغه واشنطن وغيرها من الدول لبكين باحتمالية تخليق الفيروس معمليلا ما قد يتحول لسلاح في يد ألمانيا لمبادلة الدولة الآسيوي التهديد، وهو ما ظهر بالفعل في انضمام الحكومة إلى مصاف الدول التي تتهم الصين بنشر الفيروس.

هناك تأثير قوي لحرب أوكرانيا على أمن دول أوروبا ومنها ألمانيا، وبسبب الدور الألماني بالانخراط بتقديم إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا، يجعلها عٌرضة الى عمليات تجسس اليكتروني وتقليدي داخل أراضيها، وهذا مايمثل تهديداُ إلى أمنها القومي.

 

الهوامش

[1]بعد الحظر الأمريكي.. فرنسا وألمانيا وبريطانيا تسمح لهواوي بالعمل في شبكاتها
bit.ly/2TsFz1c

[2] US targets Huawei with tighter chip export rules
bbc.in/2WV5WPF

[3] Germany considers barring Huawei from 5G networks
reut.rs/2TvvhNV

[4] German cyber security chief backs 5G ‘no spy’ deal over Huawei
on.ft.com/2AVZoI5

[5] In Huawei Battle, China Threatens Germany ‘Where It Hurts’: Automakers
nyti.ms/3edAiCS

[6] China is owning the future of cars. German automakers want in
cnn.it/3bVoKmb

[7] Huawei denies German report it colluded with Chinese intelligence
reut.rs/36oLLN5

[8] Search  Engine Market share Germany
bit.ly/3gdCcVJ

[9]حماية البيانات في الإنترنت على الطريقة الألمانية
bit.ly/2WSXUXg

[10] German spy agency warns of Chinese LinkedIn espionage
bbc.in/2TuhAie

[11] BASF, Siemens, Henkel, Roche target of cyber attacks
reut.rs/2zZCj6M

[12] Germany raids offices, homes of suspected China spies
reut.rs/2ZtYaxW

[13] فاتورة ألمانية بـ 162 مليار دولار للصين عن تكلفة كورونا.. وبكين ترد
arbne.ws/2LSn1mM

نقلاً عن المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والإستخبارات

 

.

رابط المصدر:

https://www.europarabct.com/%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%ae%d8%a8%d8%a7%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d9%80-%d8%b9%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%8a%d9%86-%d8%af%d8%a7%d8%ae%d9%84-%d8%a3%d9%84%d9%85%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a7%d8%8c/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M