تغير الشخصية.. كيف أثرت الأحداث الاجتماعية والسياسية على طبيعة الشخصية المصرية؟

نسرين الشرقاوي

 

على مدار التاريخ والشخصية المصرية تتميز بالثبات، حيث ظلت محتفظة بسماتها الإيجابية وهويتها الفريدة، وظل المجتمع يتوسع بالمشاركة في الحراك السياسي وحركات التنوير ودائمًا ما كان أطياف المجتمع نسيج واحد لا فرق بين مسلم ومسيحي حيث كانت مقولة “يحيا الهلال مع الصليب” مفعلة وحقيقية، وكانت المرأة محل تقدير واحترام ولها دور فعال في التعليم والعمل العام والإسهامات الفنية والأدبية والموسيقية، كما ظل المصريين خاصة في وقت الأزمات والحروب ضد الاحتلال امتدادًا لنكسة 1967 محتفظين بقدر كبير من ثوابت شخصيتهم وفى مقدمتها رغبتهم في الثأر واسترداد الكرامة، وكانت للسينما المصرية دور تاريخي في توثيق التاريخ وفي مجمل القول فإن الشخصية المصرية كانت تتجه نحو الرقي والحداثة.

إلى أن وصلنا إلى منتصف السبعينات إذ يمكننا القول أن التغير الحادث للشخصية المصرية بدأ يظهر جليًا في تلك الفترة نظرًا لظروف الانفتاح الاقتصادي والرغبة في الثراء السريع، وتخفيف القيود على أنشطة الجماعات الإسلامية، وسفر المصريين للعمل ببعض المجتمعات المعروفة بالتدين المتشدد والعنف والتعصب المستجد على المجتمع المصري مما أدى إلى ظهور العديد من التشوهات الثقافية.

ومنذ ذلك الحين بدأ التغيير تلو الأخر إلى أن بلغ تغير الشخصية المصرية حد الذروة منذ أحداث يناير مرورًا بفترة حكم الإخوان إلى الآن؛ حيث بدأت تظهر تغيرات جديدة في الشخصية المصرية أدت إلى تراجع المجتمع المصري بشكل كبير عن الثقافة المنفتحة التي كان عليها. ونتناول في هذه الورقة الإجابة عن: ما الذي حدث للشخصية المصرية؟ وآليات الإدارة المصرية الحالية في استعادة الهوية المصرية.

الوعي الزائف

صاحبت أحداث يناير تغيرات جذرية على الشخصية المصرية من الاتجاه نحو الفوضوية وعدم الفهم السليم للحرية، وتحول مفهوم النقد إلى السخرية، وتحدث الغالبية في أمور غير مدركين لها أو مهيئين لأبعادها، وتجاوز القانون وحرق وتخريب مؤسسات الدولة، مما أدى إلى اهتزاز البيئة القيمية للمجتمع المصري.

إضافةً لتأثر الشخصية المصرية نتيجة الفترة الانتقالية الصعبة التي صاحب أحداث يناير، من سقوط النظام السياسي وما صاحبه من تدهور للوضع الاقتصادي وانخفاض في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وعجز كبير في الموازنة، وانخفاض قيمة العملة المحلية، وارتفاع سعر الدولار وارتفاع معدلات التضخم، وهروب رجال الاعمال المحليين إلى الخارج، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية، وانخفاض مستوى المعيشة نتيجة الحالة الاقتصادية للدولة وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.

علاوة على أن أحداث يناير خلقت حالة من الذعر لدى المواطنين، وعدم شعور المواطن المصري بالأمان، وضعف الانتماء لديه نتيجة حالة الفوضى، بالإضافة إلى زيادة معدل الجريمة وانتشار السرقة ومظاهر البلطجة في الشارع المصري، وانتشار الجرائم المستحدثة التي لم تكن معروفة من قبل كالعنف والتحرش وخطف المواطنين والتنمر واللامبالاة وعدم احترام خصوصيات الآخر ولا حرماته. كما شهدت تلك الفترة زيادة في الاعتصامات والاحتجاجات والمطالب الفئوية، والضغط على صانعي القرار خلال هذه المرحلة الانتقالية على قبولها برغم الوضع السيء وعدم تحمل الموازنة العامة للدولة على تحمل كل هذه المطالب الفئوية.

هذا إلى جانب وسائل التواصل الاجتماعي والتي كانت منصة الدعوة لأحداث يناير، بالإضافة لكونها منصة إطلاق الشائعات والتحريض على العنف والتخريب والتنمر، حيث لا ننسى في هذه الفترة أن داومت القوات المسلحة المصرية على إرسال رسائل نصية قصيرة على الهواتف المحمولة تحث فيها الشعب المصري على “ضبط النفس والحفاظ على مقدرات الوطن”، علاوة على أن سوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لفئات الشعب المصري وخاصة الشباب والأطفال بدون وعي ورقابة أدى إلى تفكك الأسرة المصرية وتغيير المفاهيم الأساسية المعروفة عن التنشئة والتي طالما تميزت بها الأسرة المصرية وكانت بها الأكثر تماسكًا وثباتًا.

أخونة الشخصية

وإذا انتقلنا لفترة حكم جماعة الإخوان الإرهابية، فقد استمرت تداعيات أحداث يناير التي أنتجت تغيرات سلبية عسيرة على الشخصية المصرية، وزاد عليها أن اتبعت جماعة الإخوان وغيرها من الجماعات الإسلامية موجة من التشدد الديني وانتهجت أسلوب التسلط وفرض الوصاية على الشعب المصري، فظهر التطرف والتعصب، والرؤية الرجعية للأمور وخلق حالة من الجدال والانقسام داخل المجتمع والنظرة الدونية للمرأة، والنظرة المتعصبة تجاه التراث والحضارة والسياحة والفن والانشغال بتوافه الأمور، إلى أن وصلت الأمور لتقسيم المجتمع إلى “مع وضد/ ومسلم وكافر”.

إضافة إلى تغير الشخصية المصرية في فترة حكم الإخوان نتيجة عدم انتهاج مبدأ المساواة العامة، فقد عملت الجماعة على السيطرة والاستحواذ على الدولة المصرية لكل ما هو إخواني “الأهل والعشيرة” أهل الثقة وليس الكفاءة على الإطلاق، ونبذ كل ما هو دون ذلك، مما خلق حالة من الكره والانشقاق وتبادل الاتهامات التخوين والعدوانية والكراهية والعنف ليس داخل أفراد المجتمع المصري فحسب بل داخل الأسرة الواحدة.

كما عملت جماعة الإخوان وأنصارها على تغيير الهوية المصرية بشكل ممنهج ومقصود، فوجدنا إرهاب المجتمع بداية من خروج الإرهابيين من السجون وتوليهم مناصب قيادية بالدولة، وأخونة ليس مؤسسات الدولة الدينية فحسب، بل تجاوز الأمر للقضاء والشرطة وغيرهما من المؤسسات، وكان خير شاهد على ذلك ظهور بعض ضباط الشرطة الملتحين في محاولات لطمس الهوية المصرية، ومحاوله فرض سياستهم “السمع والطاعة” واقصاء وتهميش الآخر والترهيب والتهديد بالقتل ولنا في محاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي دليل، وبدأ ينظر إلى المرأة نظرة رجعية، والسعي إلى تحويل المجتمع من حكم القانون لحكم الجماعات المتشددة إذ أصبحت الآداب العامة وأعراف المجتمع تحت وصاية المتشددين تحت شعار “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.

وفي سياق متصل ضربت جماعة الإخوان الأمثلة في هدم الثوابت المصرية من الوسطية والاعتدال واحترام وقبول الآخر، فكما هو معروف عبر تاريخهم عدم انتماء جماعة الإخوان وأنصارهم للدولة المصرية، إضافة لعدم اعترافهم بحدود الوطن، ومحاولات طمس الحدود وفتحها لأنصارهم وأتباعهم.

وقد ساد في فترة حكم الجماعة حالة عامة من التعالي والاستعراض وفرض سياسة الأمر الواقع ظنًا منهم أن الولاية على مصر ستمتد لهم لعقود متواصلة، الأمر الذي حمل الكأبة واليأس للمجتمع المصري الذي بات يحلم بانتهاء كابوس حكم الإخوان.

وفي محاولاتهم لهدم ثوابت الشخصية المصرية، فقد استخدموا سياستهم المعروفة في خلط السياسة بالدين وتفسير النصوص الدينية بصورة متطرفة لخدمة مشروعهم بعيدًا عن الوسطية الدينية والقيم السمحة التي هي أساس الدين الإسلامي، الأمر الذي غذى التعصب والتطرف وانتشار ظاهرة “تكفير كل ما هو مخالف للرأي معهم”.

كما تفشي الفساد في فترة حكمهم واختفت العدالة، وتم استغلال حاجة البسطاء وخداعهم ودمجهم في العنف والإرهاب باسم الدين والعمل على عنصرية وتفريق المجتمع، فلطالما كانت مصر نسيج واحد، باستثناء فترة حكم جماعة الإخوان التي سادها خلق الفتن وتغذية العنف بين المسلمين والمسيحيين، الأمر الذي أدى إلى شعور الأقباط بالتهميش والتجاهل والاتجاه نحو الهجرة خوفًا من بطش الجماعة وأعوانها.

ولكن سرعان ما توافقت كافة القوى الوطنية على القيام بثورة 30 يونيو لتصحيح المسار واستعادة الشخصية المصرية بهويتها الوطنية المعتدلة التي وصفها جمال حمدان قائلًا: “مأساة مصر هي الاعتدال، فلا هي تنهار قط، ولا هي تثور أبدًا، ولا هي تموت أبدًا، ولا هي تعيش تمامًا، إنما هي في وجه الأزمات والضربات المتلاحقة تظل فقط تنحدر، تتدهور، تطفو وتتعثر، دون حسم أو مواجهة حاسمة تقطع الموت بالحياة أو حتى الحياة بالموت، منزلقة أثناء هذا كله من القوة إلى الضعف، ومن الصحة إلى المرض، ومن الكيف إلى الكم، وأخيراً من القمة إلى القاع”.

إعادة استرجاع الهوية

رغم أن من مكتسبات ثورة الـ 30 من يونيو هو تغيير سلوك وأفكار الشعب المصري؛ إذ بات يعرف تمامًا ماهية وأغراض جماعات الإسلام السياسي، ويعي مدى تطرفهم وإرهابهم، إلا أن دولة 30 يونيو جاءت وقد وصل المجتمع لسمات شخصية سلبية متوارثة عبر السنين، وتراجع في منظومة القيم، فعملت الدولة المصرية في جمهوريتها الجديدة على استرجاع الهوية والتي لطالما اتضحت بوضوح في خطابات الرئيس السيسي واهتمامه بقضايا الأسرة ومناداته بصياغة استراتيجية لبناء الإنسان لاستعادة الهوية المصرية.

كما أولت الدولة الاهتمام بمنظومة تغيير شاملة تكون فيها الثقافة على رأس الأولويات؛ فوفقًا للتاريخ فإن عنصر الثقافة هو مكون رئيسي في التغيير بجانب تحسين الوضع الاقتصادي وتحسين سبل المعيشة، وهو ما وجهت إليه القيادة السياسية في المبادرة الرئاسية الأضخم في التاريخ المصري “حياة كريمة” ليس لتحسين أوضاع القرى المصرية والقضاء على الفقر وتوفير فرص العمل فقط، بل شملت تطوير وتنمية قصور الثقافة.

إلى جانب توفير مكتبات لتنمية الفكر والثقافة في كل القرى التابعة للمبادرة؛ علاوة على ذلك ولرغبةً الإدارة المصرية ببناء الإنسان وشمول التنمية ورفع مستوى الوعي والثقافة، تم ضم عدد من المراكز الجديدة ضمن مبادرة “حياة كريمة”، وذلك رغبة من القيادة السياسية لخلق واقع مغاير والقضاء على الأسباب التي أدت لتغيير الشخصية المصرية. كما انتبهت الدولة في مبادرة حياة كريمة لأهمية وجود قاعات للفنون والموسيقى لخلق نشئ قادر على التذوق الجمالي والإبداع.

ونظرًا لارتباطها الوثيق بالشخصية المصرية قامت الدولة بالاهتمام بالآثار، وفي حدث فريد من نوعه تم فيه إعادة الهوية المصرية الفرعونية في حفل اسطوري تم نقل المومياوات الملكية من متحف التحرير إلى متحف الحضارة، علاوة على افتتاح طريق الكباش بالأقصر.

ومن المؤسسات التي لها تأثير على ثقافة الفرد ومن ثم بناء شخصيته هي المؤسسة الدينية، وناشدت القيادة السياسية بأهمية تجديد الخطاب الديني الذي يحاكي الواقع المعاصر، ويعالج المشكلات بطريقة معتدلة بعيدًا عن التشدد، لأنه عندما يسقط نظام الدين المعتدل ينتصر الدين المشوه والتفسيرات المغلوطة للنصوص الدينية وينتج عن ذلك التعصب والتطرف، وهذا ما ظهر جليًا إبان حكم جماعة الإخوان، وقد بدأت المؤسسات الدينية بالتحديث ومواكبة التطور التكنولوجي وتنشيط صفحات التواصل الاجتماعي للرد على الآراء المغلوطة والمتعصبة، ومازلنا في حاجة لمزيد من الجهد في هذا الإطار.

كما اتجهت الدولة الآن في جمهوريتها الجديدة نحو الانفتاح والحداثة وبناء دولة جديدة تلعب فيها المرأة دور مماثل للرجل. وأيضًا عملت الدولة على الاهتمام بالشباب وتمكينهم سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. كما تعمل الدولة المصرية على التواصل مع المصريين في الخارج لتثبيت الهوية المصرية لديهم.

وعلى جانب آخر، فإن لجناحي الإعلام والفن تأثير كبير في تشكيل الوعي وتكوين ثقافة الأفراد ومن ثم بناء شخصيته، لذا ينبغي إيلاء اهتمام خاص بهما، إذ أن دخول رأس المال في الفن والإعلام يهمه في المقام الأول تحقيق المكاسب المادية على حساب الذوق العام، مما أوجد دراما عديمة الفن والمضمون، وأغاني أطلق عليها “مهرجانات” غلبت على معظمها كلمات وسلوكيات خارجة على الثقافة المصرية.

لذا يجب على الدولة أن تراقب دخول رأس المال وخاصة في الفن لضمان استثماره في اصلاح المنظومة القيمية ووضع مبادي ملزمة للجميع للحفاظ على الوطن وإعادة رؤية الجمال وتذوق الفنون، واسترجاع دوره التاريخي في توثيق تاريخ مصر المعاصرة، إلى جانب التناول الإعلامي للمضمون الذي يهدف إلى تنمية وبناء الشخصية المصرية وتعزيز روح المواطنة والانتماء والذي هو دور مشترك بين الفن والإعلام والتعليم سواء الأساسي أو الجامعي.

ومما سبق يتضح؛ أن الظواهر الحادثة للشخصية المصرية تحتاج إلى منظومة تغيير شاملة تتضافر فيها كافة المؤسسات الحكومية وغير الحكومية حتى تشهد السنوات القادمة استعادة بناء الشخصية المصرية.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/67243/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M