دور الحب في بناء الأنظمة السياسية

ابراهيم أبو عواد

 

(1)

التناقضات الصارخة في المجتمع الإنساني لا يُمكن السيطرة عليها وتقليصها، إلا بتكوين سياسات اجتماعية قائمة على الحُب والعدل والمُساواة، واعتماد مبدأ الكفاءة والولاء للقِيَم والمبادئ، وليس الولاء للأشخاص والكراسي. وهذا شعار جميل برَّاق، لكن تطبيقه على أرض الواقع صعب، وليس مستحيلًا. وصعوبة تطبيقه نابعة من مراكز القوى في بِنية الأنظمة المُوجِّهة للفرد والجماعة والمجتمع.

ومراكز القوى هي أركان الدولة العميقة التي تتحكَّم بمسار العلاقات المعنوية والمادية في المجتمع. وإذا أردنا تحليل مُكوِّنات المجتمع، ينبغي الانطلاق من حقيقتَيْن راسخَتَيْن، لكنهما غَير مُعْلَنَتَيْن.

الحقيقة الأُولَى: إن هناك دَوْلَتَيْن في المجتمع الإنساني الواحد، الدَّولة العميقة الباطنية (الجَذر) والدَّولة السَّطحية الظاهرية (الأغصان). والعلاقة بين هاتَيْن الدَّولتَيْن قائمة على المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة واحتكار اللعبة السياسية بكل مزاياها، وهذا هو سبب تحوُّل كثير مِن الأوطان إلى مشاريع تجارية استثمارية، تعود بالنفع على الطبقة السياسية الحاكمة حصريًّا، دُون أيِّ فائدة للمواطن العادي. وكُل نظام سياسي مُغلَق هو بالضرورة نظام استحواذي احتكاري، يتعامل مع الشعب وَفق ثنائية الرهائن والغنائم. ومهما كان الوطنُ غنيًّا بالثروات والإمكانيات، فلن يَشعر المواطن العادي بأيِّ فائدة، لأن الشَّرنقة التي تُحيط بالوطن تمتص كُل الخَيرات، ولا يبقى مِنها شيء للشعب الكادح.

الحقيقة الثانية: إن السياسة في المجتمع الإنساني هي لُعبة الأغنياء، وهذا يعني تحوُّل السياسة مِن وسيلة للحُكم الرشيد إلى غاية قائمة على الاستعباد والهيمنة، وتحوُّل العلاقات الاجتماعية الخاضعة للبنى السياسية مِن ظاهرة أخلاقية نبيلة إلى نزعة مادية متوحشة، وبالتالي يُصبح القادرون على الدَّفْع هُم القادرين على الكلام، وهذا أمر في غاية الخطورة، لأنَّه يستثني أصحابَ المواهب والكفاءات.

(2)

التَّشَظِّي في المجتمع الواحد (وجود دَوْلَتَيْن تحتكران العمل السياسي القائم على المال)، لا يستمد شرعيته مِن قُوَّته الذاتية، وإنما يستمد شرعيته من تحالف السُّلطة معَ الثَّروة، أي: تحالف بِنية النظام السياسي مع رأس المال، مِن أجل تحويل الوطن إلى بقرة حَلُوب لأصحاب النُّفوذ، وتحويل الشعب إلى قطيع أغنام يُساق إلى الذبح في الوقت المُناسب، لذلك ليس غريبًا أن يَقتل الطُّغَاةُ شُعوبَهم، ويُدمِّروا أوطانَهم.

بَل إنَّ هذا أمر مُتوقَّع في كُل زمان ومكان، ولا يَدعو إلى العَجَب والدَّهشة. وكُل طاغية يَعلَم في قرارة نَفْسه أن وجوده غَير شَرعي، وأنَّه لم يجئ وفق انتخابات حُرَّة ونزيهة، وإنما جاء بحُكم الأمر الواقع، وباعتباره مَالِكًا للمال والسلاح، ومَدعومًا من القوى الخارجية، ومُتحالفًا مع سماسرة الوحدة الوطنية المستعدين لاقتسام الغنائم. لذلك فإن كُل طاغية، يعتنق سياسة القرابين، حيث يتم التضحية بكل شيء، من أجل بقاء الزعيم القائد الخالد الوحيد الأوحد على الكُرسي. ولكنَّ الكُرسي لا يَدُوم لأحد، وحتى لَوْ دامَ الكُرسي للطاغية، فإن الطاغية لَن يَدُوم له.

(3)

إنَّ الإنسان كائن عاطفي، والنَّفْس الإنسانية مَجبولة على حُب مَن أحسنَ إلَيها، ولا يُمكن لأيِّ حاكم أن يَقُود الوطنَ والشعبَ إلى بَر الأمان، إلا إذا سيطرَ على قُلوب الشعب بالمحبة، والأخلاق الفاضلة، والتَّضحية من أجلهم. وهذه هي القُوَّة الناعمة التي تمتلك مَفعول السِّحْر. والحُبُّ وَحْدَه هو الذي يَمتلك قَلْبَ الإنسان. والسلاحُ له سُلطة على الجسد، وليس له سُلطة على القَلْب.

وهذا هو الأساس الفلسفي للسياسة، ولكنَّ الكثيرين يَعتبرون هذا الكلام رومانسيًّا، ولا يَصلُح إلا للأفلام العاطفية وقصص العُشَّاق. وهذا خطأ جسيم، لأنَّ الحُب وَحْدَه هو القادر على بناء الوطن ونهضة الإنسان. وقُدرة الحُب على صناعة الحاضر والمستقبل تنبع من حقيقة مُفادها أن الحُب يُزيل الخَوف، وبالتالي يتحرَّر العقلُ، وينطلق إلى الإبداع، لأن العقل الخائف مشلول غير قادر على التفكير والإبداع، والحُب يَمنع الخيانة، وبالتالي تتكرَّس الثقة بين الرئيس والمرؤوس، والثقة أساس النهضة والتقدُّم.

والحُب يُطهِّر القلوبَ مِن الحِقد والانتقام، وبالتالي تختفي الصراعات بين أبناء الوطن الواحد، ويزول الصِّدام بين الحاكمين والمحكومين. والحُب يضمن الوَلاء الحقيقي، وهذا يعني تقديم النصيحة الصادقة، والمَشُورة المُخلِصة. وكما قِيل: صَديقك مَن صَدَقَك لا مَن صَدَّقَك.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/24568

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M