سلوتر: لماذا يُعد التنوع في أمريكا مصدر قوتها؟

عادل رفيق

 

نشرت مجلة الإيكونوميست البريطانية في 24 أغسطس 2021، مقالاً بعنوان “لماذا يُعد التنوع في أمريكا مصدر قوتها؟” للكاتبة والسياسية الأمريكية آن ماري سلوتر، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة “أمريكا الجديدة” بواشنطن العاصمة، والتي شغلت من قبل منصب مديرة تخطيط السياسات في وزارة الخارجية (2009-2011). بدأت سلوتر مقالها بالتأكيد على أنه على الولايات المتحدة الأمريكية أن تنتقل من دور “شرطي العالم” إلى دور “الساعي لحل مشاكل العالم”، عبر السعي للتغلب على الخلل الوظيفي السياسي في الداخل الأمريكي أولاً – ثم استكملت المقال على النحو التالي:

ذات مرة، نصحني الراحل العظيم جورج شولتز، وزير خارجية أمريكا في عهد رونالد ريجان، أن أركز دائماً على الديموغرافيا لفهم العالم والقوى التي تشكل المستقبل. على الرغم من أن الصور القاتمة الآتية من أفغانستان تسلط الضوء على حدود القوة العسكرية لأمريكا وعلى عدم الاتساق بين أهدافها والأدوات المتاحة لتحقيقها؛ إلا أن مستقبل القوة والهيمنة الأمريكية يعتمد بدرجة أقل على القوة العسكرية عن اعتماده على التغيير الديموغرافي الذي يحدث حالياً داخل الولايات المتحدة. ففي العقدين المقبلين، ستتحول أمريكا من دولة ذات أغلبية بيضاء إلى “أمة تعددية”: دولة لا تُشكل فيها مجموعة عرقية أو إثنية أغلبية سكانها. وعلى أمريكا عندئذ إما أن تكتشف كيفية استغلال الفوائد الهائلة لتمثيل العالم وتقوية ترابطه، أو السماح للتوترات الديموغرافية بتمزيقه.

انظر إلى أي خريطة للتدفقات الحالية من وإلى الولايات المتحدة – تدفقات الأموال، والسلع، والخدمات، والأشخاص، والبيانات – ستكون المسارات الأكثر تدفقاً دائماً متجهة إلى أوروبا. وانظر أيضاً إلى خريطة للتحالفات العسكرية، أو القنصليات، أو المدن الشقيقة – فسوف تبرز كثافة اتصالات الولايات المتحدة مع أوروبا مرة أخرى. وهذا ليس من قبيل المصادفة.

فما بين عامي 1870 و 1900، جاء ما يقرب من 11 مليون مهاجر أوروبي إلى أمريكا، بالإضافة إلى حوالي 250,000 من آسيا، معظمهم من الصين، وحوالي 100,000 من أمريكا الوسطى والجنوبية. وتضاعف عدد السكان الأمريكيين بشكل أساسي خلال تلك الفترة، من 38 مليوناً إلى 76 مليوناً. وبحلول عام 1900، استوعبت أمريكا أيضاً حوالي 9 ملايين أمريكي من أصل أفريقي، جميعهم تقريباً ينحدرون من العبيد الذين تم انتزاعهم من عائلاتهم وقبائلهم وجلبهم قسراً إلى الولايات المتحدة، مما جعل معظمهم غير قادرين على تتبع أصولهم، ناهيك عن تطوير الروابط الاقتصادية أو الثقافية مع أوطانهم الأصلية.

وعلى مدار القرن العشرين، استقرت موجات المهاجرين الجديدة واندمجت في الاقتصاد والمجتمع، وتغلبت على الكثير من التعصب والعقبات. وعندما كانوا يبحثون في الخارج – عن رأس المال والأسواق والأفكار والسفر والتاريخ – فدائماً ما كانوا ينظرون إلى “البلد القديم”، الذي يعني دائماً أوروبا.

وما بين عامي 1965 و 1990 دخلت البلاد موجة ضخمة أخرى من المهاجرين، لكن هذه المرة جاءت بأغلبية ساحقة من أمريكا الوسطى والجنوبية وآسيا وأفريقيا. قد تتغير قوانين الهجرة، ولكن بمجرد وصولهم إلى هنا، يقوم المهاجرون بما كانوا يفعلونه دائماً: الحصول على وظائف، والذهاب إلى المدرسة، وتكوين أُسر، والترشح للمناصب، وتجميع الثروة والسلطة.

وطوال الوقت، يتواصلون مع الأقارب والأصدقاء والمعارف من “بلدانهم القديمة” أياً كانت، مما يزيد من تكثيف وتعزيز الشبكات التجارية والثقافية والمدنية. وقد خلصت دراسة أُجريت عام 2017 إلى أن زيادة 10% في المهاجرين الجدد إلى ولاية أمريكية واحدة تؤدي إلى رفع الواردات من بلدانهم الأصلية بنسبة 1.2% والصادرات إليها بنسبة 0.8%. وتُظهر دراسة أجراها المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في عام 2015 أن “زيادة نقطة مئوية واحدة في المهاجرين من بلد معين إلى سوق العمل المحلي يقود الشركات في هذا المجال إلى تصدير 6% إلى 10% من الخدمات الإضافية إلى ذلك البلد”.

واليوم أقل من نصف الأمريكيين الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً يعتبرون أنفسهم من البيض. وبحلول عام 2027، أي بعد عام من الذكرى الـ 250 لتأسيس الأمة الأمريكية، سيكون هذا الأمر صحيحاً بالنسبة لمن هم دون الثلاثين. وفي وقت ما في الأربعينيات من هذا القرن (الحادي والعشرين)، ستكون الولايات المتحدة ككل دولة بدون أغلبية عرقية أو إثنية. وكأمّة أمريكية، سيكون للأمريكيين توزيع أكثر تساوي منه الآن بالنسبة للروابط الأسرية والثقافية مع كل قارة من قارات العالم: تلك الروابط التي هي في الحقيقة مسارات محتملة للنمو الاقتصادي والتأثير الدبلوماسي والثقافي.

وللاستفادة الكاملة من مزايا كونهم يمثلون أمة تعددية، سيتعين على الأمريكيين التفكير بشكل مختلف في الهوية والقوة. فقد  شهد القرن العشرين تحولاً من بوتقة انصهار إلى فسيفساء متعددة الثقافات، هم كثيرون وفي نفس الوقت يشكلون جسداً واحداً. إن مفتاح النجاح في القرن الحادي والعشرين، في الداخل والخارج، هو تعريف الهوية الأمريكية على أنها هوية متعددة: دوائر متحدة المركز أو متقاطعة لتحديد الهوية مع مجموعات أو دول أخرى. حيث يمكن للأميركيين أن يكونوا كثيراً وواحد في نفس الوقت، أي كثيرو التنوع ولكن في جسد واحد. وسيسمح لنا هذا المفهوم الواسع للهوية بالاتصال بجذورنا في جميع أنحاء العالم والاحتفاء بثقافاتنا المتنوعة بينما نفخر في نفس الوقت بأننا في دولة كبيرة بالقدر الذي يكفي لاستيعابنا جميعاً.

ولجعل هذا الخطاب حقيقة واقعة، يجب أن نتخيل وننفذ على أرض الواقع سياسة هجرة حقيقية للقرن الحادي والعشرين – ليس فقط للمهاجرين، ولكن أيضاً للمهاجرين والأشخاص الذين يستمرون في العيش في بلدان متعددة. فالهدف هو جذب المواهب، وكذلك مشاركة تلك المواهب مع بلدانهم الأصلية، من خلال السماح للمواطنين والمقيمين الأمريكيين بالانتقال ذهاباً وإياباً إلى بلدان أخرى للعمل والعيش، وإضافة الحياة الرقمية إلى الحضور المادي المحسوس.

قد تبدو هذه الرؤية وكأنها أسوأ كابوس لأمريكا المحافظة، كتجسيد لجميع المخاوف التي تلاعب بها دونالد ترامب وحلفاؤه الطموحون بكل وحشية ونجحوا في ذلك. في الواقع، كانت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي قد سخرت من فكرة وجود مثل هذه الهويات المتعددة من خلال زعمها بأنه “إذا كنت تعتقد أنك مواطن تنتمي للعالم، فأنت مواطن لا مكان له”.

لقد تطرقَت ماي إلى قلق حقيقي. فمن أكبر الأخطاء التي ارتكبها هواة العولمة هو احتضان “العالمي” على حساب “المحلي”. من “الممكن” و “الضروري” على حد سواء الاحتفاء ودعم الهويات المحلية التي تعود جذورها إلى مجتمع مادي آخر أو ربما أكثر. وكما قال ديفيد جودهارت، المعلق السياسي البريطاني، [أن تأتي “من مكان ما”، بينما تستفيد أيضاً من العيش والعمل في كل مكان، في المساحات الرقمية والمادية على حد سواء]. وكما أظهرت جائحة كورونا، فإنه يمكننا العيش والاستثمار في مكان، والعمل في مكان آخر، في وقت واحد.

كما أنه يمكن أيضاً أن تكون القوة “جمعية” بشكل أكبر. بمعنى أنه على المسؤولين والاستراتيجيين في السياسة الخارجية الأمريكية أن ينتقلوا من مفهوم التسلسل الهرمي للسلطة ليكون أفقياً بشكل أكبر. لطالما كانت صورة الولايات المتحدة كـ  “شرطي العالم” صورة مبالغاً فيها، لكن نخب السياسة الخارجية الأمريكية في القرن العشرين وعلماء العلاقات الدولية كانوا ينظرون بكل تأكيد إلى أمريكا كقوة مهيمنة على العالم – إما كأحد قوتين عظميين، أو كقوة واحدة متفردة. وكقوة مهيمنة، مارست أمريكا القوة الصارمة للإكراه والقوة الناعمة للجذب، ودمجت كليهما (القوة الصارمة والقوة الناعمة) في مفاهيم مختلفة للقوة الذكية.

ومع ذلك، فيمكن قياس القوة من حيث “الترابط” بقدر قياسها من حيث “الاستعداد القتالي”: مثل دالّة تحسب اتساع وعمق شبكة من العلاقات البناءة والمثمرة. وبدلاً من مؤسسة “الخدمة الخارجية” الحالية، وهي مؤسسة تم إنشاؤها في عام 1922 ولم تتغير كثيراً منذ ذلك الحين، على الولايات المتحدة إنشاء مؤسسة جديدة تحل محلها، وهي مؤسسة “الخدمة العالمية”. فإنشاء سلك دبلوماسي يشبه العالم في تنوعه، من حيث التحدث بلغات العالم وفهم ثقافات العالم (من خلال عناصر تنتمي لهذه اللغات والثقافات منذ الولادة، أو على الأقل من خلال الروابط الأسرية) سيكون له ميزة كبيرة من حيث بناء علاقات قوية مع الشعوب في جميع أنحاء العالم. ومثلما كان مهماً أن يتعلم الأمريكيون الأوروبيون لغات وثقافات البلدان التي استقبلتهم في القرن العشرين، فعلينا أن نتوقع أن نرى أمريكيين من أصل أفريقي يتحدثون لغة الماندرين الصينية، أو أمريكيين من أصل إسباني يتحدثون اللغة العربية، أو أمريكيين من أصل عربي يتحدثون الروسية في القرن الحادي والعشرين.

وعلى الساحة العسكرية، يجب أن يفكر فريق أكثر تنوعاً من قادة السياسة الخارجية والأمن القومي في الحرب في الشرق الأوسط أو إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية بنفس الرعب والقلق الذي يشعر به الجيل الحالي بشأن احتمال نشوب حرب في أوروبا. ليس فقط بسبب الخسائر في الأرواح أو الإصابات المحتملة في صفوف القوات الأمريكية، ولكن بسبب الوعي الأوسع نطاقاً بما يعنيه الصراع في أي مكان بالنسبة للمدنيين – المدنيين المرتبطين تاريخياً أو حالياً بالعائلات الأمريكية.

هذه النخب الجديدة ستجلب معها أيضاً تقاليدها الثقافية الخاصة. فالأمريكيون الأوروبيون الذين نشأوا في النصف الثاني من القرن العشرين، كما هو الحال معي، هم أقل احتمالاً بشكل كبير في أن يربطوا استخدام القوة الأمريكية بالتوسع الإمبريالي أو التدخل نيابة عن النخب الفاسدة في بعض البلدان – مقارنة بالأمريكيين من أصل إسباني، أو الأمريكيين من أصول عربية، أو الأمريكيين من أصل أفريقي، الذين تأتي عائلاتهم من دول عاشت في كثير من الأحيان تجربة سلبية تفوق كثيراً المغامرات العسكرية الأمريكية. جنباً إلى جنب مع قدامى المحاربين في حرب أفغانستان والعراق التي استمرت عقوداً طويلة وفي أحسن الأحوال كانت غير حاسمة، من المرجح أن يكون تركيزهم أكثر على بناء قدرة الردع الأمريكية، بهدف أن تصبح الأمة المعروفة عالمياً بتجنب الحروب أو منعها أكثر من السعي للفوز بها.

ومرة أخرى، ستعتمد هذه القدرة الرادعة، بدورها، على قوة الاتصال. ويرى ميشيل فلورنوي، وكيل وزارة الدفاع السابق للسياسات، أن على وزارة الدفاع أن تستثمر في إنشاء ما يمكن تسميته “شبكة الشبكات” حيث تتكون من عدة شبكات مجمعة معاً، وتكون آمنة ومرنة، تضم: القيادة، والسيطرة، والاتصالات، وأجهزة الكمبيوتر، والمخابرات، والمراقبة، والاستطلاع  أو ما يُعرف اختصاراً بالإنجليزية (C4ISR).

تقوم “شبكات الشبكات” بتعريف ووصف العالم الافتراضي الذي أصبحنا نعيش ونعمل فيه بشكل متزايد. وتتركز قوة الشبكة في قوة إنشاء الاتصال الاستراتيجي وإمكانية قطعه (إن لزم الأمر). إنها شبكة مجمعة ومتعددة المراكز، ويتم توسعها طبقا لاستخداماتها. ولكي تنجح أمريكا في كسب ثقة شعبها، وتحظى باحترام شعوب العالم، عليها أن تنتقل أمريكا من كونها “شرطي العالم” إلى “الساعي لحل مشاكل العالم”، حتى تصبح قوة مركزية على المستوى الحكومي وغير الحكومي وتستطيع إنجاز أشياء هامة مثل أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة.

إن إنجاز اتفاقية مجموعة السبعة بشأن حد أدنى عالمي لضريبة الشركات هو تماماً النوع الصحيح من التحرك: من حيث العمل مع الاتحاد الأوروبي وحلفاء آخرين لتحقيق نتيجة تفيد المواطنين في كل مكان من خلال ضمان أن تدفع الشركات نصيبها العادل. إن النجاح في حل المشكلات على المستوى العالمي يتطلب القيادة من المركز بدلاً من القيادة من القمة، والتركيز على تحقيق نتائج تصب في صالح الشعوب أكثر من ممارسة ألعاب القوة بين الدول.

لن تؤدى التعددية الأمريكية فحسب إلى زيادة قوة البلاد الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية؛ بل إنها ستزيد أيضاً من قوتها الثقافية بشكل كبير، باعتبار أنها ستسهم في تطور الفن والأدب والأفلام والموسيقى وأنواع أخرى من الوسائط التي تعكس جميع ثقافات العالم. وإذا استطاعت الولايات المتحدة الاستفادة من المواهب الكاملة للنساء اللائي لديهن التزامات بتقديم الرعاية وغيرهن، فستجني المزيد من الفوائد الهائلة – بما في ذلك من النساء اللواتي لم يكن بإمكانهن المساهمة بشكل كامل لو ظلوا في بلدانهن الأصلية، وأصبح بإمكانهن الآن بناء علاقات تجارية، وثقافية، وسياسية مع أصدقائهن في أوطانهن الأولى.

ومن المثير للاهتمام أن الصين أدركت منذ فترة طويلة قوة الشبكات والعلاقات القائمة على القرابة والتجارة والثقافة. حيث تشير خطة مبادرة الحزام والطريق الصينية صراحة إلى الحاجة إلى “الاستفادة من الدور الفريد للصينيين المغتربين ومناطق هونغ كونغ وماكاو الإدارية الخاصة”. والمشروع بحد ذاته هو استراتيجية كبرى تقوم على بناء البنية التحتية والوصلات الأخرى حول العالم. ومن الجدير بالذكر أن الصين تفوقت قبل عامين على أمريكا في عدد سفاراتها وقنصلياتها بالخارج. ومع ذلك، فمن المرجح أيضاً أن تقوم الصين بإجراء مجموعة من الروابط شديدة التنوع بسبب قواها الديموغرافية. ومع ذلك، فإن سكانها يشيخون بسرعة. فوفقاً لبعض الدراسات، فإن الصين “تفقد” من النساء ما يقرب من إجمالي سكان كندا، حوالي 35 مليوناً، بسبب الإجهاض القسري (أو ما هو أسوأ) بسبب تفضيل العائلات الصينية للذكور. وترتب على ذلك أن ملايين الرجال الصينيين يقومون بالفعل بالبحث عن عرائس لهم في جميع أنحاء آسيا، حيث يتم الاتجار بالعديد منهن.

ليس بالضرورة أن تكون الأمة التعددية مهيئة مسبقاً لتحقيق النجاح بشكل مؤكد. إذ يمكن للقوى الديموغرافية والتكنولوجية التي تحمل مثل هذه الوعد لأمريكا أن تُسهم أيضاً في تمزيق البلاد. فقد أدى الاستقطاب السياسي إلى شل حركة الكونجرس. وهذا الاستقطاب متجذر في انعدام الثقة الوجودي العميق والخوف. وتعكس هذه الانقسامات العميقة – ولو جزئياً – تصور العديد من أعضاء الأغلبية البيضاء في البلاد لما سيخسرونه، وكذلك تصور العديد من أعضاء الأقليات المختلفة لما سيكسبونه.

إن صعود سياسات تفوق العرق الأبيض بشكل مكشوف داخل الحزب الجمهوري ليس من قبيل الصدفة. وسيؤدي هذا الصعود إلى ممارسة تأثير أكبر بكثير على السياسة الأمريكية بشكل عام مما تقوم به الأحزاب المتطرفة المماثلة في أوروبا، وذلك بسبب الخلل الوظيفي في النظام السياسي الأمريكي المكون من حزبين والذي غالباً ما ينتخب الأفراد الذين لا يحظون بدعم غالبية الناخبين، نتيجة نظام التصويت التعددي.

ويكمن جوهر فكرة الديمقراطية في الاعتقاد بأن لكل أمريكي فرصة متساوية للتصويت، وأن الانتخابات يجب أن تكون حرة ونزيهة. ومن الضروري أيضاً أن يضمن النظام الانتخابي حصول المرشحين الفائزين بالفعل على الأغلبية، بدلاً من تعدد الأصوات التي يتم الإدلاء بها. فبدون اعتماد إصلاحات في آلية التصويت وتلافي عيوبها، فضلاً عن وضع حد للتلاعب في توزيع الدوائر الانتخابية، فمن المحتمل جداً أن يستمر الخلل السياسي والاقتصادي المتزايد في أمريكا.

وإذا استطاعت الولايات المتحدة هزيمة شياطينها، فإنها يمكنها امتلاك نوع جديد من القوة العالمية. ففي خطابه الأول أمام الكونجرس، بعد ثلاثة أشهر من رئاسته، تحدث الرئيس جو بايدن عن الحاجة إلى “الفوز بالقرن الحادي والعشرين”. ربما شارك جيل طفرة المواليد من بين جمهور بايدن رؤيته لأمريكا كدولة ديمقراطية منتصرة تحتفل بالنصر على الصين وروسيا الاستبداديين. لكن بالنسبة لجيل الألفية في أمريكا وحول العالم، الذين تعطلت حياتهم بشدة بسبب جائحة عالمية ولا يعرفون ما إذا كانوا سيظلون يعيشون في كوكب يصلح للعيش أصلاً خلال هذا القرن، فإن هذه اللغة قد عفا عليها الزمن، تشبه إلى حد كبير الحديث الآن عن “الوفاق الأوروبي” في القرن التاسع عشر.

فهؤلاء يرون أن “الفوز” ليس مسألة هزيمة أمة لأمة أخرى، ولكنه يعني فضلاً عن ذلك ضمان حياة مزدهرة للناس في مواجهة التهديدات الوجودية التي تواجههم. إن إطاحة طالبان بالحكومة المنتخبة في أفغانستان، والتي كافحت الولايات المتحدة لتأسيسها والحفاظ عليها طوال عقدين من الزمان، ستعزز إفلاس محاولة قيادة العالم من خلال الهيمنة العسكرية وحدها. إن العديد من الجمهوريين اليمينيين والديمقراطيين اليساريين يتفقون فعلياً على “أمريكا أولاً”، حتى وإن كان لكلٍ نسخته الخاصة، بالنظر إلى حقيقة أن لديهم تعريفات ورؤى شديدة الاختلاف عن واقع أمريكا وما ينبغي أن تصبح عليه. إن شعار “ضبط النفس” آخذ في الصعود، والذي تمت صياغته على أنه “فن الحكم المسؤول”.

لكن ضبط النفس ليس استراتيجية. فقد ينطوي مضمون هذا الشعار على النصح بما لا يجب فعله، لكنه لا يقدم وصفة إيجابية للقيادة الأمريكية بما يجب عمله في العالم، جنباً إلى جنب مع العديد من الدول الأخرى. وبالتالي، فقد حان الوقت لتقديم تعريف ورؤية جديدة للقوة الأمريكية. ففي القرن الحادي والعشرين، تتمتع الولايات المتحدة بوضع فريد (نظراً لميزة التعددية) يمكّنها من تفعيل علاقاتها مع جميع شعوب العالم وإطلاق العنان لقوتهم ومواهبهم وابتكاراتهم في مواجهة التهديدات العالمية الوجودية.

 

.

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d8%b3%d9%84%d9%88%d8%aa%d8%b1-%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%8a%d9%8f%d8%b9%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%86%d9%88%d8%b9-%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d9%85%d8%b1%d9%8a%d9%83%d8%a7-%d9%85%d8%b5%d8%af%d8%b1-%d9%82%d9%88%d8%aa%d9%87%d8%a7%d8%9f/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M