شيعة العراق وتجربة استثمار مصادر القوة

محمد علي جواد تقي

 

لا أبغي من اختيار المفردة في العنوان، الاصطفاف الطائفي مطلقاً، ففي ظل التجربة الديمقراطية من بعد التجربة الديكتاتورية الطويلة، نرجو أن تكون القوة لأي مكون اجتماعي مبعث خير وطمأنينة لسائر المكونات عندما يسهم في تعزيز القوة والمنعة للبلد بأسره، إنما لشيعة العراق – ليس اليوم، بل ومنذ بواكير تاريخهم- فرص أكثر لتنمية القدرات في مجالات عدّة تمكنهم من الإسهام بجدّ في تحقيق السلم الأهلي، والازدهار الاقتصادي، والأهم من ذلك؛ تحقيق السيادة الوطنية كما أثبتوه تاريخياً في ثورة العشرين.

لابد من جرد الحسابات

إنه لسؤال مهم وكبير، وغائب ايضاً –ربما عن البعض-؛ لماذا لم نجرِ جرداً عاماً ودقيقاً لما لدينا من مصادر قوة وفرص نمو وتقدم للحفاظ عليها، ثم تنميتها واستثمارها بالشكل الصحيح؟

لقد تعرض شيعة العراق لتحديات كبيرة خلال القرن الماضي، ومنذ تأسيس الدولة العراقية التي قامت على أكتافهم، ومثلت ثمرة لثورتهم لنضالهم الرائد لنيل الاسقلال من الاستعمار البريطاني، وفي العقد الاخير من القرن الماضي، اندلعت المواجهة الدامية مع نظام حزب البعث العراقي، وكان يفترض بمن هم في الصف الأول بالمواجهة التحقق مما في جعبتهم لهذه المواجهة، وقبلها –وهي الأهم والأخطر-التحقيق في قدرات العدو، واسلوبه في المواجهة، وكيف يفكر؟ وكيف ينفذ؟

للأسف الشديد، لم يحصل هذا ولا ذاك، فوقعت الواقعة، واحتدمت المواجهة بين الطليعة المؤمنة والواعية والطامحة للتغيير الشامل في المجتمع والدولة، وبين نظام حزب البعث الذي ترأسه خصيصاً لهذه المواجهة شخصٌ بمواصفات استثنائية باسم “صدام حسين”، وكانت النتيجة مأساوية للغاية، فقتل من قتل، وهرب من هرب من ابناء الحركة الاسلامية، ومرد ذلك الى أن حزب البعث قرأ الواقع الاجتماعي العراقي بشكل عام، والشيعي بشكل خاص بدقة متناهية، واكتشف فيه عناصر القوة وعمل على احتوائها بمختلف الاساليب والطرق، فتحرك على الاكاديميين، ثم على شريحة التربويين، ثم الادباء والفنانين، ثم عرّج على العشائر والقبائل، وحتى شريحة الشباب والطلاب والمرأة.

ليصل الدور للحوزة العلمية، والى العلماء والخطباء، فأيقن أنهم يشكلون مدرسة للثقافة والوعي لشريحة واسعة من الشباب والمتعلمين، ولهم الدور الأكبر في صياغة أفكار الحركة الاسلامية المعارضة، ومن ثمّ اقترب من شريحة التجار واصحاب رؤوس الاموال، وكانوا في الاغلب في المدن المقدسة؛ الكاظمية وكربلاء والنجف، الى جانب العاصمة بغداد، ومدن في الوسط والجنوب، فوجد أنها عقبة كأداء ليس من السهل تسويتها، والسبب؛ علاقتها الوطيدة بالحوزة العلمية وبالخباء والعلماء، واكتسابها ثقافة دينية عميقة تمتد لعقود طويلة من الزمن.

الغريب في أمر المعنيين بما يمكن تسميته بـ”البيت الشيعي” من علماء وخطباء ومثقفين، استمرار هذا التجاهل حتى بعد الإطاحة بنظام صدام، وتحقق الأمل القديم الذي كاد يكون حلماً بالتخلص منه، وقد لاحظ المتابعون في الداخل والخارج، أن بمجرد انهيار هذا النظام الذي طالما حاول الإيهام بأنه “حافة التاريخ العراقي”، وأنه قدر العراقيين، ولن يُقهر! برزت عناصر القوة هذه بشكل مثير وملفت للنظر أمام العالم، كما لو أن صدام، وسياساته القمعية، ومنهج التضليل والتزييف لم يكن من قبل.

ولو أجرينا مسحاً سريعاً على عناصر القوة لدى هذا المكون، نجد أنها من الوفرة ما يؤهله لقيادة العراق الى مراقي التقدم في المجالات كافة، ويكون نموذجاً يحتذى به في المنطقة والعالم، وليس فقط يحل مشكلة الأمنية والسياسية الناتجة عن صراع ارادات اقليمية ودولية.

بالامكان الاشارة الى هذه العناصر بشكل مجمل من خلال تصنيفها الى حقلين اساس:

الأول: عناصر القوة المعنوية

وهي من شأنها خلق الارادة والعزيمة والثقة بالنفس، وتوفير كل العوامل النفسية اللازمة لصناعة جيل متوثب نحو التغيير والتطور، وهي موجودة في المراقد المقدسة للأئمة المعصومين، عليهم السلام، كما هي موجودة في المناسبات والطقوس الدينية والشعائرية، وفي مقدمتها مناسبة إحياء ذكرى عاشوراء ونهضة الامام الحسين، عليه السلام، ضد طغيان وانحراف الدولة الاموية.

إن الدول المتقدمة في الغرب، وايضاً، روسيا والصين، بذلوا جهوداً مضنية لإحياء التاريخ والتراث لديهم ليكون مبعث ثقة بالنفوس، وأن الشباب المتعلم والمبدع إنما يمثل امتداد للآباء والاجداد المتفوقين والناجحين الذين “ضحوا حتى يصلوا هم الى مراقي التقدم”. ولذا نلاحظ الاهتمام البالغ بالمباني الأثرية، والتراث القديم من فنون وآداب وعلوم ليشعر الجيل الجديد بأنه يجري في تيار الزمن والتاريخ، وعليه هو ان يحفظ منجزاته الى ابنائه وأحفاده.

ولا غرو من القول: إن ذلك التراث، مهما كان جميلاً بمظهره، وكبيراً في حجم منجزاته، فانه يبقى تراثاً ميتاً اذا ما قارناه بالتراث الاسلامي- الشيعي الحي والنابض، ولسنا بحاجة الى البرهنة، فقد كفانا المفكرون والعلماء من غير المسلمين الذين أشادوا بالتراث الحيّ في العراق تحديداً، وبالذات ما يتعلق بشخصية أمير المؤمنين، وابنه الامام الحسين، عليهما السلام، الى جانب تاريخ حافل بالملاحم والمواقف البطولية والمنجزات الانسانية.

وقد سألت الخطيب والعالم الكبير السيد مرتضى القزويني في حوار معه حول دوافع الشباب العراقي للتطوع باعداد كبيرة عام 2014 لصد الاجتياح الداعشي رغم الحالة المعيشية الصعبة، أجاب: “عندما يسمعون قصص بطولات شهداء كربلاء مثل؛ حبيب بن مظاهر الاسدي، وعابس الشاكري، وقصص العلماء والثائرين والمصلحين وتضحياتهم، فمن المؤكد أنهم يحملون هذه الصور في نفوسهم فيندفعوا بها بها لتكرار تلك الملاحم”.

ومن عناصر القوة المعنوية الفاعلة على الأرض؛ المرجعية الدينية، التي عرفت بعلاقتها الوطيدة مع المجتمع طيلة العقود الماضية، وما أثمر ذلك من واقع اجتماعي وسياسي نرى ملامحه في الساحة حالياً.

الثاني: عناصر القوة المادية

عرف عن المكون الشيعي على مر الزمن بقدراته الذهنية الخلاقة، ودماثة أخلاقه وانفتاحه على الآخرين وعلى العالم، فمعظم العلماء العباقرة من العراق هم من الشيعة، وايضاً الادباء والمفكرين والمثقفين، وربما تكون نسبتهم الكبيرة من سكان العراق عاملاً للتفوق والظهور بشكل أكثر تأثيراً.

الى جانب هذا؛ لابد من الاشارة الى شريحة التجار الذين يشكلون نسبة كبيرة من مجموع اصحاب رؤوس الاموال في العراق، مع وجود النسبة الكبيرة من الطبقة المتوسطة في هذا المكون، و مردّ ذلك الى وجود حركة الزائرين الى المراقد المقدسة، واشتغال عدد كبير منهم في التجارة بشكل عام، ولعل أكبر دليل على وجود هذه الشريحة الميسورة، المبادرات الكبيرة لدعم وإسناد قوات الحشد الشعبي خلال فترة الحرب ضد عناصر داعش، ثم في فترة مواجهة جائحة كورونا، ومد يد العون للعوائل المتضررة من الحجر المنزلي، وقبلها المشاركة في مشاريع الإغاثة والإعانة للايتام والعوائل الفقيرة عبر مؤسسات خيرية عديدة.

الشعور الوهمي بالضعف

كل هذه العناصر الايجابية ونقاط القوة، وغيرها كثير، تتعرض اليوم لعملية تحجيم وتضعيف غريبة وملفتة للنظر من خلال الربط بين تجربة سياسية فاشلة لكيان سياسي معين، او لشخص بذاته، وتجربة مكون بأسره له تاريخه وعمقه الحضاري، ورموزه الكبار، بدعوى أن الشيعة سجلوا فشلاً ذريعاً في إدارة الحكم، في حين يؤكد كل الباحثين على أن نظام الحكم في العراق لم يقم على أسس دينية، فضلاً عن أن يكون “حكماً شيعياً”. فهو نظام ديمقراطي أسسه الاميركان على يد بول بريمر الذي رهن تطبيق الشريعة الاسلامية في الدستور بـ”ألا يخالف مبادئ الديمقراطية”!

وقد استغل البعض وسائل التواصل الاجتماعي لتكون لسانه الطويل والصدّاح لعرض السلبيات والاخطاء والهفوات في هذا المكون، كما لو أن العالم يخلو منها، وأن الشعوب تعيش بلا أخطاء، وهي تنعم بالسعادة والهناء، أما الانسان الشيعي في العراق فانه مصدر الصفات الذميمة، والممارسات الخاطئة، والشيعي هنا، يشمل العالم والجاهل، والمتعلم، والسياسي، والتاجر، وحتى المرأة.

ومن أكثر ما يتم تسليط الضوء عليه، قضية الولاءات والانتماءات لدى ابناء هذا المكون، وهذا أمضّ ما في المشهد الاعلامي الذي تقوده بالدرجة وسائل التواصل الاجتماعي المتداول بسهولة بين افراد المجتمع، ولاسيما المجتمع الشيعي مما يتسبب بنشوء حالة التنكّر للذات، بل والهروب منها خجلاً! وتكريس مشاعر الضِعة والهزيمة النفسية.

إن “لغة الواقع” التي يتثشبث بها الكثير في خطابهم على وسائل التواصل الاجتماعي، والتبرّم من فقدان الولاء الشيعي للوطن، ليس فقط لن تجعله وطنياً، بل ويحصل ما هو أخطر من هذا عندما يتجرّد من شعوره بالمسؤولية الجماعية، والتفكير المنفرد، وبالمحصلة؛ تبعثر الطاقات والقدرات، فما هي البوتقة التي يفترض على العالم والمثقف والتاجر أن يصبوا فيها قدراتهم وطاقاتهم؟

الحديث السلبي عن وطنية الشيعة في هذه الفترة تحديداً، يجانب الحقائق التاريخية والواقع الاجتماعي، كما يبتعد عن الحنكة والذكاء في الطرح الذي يجعل الشيعي إما أن يكون مع هذا، او ان يكون مع ذاك بالضرورة، وهي المعادلة المشبوهة التي تم الاتفاق على تزريقها في الواقع الاجتماعي والسياسي بما يخدم مصالح المتنافسين على العراق وخيراته وقدراته.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/23806

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M