صحة الغرب في المختبر تهافت المناعة الحضارية

جهاد سعد

تتناول هذه المقالة بالتحليل النقدي قضيّةً محوريّةً تتعلّق بالخلل الذي وقعت فيه الدول الغربية الحديثة وهي تواجه جائحة كورونا. لذا فهي تركّز على تظهير المفارقة المفجعة بين قدرات هذه الدول وتقدّمها العلمي واخفاقها في الآن عينه عن احتواء الجائحة. وهو الأمر الذي حدا بنخبةٍ واسعةٍ من العلماء والمفكرين الغربيين إلى طرح أسئلة غير مسبوقة حول الأسباب العميقة التي أفضت إلى هذا الإخفاق، والتي تعود بمجملها حسب الباحث إلى النقص التكويني في المناعة الحضاريّة لمجتمعات الحداثة في الغرب.

المحرّر

يمكن فحص وتشخيص أزمة الكورونا وتداعياتها من مداخل عدّة، ولكنّنا فضّلنا أن نُجري فحصًا دقيقًا، يتناول أزمات الدولة الحديثة، منذ ولادتها لاعتقادنا بوجود تشوّه جينيّ أصابها في مراحل التكوين، وأدّى في حالة الولايات المتحدة الأميركيّة إلى مركّب هجين هيمنت عليه الرأسماليّة المتوحّشة، واجتمع ـ في آخر ولاية ترامب ـ مع سوء الإدارة؛ ليتسبّب بأكبر كارثة صحيّة للدولة العظمى في التاريخ المعاصر.

أصيبت الدوائر المسؤولة عن بسط الهيمنة الأميركية بالهلع، فقد حذّر روبرت د. بلاكويل، زميل أوّل في مجلس العلاقات الخارجيّة (CFR) قائلاً: «إلى جانب المنافسة الأميركية ـ السوفيتية خلال الحرب الباردة، فإنّ COVID-19 هو أحد أعظم اختبارين للنّظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة منذ تأسيسه». أمّا توماس رايت، زميل معهد بروكينجز، قال: «لا شيء آخر منذ ذلك الوقت يقترب من الآثار المجتمعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة للفيروس على السكّان في جميع أنحاء العالم».[2]

أمّا سيمون مير[3] فقد كتب على موقع البي بي سي البريطانية بحثًا استشرافيًّا تحت عنوان «كيف سيغيّر كوفيد – 19 العالم»، وفيه يتوقّع ظهور أشكال جديدة من الدول، ويرى في هذا الصدد أنّ هناك أربعة عقود مستقبليّة محتملة: الانحدار إلى البربريّة، ورأسماليّة الدولة القويّة، واشتراكيّة الدولة الراديكاليّة، والتّحوّل إلى مجتمع كبير مبني على المساعدة المتبادلة. يضيف: كلّ النّسخ المستقبليّة ممكنة تمامًا، وإن لم تكن مرغوبة بالقدر نفسه[4].

لا يمكننا القول إنّ استجابة الدّول الغربيّة والشرقيّة كانت متساويةً في مواجهة الجائحة. فقد نجحت ألمانيا والدول الإسكندنافيّة في الحدّ من انتشار المرض لأسبابٍ تتعلّق بقوّة النّظام الصّحّي وحسن الإدارة، وتمكّنت الصين من التغلّب عليه بفضل النظام المركزي الصارم، وثقافة الالتزام القويّ لدى الشّعب الصيني… ولكن السياسة الألمانيّة نفسها لم تكن فعّالة في المواجهة الأوروبيّة الشاملة، إن لم تكن سببًا في تفاقمها في إيطاليا وإسبانيا. ما يعني أنّ الاتّحادين الغربيين الأوروبي والأميركي، عجزا بوضوح عن تنسيق استجابةٍ إنسانيّةٍ شاملة حتى في دائرة سيطرتهما؛ لأسباب عنصريّة واقتصاديّة وسياسيّة…. وما من ريب فإنّ هذا الفشل المدوّي يسمح بالقول: إنّ الجائحة دهمت دولاً كانت تعاني أصلاً من نقص في المناعة الحضاريّة؛ بسبب ظروف ولادتها، وطريقة نموّها وتطوّرها، وهيمنة المعايير غير الإنسانيّة على المؤسّسة الحاكمة فيها.

ضمن مجموعة عناوين سنحلّل جذور المشكلة، ثم نعود إلى الرؤية المستقبليّة، والاتّجاهات المتوقّعة بعد الأزمتين الإقتصاديّة والصحيّة.

1 – أزمة القيم

سنة 2013 أصدر الفيلسوف الكندي جون ماكمورتري[5] كتابه : «المرحلة السرطانيّة للرأسماليّة من الأزمة إلى الشفاء»، وهو من القلائل الذين قاربوا التجربة الغربيّة من منظور قيميّ أخلاقيّ، دفاعًا عن «حقّ الإنسان في الحياة» الذي ما عاد من أولويات نظم الهيمنة الرأسماليّة وثقافة السّوق، التي تخطىء بحقّ الإنسانيّة عندما تسبّب التفاوت الفادح في توزيع الثروة، وتجعل منظومة القيم الإنسانيّة برمّتها خاضعة للمعايرة السوقيّة في نظام الإجحاف في توزيع «القيمة» تبعًا للظّلم في توزيع الثروة. يقول ماكمورتري: على المستوى المعياري لهذه العقيدة… الحريّة تساوي الحريّة للمال الخاص.. وهذا يعني حريّة أقلّ من أيّ وقت مضى لأولئك الذين لديهم القليل من المال، وبالتالي لا حقّ في الحياة لمن لا يملكونه[6].

يظهر أنّ دور الثروة في معايرة القيم مسألة تأسيسيّة عميقة الجذور في تاريخ الدولة الغربيّة ما بعد الثورة الصناعية، والتي هي بحسب جان توشار وغيره من المؤرّخين للفكر السياسي المعاصر، حصيلة ظهور الطبقة البورجوازيّة التي طالبت بحقّها من الثروة، بعد ازدهار التجارة: «كان هناك حدث هيمن على تاريخ الأفكار السياسيّة في القرن الثامن عشر: هو نموّ البورجوازيّة في أوروبا الغربيّة. وهنا تجب الإشارة لا إلى التقدّم التقني فقط بل أيضًا إلى المناخ الاقتصادي العام، حيث بدت التباشير الأولى للثورة الصناعيّة: إنّ مرحلةً طويلةً من التوسّع بدأت سنة 1730، ففي المجال الزراعي ساعد التقدّم الزراعي والإنتاج المتزايد على تغذية جماهير أكثر عددًا وتوفّرت ظروف ملائمة للرّبح في كلّ القطاعات، ممّا حفّز المبادلات والنشاطات اليدويّة، وتنامت المدن والمرافىء وهيمن المجهزون والباعة، الذين قام فولتير بتقريظهم في رسائله الإنكليزية بقوله: «التجارة أغنت مواطني إنكلترا، وساعدت على جعلهم أحرارًا، وهذه الحريّة ساعدت بدورها على توسيع التجارة، من هنا تكوّنت عظمة الدولة». هذا النّصّ لفولتير يعرّفنا بمثال أو نموذج لطبقة أحبّها، لقد صاغ بتعابير دقيقة المعادلات الأربع التي شكّلت بالنسبة إلى البورجوازيّة الأوروبيّة حلقة التقدّم: التجارة عنصر الثروة، والثروة عامل الحرية، والحرية تشجّع التجارة، والتجارة تعمل من أجل عظمة الدولة، ويمتدح جورس في كتابه «التاريخ الإشتراكي» مطوّلًا وبشكل شعريّ تقريبًا هذه العائلات البورجوازيّة التي وصلت إلى القدرة الاقتصاديّة، والتي سرعان ما أخذت تطالب بالحكم السياسي. وكما قال برناف فيما بعد: «أدّى التوزيع الجديد للثروة إلى توزيع جديد للحكم»[7].

وفي مقابلة «غلوبال ريسرتش» في 14 تموز/ يوليو 2020، يضيف ماكمورتري: «أن التفكير النقدي في أعلى مستوياته يتعامى عن نظام القيم الذي يحكمنا… والذي يقدّم وكأنّه ضرورة اقتصاديّة لا مناصّ منها، وبسبب هذه المقاربة نحن محاصرون ببرنامج قيم أعمى للحياة تم تصميمه وتقديمه على أنّه قوانين طبيعية، وبالتالي فإنّ أزمة Covid-19 هي اختبار لمدى عمق الاضطراب».[8]

من المهمّ الإشارة في هذا السياق إلى أنّ مفردة القيم غالبًا ما تطغى على الخطاب الثقافي والفكري في العالم المعاصر. وهو ما يجري على وجه التحديد في إطار محاولة فهم الإخفاقات الاجتماعيّة. غير أنّ هذه المفردة لم تأخذ حقّها في التعريف على الرغم من شدّة اتّصالها بواقعنا وسلوكنا، وعلينا ألاّ نتوهّم أنّ «أزمة القيم» تقتصر على الغرب وحده، فنحن نعيش بلا مكابرة قدرة الغرب على عولمة السلبي والإيجابي في حضارة حوّلت التكنولوجيا إلى إيديولوجيا، بمعنى أنّها آمنت بقدرة الشبكة العنكبوتيّة ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المتطوّر، على تغيير المجتمعات وبسط السيطرة والتحكّم بمصائر الدول والشعوب، فلسنا بالتالي بمنأى عن أيّ تحوّل غربيّ قادر على دفعنا إلى بؤرة الإعصار دائمًا كمتأثّرين وغالبًا كمستهدفين.

يعرّف روكيتش ميلتون (1918_1988) [9] القيم بأنّها: «عبارة عن تصوّرات من شأنها أن تفضي إلى سلوك تفضيلي، كما أنّها تعتبر بمثابة معايير للاختيار من بين البدائل السلوكيّة المتاحة للفرد في موقف ما، ومن ثمّ فإنّ احتضان الفرد لقيم معيّنة، يعني توقّع ممارسته لأنشطة سلوكيّة تتّسق مع تلك القيم.» فالقيم محدّدة للسلوك ومرشدة له، وهي التي توجّه اختياراتنا من بين بدائل السلوك في المواقف المختلفة وتحدّد لنا نوع السلوك المرغوب فيه في موقف ما توجد فيه بدائل سلوكيّة عدّة، كما يرى بأنّ التعدّد في مجالات الحياة والسلوك يؤدّي إلى تعدّد في نظم القيم الموجّهة لسلوك الفرد”[10] .

لا شكّ بأنّ هذا التعريف يفتقر إلى الدقّة على الرغم من أنّه الأفضل بين عدد كبير من التعاريف، ونحن بحاجة إلى التعمّق في تعريف القيم؛ لفهم معنى أن يكون بلدًا أو مجتمعًا أو حضارةً أو دولةً في «أزمة قيم». أمّا نقطة الخلاف مع تعريف ميلتون فهي في اعتباره القيم «تصوّرات» بينما يصدق هذا الكلام على «المفاهيم» التي ينتزعها الذهن من المعارف والوقائع، فعلوم الطبيعة تقول البيئة هي الماء والتراب والهواء والجبال والسهول والشجر.. وهذه صورة معرفيّة مرآتيّة لا يختلف فيها أو معها أيّ إنسان، ولكن «قيمة البيئة» تزداد عندما نسمع الأيكولوجي يقول: إنّ البيئة هي المحيط الحيوي الذي يضمن حياتنا، وينتج عن «مفهوم المحيط الحيوي» محكات و«معايير» تؤثّر في الموقف والسلوك، ولو نظرنا نظرةً ميكروسكوبية إلى تلك المعايير لوجدناها رباط أو ارتباط بين المفهوم من جهة والسلوك من جهة أخرى. وينتج هذا الارتباط بمفهوم البيئة مستويات متفاوتة من احترام البيئة (موقف) مرورًا بالعمل على حمايتها (سلوك) وصولاً إلى الأحزاب والحركات البيئيّة التي تتعرّض للتنكيل وأحيانًا يتعرّض أعضاؤها للموت، وهي تمنع اعتداء منظّمًا على البيئة الطبيعية، (التضحية)…. ولذلك أميل إلى القول بأنّ القيم هي «نحو ارتباط بما فوق الذات» لا فقط «الإرتباط» بمفهوم معيّن، بل أيضًا بمبدأ أو رمز أو شعار أو فكرة أو اعتقاد أو حتى بشخص أو مكان أو زمان، ويفترض بهذا «الارتباط» أن يؤدّي إلى موقف أو سلوك أو تضحية. إذًا، القيم  ليست هي مفهوم التصوّر نفسه، ولا هي السلوك بل هي الرابط، وهذا الرابط يقوم بدور «القيّم» (بالشدة المكسورة) على السلوك، كما نستفيد من تفسير العلامة الطباطبائي لقوله تعالى:( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [11][12].

وككلّ رابط، تختلف علاقة الإنسان بقيمه شدّةً أو ضعفًا، فمن جهة الشدّة قد يصل الإنسان لدرجة الاستشهاد عندما يتعمّق إيمانه بالحريّة والعدالة، فيصبح هو بذاته قيمة مجسّدة، ومن جهة الضعف قد ينحدر إلى مستوى التّلاعب بالمفاهيم والقيم، أو لنقل تفريغ القيم والمفاهيم من مضمونها، فلا يبقى منها إلا الألفاظ. بمعنى أنّها لا تعود تؤتي ثمارها المتوقّعة منها على مستوى السلوك، وفي حالة الأزمة المستعصية ينتج الإنسان منظومة قيم بديلة زائفة، لا وزن لها في عالم الحق، تحكم علاقته بالطبيعة والآخر على نحو مخالف للفطرة والميزان والقانون.

في أيّ حال، لا أحد يستطيع أن يعلن أنّه ضدّ القيم الإنسانيّة، كالحريّة والعدالة والمساواة، ولا أحد يمكنه أن يجهر بأنّه ضدّ الحقوق الفطريّة والطبيعيّة كحقّ الإنسان في الحياة، وحقّه في التعبير، والعيش الكريم. ولكن التاريخ قدّم لنا صورة تشير إلى منحًى خطير وهوّة سحيقة  بنتها سياسات الدول بين خطابها الرسمي والحقوقي من جهة، وبين ممارساتها من جهة أخرى، وسنرى أنّ «الآباء المؤسّسين»[13] كما يسمّونهم في الولايات المتحدة الأميركية، والثوار الفرنسيين، كانوا في القرن الثامن عشر صادقين فيما كتبوه من وثائق حقوقيّة غير مسبوقة، حتى أخذت هذه الشخصيّات في أميركا هالة القداسة الدينيّة. ولكن المسار تحوّل إلى انقلاب داخلي على القيم الغربيّة حتّى أصبحت «قيمة» الحياة مسألة نسبيّة. ومضت الثورة الصناعيّة فاجتاحت المجال الحقوقي والإنساني لتنتقل بالفضاء العالمي من مرحلة تصنيع السلعة والمتاجرة بها، إلى مرحلة «تسليع القيم» واختيار ما يناسب الإيويولوجيّة الرأسمالية منها.

2 – الأدبيات المؤسّسة للدولة الحديثة 

لو عدنا إلى الأدبيات المؤسّسة للدولة الحديثة، لوجدناها طافحة بالأدب الإنساني الرفيع تحت تأثير المفكرين الإنسانيين والرومانسيين. وبخلاف المقاربات المبتسرة فقد أسّس المفكّرون المسيحيون للتحذير من خطورة الاتّجاه «الرأسمالي» على العدالة والحقوق المدنيّة، ويكاد يكون كتاب كوينتن سكنر «أسس الفكر السياسي الحديث» بجزئيه، إضاءة مهمّة على دور المسيحيّة والفكر الرواقي في تأسيس روابط قيميّة بين الحكم والفضيلة، فقد: «اعتبر لاتيني»[14]  بمثابة البديهيّة أن «يدمّر الفضائل أولئك الذين يشتهون الغنى»، واستشهد بجوفينال في قوله: «الثروة تربّي عادات قبيحة». واعتمد موساتو، وبمقدار واسع، على المراجع الرواقيّة؛ لكي يصف ما حصل أخيرًا من «أسر وموت» لجمهورية مدينة بادوا على يد كانغراندي في عام 1328م. ومع أنّه لم يقلّل من أهميّة إسهام «التحزّب الداخلي» و«الطموح المميت»، نراه يتّبع سالوسْت في التأكيد على الآثار المهلكة «للجشع المرضي»، أي «شهوة المال»، وما يرافقها من فقدان للمسؤوليّة المدنيّة. فهو يتتبّع أصول سقوط مدينة بادوا إلى اللّحظة التي بدأ عندها قادة المواطنين «بالتحوّل إلى الربا الفاحش» فسمحوا «بأن يحلّ اكتساب المال وخزنه ونموّ جشعهم محلّ العدالة المقدّسة». وهذا سبّب بأن تكون المدينة «محكومة بطرق الاحتيال والخداع» وبالتالي ضمان «تحويل الأعمال إلى أعمال شريرة وإلى أنانيّة». فكانت النتيجة النهائيّة والتي لا مهرب منها «أن انتزعت مقاليد الحكم كلّها»، وصودرت حريّة المدينة[15].

هزمت الكاثوليكيّة بعد حرب الثلاثين سنة (1618_ 1648)، وتابعت البروتستانتية بتحالف مع العلمانيّة رسم معالم الدولة الحديثة بعد الاتّفاق الوستفالي سنة 1648م، وصولاً إلى القرن الثامن عشر الغني بالتحوّلات الفكريّة والسياسيّة، والذي زوّدنا بنصوص ثوريّة، تشير إلى اتّجاه تحرّري تفاؤلي يحترم حقوق الإنسان ويؤكّد على حقّ الشعب في تغيير النّظم الظالمة.

أوّلاً: إعلان الاستقلال الأميركي (1776)

ما يعرف اليوم بالولايات المتّحدة الأميركية كان مستعمرة إنكليزية، وفي نتيجة حرب الاستقلال التي قامت في نيسان/ ابريل سنة 1775 التي تحقّق لها النجاح، صدر إعلان استقلالها الذي أقرّه مؤتمر عام (كونغرس الولايات Continental Congress) في 4 تموز/ يوليو سنة 1776 وكان مما جاء في مقدّمة هذا الإعلان:

«نقرّر بهذا أنّ من الحقائق البديهيّة أنّ جميع النّاس خلقوا متساوين، وقد وهبهم الله حقوقاً معيّنة لا تنتزع منهم. ومن هذه الحقوق حقّهم في الحياة والحريّة والسعي لبلوغ السعادة. والحكومات إنّما تنشأ بين النّاس لتحقّق هذه الحقوق فتستمدّ سلطانها العادل من رضا المحكومين وموافقتهم. وكلّما صارت أية حكومة من الحكومات هادمة لهذه الغايات، فمن حقّ الشعب أن يغيّرها أو يزيلها، وأن ينشئ حكومة جديدة، ترسي أسسها تلك المبادئ. وأن تنظم سلطاتها على الشكل الذي يبدو للشعب أنّه أوفى من سواه لضمان أمنه وسعادته».

ثانيًا: إعلان حقوق الإنسان والمواطن (1789)

كان إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أصدرته الجمعية التأسيسية في 26 آب/ أغسطس سنة 1789 ثمرة متقدّمة قدّمتها الثورة الفرنسيّة لخير الإنسانية وتقدّمها: «إنّ كلمة ممثلي الشعب الفرنسي اتّفقت على أن تناسي حقوق الإنسان واحتقارها كانا سببين رئيسيين في إذلال الشعب وإشقائه وإلقاء بذور الفساد والفوضى في الجهاز الحكومي. فقرّروا نشر حقوق الإنسان الطبيعية وإعلانها بين جميع أفراد الشعب ليتسنى لكلّ مواطن معرفة حقوقه وواجباته».

وجاء الإعلان بسبع عشرة مادة تضمّنت مبادئ في الحقوق والحريات ما زال كثير من شعوب العالم الثالث إلى اليوم يطمح إلى ممارستها. بدأ الإعلان بالقول «يولد الناس ويعيشون أحرارًا متساوين في الحقوق. والفوارق الاجتماعية لا يمكن أن تبنى إلا على أساس المنفعة المشتركة».

ثم تأتي المواد الأخرى لتقرّر: أنّ «غاية كلّ هيئة سياسية هي صيانة حقوق الإنسان الطبيعية الثابتة. وهذه الحقوق هي: الحرية والملكية والأمن ومقاومة الظلم…» (م2).  وأن «الأمة هي مصدر كل سلطة». وأن «الحرية تقوم على حق ممارسة كلّ عمل لا يضر بالآخرين…» وأنّ «القانون هو الإعراب عن إرادة المجتمع. وكلّ المواطنين لهم الحق في أن يشتركوا بأنفسهم أو بواسطة نوابهم في وضع القوانين». ويلاحظ أنّ هذا الإعلان إذ قرّر مبادئ الديمقراطية السياسيّة، لم يُعْنَ بتقرير حقوق الإنسان في المجال الاقتصادي، وهذا النقص عالجه دستور سنة 1793 إلى حد ما.

ثالثًا: دستور سنة 1793 للثورة الفرنسية

أقرّ هذا الدستور من قبل المؤتمر الوطني (الكونفنسيون) في 24 حزيران/ يونيو، سنة 1793 و يتألّف من (إعلان لحقوق الإنسان) في 35 مادة ومن قانون الدستور نفسه في 124 مادة. وفي هذا الدستور إشارات إلى حقوق الإنسان في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، تتلخّص في التأكيد على حقّ العمل والمساعدة الاجتماعيّة والثقافيّة. وإنّ الإعانة العامة Relief دين مقدّس. وعلى المجتمع أن يقوم بأود المواطنين البؤساء إمّا بتأمين العمل لهم، وإمّا بتأمين وسائل الحياة للذين لا يقدرون على العمل (م21). وإنّ «التعليم حاجة لكلّ إنسان. وعلى المجتمع أن يسهّل لكلّ قوته، وأن يضع التعليم في متناول جميع المواطنين» (م22).

وذهب دستور سنة 1793 – فيما يخصّ مقاومة الظّلم – إلى أبعد ممّا ذهب إليه إعلان الحقوق لسنة 1789، فهذا الدستور أقرّ «حقّ الثورة» فقرّر أنّه «عندما تنتهك الحكومة حقوق الشعب تصبح الثورة للشعب ولكلّ جزء منه، أقدس الحقوق وألزم الواجبات، (م35). وإنّ كلّ إجراء يتّخذ على غير ما يقتضيه القانون يعدّ تحكميًّا واستبداديًّا يحقّ لمن يتّخذ ضدّه بالإكراه أن يردّه بالقوّة» (م11).

ويقرّر الإعلان أنّه لا ضرورة لكي يعتبر الجور قائمًا فيستدعي المقاومة أن يقع على الجماعة بأسرها، وإنّما يكفي لوقوعه أن يلحق أحد أعضائها. فالجور يعدّ واقعًا على كلّ عضو إذا ما وقع على الجماعة بأسرها. (م34).

وكان من نتائج النهضة الأوروبية، والإصلاح الديني الذي تمّ في ظلّها، أن استردّ التفكير العلماني اعتباره، وانهار الكيان السياسي للإمبراطورية التي عرفتها القرون الوسطى لتحلّ محلّها الدولة القوميّة الآخذة في النمو، وأفكار تقول بحق الدول – بل وحتى الطوائف الصغيرة – في تقرير مصيرها. كما ظهرت سلسلة طويلة من الأفكار الثورية أدّت في النهاية إلى تعديل النّظم الأوروبية وتشكيل العالم الحديث[16].

3 – النسبيّة المطلقة والعنصريّة

الأصل أنّ النّسبيّ ضدّ المطلق، ولكن في التاريخ الغربي الحديث يمكننا القول إنّ النسبية اجتاحت كلّ شيء حتى أصبحت مطلقة. وإنّ السرديّة التقليديّة عن عصر الأنوار، كانت ولا تزال تخفي ما شابها من ظلمات، كانت تجد من يرعاها ويحرص على بقائها في الفكر والثقافة والممارسة اليوميّة للسلطة.

فلم يكن المقصود بكلمة مواطن آنذاك غير الإنسان الأوروبي الأبيض، واستمرّت تجارة العبيد عبر الأطلنطي لغاية 1808م، ولم يصدر قانون تحرير العبيد في بريطانيا إلّا سنة 1833م، أمّا في أميركا فكان الأمر على المستوى الرسمي ينتظر انتصار الشماليين على الولايات الكونفيدرالية الجنوبية لتنفيذ إعلان تحرير العبيد لإبراهام لنكولن 1863م، ولم تحسم نتائج الحرب قبل العام 1866م،[17] ولكن معركة الحقوق المدنية استمرّت بوتيرة غير منتظمة حتى سنة 1968م، ونشهد اليوم حلقة جديدة منها على أثر وصول رئيس عنصري إلى سدّة الرئاسة الأميركية، ومقتل المواطن جورج فلويد على يد الشرطة العنصرية البيضاء.

من هذا النحو سنجد أنّ العبوديّة والاتّجار بالبشر تتّخذ اليوم اشكالاً متطوّرة تتعدّى التمييز على أساس اللّون. وفي هذا الموضع ينتقد الأكاديميون والخبراء الأميركيون الأرقام المضلّلة والمزيّفة التي تصدرها مراكز الأبحاث المموّلة من الجهات الحكومية، وتلك التي تعلنها المصادر الرسمية في الولايات الأميركية كافة. يؤكد هؤلاء أنّ تقديرات مؤشّر العبوديّة العالميّة لمؤسّسة Walk Free عام 2013 بوجود نحو 63 ألف شخص مستعبد في الولايات المتحدة ليست صحيحة. وكذلك الأمر بالنسبة لأرقام مركز الموارد الوطنية لمكافحة الاتّجار بالبشر (NHTRC) في عام 2015، عن تلقي 5444 بلاغاً عن حالات الاتّجار بالبشر شملت المصانع، والعمل المنزلي، والزراعة، والبيع المتنقل، والمطاعم، والمراكز الصحيّة والتجميليّة، إضافة إلى الاتّجار بالجنس بمختلف الوسائل[18].

والآن وفي مواجهة جائحة تتحدّى إمكانيات الدولة العظمى، تقوم العنصريّة والنسبيّة الأخلاقيّة بدور «فيروس نقص المناعة» الاجتماعيّة، بل تتغوّل ويعلن الرئيس الأميركي بواسطة شرطته الحرب على الأميركيين الأفارقة، وخلفيّة هذا الإعلان واضحة لا تحتاج إلى كثير تحليل. إنّها تعني بكلّ وقاحة: إنّ من الأفضل للأمريكي الأسود أن يموت على أن ينافس «العرق الأبيض» على موارد الدولة العاجزة عن تأمين مستلزمات العناية الطبية للجميع. ولذلك كان شعار حملة الحقوق المدنية الجديدة اليوم: «حياة السود مهمّة» وجملة جورج فلويد الأخيرة قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة: «لا أستطيع أن أتنفّس».

وفي مناطق عدّة في الولايات المتحدة، يؤدّي وباء كوفيد-19 إلى وفيات أكثر في صفوف الأميركيين السود بشكل غير متكافىء بحسب مسؤولين عدّة طالبوا بنشر إحصاءات وطنيّة من أجل التمكّن من فهم حجم هذه الظاهرة.

ففي ولاية إيلينوي يمثّل السود 14% من السكّان، لكنّهم يمثّلون 42% من الوفيات. كاغو كان 72% من إجمالي الوفيّات من السود فيما يشكّلون أقلّ من ثلث السكان. وفي لويزيانا حيث تقع نيو أورلينز33% من السكان سود لكن 70% من وفيات كوفيد 19 كانت من هذه الفئة.

وليس هناك بعد دراسات دقيقة تشمل كلّ الولايات المتحدة، لكن تبيّن أنّ الأحياء الفقيرة حيث يقيم السود لديها عدد أقل من الأطباء ومستشفيات ذات خدمات أقل جودة، كما أنّ التغطية الصحيّة للوظائف الخدميّة أقلّ من غيرها من الوظائف ذات الأجور الأفضل وهي ظاهرة موثّقة تاريخيّاً، حيث يتم وصف فحوصات وأدوية للسود أقل من البيض[19].

4 – التمييز ضدّ كبار السن

أضف إلى ذلك «التمييز ضدّ كبار السن»، أو ما سمّي بسياسة «مناعة القطيع» التي يمكننا مقاربتها من زاويتين بغية توخّي الدقّة في فهم خلفيّات المواقف. فتارة تقرّر الدولة رسميًّا أنّها ستترك كبار السن يموتون في بيوتهم؛ لأنّهم عبء على الاقتصاد وشريحة لم تعد منتجة اقتصاديًّا، وتشكّل استنزافًا للخزينة، وهنا نحن أمام تهميش كامل لما تمثّله هذه الشريحة من ثروة إنسانيّة، واستهانة متوحّشة بحقّ الكبار بالعناية الصحيّة بالتساوي مع أولادهم وأحفادهم على الأقل، ولأسباب بحت ماديّة اقتصاديّة. «وفي حواره عبر» «راديو أوروبا 1» لم يتردّد الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري في مباشرة نقد قاسٍ لهذه الاستراتيجية اللا أخلاقيّة، متسائلًا عن السبب في التضحية بهذه الفئة الهشّة (الطاعنين في السن) الذين ينتمي أغلبهم إلى المتقاعدين، الذين يعتقد بعض خبراء الاقتصاد أنّها مجموعة غير نشيطة تثقل كاهل الموازنات الماليّة، وتمثّل عبءًا على مؤسّسات الحماية الاجتماعيّة والصحيّة، وعلى المؤسّسات الماليّة العالميّة»[20] .

وتارة أخرى، تبذل الدولة كلّ ما في وسعها بالتساوي بين الأجيال، ولكن عندما تجد نفسها عاجزة فإنّها تتعامل مع الحالات بحسب فرصتها بالنجاة بناءً على التشخيص الطبّي، ولم يثبت من الناحية العلميّة الدقيقة أنّ الأصغر سنًّا «بين المصابين»[21]، يملك فرصة أكثر من الأكبر، عندما ارتبطت فرص النجاة بالوضع النفسي والصحّي السابق ونمط الحياة وقوّة المناعة… وهكذا نجى ابن السبعين وحتى المئة ومات ابن الأربعين والثلاثين… فالأصل أن تبذل الدولة والمجتمع كلّ ما لديهما للحفاظ على حياة الجميع بلا أيّ نوع من التمييز، ثم تترك للقدر نتائج هذه الجهود بلا أيّ تدخّل بشريّ متعمّد، خصوصًا في حالة الدول الغنيّة والمقتدرة التي تفضّل أن تضخّم ميزانيات التسلّح والحروب على حساب ميزانيّة الصحّة العامّة والتوازن البيئي وحقوق الضمان الصحي والاجتماعي، وفي هذه الحالة يكون القتل العمد سياسة الدولة الرسميّة، فمرّة تقتل بالحروب المصطنعة لخلق سوق للأسلحة، ومرة تقتل بتقليل قدرة المجتمع على مواجهة الجائحة والتذرّع بسياسة مناعة القطيع.

5 – الذهنيّة الكولونياليّة ونقص المناعة الحضاريّة

رأينا عوامل عدّة تسير نحو تكوين الدّولة الغربية الحديثة أبرزها: تراجع سلطة الكنيسة، تفكّك الإمبراطوريّة الرومانيّة، ظهور الطبقة البورجوازيّة، تطوّر الفكر السياسي المواكب للثّورة الصناعيّة، ازدهار التجارة، والتوزيع الجديد للثروة الذي أدّى إلى ثورة في توزيع جديد للسلطات.

يكمل القرن التاسع عشر روايته فيقول: إنّ الثورة الصناعيّة أسّست لفائض الإنتاج والحاجة إلى الأسواق الجديدة، وبالتالي التوسّع والاستعمار، وكانت بريطانيا الأكثر تقدّمًا من الناحية الصناعيّة، وسيدة البحار حتّى سمّيت الفترة ما بين 1815 و1914 «بالسلام البريطاني» [22]، كلمة خادعة أخرى تخفي هيمنة بريطانيا الاستعمارية وهي في ذروتها، كما تخفي الحروب التي استمرّت ترسم حدود الدّول وتعيد رسمها حتى يومنا هذا، حيث لا يمكن الفصل بين هيمنة الغرب وعولمة الحرب.

وبعد حربين عالميّتين في بدايات القرن العشرين، دمّرت أوروبا بالكامل وبدأت حروب الاستعمار الجديد بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي. والتي سمّيت أيضًا بمصطلح عنصريّ هو «الحرب الباردة»، وهي ما كانت باردة أبدًا، لا في فيتنام ولا كمبوديا ولا في أفريقيا ولا في غرب آسيا وحوض المتوسّط… كلّ ما في الأمر أنّ ساحتها لم تكن إقليم الدّول المتصارعة في أميركا أو أوروبا.  كانت حروبًا بالوكالة، يذهب ضحيّتها دول وشعوب أخرى، قبل جلوس الدول العظمى على طاولة رسم الخرائط من جديد «بدم بارد أو بعقل بارد». ثقافة جديدة نشرتها السياسة كما يفهمها الغرب ويمارسها المستبدّون في الشرق، تقوم أساسًا على اعتبار «الحسّ الإنساني» نقطة ضعف في المعركة، وإذا لزم الأمر يتمّ توظيف «الخطاب الإنساني» في المعركة ويتمّ الاهتمام بالإنسان لا لنفسه بل لغيره.

أ – المأزق الاقتصادي (أميركا نموذجًا)

قلّل الاستعمار الجديد من قدرة الولايات المتحدة الأميركية على مواجهة الجائحة، بسبب الإفراط بالتّمدّد العسكري، وإهمال تطوير النّظام الصحّي. فدولة الاستعمار الجديد التي احتفلت بنهاية الحرب الباردة قبل ثلاثة عقود، وخاضت حروب وراثة النفوذ السوفيتي، فتمدّد نفوذها إلى حدود روسيا في أوروبا، واجتاحت العراق وأفغانستان، وحرّكت الثورات الملوّنة أو ركّبت موجة الثورات الشعبيّة وأجهضتها بالجيوش أو الإرهاب… قد وجدت نفسها في العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين مستنزفة اقتصاديًّا وماليًّا، وانفجرت أزمتها الخانقة سنة 2008، وقضى الرئيس الأميركي أوباما ولايتين وهو يعالج الاقتصاد إلى أن انفجر الشارع  في وول ستريت سنة 2016، وانتخب الأميركيون دونالد ترامب أو «المال أوّلاً»، في عمليّة تشبه انتخاب السرطان لمعالجة الجدري، بحيث يصبح البلد عاجزًا حتى عن مواجهة فيروس متطوّر من الأنفلونزا. وبالفعل واجهت الولايات المتحدة الأميركية موجات الجائحة، بصفر مناعة رسميّة واجتماعيّة، ونظام صحّي فقير، وسوء إدارة قائمة على المكابرة والتجاهل والعناد وأولويّة الاقتصاد. ورأينا أنّ أوروبا كانت أفضل حالاً، ولكن كدول لا كاتّحاد، مع تفاوت كبير كشف الفجوات بين دولة قائدة كألمانيا، ودول أوروبيّة أخرى كإيطاليا وإسبانيا.

مصيبة أميركا واستجابة أوروبا، يلخّصها المفكّر الأميركي نعوم تشومسكي في مقابلة مع فرانس برس بلغته المكثّفة عندما يقول: لا يوجد إدارة متماسكة. يقود البيت الأبيض شخص معتلّ اجتماعيًّا مصاب بجنون العظمة، لا يكترث إلّا لسلطته والاستحقاقات الانتخابيّة. عليه بالتأكيد أن يحافظ على دعم قاعدته، التي تضم الثروات الكبرى وأبرز أرباب العمل… منذ وصوله إلى السلطة، فكّك ترامب آليّة الوقاية من الأوبئة كاملةً، فاقتطع من تمويل مراكز الوقاية من الأوبئة، وألغى برامج التعاون مع العلماء الصينيين الهادفة لتحديد الفيروسات المحتملة. الولايات المتحدة كانت غير مهيّأة بشكل خاص. المجتمع (الأميركي) مجتمع مخصخص، غنيّ جدًا، لديه ميزات كبرى (…) لكن تهيمن عليه المصالح الخاصّة. لا يوجد نظام صحّي للجميع، وهو أمر شديد الأهميّة اليوم. هذا ما يمكن وصفه بالنّظام النيوليبرالي بامتياز. أوروبا أسوأ من نواحٍ عديدة، في ظلّ برامج تقشّف تزيد من مستوى الخطر والهجمات ضدّ الديموقراطية، ونقل القرارات إلى بروكسل وبيروقراطية الترويكا غير المنتخبة (المفوضيّة الأوروبية، البنك المركزي الأوروبي، صندوق النقد الدولي). لكنّها تملك على الأقل بقايا هيكل اجتماعي-ديمقراطي يؤمن قدرا من الدعم، وهو ما تفتقر إليه الولايات المتحدة[23].

ب- أولويّة الاستعمار الاقتصادي

يوجد شبه إجماع على ضرورة التعاون الدولي في مواجهة الجائحة؛ لأنّها لا تعرف حدودًا. رغم ذلك بقيت سياسة العقوبات الاقتصادية تمارس بشدّة من قبل أميركا أوّلاً وأوروبا ثانيًا. ولم تتمكّن عاصفة الفايروس، من زحزحة العقل الغربي عن أولويّة الهيمنة الاقتصادية على الاستجابة الإنسانيّة، ما أثّر بعمق على المناعة الدولية، وأعاق بوضوح جهود الدول «المعاقبة» كإيران وسوريا ولبنان، في تنفيذ خططها الرامية إلى احتواء انتشار المرض. هاجس التغلّب على الصين وكبح نموّها وتمدّدها، أضاف مانعًا جديدًا من ظهور تعاون دولي إنساني منسّق، ولا زالت التهديدات بالعقوبات والمضي في تنفيذها تهيمن على المشهد العالمي، بغية الحفاظ على مكاسب «الاستعمار الاقتصادي» كبديل مفروض بالقوّة الماليّة وسطوتها عن القوّة العسكريّة وانتشارها.

مع أنّ التجربة أثبتت أنّ المبالغة في التركيز على أولويّة الاقتصاد أضرّت بجهود مكافحة المرض، ولم تخدم الاقتصاد، بينما كانت الدول التي سخت على نظامها الصحي قبل الجائحة في نظام أقلّ راسماليّة وأكثر توازنًا، أقدر على خدمة المصابين وتمويل برامج الوقاية، وأسرع في العودة إلى تشغيل العجلة الاقتصادية. وأبرز مثالين في هذا المجال حالة ألمانيا في أوروبا وكوريا الجنوبية في آسيا:

فقد حظيت ألمانيا، التي حلّت في المرتبة 12 في الجانب الصحي من مؤشّر الازدهار، بإشادة عالمية لنجاحها في التعامل مع أزمة كورونا، وكانت معدّلات الوفيّات جرّاء الإصابة بفيروس كورونا في ألمانيا أقلّ من كثير من البلدان الأوروبية المجاورة. لكن خبراء يحذّرون من أنّ البلاد ليست في مأمن من الخطر بعد. وقد أسهمت قدرة ألمانيا على إجراء فحوصات مخبريّة للمواطنين على نطاق واسع في نجاح البلاد في الفصل بين المرضى، سواء كانوا يعانون من أعراض أو لم تظهر عليهم أعراض، وبين الأصحاء، وهو ما مكّنها من الحدّ من تفشّي العدوى.

واستطاعت ألمانيا بفضل نظامها الصحي القويّ أن تكافح المرض بسرعة وكفاءة. ويقول فيريكورت إنّ ألمانيا لديها عدد أكبر بمراحل من الأسرّة وغرف العناية المركزة والأطباء مقارنة بالدول المجاورة، مثل فرنسا والمملكة المتحدة. ويعزو ذلك إلى أنّ ألمانيا تتبنّى نظامًا فيدراليًّا، يمنح الحكومات المحليّة سلطة اتّخاذ القرارات بشأن الرعاية الصحيّة وإدارة الموارد في كلّ ولاية من الولايات الألمانيّة. ولهذا تتحمّل جميع الأحزاب السياسية قسطًا من المسؤوليّة، ويلعب التعاون وتقسيم المسؤوليّات دورًا كبيرًا في جهود احتواء الأوبئة[24].

وعن كوريا الجنوبيّة تقول براندون بي سوه، الرئيسة التنفيذية لشركة «لونيت» التي توفّر أدوات الذكاء الاصطناعي لمقدمي الرعاية الصحية، تقول إنّ انخفاض تكاليف الخدمات الطبية بفضل نظام التأمين الصحي الوطني الشامل، مهّد الطريق لإجراء فحوص مخبريّة وتصوير بالأشعّة المقطعيّة لعدد كبير من المواطنين في المرافق الصحيّة التابعة لنظام التأمين الصحّي الوطني. وتمكّنت الفرق الطبيّة من تشخيص المصابين بفيروس كورونا المستجد مبكّرًا وتوفير العلاج المناسب لهم دون إبطاء.

ويقول يونغبوك لي، الموظف بإحدى الشركات في العاصمة سيول: إنّ الحكومة طبّقت إجراءً جديدًا لضمان توفير الكمامات لجميع المواطنين، ووُضعت على مداخل جميع المباني أجهزة لقياس حرارة الجسم، وكاميرات حراريّة على المباني الكبرى. ويشارك العاملون بالمراكز الكوريّة لمكافحة الأمراض والوقاية منها في الخطوط الأماميّة لمكافحة الوباء. ويستفيد 77 في المئة من المواطنين من التأمين الصحّي الخاص لتغطية نفقات الخدمات التي لا يتحمّلها نظام الرعاية الصحيّة الوطني. وتقول سوه إنّ الوباء دون شكّ آخذ في الانحسار في كوريا الجنوبية، واستأنف المواطنون أنشطتهم اليوميّة كالمعتاد خارج المنازل، رغم أنّ أغلب المواطنين يرتدون الكمامات طوال الوقت[25].

ج -الوباء بدل الحرب

في كلّ حروبها كانت أميركا ترسل فقراءها ومعظمهم من السود، لقتل فقراء الدول الأخرى، وكانت دماء فقراء المجتمع الرأسمالي تحمي مصالح الشركات وكبار المحتكرين من جماعة ال 1%، الممسكين بزمام السلطة في الدولة العميقة، وكارتل النفط والسلاح، والواجهة السياسية التي يمثّلها الحزبين. كما كان موت السود في معارك الاستعمار الجديد يُبقي العرق الأبيض هو الأكثريّة المهيمنة على مقدّرات البلاد. والآن في ظلّ هذا التراخي في مواجهة الجائحة ونحن نستحضر تاريخ الإجرام والقتل من قرنين حيث بدأت الإبادة الجماعيّة على أسس عنصريّة وطبقيّة مع التأسيس واستمرّت مع الغلبة، يحقّ لنا أن نتساءل، بما أنّ أميركا قد أرهقت من الحروب العسكرية وقرّرت أن تجمع جيوشها، فهل كلّف الوباء بالمهمّة التي كانت تقوم بها الحروب؟ نسأل ونحن على يقين أنّ مالتوس[26] لا يزال حاضرًا في أذهان أصحاب القرار في الولايات المتحدة الأميريكية. يقول آلان تشيس في كتابه (تركة (مالتوس): إنّ 63678 ألف شخص قد جرى تعقيمهم قسرًا فيما بين عامي 1907 و1964 في أميركا في الولايات الثلاثين، وهي المستعمرة الوحيدة التي سنّت مثل هذه القوانين. لكن كان هناك في الحقيقة مئات الآلاف من عمليات التعقيم الأخرى التي كانت طوعيّة في الظاهر غير أنّها قسريّة جرت عنوة في واقع الحال. واقتبس آلان تشيس من القاضي الفيدرالي جيرهارد جيل قوله في عام 1974 في خضم قضيّة ترافعت فيها المحاكم لمصلحة ضحايا التعقيم القسري للفقراء: «على مدى السنوات القليلة الماضية قامت الدولة والهيئات والوكالات الفيدرالية بتعقيم ما بين مئة إلى مئة وخمسين ألف شخص سنويًّا من متدني الدخل الفقراء».[27]

6 – تهافت مناعة الحداثة

عندما يقول المفكّر الفرنسي الشهير جاك أتالي إنّ: «النقود هي الآفاتار الأخير للعقل»[28]، والآفاتار يعني التجسيد أو التقمّص وفق الأسطورة الهنديّة، فهذا يعني أنّ ما لا يمكن تقديره بثمن أو تسييله إلى «نقود» فهو خارج رادار عقل المجتمع الحداثوي، ونحن بدورنا نقول إنّ هذه الكلمة بالذّات هي «الآفاتار» النهائيّ للحداثة. حيث تصبح الدولة تعبيرًا عن من يملكون المال، تحت عنوان هيمنة «العقلانيّة»، فتنشئ الدولة آنئذ مجتمعًا ملائمًا لها بقدراتها التنظيمية والتقنية والأمنية والإعلامية والمالية الهائلة. الدور يصبح معكوسًا هنا، حتى مسألة أنّ «الشعب مصدر السلطات» تنحّى إلى «الخطاب» خارج عالم الفعل، وتُستدعى كلّما لزم الأمر لتكريس الواقع المعادي لها. فالمجتمع ليس هو الفاعل السياسي الصانع للدولة، وإنّما هم أهل الحرفة المنشغلون بمواكبة تطوّر أدواة الضّبط والسلطة والسيطرة التي لا تكفّ تزوّدهم بآليات تزوير الوعي وصناعة الرأي العام.

في هذا الفضاء تصعب الثورة على المجتمع ولو احتاج إليها؛ لأنّه تحوّل إلى شبكة من المواطنين ترتبط بالمؤسّسة الحاكمة في عمليّة تفاوضيّة حول الحقوق «العقلانية». كما تنهار كلّ الرّوابط الإنسانيّة التي يُعبّر فيها المجتمع عن «شخصيّته» خارج رادار الحداثة، هذه الروابط التي تشكّل سفينة النّجاة عندما تعجز الدولة عن مواجهة أزمة ماليّة أو جائحة صحيّة.

ويقرّ الفيلسوف الفرنسي إدغار موران: «بأنّ مسار الحداثة انتهى بالمجتمعات إلى تدهور بنيات التضامن التقليديّة، وأنّ استعادة أنواع التضامن هذه، بين الجيران وبين العمّال وبين المواطنين، وبين الآباء والأبناء الذين توقّفوا عن الدراسة في المؤسّسات التعليميّة، صارت من أكبر التحدّيات الطموحة للمجتمع»[29].

وحتى على المستوى الدولي  يضيف موران: إنّ الجائحة كشفت عورة العولمة،  التي بدت في شكل ترابط وتبادل خالٍ من التضامن؛ إذ اتّجهت حركتها إلى  التقنيّة والاقتصاد في حين فشلت في أن تعزّز التفاهم بين الشعوب، إذ أظهر الوباء حجم الأنانيّة والانغلاق الذي تبديه كلّ أمّة على حدة داعيًا إلى التفكير في مسار جديد للبشرية غير العقديّة النيوليبرالية، مسارًا يعيد الاعتبار لقطاعات الدولة، وخدماتها الصحيّة والاجتماعيّة، ويقطع مع سياسات التقشّف التي تضرّرت منها المؤسّسات الصحيّة والتعليميّة والاجتماعيّة[30].

اتّجاه واضح نحو نموذج اشتراكي معدّل، في مقابل تفشّي الرأسماليّة بأسوأ صورها، حيث تبتلع الدولة مجتمعها، ثم تعود فتخدم الشركات. وكأنّها وسيط بين مال النّاس وصناديق حيتان المال أصحاب الشركات المتعدّدة الجنسيّات لمصلحة هذه الأخيرة طبعًا.

7 – الشركات المتعدّدة الجنسيّات والدول

مهما كان السياسي المحترف فاسدًا وانتهازيًّا، فإنّ توازنات القوى في داخل السلطة، وتهديدات المعارضين، تضطرّه إلى مراعاة مصالح النّاس ولو بقدر معيّن لضمان مستقبله السياسي. دلّت التجربة أنّ الديكتاتور المهووس بجنون العظمة بعد أن يقصي خصومه، يتّجه إلى إحراز تقدّم في المجالات غير السياسيّة يغذّي بها سلطته، ويعزّز بها الهالة الأسطوريّة التي يحيط نفسه بها.

أمّا صاحب الشركة الكبرى التي دمجت منافسيها في هيكلها، واحتكرت جملة من السّلع الاستراتيجيّة والحيويّة، وعبرت حدود الدول، فليس معنيًّا في الواقع إلّا بمعادلات الرّبح المادي، ومن أجلها يكرّس نفوذه المالي لتغيير أنظمة وغزو المجتمعات مسخّرًا أفضل الأدمغة الأنثروبولوجية والدعائيّة والعلميّة.

أ ـ شركات الأدوية العملاقة

يوجد في العالم اليوم شركات متعدّدة الجنسيات تنتج طيفًا واسعًا من السلع الشاملة، ومنها شركات أدوية ولقاحات تنتج أيضًا موادًّا غذائيّة وأسمدة زراعيّة، وتكون تابعة أو حليفة لكارتل النفط والسلاح الذي ينشر التلوث ويصنع الحروب، فيما تتكفّل هي بالذات بإنتاج الأدوية التي يتوقّع منها أن تعالج الأمراض الناتجة عن بعض نشاطات المجمّع الصناعي الضخم أو منتجاته. عن وعي تسبّب هذه الشركات الدّاء وتبيع الدواء، وفي حالة الأمراض المزمنة والمستعصية لا يكون الدواء علاجًا، بل طريقة من طرق القتل البطيء، تطيل عمر المريض وتضخّم فاتورة العلاج.

هذه مقاربة قاسية ولكنّها واقعيّة تُعينُنا على فهم الموقف «الترامبي» من اتّفاقيات المناخ، والانبعاثات السامّة، والدفيئة، وتفسّر الاستخدام المفرط لليورانيوم المنضّب في قصف العراق وأفغانستان ولبنان وغيرها من الدول التي استهدفت بالعدوان، حيث يمتلك اليورانيوم المنضّب قدرة على افتتاح «سوق رائجة» لأدوية السرطان الباهظة الثمن والمنتجة بمعظمها في الولايات المتحدة الأميركية، ويشير موقع «أرقام» إلى أنّ 6 شركات أدوية من أصل أوّل 10 في العالم أميركية، ونقرأ تفاصيل إيراداتها فنجد على رأس اللائحة أدوية السرطان[31].

على الرغم من ذلك فإنّ «الدولة» في أميركا، تخوض بين الحين والآخر معارك مع شركات الأدوية العملاقة بسبب إساءتها للقوانين وأخلاقيات المهنة، ففي سنة 2013 أعلنت وزارة العدل الأميركية عن التوصّل إلى اتّفاق لتسوية الدعاوى الجنائيّة والمدنيّة ضدّ شركة الأدوية ومستحضرات العناية الشخصيّة الأميركية العملاقة «جونسون أند جونسون»، بسبب استخدامها أساليب غير صحيحة في تسويق عقاقير طبيّة. وقد وافقت الشركة على سداد غرامة قدرها 2.2 مليار دولار لتسوية هذه الدعاوى. ووصفت السلطات الاتّحادية هذه القضيّة بأنّها أكبر قضيّة في تاريخ شركات الرعاية الصحيّة بالولايات المتحدة. ويشمل الاتّفاق غرامات جنائيّة بقيمة 485 مليون دولار، وغرامات مدنيّة واتّحادية وحكوميّة بقيمة 1.72 مليار.

وكانت إدارة الأغذية والعقاقير قد صرّحت باستخدام عقار الاضطرابات النفسيّة «ريسبيدرال» لمرضى انفصام الشخصيّة «شيزوفرينيا» فقط، ولكن جونسون أند جونسون سوّقت العقار باعتباره علاجًا لكبار السن الذين يعانون من الخرف، كما خالفت الشركة الترخيص وسوّقته أيضًا باعتباره علاجًا للاضطرابات السلوكيّة للمسنين.

كما تضمّنت قائمة مخالفات الشركة تسويق عقار العلاج النفسي «إنفيجا» وعقار «ناتريكور» الذي تم ترخيصه فقط لعلاج أعراض معيّنة بالحالات الحادّة المرتبطة بالأزمات القلبية. كما تضمّنت القائمة دفع «جونسون أند جونسون» رشاوى للأطباء من أجل وصف بعض منتجاتها للمرضى وشركة صيدلة كبرى لتسويق بعض أدويتها.

يزعزع هذا الطابع التجاري المخيف ثقة العالم بالشركات التي تعمل على تسويق اللّقاحات، ويزيد من مشكلة الثّقة تدخّل السياسات القوميّة في مصلحة هي في الصميم إنسانيّة. أضف إلى ذلك محاولات التلاعب بالهندسة الجينيّة، وتسخير النانو تكنولوجيًّا لإحكام السيطرة على البشر بحجّة الوقاية من المرض.

ب- نفوذ الشركات الكبرى عقبة في طريق الإنسانيّة

تبقى أسوأ دولة متماسكة أفضل للإنسانية من أعظم شركات العالم، ولكن الفلسفة السياسية توقّفت عن التفكير أو التأثير في الاقتصاد الرقمي، تحديدًا منذ التسعينيات عقد انفجار الثورة المعلوماتية، وإعلان موت الإيديولوجيا ونهاية التاريخ. كانت شبكة الأعصاب الرقميّة تتمدّد بلا توقّف، وعدد الشركات يتكاثر كالبكتيريا _ المتوحّشة التي تتغذّى وتتضخّم من ابتلاع المجالات الخارجة عن نطاقها.

مارست الشركات الكبرى بتعاون وثيق مع البنك الدولي وصندوق النقد، نوعًا من التضليل والإرهاب الفكري والاقتصادي، وأصبحت تملي على الدول معنى التنمية ومفاهيمها ومؤشّراتها، وتكتب مصالح الشركات اليوم بلغة العلم، فيما هي تنسف وظائف الدولة الأساسيّة وفلسفة تأسيسها. دخلت الدول نتيجة هذا الغزو الناعم بحالة من الانفصام، أو الخرف المبكر، فنسيت أنّها مجال تفاعل بشري، وإقليم جغرافي، وبيئة أمان اجتماعي وحاضن قيمي ومؤسّسة سياسيّة ورعاية صحيّة ونفسية، وأخذت تخفّف من وزنها كعارضات الأزياء وترشّح نفسها لدور السوق الأفضل أو المجال الأفضل للاستثمار، يعني مجرّد منصّة لعرض السّلع والخدمات التي غالبًا ما لا تكون أولويّة ماسّة بالنسبة لشعبها. حتى سلّم معايير تقويم أداء الدول، ما عاد يشمل إلا ما يمكن قياسه بالأرقام، كالناتج المحلي ونسبة الوظائف في القطاع العام، وهو أمر خادع تمامًا حتى بمعيار الرفاه والسعادة المادي. فأفضل دول العالم اليوم من ناحية الرفاه الاجتماعي هي الدول الإسكندنافية، التي لا تتمتّع بأعلى ناتج محلّي مقارنة مع بقيّة الدول الأوروبيّة فضلًا عن أميركا الشماليّة، وفيها أعلى نسبة من الوظائف في القطاع العام، بحسب هانز فيرنر سين[32]: على الرغم من أنّ أغلب دول العالم المتقدّم تواجه صعوبات متزايدة في التكيّف مع قوى العولمة والمنافسة القادمة من الدول ذات الأجور المتدنية، إلا أنّه يبدو أنّ الدول الاسكندنافيّة ـ الدنمرك، وفنلندا، والنرويج، والسويد ـ قد نجحت في معالجة هذه التحدّيات على نحو طيب. ما لا شكّ فيه أنّ النّمو الذي شهدته الدول الاسكندنافية كان متواضعًا. فبمتوسط نموّ سنوي للناتج المحلي الإجمالي بلغ 2.2% فقط في الفترة من 1995 إلى 2005، تكون قد تخلّفت في أدائها عن بقيّة دول الاتّحاد الأوروبي غير الاسكندنافية والتي حقّقت نموًّا بلغ 2.8% في المتوسط. لكن أداء الدول الاسكندنافية كان طيّبًا فيما يتّصل بنصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي ومعدلات البطالة. فقد تجاوز متوسّط نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي نظيره في بقية دول الاتحاد الأوربي بنسبة 39%، بينما توقّفت معدّلات البطالة هناك عند 6.7% في المتوسط، مقارنة بنسبة 8% في الاتحاد الأوروبي القديم.

تُـرى ما هو السرّ وراء نجاح دول اسكندنافيا؟ من بين العوامل التي تفسّر الأداء القوي لدول اسكندنافيا: الناتج الضخم، شجاعة السويد في تحرير سوق المنتجات، وتقييد أنظمة استبدال الأجور السخية في الدنمرك، ومعجزة شركة نوكيا في فنلندا. ولكن على الرغم من أنّ هذه العوامل قد تفسّر بعض النّجاح الذي حقّقته الدول الاسكندنافية، إلّا أنّ انخفاض معدّلات البطالة وارتفاع نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي يمكن تفسيرهما أيضًا على نحو أكثر مباشرة ووضوح: ألا وهو إسهام الحكومة بحصّة مرتفعة في توظيف القوى العاملة. فكلّما أصبحت الوظائف في القطاع الخاص غير قادرة على المنافسة، تبرز الوظائف الحكوميّة كحلّ سهل لتوفير العمل للنّاس.

والحقيقة أنّ مدى الضخامة التي بلغتها حصّة الحكومة في توظيف العمالة في دول اسكندنافيا لأمر يثير الدهشة. ففي السويد تصل تلك الحصّة إلى 33.5% من «العمالة غير المستقلة» (إجمالي العمالة باستثناء العمالة الحرّة والمؤقتة)، وفي الدنمرك 32.9%. وفي المتوسّط تبلغ حصّة الدولة في توظيف العمالة في دول اسكندنافيا على الإجمال 32.7% مقارنة بحوالي 18.5% فقط في المتوسط في بقية دول الاتّحاد الأوروبي. ففي ألمانيا ذات الاقتصاد الأضخم في أوروبا، لا تتعدّى حصّة الحكومة في توظيف العمالة 12.2%.

وعلى هذا فإنّ حصّة الحكومة في توظيف العمالة تساهم في انخفاض معدّلات البطالة في المنطقة. كما أنّها فضلاً عن ذلك تساهم بقدر عظيم في ارتفاع نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي، وذلك لسبب بسيط يكمن في أنّ القيمة المضافة الناتجة عن هذه الوظائف الحكوميّة تشكّل جزءًا من الناتج المحلي الإجمالي، حتى ولو لم يكن في الإمكان توليد هذا الجزء داخل اقتصاد السوق[33].

إنّ هذه «القيمة المضافة التي لا يمكن توليدها داخل اقتصاد السوق»، تمثّل وعي الدولة بأنّ الاقتصاد كما يمارس اليوم لا يشمل ولا يغطي الحاجات الإنسانيّة، ويقصي ما لا يناسب «أرقامه» منها. ولكنّها تبقى دولة بحجم إنسانها وشعبها عندما تتوقّف عن سماع صوت كهنة المعبد المالي العالمي.

حملت الشبكة العالميّة للاتّصالات رسالة التفاوت العالمي: «وأصبحت الشركات متعدّدة الجنسيات منذ التسعينيات هي المُنظّم المركزي والرئيسي للأنشطة الاقتصاديّة في اقتصاد عالمي يزداد ترابطًا بفضل العولمة الاقتصاديّة. وسجّل عدد الشركات زيادة هائلة خلال عقدين، من 38.5 ألف شركة إلى أكثر من 103.7 ألف شركة في عام 2010، أي بنسبة 169%. أما عدد الفروع التابعة لهذه الشركات خارج الدولة الأم، فقد ارتفع ليصل إلى أكثر من 800 ألف فرع بحلول عام 2010. كما تشير البيانات التي تنشرها مجلة fortune عن أكبر 500 شركة في العالم، إلى أنّ معظم الشركات متعدّدة الجنسيات يقع مقرّها الرئيسي في الدول المتقدّمة، في حين ينتشر نشاطها على مستوى العالم بأسره بما في ذلك الدول النامية. وتستحوذ الولايات المتحدة والصين على النسبة الأكبر (تتجاوز 60%) من إيرادات أكبر 10 شركات في العالم لعام 2014، والتي يبلغ حجم أعمالها نحو 3.281 تريليون دولار (3 تريليون و281 مليار دولار)، وتحقّق أرباحًا سنويّة قدرها 146.711 مليار دولار (146 مليارًا و711 مليون دولار.

تسيطر هذه الشركات على معظم الأصول الإنتاجية العالمية، كما تمتلك إمكانات مادية وبشرية ضخمة، توفر لها إمكانية الاقتراض بأفضل الشروط من الأسواق الماليّة العالميّة، وتمكّنها قدراتها التسويقيّة من النّفاذ إلى الأسواق الخارجيّة في جميع أنحاء العالم. وتتحكّم هذه الشركات في السياسة النقديّة الدوليّة والاستقرار النقدي العالمي، لما تمتلكه من أصول ضخمة مقوّمة بالعملات المختلفة للدول التي تمارس بها نشاطها الاستثماري، حيث تجاوزت الأصول السائلة من الذهب والاحتياطيات النقدية لدى الشركات متعدّدة الجنسيات حوالي ضعفيّ أو ثلاثة أضعاف الاحتياطي الدولي منها. على سبيل المثال؛ فإنّ شركة وول مارت يتجاوز حجم مبيعاتها السنوية الناتج المحلى الإجمالي لـ 161 دولة بما في ذلك إسرائيل وبولندا واليونان . كما تمتلك موارد بشريّة ضخمة، وتساهم بشكل فعَّال في توظيف القوى العاملة في العالم، حيث تشير البيانات إلى أنّ الفروع التابعة لها وحدها توظف أكثر من 45 مليون شخص في جميع أنحاء العالم وهذا العدد في زيادة مستمرّة ..[34]

بدون أدنى تأمّل تشكّل هيمنة الشركات المتعدّدة الجنسيات على الاقتصاد العالمي، عقبة في وجه «أنسنة» الإدارة الاقتصاديّة للموارد العالميّة. ولا يمكن للدول الصغيرة أن تقف في وجه الشركات الكبرى، إذا لم تلتحق بمشاريع إقليميّة أو دوليّة تحميها، مشاريع بنيت على أساس الحدّ من تغوّل الشركة على حساب «الدولة»، والتوقّف عن اللّعب بالأرواح بلغة الأرباح والخسائر.

نحن عمليًّا أمام نماذج مختلفة: الصيني الذي يرشّح نفسه لوراثة العصر الأميركي، وهو يقوم على إقفال المجال السياسي، وفتح المجال الاقتصادي مع تبنّي آليات عمل السوق الرأسماليّة في الاقتصاد. والدولة أثبتت أنّها حاضرة لتسخير مواردها في مواجهة أيّ أزمة صحيّة أو إنسانيّة، كما قدّمت نموذجًا للاستخدام الفعّال للتكنولوجيا المتقدّمة في عمليّة الاحتواء الناجحة للوباء، وبادرت إلى مشاركة العالم في التجربة والتجهيزات الطبية…. ويمكن الاستفادة من هذه التجربة لجهة الإصرار على تبعيّة الاقتصاد للمجال العام الذي تسيطر عليه الدولة، ولا يمكن استنساخها، ويبقى على كلّ دولة أن تنشئ بحسب حجمها وإمكانياتها وعمقها الحضاري وتحالفاتها الممكنة «حزام الأمان» الذي يحمي سيادتها على مواردها، ويؤمّن تفاعلها مع العالم، وتصدّيها للمشكلات بحضور التزاماتها الصارمة بحقوق الإنسان.

والنموذج الأميركي، الذي أبرزت الجائحة إصراره على تحكيم الخاص بالعام، ووقوف الدولة كداعم للشركات بدل المجتمع، حتى وصل الأمر إلى الدخول في نزاع على الموارد الطبية مع شريحة الملونين ومع دول العالم قاطبة، واللّجوء إلى الابتزاز والقرصنة للحصول على أبسط المستلزمات…

والنموذج الأوروبي الذي يحتاج إلى دراسة كلّ دولة على حدة، ولكن إجمالاً كانت الدولة حاضرة بقوّة، وأبرزت ألمانيا ميركل عقلها الإداري للعودة إلى تحريك عجلة الاقتصاد بسرعة.

كما رأينا في العالم الإسلامي تجارب إنسانيّة ناجحة حرصت فيها الدول على العناية بلا تمييز، رغم تفاوت قدراتها وما تعانيه من فتن أو إرهاب أو حصار في مصر والعراق وإيران وسوريا ولبنان، ونجحت تركيا وماليزيا في احتواء الانتشار وإن كانت ماليزيا الأكثر تميّزًا في العالم الإسلامي على الإطلاق.

8 – استشراف المستقبل

بلغة الرأسماليّة أيضًا يُمكننا القول إنّ «سوق الفلاسفة» قد عادت رائجة بعد تحوّل الوباء إلى جائحة عالميّة، وإنّ رؤيتهم للمستقبل كانت استمرارًا لخطّ هم بدؤوه أصلاً في عمليّة نقدٍ داخليٍّ للهيمنة الرأسماليّة. المذهب الاقتصادي الرأسمالي كان هو محور النقد لا النظام السياسي؛ لأنّهم يعلمون أنّ السياسة الاقتصاديّة غلبت الاقتصاد السياسي.

أ- جون ماكمورتري رصيد الحياة في مقابل رأس المال

كان هذا الرجل متميّزًا وسبّاقًا في الرّبط بين نموّ الرأسماليّة، وتراجع رصيد الإنسانيّة من «الحياة»، تركز نصوصه على ما «لا يقدّر بثمن»، كلمة تعني في كلّ ثقافات العالم قيمة أعلى وأغلى من المال، ولكنّها ببساطة «غير مرئيّة» في المذهب الرأسمالي؛ لأنّها بالفطرة متمرّدة على الاقتصاد الرقمي، ولا يمكن تسييلها إلى نقود. يذهب ماكمورتري إلى القول بالخواء الفلسفي ويتّهم العلم الحديث والفلسفة الغربية بالتبعيّة لنظام التدمير الاقتصادي: «لا تملك فلسفاتنا وعلومنا مفهومًا لأسس الحياة نفسها، ولا مقياس عام لقيمة الحياة، ولا اقتصاديات تحتاج إلى الحياة. في الوقت نفسه، يتمّ إخفاء تعظيم القيمة الماليّة الخاصّة كسلع أكثر من أيّ وقت مضى وبأسعار أقل، بينما في الواقع يتمّ تسميم واستنفاد وتدمير رأس المال الأساسي بكلّ اتّجاه وطريق وشكل، الهواء القابل للتنفس، والمياه الصالحة للشرب، منابع إعطاء الحياة: الغابات والمحميات الطبيعية، والتربة الصالحة للزراعة، والأرصدة السمكية، والمحيطات والأنهار، وأبراج الغطاء الجليدي، وحتى التكاثر الخلوي. لا يوجد حدّ لهذا الخط المتحرك الماضي في « سلب نظام الحياة». ومع ذلك، لا تتواصل وسائل الإعلام والدول والعلوم المتخصّصة عبر الكوارث إلا لإلقاء اللّوم على الطبيعة البشريّة نفسها أو «الأنثروبوسين».

رأس مال الحياة يشير إلى أساس قيمة الحياة كلّها عبر الأجيال، ويعتمد كلّ نفس نتنفّسه على ثروة الحياة التي تنتج المزيد من ثروة الحياة دون خسارة المكاسب التراكميّة عبر الزمن. ليس المطلوب هو  المزيد من الطلب على المال، بل المطلوب هو المزيد من «القدرة على الحياة» التي تنتج مزيدًا من الحياة نفسها مثلاً: أنْ تزداد قدراتك وتصبح حياتك الخاصّة أكثر لياقةً بمرور الزمن، أو أن يصبح المجتمع المحيط بك محصّنًا أكثر وخاليًا من الأمراض، أن يزداد رصيدك من المعرفة والقراءة والكتابة، وأن يُضاف دائمًا المزيد إلى التنوّع البيولوجي إيكولوجيًّا أكثر من أيّ وقت مضى. إنّ المجتمع الرأسمالي النقدي يسير بعكس هذا الاتّجاه تمامًا. فقد تحوّل إلى مجرّد منظّمة لإنتاج سلع ذات أسعار أكثر ربحيّة، تتدهور مع كلّ دورة من دورات ازدهارها وبشكلٍ تراكميٍّ جميع أنظمة الحياة.[35]

نضيف إلى ما ذكره مكمورتري أنّ المطلوب هو المزيد من الأمومة حيث تدرج الرضاعة ضمن الخدمات التي «لا تقدّر بثمن» كما هي الرعاية الأبويّة، والمزيد من التضامن المجتمعي، بل المزيد من المجتمع الطبيعي غير الصناعي. قد يتطلّب الأمر تفكيك بنية النظام الرأسمالي بمسار عكسيّ نحو «رصيد» الحياة، مسار يحرّر الدولة من هيمنة الشركات، والمجتمعات من تغوّل الدولة، والإنسان من ثقافة الاستهلاك.

ب- جاك أتالي[36] نحتاج إلى جائحة لنعرف الإيثار

سنة 2009 كتب جاك أتالي يقول: «إنّ جائحة كبيرة، ستفضي أكثر من أيّ خطاب إنسانيّ أو إيكولوجيّ، إلى الوعي بضرورة الإيثار Altruism».[37] وفي مقالة بعنوان “نبوءات لما بعد الكارثة”، في إطار الكتابات الفلسفية المتعلّقة بمرحلة كورونا وما بعدها، جاء في مقدّمتها أنّه لا شيء اليوم أكثر استعجالًا من التحكّم في نوعين من التسونامي؛ صحي واقتصادي، يضربان العالم بقوّة. ولا شيء يضمن أنّنا نستطيع ذلك. إذا فشلنا فإنّ سنوات مظلمة في انتظارنا. أمّا الأكثر سوءًا فغير مؤكّد. ولتجنّبه يجب النّظر بعيدًا إلى الخلف وإلى الأمام، لفهم ما يجري فعلا. فمنذ ألف عام، كلّ وباء كبير يقود إلى تغيّرات جوهريّة في التنظيم السياسي للأمم، وفي الثقافة التي تمتدّ تحت هذا التنظيم. وعلى سبيل المثال (وهذا لا يعني أن تختزل تعقيد التاريخ إلى العدم) نستطيع القول إنّ الطاعون الأكبر في القرن 14 (والذي نعرف أنّه قضى على ثلث سكان أوروبا) ساهم في إعادة النّظر جذريّا في مكانة السياسي في الدين في القارة العجوز، وفي تأسيس الشرطة؛ بوصفها الشكل الوحيد الفعّال في حماية حياة الناس. الدولة الحديثة والفكر العلمي أيضًا وُلدا من تلك المأساة الصحيّة؛ كارتدادات ونتائج لاحقة، فكلاهما يحيل على المنبع نفسه؛ حيث إنّ إعادة النّظر في السلطة الدينيّة والسياسيّة للكنيسة التي صارت عاجزة عن إنقاذ الحيوات وعاجزة عن إعطاء معنى للموت، جعلت الشرطي يأخذ مكان القس. وبالطريقة نفسها نجد أنّ الطبيب عوض الشرطي في القرن الثامن عشر؛ بوصفه أفضل حصن ضدّ الموت. ففي غضون بضعة قرون نكون مررنا من سلطة مؤسّسة على الإيمان، إلى سلطة مؤسّسة على احترام القوّة، ثم إلى سلطة أكثر فعاليّة، تتأسّس على احترام دولة القانون. وأضاف: «يمكننا أن نضرب أمثلة أخرى، ونرى أنّه في كلّ مرّة تضرب فيها الجائحة قارة ما، تنزع المصداقيّة عن منظومة المعتقدات والتحكّم، التي لم تستطع منع وفاة الملايين من البشر؛ لهذا ينتقم الباقون على قيد الحياة من أسيادهم، ويقلبون العلاقة بالسلطة”، مشيرًا: «اليوم أيضًا، إذا تَبيّن أنّ السّلطة القائمة في الغرب عاجزة عن التحكّم في المأساة التي بدأت قبل أسابيع، فإنّ نظام السلطة كلّه والأسس الإيديولوجية التي قامت عليها كلّها ستخضع للمراجعة؛ لكي يتمّ استبدالها بنموذج جديد مؤسّس على سلطة أخرى، وسيكون للثّقة منظومة قيم أخرى بعد مرحلة مظلمة”… وفي حال فشل الأنظمة الغربية لن نشهد فقط قيام أنظمة شموليّة، تستعمل تكنولوجيات الذكاء الصناعي بشكل فعّال جدًا، ولكن أيضًا طرقًا سلطويّة في توزيع الموارد (وهذا قد بدأ أصلا في الأماكن الأقلّ تهيّؤا للكارثة والأقلّ توقّعًا (في مانهاتن لا أحد لديه الحق في اقتناء أكثر من 2 كيلوغرام من الأرز). وبالمقابل، أكّد أتالي أنّ هناك، لحسن الحظ، درسًا آخر نخرج به من هذه الأزمات، وهو الرغبة في الحياة التي لا تزال قويّة، وأنّه، في الأخير، سيقلب البشر الطاولة بكلّ ما من شأنه أن يمنع تمتّعهم باللّحظات النادرة من عبورهم على هذه الأرض. وأضاف: «حين تنجلي الجائحة وبعد مراجعة عميقة للسلطة، سنمرّ بمرحلة تقهقرٍ سلطويٍّ، تحاول فيها السلطة القائمة التشبّث بالبقاء، ثم مرحلة ارتخاء. بعدها سوف نرى شرعيّة جديدة للسلطة، ولن تكون مبنيّة لا على الإيمان ولا على القوّة ولا على العقل (ولا حتى على النقود، هذا الأفاتار الأخير للعقل). سوف تنتمي السلطة السياسيّة إلى من يعرف كيف يُبدي تعاطفًا أكبر للآخرين..[38]».

وفي مقابلة متعلّقة بالموضوع نفسه، يؤكّد أتالي ضرورة تركيز جهود الإقلاع على بعض القطاعات التي يدرجها ضمن ما يسمّيه «اقتصاد الحياة»، الذي يضمّ جميع القطاعات، التي تكمن رسالتها في الدفاع عن الحياة، والتي تبثّ طابعها الحيوي في كلّ يوم من أيّام الأزمة الصحيّة التي يعيشها العالم اليوم. ويعني باقتصاد الحياة تلك القطاعات المتمثّلة في الصحّة، والوقاية، وتدبير النفايات، وتوزيع الماء، والرياضة، والتغذية، والزراعة، وحماية المجالات، والتوزيع، والتجارة، والتربية، والبحث، والرقمنة، والابتكار، والطاقة المتجددة، والسكن، ونقل السلع، النقل العمومي، والبنيات التحتية في المدن، والإعلام، والثقافة، والأمن، والتأمين، والادّخار والقرض..[39] .

يتكامل اتّجاه أتالي مع ما بدأه مكمورتري، مع أنّ الثاني أعمق في مواجهة أصل المشكلة. ونحن بدورنا نتساءل: إذا كانت الأزمة الاقتصاديّة التي انفجرت سنة 2008 قد أنتجت انتخاب دونالد ترامب في أميركا، وسياسات التقشّف الأوروبيّة، ثم جاءت الجائحة التي أظهرت انكفاء الدول الغربية عن التعاون فيما بينها بحثًا عن النّجاة، فكيف يمكن أن يتعلّم «العقل الأداتي» هناك معنى الإيثار، والتضامن، والخطط الإنسانية غير المسيّسة، وغير المحسوبة بالأرقام؟

وفيما يتعلّق بسطوة الشركات الكبرى فإنّ التوقّعات تشير إلى أنّ نوعًا من هذه الشركات سيتضخّم كالاتّصالات والتسويق الإليكتروني والمعلوماتية والأدوية والبنى التحتيّة… فيما ستضعف شركات بيع السلاح والنفط وما يسمّى اقتصاديات الماكرو التي تؤثّر على مختلف القطاعات.. هل هذا يعني أنّ الدول والشركات ستعيش نوعًا من صحوة الضمير؟! أم إنّ الشعوب المكبّلة بنمط الحياة الاستهلاكي ستطيح بالقوى الحاليّة لتنشئ سلطةً مرتكزةً على «التعاطف» البعيد عن العقل والإيمان والقوّة؟…

ونحن نرصد قوّة الهيمنة الرأسماليّة في العالم، وما شهدته من صعود متسارع في التسعينيات من القرن المنصرم، ثم الانتشار العسكري والاقتصادي في بداية الألفيّة الثالثة، وصولاً إلى انفجار الأزمات، فمن الطبيعي أن نتوقّع محاولات «إعادة تعليب النمط الرأسمالي»، وتقديم بعض الهدايا للشعوب من سلّة كبار الحيتان.

—————————————

[1]*ـ باحث في الشؤون الفكرية والفلسفية- لبنان.

[2]– https://www.cfr.org/report/end-world-order-and-american-foreign-policy

[3]– استاذ البيئة والإقتصاد في جامعة سوراي

[4]-https://www.bbc.com/future/article/20200331-covid-19-how-will-the-coronavirus-change-the-worldBySimon Mair31st March 2020

[5]– جون ماكمورتري أستاذ الفلسفة بجامعة جيلف وزميل الجمعية الملكية الكندية. وهو مؤلف كتاب الفلسفة ومشكلات العالم متعدد المجلدات، الذي كتب لموسوعة اليونسكو لأنظمة دعم الحياة، وحروب القيمة (مطبعة بلوتو، 2002) والحريات غير المتكافئة: السوق العالمية كنظام أخلاقي (1998).

[6]– http://www.globalresearch.ca/breaking-out-of-the-invisible-prison-the-ten-point-global-paradigm-revolution/5433357

[7]– جان توشار وآخرون: تاريخ الفكر السياسي، ترجمة علي مقلد، الدار العالمية، بيروت، ط2، 1963، ص299.

[8]– https://www.globalresearch.ca/money-capital-versus-life-capital-prof-john-mcmurtry/5718494

[9]– عالم نفس أميركي من أصل بولندي.

[10]– https://educapsy.com/blog/valeur-419

[11]– الأنعام: 161.

[12]– راجع: محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن، ط1، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1997، ج9، ص407.

[13]– جون آدمز، بنجامين فرانكلين، ألكساندر هاميلتون، جون جاي، توماس جيفرسون، جيمس ماديسون، وجورج واشنطن، كما يطلق هذا اللقب على 39 شخصية وقعت وثيقة الإستقلال.

[14]– كان لاتيني لاتيني (لاتينيوس لاتينيوس) (فيتربو، حوالي 1513 – 21 يناير 1593) باحثًا إيطاليًا وعالمًا إنسانيًا. كان لاتيني عضوًا في لجنة مراجعة Corpus Juris canonici. وهو معروف بأبحاثه المستمرة في نصوص آباء الكنيسة وإصداراته النقدية لأعمالهم، بما في ذلك أعمال قبريانوس. نشر ملاحظات على ترتليان وعمل على نص كوينتيليان.

[15]– كوينتِنْ سكنر: أسس الفكر السياسي الحديث عصر النهضة، ترجمة: حيدر حاج اسماعيل، ط1، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2012، ج1، ص108.

[16]– حسين جميل: حقوق الإنسان في الوطن العربي، سلسلة الثقافة القومية (1)، مركز دراسات الوحدة العربية،  1986، بيروت، ص17 – 26 بتصرف.

[17]– https://ar.wikipedia.org/wiki/_19

[18]– https://www.alaraby.co.uk/

[19]– https://www.dw.com/ar/

[20]–  https://arabi21.com/story/1258505/

[21]–  نقول بين المصابين لأن الأصغر سنًّا من غير المصابين يتمتعون بمناعة أقوى.

[22]– https://ar.wikipedia.org/wiki/_19

[23]– https://www.alaraby.co.uk/

[24]– https://www.bbc.com/arabic/vert-fut-52371230

[25]– https://www.bbc.com/arabic/vert-fut-52371230

[26]– توماس روبرت مالتوس Tthomas Malthus)‏ ( 1834 _  1766 ) باحث سكاني واقتصادي سياسي إنجليزي.  مشهور بنظرياته حول التكاثر السكاني.في العصر الحديث، إذ يعتبر أن عدد السكان يزيد وفق متوالية هندسية بينما يزيد الإِنتاج الزراعي وفق متوالية حسابية مما سيؤدي حتماً إلى نقص الغذاء و إلى ضرورة تدخل عوامل خارجية من شأنها إعادة التوازن بين نمو السكان ونمو المواد الغذائية. وقد بين مالتوس في أول الأمر أن هذه العوامل تتكون مما أسماه بالموانع الإيجابية مثل الحروب والمجاعات والأوبئة والأمراض.  ويُلاحظ أن الآراء التي نادى بها مالتوس فيما يتعلق بزيادة السكان أو زيادة الإنتاج من المواد الغذائية لم ترتبط بدراسة تطبيقية أو إحصائية.

[27]– https://ar.wikipedia.org/wiki/

[28]– https://www.el-massa.com/dz/

[29]– https://arabi21.com/story/1258505/

[30]– https://arabi21.com/story/1258505/

[31]– https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/1309501

[32]– هانز فيرنر سين، أستاذ الاقتصاد بجامعة ميونيخ، كان رئيسًا لمعهد Ifo للأبحاث الاقتصادية ويعمل في المجلس الاستشاري بوزارة الاقتصاد الألمانية.

[33]– https://www.project-syndicate.org/commentary/scandinavia-s-accounting-trick/arabic

[34]– https://www.abeqtisad.com/reports/multinational_corporations/

[35]–  https://www.globalresearch.ca/money-capital-versus-life-capital-prof-john-mcmurtry/5718494، 14 يوليو 2020.

[36]– كان مستشارا خاصا للرئيس الفرنسي الأسبق، فرانسوا ميتران، وأطلق مؤسسات دولية مثل «الحركة ضد الجوع» و«البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية»، كما أطلق مؤسسة «POSITIVE PLANET»، التي تدعم على مدى 22 عاما إحداث المقاولات في أحياء فرنسا وأفريقيا والمنطقة العربية. عرف بالتقرير الذي حمل اسمه، عندما عينه الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، على رأس لجنة تحرير النمو، وهي اللجنة التي اختير فيها الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون مقررا مساعدا، حيث يؤكد أتالي، أن العديد من التوصيات التي تضمنها تقرير تلك اللجنة تعتبر ذات أهمية اليوم، خاصة عندما أكدت ضرورة إيلاء اهتمام خاص لقطاع الصحة. وكان الرئيس الاشتراكي السابق، فرانسوا هولاند، طلب منه في 2012، إنجاز تقرير حول الاقتصاد الإيجابي، الذي يعرف بأنه في خدمة الأجيال وحماية البيئة والإيثار ويقوم على تغليب التزامات غير تعظيم الأرباح.

[37]– https://www.alaraby.co.uk/%D8%AC%D8%A7%D9%83-

[38]– https://www.el-massa.com/dz/

[39]– https://www.alaraby.co.uk

 

رابط المصدر:

https://www.iicss.iq/?id=40&sid=406

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M