ضبط البوصلة: دلالات زيارة ماكرون للجزائر

عبد المنعم على

 

مثّلت زيارة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” للجزائر في الخامس والعشرين من أغسطس 2022 محطة حيوية في خضم العلاقات الثنائية بين البلدين، خاصة في ضوء تفاقم الأزمة الدبلوماسية بينهما في ضوء حرب التصريحات المتبادلة بشأن الذاكرة الاستعمارية وتوصيف “ماكرون” لنظام “تبون” بالعسكري، وما تبعه من خطوات إجرائية تصعيدية متبادلة بين الطرفين منذ أكتوبر 2021، كان أشدها استدعاء السفير الفرنسي بالجزائر وغلق أجوائها أمام الطيران العسكري الفرنسي.

ولعل تلك الزيارة التي تُعد الثانية لرئيس فرنسي إلى الجزائر منذ عام 2017، تؤكد الأهمية الإقليمية للجزائر لدى باريس، والتطلع لتنشيط العلاقات الثنائية بينهما والمضي بالعلاقات بينهما بما يخدم مصالحهما المشتركة، وتستند بصورة رئيسية إلى رؤية مستقبلية قائمة على الشراكة والتعاون في العديد من المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية، خاصة في ظل تعقيدات المشهد العالمي على خلفية الصراع الروسي الأوكراني وما أنتجه من اشتداد حدة أزمتي الغذاء والطاقة.

سياق متأزم

إن المتأمل لزيارة “ماكرون” للجزائر يجد أنها تأتي في سياق مُعقد إقليميًا ودوليًا، ليس فقط التطورات الراهنة في إقليم الساحل والصحراء وتبعاتها المختلفة على الأمن القومي الفرنسي ومصالح باريس الاستراتيجية في تلك المنطقة (محل النفوذ التقليدي)، بل على مستوى المنظومة الدولية في إطار من توازن القوى بمختلف صورها العسكرية والطاقوية التي نجمت بصورة كبيرة عن الصراع الروسي الأوكراني. وفي هذا الشأن يمكن ذكر الآتي:

  • تعقد معادلة الطاقة: لعل الجزائر تعتبر أحد المنافذ المنتجة والمصدرة للغاز عالميًا حيث تُعد من أكبر 10 منتجين للغاز عالميًا، وباتت محورًا هامًا وقِبلة للزيارات الأوروبية التي تستهدف من خلالها إيجاد منفذ جديد للإمداد بالطاقة بديل عن روسيا، خاصة في ضوء التطورات اللاحقة للصراع بين روسيا وأكرانيا والتصعيد المتبادل بين روسيا من ناحية والغرب وعلى رأسها واشنطن من ناحية ثانية، آلت إلى توقف تصدير الغاز الروسي للاتحاد الأوروبي، وبات الخط الأوروبي تتضح معالمه في إطار تقارب إسباني مغربي لدفع مسار التعاون في مجال الطاقة، يقابله تحرك إيطالي وفرنسي للجزائر لذات الغرض، خاصة وأن للجزائر تحركًا ملحوظًا في إطار الشراكة الجديدة من نيجيريا والنيجر لتدشين أنبوب الغاز عبر الصحراء والمار إلى أوروبا لتصدير الغاز إلى دول الجنوب الأوروبي.
  • اضطراب المشهد الأمني إقليميًا: بعيدًا عن الساحة الغربية وبالانتقال إلى وضعية الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، هناك جملة من التحديات المتراكمة وكذلك المستجدات الطارئة من بينها السيولة الأمنية التي باتت تشهدها منطقة الساحل والصحراء التي تُمثل عمقًا استراتيجيًا للجزائر والفضاء الأمني المتخم لها، والذي يشهد اضطرابات أمنية مستمرة، وفي ضوء كون هذا المسرح هو نقطة التواجد الفرنسي في القارة (تحت مظلة مواجهة الإرهاب) وتعتبر الجزائر أحد أطراف تثبيت الأمن في هذا المربع المحتدم، ولعل دول تلك المنطقة احتلت المراكز الأولى في تصنيف مؤشر الإرهاب الدولي (2022) وعلى وجه الخصوص (مالي، وبوركينافاسو، والنيجر)، وتزامن مع ذلك تطور هام يتمثل في إعلان مالي في السادس عشر من مايو 2022 الانسحاب من جميع هيئات مجموعة دول الساحل الخمس، وعلى رأسها القوة المشتركة لمكافحة الإرهاب، مما أدى إلى إرباك معادلة الأمن الإقليمي.

على مستوى آخر، تفاقمت حدة الأوضاع في ليبيا مع دخولها مرحلة صراع وصدام مسلح بين الحكومة المكلفة من البرلمان “باشاغا” وحكومة “الدبيبة” بشأن دخول العاصمة واندلاع صراع مسلح من شأنه أن يُعيد ليبيا إلى مربع التحشيد والصراع العسكري مرة أخرى، وهو ما يُمثل مسرحًا ضاغطًا على البحر الأبيض المتوسط ومن ثم نافذة تراكمية للمخاطر الأمنية على الدول الأوروبية (على مستوى الإرهاب – الهجرة غير النظامية)، لذلك تتطلع فرنسا لإعادة الهدوء النسبي لتلك الملفات بالاعتماد على الشركاء التقليديين وعلى رأسهم الجزائر التي تلعب دورًا كبيرًا في خضم المشهد الليبي.

دلالات متعددة وأهداف متباينة

إن زيارة “ماكرون” للجزائر تأتي في إطار تطلعات الجانبين إلى تحقيق مصالحهما الاستراتيجية، خاصة وأن كلاهما يُعد رقمًا هامًا في معادلة الأمن القومي للآخر، ومن ثّم يمكن توضيح دلالات وأهداف الزيارة في النقاط التالية:

  • ضمان التواجد وعدم الإطاحة بالنفوذ الفرنسي: لعل أحد أهداف الزيارة ودلالاتها تتجلى في مساعي “باريس” لضمان تأكيد تواجدها وعدم الإطاحة بنفوذها ومصالحها في تلك المنطقة الجيوستراتيجية، ويأتي هذا في ضوء تزاحم القوى الأوروبية لخلق موطئ قدم لها داخل دول الشمال الإفريقي وغربها، انطلاقًا من معادلة الطاقة والغذاء وآخرها صفقة الغاز التي تم توقيعها بين الجزائر وإيطاليا في يوليو 2022، علاوة على تزايد الارتباط الجزائري الروسي عسكريًا، فمن المزمع إجراء مناورات عسكرية مشترك بين الجانبين في نوفمبر المقبل، تلك التحركات تُقلص من مساحة التواجد الفرنسي داخل الجزائر، وهو ما يُعد تراجعًا عن ساحة التواجد التقليدية لها، وهذا يبرهن حول حجم المساعي الفرنسية لمواجهة النفوذ الروسي وكذلك الصيني في المنطقة، ولعل الجزائر تُعد البوابة الملائمة لهذا الهدف خاصة في ضوء حتمية التعاون مع انعدام الأمن المتزايد في منطقة الساحل.
  • تأمين المكانة في التنافس الجيوسياسي: انطلاقًا من السابق وفي ضوء تغلغل روسي متزايد في الشمال الإفريقي وفي دول الساحل والصحراء على وجه الخصوص، خاصة في ضوء الشراكة الجامعة بين موسكو والجزائر في الملف العسكري والأمني، وهو ما يُمثل في حد ذاته تهديدًا للجنوب الأوروبي، خاصة وأن لروسيا نفوذًا واسعة في مالي عقب الانسحاب الفرنسي منها، وبرز ذلك بشكل جلي في صفقات السلاح التي تم إبرامها بين الجانبين من خلال الوسيط “شركة فاغنر” تتمثل في نشر وحدات تابعة لها إلى جانب صفقة السلاح المقدمة من جانب موسكو والمتضمنة طائرات هليكوبتر هجومية من طراز “مي -35 إم” ونظام رادار جوي متقدم، ليس فقط توطيد الشراكات العسكرية مع مالي بل امتدت لتشمل (بوركينافاسو، تشاد، النيجر)، ونظير تلك التهديدات ثّمة هناك تحركات غربية متلاحقة تتمثل في مساعي “الناتو” لتحقيق شراكة مع دول الشمال الإفريقي “موريتانيا” وذلك في ضوء تغير معادلة القوة والتوسعات التي حققتها روسيا في غرب إفريقيا، ومن ثم فهي بمثابة تصحيح للحسابات الخاصة بالناتو، الأمر الآخر يتجلى في إعادة توطين التواجد الفرنسي بصورة جديدة للانخراط في معادلة القوة في الشمال الإفريقي وغربها.

فالدولتان تتطلعان إلى احتواء الأزمات الإقليمية والدولية بالاعتماد المتبادل وفقًا لرؤية براجماتية تحقق لهما مصالحهما، وبما يضمن لكليهما تنوعًا في التحالفات الدولية وإعادة هيكلة محاور التفاعل المستقبلي.

ملفات وشراكات حيوية

تعددت الملفات محل الاهتمام المشترك والتي تم طرحها خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للجزائر والتي تضمنت:

  • الصحراء الغربية: لعل هذا الملف يُعد مرتكزًا من مرتكزات الأمن القومي الجزائري ومساحة تنافس جيوستراتيجية مع المغرب، وفي ظل التحولات التي شهدها ذلك الملف عقب حالة من الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية ودعم مبادرة الحكم الذاتي، وكان آخرها إسبانيا، يجعل هناك حاجة مُلحة لعدم افتقاد الجزائر لكافة أوراق الدعم في هذا الملف، وانطلاقًا من كون “باريس” واحدة من بين الدول التي لا تزال تقبع في المنطقة الرمادية حيال ذلك الملف، فهي بمثابة ورقة لإحداث توازن في التطورات المتلاحقة دبلوماسيًا في الصحراء الغربية، وبما يُعادل التحركات المغربية، خاصة وأن الرباط قد أعلنت على لسان الملك “محمد السادس” في الخطاب السنوي بمناسبة ذكرى “ثورة الملك والشعب” في 21 أغسطس 2022 طالبت شركائها إلى توضيح موقفها الرسمي حيال موقف الصحراء الغربية، ومثّلت فرنسا حلقة قوية في مناهضة التوجه الأمريكي للاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء كما قادت موقفًا عامًا حينها يحول دون تبني الاتحاد الأوروبي بصورة جماعية موقفًا يتماشى مع مبادرة “ترامب”، ولعل اكتساب “فرنسا” لصالح الجزائر في ذلك الملف مرهون بدعم الأخيرة لمصالح باريس في المنطقة سواء الأمنية أو الاقتصادية.
  • الغذاء والطاقة: واحد من بين دوافع التواجد الفرنسي بكثافة في الفترة الأخيرة في العمق الأفريقي يتمثل في تأمين الاحتياجات الغذائية من ناحية ومصادر الطاقة “الغاز” من ناحية أخرى، فلم تكن تحركات “باريس” للجزائر الأولى من نوعها منذ انتخاب الرئيس “ماكرون” لولاية ثانية، بل سبقها زيارة إلى الكاميرون، وبيني، وغينيا بيساو، في إطار من إعادة الترتيبات العسكرية الفرنسية في إفريقيا، وذلك عقب خروج متكامل لقوة “برخان: من مالي، وحتمية أن تملأ الفراغ في مسرح جيبوليتيكي آخر، مع العمل على تأمين مصادر الغذاء لها وذلك ضمن مبادرة “فارم” التي تم إطلاقها مع الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي لزيادة الإنتاج الزراعي، ودعم فرنسا لتكتل المشروعات خاصة في الكاميرون. وعلى مستوى الطاقة فإن توقيع الجزائر مع نيجيريا والنيجر لاتفاقية لاستكمال العمل بأنبوب الغاز المار عبر الصحراء إلى أوروبا يدفع “باريس” للتواجد في هذا المسار ضمانًا للحصول على الطاقة، وهذا يمثل في حد ذاته مصدرًا للدخل القومي الجزائري تعالجه من خلاله التحديات الراهنة اقتصاديًا.
  • قضايا الذاكرة التاريخية: إن ملف الذاكرة التاريخية المتعلقة بالاستعمار موضع جدل تاريخي بين البلدين وأحد مواطن التضارب والتضاد بين باريس والجزائر، ومعالجة لتلك الأزمة فقد حملت الزيارة في طياتها مخرجًا هامًا يتمثل في إنشاء لجنة مشتركة من المؤرخين لفحص الفترة الاستعمارية، وهذا الأمر يحد من وتيرة التصعيد المستمرة بهذا الشأن.
  • المهاجرون غير النظاميين: إن أحد مواطن التوتر بين فرنسا والجزائر تمثل في إعلان “باريس” تخفيض عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين لنحو 50%، وذلك في ضوء رفض دول المنشأ عودة المهاجرين غير الشرعيين من الدول المضيفة وعلى رأسها فرنسا، ونتيجة للتحديات التي تواجهها “باريس” فإن مناقشة هذا الملف الذي يُعد ورقة ضغط فرنسية كان من بين أجندة التباحث المشترك وذلك لوضع ضوابط وتعزيز الشراكة الثنائية في هذا المجال لمراقبة الحدود.

وفي المجمل؛ إن توقيع الجزائر وفرنسا على وثيقة شراكة جديدة تعكس حجم ووزن كل منهما لتحقيق مصالح الآخر، يتم من خلالها تلاقي المصالح الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية في رؤية مستقبلية تجبّ ما مضى، فالزيارة تعد إيجابية نحو ترتيب التفاعل المستقبلي، وسيتضمن ذلك الأمر تكثيف التعاون في قطاع الطاقة، وكذلك في إطار الترتيبات الأمنية في المنطقة لمعالجة شواغل الدولتين، وبما يضمن خط التواجد الفرنسي في المنطقة، عقب تكثيف التواجد الروسي والصيني.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20884/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M