كيف نقرأ أزمة الديون الأمريكية؟

إيهاب عمر

 

دخلت الولايات المتحدة الأمريكية أزمة جديدة في يناير 2023 مع اقتراب الحكومة الأمريكية من خطر التخلف عن سداد الديون التي تتجاوز 31 تريليون دولار. وبحسب القوانين الأمريكية وطبيعة العلاقة بين الكونجرس والحكومة التي يرأسها الرئيس الأمريكي بحسب النظام الرئاسي، فإن الكونجرس هو الذي يحدد للحكومة سقفًا للديون لا يمكن تجاوزه، وحال تجاوزه فإن الكونجرس لا يوافق على اعتماد المبالغ اللازمة لسداد الديون، ما يجعل الولايات المتحدة عاجزة عن سداد ديوانها بغض النظر عن توافر سيولة لذلك. ومن ثم فإن الأزمة هنا ليست اقتصادية أو مالية بل سياسية بحتة داخل أروقة الكونجرس، وتفاصيل العلاقة بين الكونجرس والبيت الأبيض.

وشهدت الولايات المتحدة أزمة سقف الديون Debt-ceiling crisis مرتين من قبل عامي 2011 و2013 في سنوات الرئيس الأسبق باراك أوباما، والثالثة عام 2023 في زمن نائبه الذي أصبح الرئيس جو بايدن.

وتختلف أزمة سقف الديون عن أزمة إغلاق الحكومة الفيدرالية Government shutdowns التي تحدث نتيجة خلاف بين الكونجرس والبيت الأبيض حول الميزانية السنوية للحكومة الأمريكية، وهو أمر جرى ثمانية مرات: الأولى في زمن جيمي كارتر عام 1980، وثلاث مرات في سنوات رونالد ريجان أعوام 1981 و1984 و1986، والخامسة في زمن جورج بوش الأب عام 1990، والسادسة في زمن بيل كلنتون عام 1996، ومرتين في سنوات دونالد ترامب عامي 2018 و2019.

ويلاحظ في أغلب تلك الأزمات أن الحزب المعارض للرئيس الأمريكي كان يمتلك الأغلبية في الكونجرس، فإذا كان الرئيس ينتمي إلى الحزب الديمقراطي فإن الكونجرس ذا الأغلبية الجمهورية يتشدد في مناقشة ميزانية الحكومة ما قد يؤدى إلى إغلاق الحكومة الفيدرالية أو يتشدد في مناقشة سقف الديون، ما يصنع أزمة سقف الديون. والعكس أيضًا صحيح؛ فالرئيس الأمريكي المنتمي إلى الحزب الجمهوري لم يعانِ من هذه المشاكل إلا إذا كان الكونجرس تسيطر عليه أغلبية ديمقراطية.

وحول الأزمة الجديدة، نشرت هيئة الإذاعة البريطانية BBC News تقريرًا بعنوان: “Debt ceiling: America’s budget crisis of its own creation” بتاريخ 20 يناير 2023، أشارت فيه إلى أنه في الوقت الحالي تستخدم وزارة الخزانة “إجراءات استثنائية” لمنع التخلف عن السداد، لكنها لن تكون مستدامة إلى أجل غير مسمى؛ فإذا لم ترفع الولايات المتحدة سقف الديون ستبدأ الحكومة في التخلف عن سداد ديونها بدءًا من وقت ما بين أوائل يوليو وأوائل سبتمبر، ما سوف يؤدي إلى انهيار اقتصادي عالمي.

الخلاف على سقف الدين الأمريكي واغلاق الحكومة الفيدرالية بين الكونجرس والبيت الأبيض ليس خلافًا اقتصاديًا بل عادة ما يكون سياسيًا، ولكن الجمهوريين على وجه التحديد هم من ابتكروا لعبة عرقلة رفع سقف الدين؛ من أجل إجبار الرئيس المنتمي إلى الحزب الديمقراطي على الذهاب إلى طاولة المفاوضات مع الجمهوريين، وهو أمر جرى مع أوباما، ومن المقرر أن يجري مع بايدن الذي فتح خط اتصال بالفعل مع النائب الجمهوري كيفين مكارثي رئيس مجلس النواب.

وتتمثل مطالب الجمهوريين –في سنوات أوباما وحاليًا مع بايدن–في تخفيضات شاملة في الإنفاق الحكومي مقابل الموافقة على رفع سقف الدين الوطني (المسمى الأمريكي للديون الخارجية). وعادة ما تعد الديون الأمريكية -خاصة أذون الخزانة- من أهم عوامل جذب المستثمرين داخل وخارج الولايات المتحدة، وقد أدت هستيريا رفع الفائدة التي مارسها الفيدرالي الأمريكي طيلة العام 2022 إلى مبيعات قياسية لأذون الخزانة، مما رفع الدين الوطني الأمريكي إلى أكثر من 31 تريليون دولار.

وعادة لا تستمر هذه الأزمة أو يسمح كلا الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة بأن تعجز الولايات المتحدة عن دفع ديونها أو يستمر إغلاق الحكومة الفيدرالية، ولكن ماذا لو عجزت فعلا واشنطن عن سداد ديونها؟

هل العالم على موعد مع ازمة اقتصادية جديدة؟

ينتظر المستثمرون حول العالم ما سوف تسفر عنه الأزمة الأمريكية الحالية؛ إذ إن انتهاءها واستمرار قدرة الولايات المتحدة على سداد ديونها سوف يؤدي إلى استمرار تدفق الاستثمار على أذون الخزانة الأمريكية، واستمرار سياسة رفع الفائدة الأمريكية ولو مرة واحدة على الأقل خلال عام 2023. ولكن لو حدث وفشل الكونجرس والبيت الأبيض في الاتفاق على رفع سقف الدين الوطني، وقتذاك لن تكون الولايات المتحدة قادرة على دفع الديون أو فوائد الديون، وهكذا سوف تبدأ سلسلة من التفاعلات الاقتصادية التي سوف تضرب الاقتصاد العالمي وتعرقل الاستثمار الأجنبي حول العالم.

وللمفارقة، فإن الدولة الوحيدة المرشحة لعدم التأثر بتلك الأزمة هي الولايات المتحدة نفسها، فقد حصدت قرابة 11 تريليون دولار أمريكي خلال عام 2022 جراء رفع الفائدة، بل وتأتي الأزمة لتعفيها عن سداد تلك الديون وفوائدها “مؤقتًا” بينما العالم الذى لا يزال يعاني من تبعات أزمة الأسواق الناشئة المصغرة عام 2019 والإغلاق الكبير عام 2020 بسبب جائحة كورونا، ثم بدء التضخم العالمي عام 2021، قبل أن يشهد عام 2022 ثلاث جوائح اقتصادية تشمل الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على روسيا وهستيريا رفع الفيدرالي الأمريكي للفائدة.

ولكن على ما يبدو أن كافة تلك الكوارث لم تشبع شبكات اقتصادية في الغرب تطبق “كتالوج” “رأسمالية الكوارث” بنجاح ولا تزال متعطشة لكارثة اقتصادية جديدة انطلاقًا من الولايات المتحدة التي سبق وأن كانت مهد الأزمة الاقتصادية الكبرى في سبتمبر 2008 والتي لم تهدأ إلا في منتصف عام 2013 بعد أن غيرت خارطة حكام أوروبا والشرق الأوسط دون رجعة.

وكان حلفاء أمريكا التاريخيين في أوروبا قد اشتكوا علنًا من بدء حرب تجارية تشنها أمريكا عام 2022. الاتهامات التي كانت تصدر يومًا من بكين وموسكو وحتى سول وطوكيو أصبحت تصدر اليوم من قلب برلين وباريس وحتى لندن، وأصبح ما كان يقال سرًا وهمسًا عن عدم رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في وجود اقتصاد قوي للاتحاد الأوروبي قد ينافس أمريكا يومًا يقال علنًا على لسان المحللين والخبراء والمراقبين على شاشات التلفزة الفرنسية والألمانية والبريطانية.

ولعل الشكوى الصادرة من لندن هي الأشرس؛ إذ يرى منظرّو السياسة في بريطانيا أن الولايات المتحدة توقفت عن الانخراط في العولمة، وأن جو بايدن الذي كان ينظر إليه بوصفه سيوقف سياسة “أمريكا أولا” التي بدأها دونالد ترامب لم يفعل شيئًا سوى أنه حرر استراتيجية “أمريكا أولا” من الهيمنة الترامبية، وأكمل الحزب الديمقراطي تلك السياسة من أجل التخلص من السيطرة الصينية على الأسواق الأمريكية.

حرب تجارية بين أمريكا وحلفائها

ينظر الأوروبيون إلى الولايات المتحدة اليوم بارتياب وأنها قد أقلعت عن العولمة مؤقتًا من أجل التخلص من شبح تكرار السيطرة الروسية على أوروبا عبر بوابة الغاز، وأن واشنطن عازمة على عدم تكرار سيناريو النفوذ الروسي في أوروبا عبر بوابة النفوذ الصيني في أمريكا، وذلك عبر تشجيع الصناعة المحلية والرأسمالية الوطنية، ما يعني أن قيم الليبرالية الاقتصادية والرأسمالية الغربية التي جمعت بين أمريكا وأوروبا في سنوات الحرب الباردة وأنهت الحرب لصالح الغرب أمام الاتحاد السوفيتي قد أصبحت قيمًا غير مرحب بها في الولايات المتحدة.

وأن أمريكا أقلعت عن فكرة المنفعة المتبادلة، وبدأت في تقييد تدفق السلع الغربية إليها وتشجيع رؤوس الأموال المهاجرة على العودة إلى الولايات المتحدة؛ وذلك من أجل التخلص من اندماج الصين في الاقتصاد العالمي والذي جعل بكين اليوم هي الحاكم الفعلي للعولمة التي كانت يومًا أمريكية واليوم أصبحت خطرًا على أمريكا ذاتها.

يدرك الأوروبيون أن اعتزال الولايات المتحدة للعولمة هو أمر مؤقت إلى حين: ترتيب الاقتصاد الأمريكي، وضرب الاقتصاد الصيني، وتجفيف منابع السيطرة الصينية على العولمة الأمريكية، وإجهاض فكرة ظهور عولمة صينية موازية. ولكن إلى حين إتمام الرؤية الأمريكية فإن أوروبا متخوفة من فكرة ان يدفع الاتحاد الأوروبي ثمن تلك الحرب التجارية وأن تكون أوروبا خاسرة بجانب الصين وروسيا في المشهد الختامي لهذه الحرب.

وفي ضوء ما سبق، فإن العالم لم يعد يثق في رغبة الولايات المتحدة في تفادي الأزمات الاقتصادية العالمية أو حتى عدم التورط في صناعتها؛ فقد أضحت رأسمالية الكوارث هي طريق أمريكا الأساسي لصيانة اقتصادها من الغزو الاقتصادي الصيني ومن صعود الاتحاد الأوروبي ودول أخرى كمنافس محتمل لأمريكا مستقبلًا، فأصبحت الكوارث الاقتصادية اليوم هي ضربات اقتصادية استباقية للقوى الاقتصادية المنافسة مستقبلًا.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/75292/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M