مجالس المحافظات الجديدة وآفاق الخريطة السياسية في العراق

  • فرضت نتائج الانتخابات الأخيرة لمجالس المحافظات وقائع جديدة على الخريطة السياسية العراقية يمكن أن تنعكس على الانتخابات العامة المقبلة، وأهمها خسارة التحالف الشيعي الحاكم، الإطار التنسيقي، ثلاث محافظات شيعية مهمة، هي البصرة وكربلاء وواسط، أمام قوى محلية منافسة. 
  • قد تُشجِّع تجربة محافظي البصرة، وواسط، وكربلاء محافظين آخرين في المستقبل على تشكيل قواعد سياسية خاصة بهم تقوم على التأييد الشعبي المتأتي من الأداء الجيد في المنصب، وصولاً إلى انسلاخهم من الإطار التنسيقي الحاكم.
  • تُشجِّع نتائج انتخابات المحافظات، رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، على المضي في درب تشكيل قوة سياسية خاصة به لخوض الانتخابات البرلمانية العامة في العام المقبل، وتحقيق حضور برلماني مؤثر يُبعده عن هيمنة الإطار التنسيقي.
  • يمكن أن يقود تحالفٌ انتخابي بين المحافظين الثلاثة ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني، إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي العراقي باتجاهات واقعية تدعم النزوع الإصلاحي، لكنّ هذا الأمر يعتمد على قدرة مثل هذا التحالف على الصمود أمام مناورات الإطار التنسيقي.

 

بعد تعليق عمل مجالس المحافظات في العراق عام 2019، أُجريت انتخابات مجالس المحافظات أخيراً في 18 ديسمبر 2023. أفرزت نتائج الانتخابات قوىً سياسية جديدة، خصوصاً في محافظات الوسط والجنوب، ذات الأغلبية الشيعية، نافست الكتلة البرلمانية الحاكمة (الإطار التنسيقي)، وفرضت عليه وقائع جديدة بضمنها منعها من السيطرة على محافظات مهمة، مثل البصرة، على رغم استخدام “الإطار” الضغوط السياسية والنفوذ المؤسساتي لإزاحة الفائزين في هذه المحافظات.

 

يَفتَح هذا المشهد الأفق نحو معادلة سياسية جديدة مقبلة في العراق في عام 2025، حين تجري الانتخابات البرلمانية العامة.

 

الإطار التنسيقي ومعركة الانتخابات المحلية 

على الرغم من عدم مشاركة منافسه الرئيس، التيار الصدري، في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، لم يستطع “الإطار التنسيقي” أن يحقق فوزاً حاسماً فيها، عبر السيطرة على محافظات وسط البلاد وجنوبها ذات الأغلبية الشيعية، البالغ عددها تسع محافظات. خسر الإطار التنسيقي ثلاثاً من هذه المحافظات، أكثرها أهميةً محافظة البصرة التي تمول حقولها النفطية أكثر من 90% من الميزانية الاتحادية، ومحافظتا كربلاء وواسط. يتعدى الأمر عدد المحافظات التي فشل فيها الإطار التنسيقي انتخابياً إلى ما هو أهم، وهو إحباط محاولاته للسيطرة على هذه المحافظات باستخدام نفوذه المؤسساتي وسطوته العامة.

 

أظهر الإطار التنسيقي، على نحو مبكر، ثقةً مبالغاً فيها بخصوص قدرته على فرض سيطرته الكاملة على هذه المحافظات الثلاث، وغيرها في الوسط والجنوب، ليضمن هيمنته على الحكومة الاتحادية إلى جانب حكومات المحافظات الشيعية فضلاً عن محافظة بغداد، فقد أعلَنَ حتى قبل المصادقة النهائية على نتائج الانتخابات أنه قرر تأليفَ لجنة تتولى تشكيل مجالس المحافظات، واختيار المحافظين. وحتى مع فوز  تحالفات انتخابية شكّلها محافظو بعض المحافظات، ما يسمح لهم  بالبقاء في مناصبهم، كانت رغبة الإطار التنسيقي واضحة في تبديل جميع المحافظين بآخرين يختارهم هو بغض النظر عن نتائج الانتخابات. لكن التحديات جاءت سريعاً لهذه الخطط، خصوصاً من محافظة البصرة، لتغير مسار الأمور بالضد من رغبات “الإطار”.

 

البصرة: مثال ناجح لتحدي السلطة المركزية للإطار التنسيقي

أظهرت نتائج الانتخابات في البصرة فوز القائمة الانتخابية لتحالف “تصميم” بزعامة المحافظ أسعد العيداني، بحصوله على 12 مقعداً من مجموع مقاعد مجلس المحافظة البالغ عددها 23 مقعداً، فيما حصلت القوائم الانتخابية الخمس للإطار التنسيقي على 11  مقعداً، واحدٌ منها على نحو مشكوك فيه. أضافَ حصول العيداني وحده على أعلى عدد من الأصوات، 160 ألف صوت من مجموع 587 ألف صوت، زخماً مهماً لفوز قائمته، إذ حصل لوحده على أكثر من نصف عدد المصوتين لقائمته ونحو 26% من إجمالي عدد المصوتين في عموم المحافظة. كانت هذه النتيجة كافية لأن يُجَدَّد للعيداني في منصبه، إذ ينص القانون على أن المحافظ يُنتخَب خلال 30 يوماً من عقد الجلسة الأولى لمجلس المحافظة الجديد بالأغلبية المطلقة (أي ما يزيد على نصف عدد أعضاء المجلس).  لكن  قرار الإطار التنسيقي كان مختلفاً، فقد عَدَّ البصرة ضمن حصة أحد أهم وأقوى الأطراف فيه، “عصائب أهل الحق” (التي حصلت على مقعدين فقط ضمن أحد قوائم الإطار التنسيقي).

 

شملت مساعي الإطار التنسيقي لانتزاع منصب المحافظ توظيفَ أدوات قانونية وأخرى غير قانونية، فضلاً عن الضغط السياسي، وعلى الأخص في الفترة الفاصلة بين إعلان النتائج الأولية، 18 ديسمبر، ومصادقة مفوضية الانتخابات العليا على هذه النتائج لتصبح نهائية في 26 يناير. فبحسب مصادر مطلعة، حاول الإطار التنسيقي رفع دعوى أمام المحكمة الاتحادية للحصول على تفسير جديد لمصطلح الأغلبية المطلقة الوارد في القانون، لتعني 13 عضواً بدلاً من 12، لكن يبدو أنه تم التخلي عن هذه المحاولة مبكراً، ربما بسبب حصوله على إجابة غير رسمية تُفيد أن الحصول على مثل هذا التفسير ليس سهلاً.

 

فشلت “عصائب أهل الحق”، التي يتزعمها قيس الخزعلي (الظاهر في الصورة)، في انتزاع منصب محافظ محافظة البصرة النفطية المهمة (AFP) 

 

ثم جاءت المحاولة الأكثر جدية، والتي تضمنت حرمان العيداني من أغلبيته لتصبح الأغلبية لصالح قوائم الإطار مجتمعةَ. بدأت هذه المحاولة بإلغاء فوز المرشح عن الكوتا المسيحية، فاهرام هايك، المُقرَّب من تحالف “تصميم”، والذي كان سيضيف إلى قوته مقعداً آخر لتصبح 13 مقعداً، ثم استبداله بالمرشح المسيحي الذي يليه في عدد الأصوات، نائل غانم ساكو، من حركة بابليون التابعة للإطار التنسيقي، على أساس شمول هايك بقانون المساءلة والعدالة، المعروف سابقاً باسم اجتثاث البعث. تَشي الخطوة بتلاعب واضح بالنتائج؛ فالمعروف أنه يتعين على كل المرشحين قبل السماح لهم بخوض الانتخابات تقديم أوراقهم التي تثبت عدم شمولهم باجتثاث البعث، وبعد أن تُراجع مفوضية الانتخابات سجلاتهم، وتتأكد من صحة المعلومات الواردة فيها، تسمح لهم بخوض الانتخابات، أو بحرمانهم منها إذا ظهر لها أنهم مشمولون بقانون الاجتثاث. وإضافة هذا الفائز البديل، ساكو، زادت عدد مقاعد الإطار التنسيقي إلى 11 مقعداً.

 

على جبهة أخرى ومُكمِّلة، حاول “الإطار” بقوة شقَّ تحالف “تصميم”، واستمالة عضو واحد منه على الأقل، ما يُنهي أغلبيته لصالح “الإطار”، لكن التحالف أثبت تماسكه ووقوفه خلف العيداني، وإصراره على ترشيحه لتولي منصب المحافظ مرة أخرى.

 

في الحقيقة، بذل الإطار جهوداً مختلفة للضغط على العيداني لدفعه إلى التخلي عن منصب المحافظ لصالح عدي العوّاد، المرشح الرئيس الفائز عن “عصائب أهل الحق”، والحاصل على 28 ألف صوت. تضمنت هذه الجهود تهديدات بكشف ملفات فساد تتعلق بالعيداني وزوجته، ومحاولات وساطة وغيرها، من دون نجاح. وعلى العكس من تماسك تحالف “تصميم،” ظهر الإطار التنسيقي في خضم هذه المعركة السياسية مفكَّكاً تقريباً، فعلى الرغم من  تشدد “عصائب أهل الحق”، المنضوية في قائمة “نبني”، الحاصلة على 5 مقاعد، أبدت  قوى أخرى داخل الإطار، مثل منظمة بدر، شريك العصائب في تحالف “نبني” وائتلاف دولة القانون، الحاصل على مقعدين، مرونةً لافتة في التعاطي مع الوقائع الجديدة التي أفرزتها الانتخابات، والتي تمثلت بالفشل العام للإطار في منع العيداني من تولي منصب المحافظ، عبر تغيير نتائج الانتخابات، أو تفكيك قائمة “تصميم”.

 

وبالرغم من عدم وجود تأكيد رسمي أو متداول إعلامياً بخصوص هذه المرونة، فمن الواضح أن ثمة تفاهماً ما حصل بين الاثنين؛ منظمة بدر وائتلاف دولة القانون من جانب، و”تصميم” من جانب آخر. ظهر هذا التفاهم، الذي أكد للباحث وجودَه ناشطون سياسيون مطلعون، من خلال إقرار قوى في الإطار، بينها زعيم منظمة بدر، هادي العامري، أن منصب محافظ البصرة من حصة “تصميم”، ومنْح منصب رئيس مجلس المحافظة لائتلاف دولة القانون، ونائب المحافظ لمنظمة بدر. لا يمكن للإطار الحصول على هذين المنصبين من دون موافقة “تصميم”، وتصويتها في المجلس دعماً لهذه التعيينات. وعلى الأكثر، تضمن هذا التفاهم أموراً أخرى ستظهر في المستقبل، مثل منح قوى الإطار مناصب في مستويات أدنى، وحماية المصالح الاقتصادية لها في المحافظة، فضلاً عن تعويض “الخاسر” الرئيس، عصائب أهل الحق، بمناصب عليا في محافظات أخرى، كما حصل في تولى العصائب منصب محافظ بابل. مثل هذه الصفقات مألوفة في الساحة السياسية العراقية بعد عام 2003.

 

وشهدت محافظتا واسط وكربلاء سيناريوهاً شبيهاً بما حصل في البصرة: فقد حصل المحافظان، بوصفهما مُرشَّحينِ، على أعلى الأصوات في محافظتيهما، إذ حَصدَ نصيف الخطابي عن كربلاء أكثر من 57 ألف صوت، أي 28% من مجموع المصوتين، فيما حصل محمد جميل المياحي على أكثر من 37 ألف صوت، وهو ما يمثل نحو 15% من مجموع الأصوات في واسط. كما حصلت قائمتهما الانتخابية “إبداع كربلاء”، و”واسط أجمل” على أكثر المقاعد في مجلس المحافظة. في الحالتين، جرى صراع شبيه بالصراع في البصرة مع اختلاف في التفاصيل، وانتهى هذا الصراع بفشل الإطار التنسيقي في إزاحة المحافظَين الفائزيَن، واحتفاظهما بمنصبيهما.

 

الوقائع السياسية الجديدة في ضوء نتائج الانتخابات

تمخضت نتائج الانتخابات المحلية عن وقائع جديدة ليست لصالح الإطار التنسيقي، فقد ظهرت قوى منافسة للإطار على المستوى المحلي وليس الوطني. صحيح أن “الإطار” حصل على الأغلبية الساحقة من المقاعد في محافظات الوسط والجنوب، لكن أغلبيته هذه، الناتجة جزئياً عن مقاطعة أغلبية الجمهور للانتخابات، وفي مقدمته التيار الصدري، أمَّنت له الفوز في المحافظات “الفاشلة” في ملفات الإعمار وتقديم الخدمات، فيما هُزِم “الإطار” في المحافظات الثلاث “الناجحة” في هذين الملفين، حتى مع الطبيعة النسبية لتعريف الفشل والنجاح في السياق العراقي الشديد التعقيد. وبعكس الإطار التنسيقي، فإن مزيّة هذه القوى أنها تستمد قوتها وشرعيتها من إنجازاتها الحقيقية على الأرض، وعلى الأخص في قضايا الإعمار وتحسين الخدمات الأساسية، التي أقنعت الناخبين بانتخابها، وعبرها استطاع محافظوها تشكيل حركات سياسية محلية تَحدّت الإطار التنسيقي بنجاح.

 

لم يحتفظ الإطار التنسيقي بالسلطة بسبب إنجازاته على المستوى الوطني، أو حتى بسبب فوزه في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وإنما بسبب امتلاكه ميليشيات وانحياز المحكمة الاتحادية له في نزاعه مع التيار الصدري، وبالتالي انسحاب الأخير من البرلمان ليحصل الإطار على معظم الـ 73 مقعداً برلمانياً التي تخلى عنها التيار الصدري. وتُشجِّع تجربة المحافظين الثلاثة محافظين آخرين في المستقبل على تشكيل قواعد سياسية خاصة بهم تقوم على التأييد الشعبي المتأتي من الأداء الجيد في المنصب، وصولاً إلى انسلاخهم من الإطار التنسيقي نفسه. وهنا، لابد من الانتباه إلى أن محافظي البصرة وكربلاء وواسط كانوا أنفسهم أعضاء في الإطار التنسيقي، واستقلوا تدريجياً عنه في سياق عملهم الرسمي هذا.

 

ساهمت مقاطعة التيار الصدري للانتخابات في حصول الإطار التنسيقي على أغلبية مقاعد محافظات الوسط والجنوب (AFP)

 

ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية العامة، المُقرر إجراؤها في عام 2025، يأخذ عامل جديد ومهم في البروز يتعلق بالقوة السياسية لرئيس الوزراء، محمد شياع السوداني. وحتى الآن، ليس للسوداني قوة سياسية مستقلة غير تيار الفُراتَين، وهو حزب سياسي صغير، وغير مؤثر، له ثلاثة أعضاء في البرلمان. وهناك أخبار متداولة على نطاق واسع بأن السوداني ينوى أن يشكّل حركةً سياسية جديدة ومؤثرة (أو يقوم بتوسيع “تيار الفراتين”) لخوض هذه الانتخابات البرلمانية. وعلى أساس لقاءات للباحث مع ناشطين سياسيين فوتحوا للانضواء في هذه الحركة، يبدو أنها ستتألف من تحالف واسع عابر للطوائف، يشمل بعض قوى حركة تشرين الاحتجاجية، وأحزاب المحافظين الناجحين، وجماعات مستقلة من التكنوقراط، المناوئين للإطار التنسيقي. وهناك احتمالات أن تدخل هذه الحركة في تحالف انتخابي مع التيار الصدري.

 

خطط السوداني في ضوء نتائج الانتخابات الأخيرة

تُشجِّع نتائج انتخابات المحافظات السوداني على المضي في درب تشكيل هذه الحركة، فسجله في الحكم على المستوى الوطني مُشابهٌ كثيراً لسجل المحافظين الثلاثة؛ فالرجل يركز كثيراً في عمله على قضايا إعادة الإعمار وتحسين البنية التحتية وتقديم الخدمات، من خلال حملة بدأت بها حكومته منذ أيامها الأولى بدعم من الإطار التنسيقي، وأخذت تتضح معالمها في العاصمة بغداد على الأخص، ومحافظات أخرى. ويُتوقع أن يُصبحَ جزءٌ مهم من هذه الحملة واقعاً قبل إجراء الانتخابات البرلمانية العام المقبل.

 

وإذا استطاع السوداني صياغة مثل هذا التحالف السياسي لخوض الانتخابات البرلمانية، فستكون فُرصهُ بتحقيق نتائج انتخابية جيدة كبيرة. ويدور في الأوساط السياسية والإعلامية حديث بخصوص هذا التحالف، كما في الحديث عن تشكيل السوداني  حزب ظل له تحت اسم  تجمع “أجيال”، يرأسه ابن عمه، والنائب البرلماني عن ائتلاف دولة القانون، محمد الصيهود. ويقدم التجمع، الذي عقد مؤتمره التأسيسي قبل شهرين من إجراء انتخابات مجالس المحافظات، مشروعه بوصفه يتماشى مع المنهاج الحكومي لحكومة السوداني، وأنه “يتخطى الطائفية”. وبغض النظر عما إذا كان السوداني يسعى للاعتماد على تجمع أجيال أو تيار الفراتين أو توليفة ما تجمعهما أو حتى تشكيل تنظيم ثالث غيرهما، يبدو جلياً أن الرجل عازم على الدخول في الانتخابات البرلمانية المقبلة كي يتخلص من تابعيته للإطار التنسيقي، ويستند إلى قوة سياسية/برلمانية مستقلة تمثل توجهاته وتدعمها. فضلاً عن ذلك، ثمة إشارات من مصادر مختلفة، إلى نية السوداني التنسيق سياسياً مع محافظي البصرة وواسط وكربلاء.

 

وثمة عامل مهم يجمع الأربعة سويةً هو المصالح المشتركة (كل المحافظين الآخرين في وسط وجنوب البلاد ينتمون للإطار التنسيقي الذي اختارهم لمناصبهم الحالية، وهؤلاء سيوظفون موارد محافظاتهم لصالح “الإطار” خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة). يحتاج المحافظون غير الإطاريين غطاءً سياسياً وطنياً يحميهم وحركاتهم المحلية من المساعي التقويضية للإطار التنسيقي بقدراته الواسعة في داخل الدولة، وبحيث يرسخ مكاسبهم المحلية أيضاً، ويعطيهم نفوذاً ودوراً وطنياً سياسياً على مستوى البلد، وليس فقط الدور الإداري المحصور بالمحافظات. ويفهم السوداني جيداً الأدوار التي يمكن أن يؤديها المحافظون، والمحددات التي تقف أمامهم، فهو نفسه كان محافظاً لمحافظة ميسان الجنوبية بين عامي 2009 و2010.

 

وفي وضع السوداني الحالي بصفته رئيساً للوزراء وأعلى مسؤول تنفيذي في البلد، فهو خاضع لضغوط وتحديات كثيرة تُقيِّد ما يمكن أن يقوم به، بسبب اعتماده الاضطراري على الحركات السياسية ضمن الإطار التنسيقي؛ وتحديداً عصائب أهل الحق بالدرجة الأولى، وائتلاف دولة القانون بالدرجة الثانية. لذلك يجد الرجل نفسه مضطراً لاستيعاب طلبات الجانبين، فضلاً عن الحركات الأخرى في الإطار التي تحمي حكومته برلمانياً، وتقدم لها الدعم اللازم بإزاء الخصوم السياسيين الكثيرين من خارج الإطار. ومن هنا فإن السوداني بحاجة إلى هذا التنظيم السياسي لخوض الانتخابات، وتحقيق حضور برلماني مؤثر يمثل سياساته ويحميها، وبالتالي يسمح له بإجراء إصلاحات أوسع وأعمق لا يستطيعها في ظل الوضع الراهن. فمن دون تمثيل برلماني قوي يستند إليه، لن تستطيع حكومة الرجل القيام بالإصلاحات الضرورية التي يحتاج إليها البلد، والتي تشمل مكافحة الفساد، والبدء بتفكيك الاقتصاد الريعي على نحو يؤدي تدريجياً إلى خلق فرص عمل خارج التوظيف الحكومي، وتحقيق احتكار الدولة للسلاح وإخضاع مراكز القوى والنفوذ المختلفة التي تتصارع على الموارد والقرار لسلطة الدولة، وإنفاذ حكم القانون على نحو حقيقي. ومن مصلحة السوداني أيضاً ألا يكرر خطأ رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، الذي تخلى عن فكرة إنشاء حزب سياسي يسنده، فانتهى إلى مجرد رئيس وزراء سابق استسهل الإطار التنسيقي حكمه بشيطنته ورَمْي كل أخطاء السنوات السابقة على كتفيه، بل حتى ملاحقة أعضاء مكتبه قضائياً مع استثنائه هو فقط من هذه الملاحقة.

 

يُقال إن رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، ينوى تشكيل حركة سياسية جديدة لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة (AFP)

 

قلق الإطار التنسيقي من طموحات السوداني

لعل التحدي الأكبر الذي يواجهه السوداني هو رفض الإطار التنسيقي تشكيله تحالفاً انتخابياً يمنحه قوة سياسية ذاتية، ويُبعده عن هيمنة “الإطار”. فقد أشارت مصادر قريبة مختلفة إلى أن الإطار اشترط على السوداني عدم المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، منعاً لمنافسته في الحصول على المقاعد البرلمانية، وخصوصاً في ظل ما تبدو شعبية متصاعدة له، مقابل التجديد لبقائه رئيساً للوزراء مرةً ثانية بعد الانتخابات. لكنْ يبدو أن التعهدات الشفوية بهذا الصدد ليست كافية، في حال قبول السوداني مثل هذا الأمر، إذ يدعو بعض أطراف الإطار إلى تعديل قانون الانتخابات، بحيث يشترط استقالة أي مسؤول بدرجة مدير عام فأعلى قبل ستة أشهر من إجراء الانتخابات، في حال رغب هذا المسؤول في خوض الانتخابات. وإذا أُدخل تعديل كهذا على قانون الانتخابات، فسيعني هذا حرمان السوداني من أهم أدوات النجاح الانتخابي في العراق: توظيف أدوات الدولة ومواردها لأغراض الفوز الانتخابي، بما يتضمنه هذا التوظيف من التأثير المعنوى لشاغل المنصب الأعلى في الدولة على الناخبين. ومِثْل هذا القرار لا يُضر الفرص الانتخابية لمعظم زعماء الإطار، مثل نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وعمار الحكيم وحيدر العبادي، لأنهم لا يشغلون مناصب رسمية في الدولة.

 

ومع ذلك، من المبكر الآن استقراء رد فعل السوداني على مثل هذا التعديل في حال تشريعه. لكن المُضي في إجراء تعديل كهذا في الوقت الراهن يبدو مستبعداً، فالإطار التنسيقي نفسه لا يُظهِر موقفاً متماسكاً أو موحداً بهذا الخصوص، وهناك طرف واحد فيه، هو ائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي، الذي يتبنى إدخال هذا التعديل، ولن يستطيع من دون دعم الأطراف الأخرى فيه المُضي في تشريعه.

 

وبسبب الطبيعة المفكَّكة للنظام السياسي في العراق، سيكون للسوداني حيز معقول للمناورة وتجاوز معارضة الإطار التنسيقي لترشحه في الانتخابات البرلمانية على رأس حركة سياسية يقودها هو، وتمثل توجهاته. فهناك، أولاً، التجربة التاريخية بهذا الصدد، إذ شكّل رئيسان سابقان للوزراء، هما المالكي والعبادي، حركتين سياسيتين لخوض الانتخابات وهما في المنصب، بالاستفادة من أدوات الدولة ومواردها. لكنْ يكمن العامل الأهم لصالح السوداني في مكان آخر وهو افتقار الإطار التنسيقي إلى التماسك والوحدة، ما يعني أن السوداني يمكنه أن ينسج تحالفاً انتخابياً مع بعض الأطراف الأقرب إلى توجهاته في داخل “الإطار”، مثل تيار النصر بزعامة العبادي، وتيار الحكمة بزعامة الحكيم. هذا فضلاً عن الإمكانيات الكبيرة التي يوفرها تقليدياً منصب رئيس الوزراء في العراق لجهة الضغط على أطراف معينة وإرضاء أخرى في المواسم الانتخابية، خصوصاً إذا هناك إحساس عام بأن حزب رئيس الوزراء له الحظ الأكبر بتحقيق الفوز الانتخابي، لأن الرغبة في الاصطفاف مع الفائز المستقبلي قوية منطقياً.

 

استنتاجات

كشفت نتائج انتخابات مجالس المحافظات عن وقائع جديدة في عراق مضطرب ترتبط بإمكانية استعادة الجمهور الثقة بالساسة القادرين على تحقيق إنجازات فعلية في مجال الخدمات والبنية التحتية، وبالتالي دعمهم انتخابياً. ويمكن أن يقود تحالفٌ انتخابي بين هؤلاء الساسة المحليين “الناجحين” ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني، إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي العراقي باتجاهات واقعية تدعم النزوع الإصلاحي. لكنّ هذا الأمر يعتمد على قدرة مثل هذا التحالف على الصمود أمام مهارات التقويض الكثيرة التي يتمتع بها الإطار التنسيقي، والتي استخدمها سابقاً بنجاح ضد التيار الصدري بعد فوز الأخير في الانتخابات البرلمانية في 2021، بحيث لم يستطع هذا الأخير تشكيل حكومة أغلبية سياسية، تمثل كسراً مهماً لتقليدَي المحاصصة والتوافق اللذين تسببا بالكثير من الفشل للدولة في أدائها، والكثير من الآلام للمجتمع العراقي بفعل عجز الدولة عن تأدية التزاماتها نحوه.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/majalis-almuhafazat-aljadida-wafaq-alkharita-alsiyasia-fi-aleiraq

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M