مسارات مألوفة: إلى أين تتجه العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا ؟

مها علام

 

مع وصول الرئيس الأمريكي “جو بايدن” إلى المكتب البيضاوي، اعتبرت أغلب التحليلات أن العلاقات بين واشنطن وأنقرة بصدد مرحلة جديدة قوامها التأزم انطلاقًا مما بدا كنبرة عدائية متكررة يتبناها “بايدن” ضد تركيا؛ فقد أدان “بايدن” قيام الرئيس “دونالد ترامب” بسحب القوات الأمريكية من شمال سوريا، واصفًا هذا التحرك بكونه خيانة للأكراد، معتبرًا أن أنقرة “يجب أن تدفع ثمنًا باهظًا” لحملتها العسكرية على الأكراد في سوريا. كما أدلى بتصريحات لصحيفة “نيويورك تايمز” -خلال السباق الرئاسي- وصف فيها “أردوغان” بالمستبد، منددًا بسياسته تجاه الأكراد، وداعيًا إلى دعم المعارضة. الأمر الذي يثير التساؤل بشأن السياسة التي تتبناها إدارة “بايدن” تجاه أنقرة في إطار كونها تمثل استمرارًا للنمط المعتاد بين واشنطن وأنقرة أم تحمل تغييرًا حقيقيًا للمعادلة التي تحكم العلاقات بين البلدين وتوجه بوصلتها.

نمط مختلط: هل تتحول العلاقة؟

يمكن القول بشكل عام، إن النمط المزدوج غلف العلاقات بين واشنطن وأنقرة أغلب الأوقات وفي أكثر من مناسبة، إذ لم تكن العلاقات بينهما على وئام دائم. فقد سحبت إدارة “جون كينيدي” صواريخ “جوبيتر”من تركيا بداية من أبريل 1963. وبعد احتلال تركيا لقبرص في عام 1974، حظرت واشنطن السلاح الأمريكي على أنقرة، كما ساهمت المساعدات العسكرية الأمريكية إلى اليونان في التصدي لطموحات أنقرة في بحر إيجه. إلا أن التهديد السوفيتي أدى إلى تجاوز كل هذه الخلافات، وساعد على تقوية العلاقات بين البلدين. وهو ما يمكن تطبيقه قياسًا على الأوضاع الحالية في ظل إدارة “بايدن”.

إذ يتضح أن هناك عدد من الأسباب التي تعدد كمبررات لإتجاه إدارة “بايدن” للخروج عن النمط المألوف في العلاقات والتوجه صوب التشدد مع أنقرة ؛ يستند أولها إلى رغبة إدارة “بايدن” في محاولة الإنقلاب على إرث “ترامب” والظهور بمظهر متمايز؛ ويتصل ثانيها بالوعود المتكررة التي تطلقها إدارة “بايدن” بشأن دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتعزيز القيادة العالمية القيمية لواشنطن؛ وينطلق ثالثها من الدور المتزايد للتيار التقدمي على الساحة الأمريكية بطريقة قد تفرض قيودًا على التعاون بين واشنطن وأنقرة بسبب التجاوزات المتكررة التي تقترفها الأخيرة؛ بينما يتعلق رابعها بالسلوك التركي المثير للأزمات والمزعزع للاستقرار والذي يدفع الإدارة إلى تبني مواقف أكثر تشددًا.

إلا أنه في على النقيض من ذلك، توجد عدد من الأسباب الذي تدلل على صعوبة تحول العلاقات بين واشنطن وأنقرة إلى حالة العداء؛ أبرزها: عناصر قوة الدولة التركية (الموقع الجيوسياسي، والنفوذ السياسي في محيطها وغيرها) التي تجعل من الصعب استبدالها بحليف آخر، فضلًا عن كونها فاعل رئيس في معظم الساحات الساخنة بالشرق الأوسط مثل العراق وسوريا وإيران وليبيا. إضافة إلى اعتماد الولايات المتحدة على تركيا كموازن استراتيجي في وجه خصوم واشنطن، سيما روسيا. كما تعد تركيا عضوًا حيويًا بحلف شمال الأطلسي “الناتو” تضم قواعد عسكرية ومراكز للرصد والإنذار المبكر والاتصالات اللا سلكية، ونظم التجسس وجمع المعلومات. كما عملت أنقرة على دعم جميع مبادرات “الناتو” الهادفة إلى طمأنة الحلفاء في البحر الأسود، بما في ذلك التدريبات الدورية وتناوب السفن البحرية من الولايات المتحدة والدول الأعضاء الأخرى.

الأمر الذي يعني وجود أسباب قوية على استمرار النمط المختلط للعلاقات بين البلدين، وهو ما انعكس في المسار الذي اتخذته العلاقات منذ وصول “بايدن” إلى سدة الحكم. فقد انتظر الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” حوالي ثلاثة أشهر بعد التنصيب قبل أن يتصل به “بايدن” للمرة الأولى، ولم تحمل المكالمة أنباء سارة، إذ أبلغ “بايدن” نظيره التركي بنية إدارته الاعتراف بمذابح الأرمن كــــــ”إبادة جماعية”. الأمر الذي تسبب في قيام أنقرة باستدعاء السفير الأمريكي احتجاجًا على تلك الخطوة. إلا أنه في المقابل، عبّر وزير الخارجية “أنتوني بلينكن” في أعقاب ذلك عن أمله في تحسّن العلاقات مع تركيا، لكنه جدّد التحذيرات بفرض عقوبات إذا تمسكت أنقرة بنظام الدفاع الجوي الروسي.

ومع اشتعال ساحة النزاع الفلسطيني الإسرائيلي في مايو الماضي، اتهم “أردوغان” الرئيس الأمريكي“ بكتابة التاريخ بأياد ملطخة بالدماء” بعدما وافق “بايدن” على صفقة أسلحة لإسرائيل خلال الاشتباكات الواسعة التي وقعت آنذاك. وفي المقابل، نددت الولايات المتحدة بتصريحات “أردوغان”، ووصفتها بأنها معادية للسامية، ومنها وصفه للإسرائيليين “بقتلة الأطفال”.

وفي خضم ذلك، أجرى “بلينكن” مكالمة هاتفية مع نظيره التركي “مولود تشاووش أوغلو”. علق عليها المتحدث باسم الخارجية الأمريكية “نيد برايس” في بيان له قائلًا إن “الوزيرين ناقشا أهمية التعاون بين البلدين بما في ذلك المصالح المشتركة في كل من سوريا وأفغانستان”. موضحًا أن “بلينكن” قد “بعث برسالة مفادها أن واشنطن ستواصل دعم المفاوضات بين تركيا واليونان حليفتيها بالناتو”. كما ذكرت مصادر دبلوماسية تركية، أن الوزيرين بحثا خلال الاتصال قضايا ثنائية وإقليمية كوقف إطلاق النار في غزة، والملف الأفغاني، والمساعدات الإنسانية إلى سوريا، ومستجدات شرق المتوسط؛ إلى جانب تناولهما نتائج اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة حول الأوضاع في فلسطين.

وفي يونيو الماضي، اجتمع “بايدن” بنظيره التركي لأول مرة منذ تنصيبه على هامش قمة حلف “الناتو” ببروكسل. قبل الاجتماع، قال الرئيس التركي إن العلاقات مع البيت الأبيض في عهد “بايدن” باتت أكثر توترًا مما كانت عليه في عهد أي رئيس أمريكي في العشرين سنة الماضية. لكنه في المقابل، دعا نظيره الأمريكي إلى تجاوز الخلافات؛ معتبرًا أن تركيا هي “البلد الوحيد الموثوق به” في أفغانستان بعد انسحاب قوات”الناتو”. ونظرًا إلى التطورات الدراماتيكية على الساحة الأفغانية، قال “بلينكن” إن تركيا تمثل حليفًا مهمًا في “الناتو”، مشيدًا بدورها في دعم جهود إخلاء اللاجئين الأفغان ورعايا الدول الأجنبية من أفغانستان. لافتًا إلى أن “الولايات المتحدة ممتنة لما تقوم به تركيا كشريك لها”.

ثم طرأت أزمة دبلوماسية جديدة على مسار العلاقات، تمثلت في تعرض السفير الأمريكي لدى أنقرة “ديفيد ساترفيلد” وتسعة مبعوثين غربيين آخرين للتهديد بالطرد بعد أن طالبوا بالإفراج عن رجل الأعمال التركي المسجون “عثمان كافالا”؛ وهو ما اعتبرته الحكومة التركية تدخلاً في شؤونها الداخلية. إلا أن حدة الخلاف الدبلوماسي بين تركيا والدول العشرة تراجعت بعد أن أصدرت هذه الدول بيانًا تؤكد فيه التزامها باتفاقية فيينا الدبلوماسية التي تحد من التدخل الأجنبي في الدول المضيفة، وهو ما رحب به الرئيس التركي. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية “برايس”، إن إدارة الرئيس “بايدن” تسعى للتعاون مع تركيا في إطار الأولويات المشتركة. لافتًا إلى أن السفير الأمريكي لدى أنقرة لا يزال يواصل مهام عمله هناك.

وفي 31 أكتوبر الماضي، التقى الرئيس “بايدن” للمرة الثانية مع نظيره التركي على هامش اجتماع مجموعة العشرين في روما. وأشار بيان صادر عن البيت الأبيض تعليقًا على ذلك إلى أن “بايدن” أبدى رغبته في “الحفاظ على علاقات بناءة وتوسيع مجالات التعاون وإدارة الخلافات بشكل فعال” مع تركيا. كما أعرب “بايدن” عن “تقديره لمساهمات تركيا لما يقرب من عقدين في مهمة الناتو في أفغانستان”. وقد ناقش الرئيسان العملية السياسية في سوريا، وإيصال المساعدات الإنسانية إلى الأفغان المحتاجين، والانتخابات في ليبيا، والوضع في شرق البحر المتوسط، والجهود الدبلوماسية في جنوب القوقاز.

وارتباطًا بهذا اللقاء، كشف مصدر لـــــ”سي إن إن” عن وجود عملية جارية لتزويد تركيا بطائرات مقاتلة F-16، لتحديث قوتها الجوية.  مضيفًا أن “الرئيس بايدن أخذ على عاتقه حصول تركيا عليها”. واستبق “إبراهيم قالين” – المتحدث باسم الرئيس التركي – بوضع ثلاث أولويات من ذلك اللقاء، وهي: إعادة أنقرة إلى برنامج طائرات المقاتلة الأمريكية “إف-35″، ووقف الدعم الأمريكي لـ”قوات سوريا الديمقراطية”، والتجاوب مع مطلب أنقرة بتسليم قادة جماعة “الخدمة” المقيمين في الولايات المتحدة، وعلى رأسهم “فتح الله جولن”. في غضون ذلك، قالت دائرة الاتصال بالرئاسة التركية، في بيان، إن “أردوغان” اتفق مع “بايدن” على تشكيل آلية مشتركة لتعزيز وتطوير العلاقات بين البلدين. وتابع البيان أن البلدين أكدتا على أهمية علاقة التحالف في إطار حلف “الناتو” وأرضية الشراكة الاستراتيجية، ورحبا بالخطوات المتبادلة في ملف تغير المناخ.

استنادا إلى العرض السابق، يتضح أن العلاقات بين واشنطن وأنقرة لازالت تسير وفق المعادلة المعتادة التي تحوي نمطًا مختلطًا من العلاقات؛ يعكس مزيجًا واضحًا من التفاهمات والخلافات. الأمر الذي يعني أن إدارة “بايدن” تسير في ذات المسار المعتاد عليه في علاقاتها مع الحليف التركي؛ ولا توجد مؤشرات قوية حتى الآن على خروج إدارة “بايدن” عن النمط المألوف في علاقاتها مع أنقرة، كما لا توجد مؤشرات عملية على وجود نية لدى إدارة “بايدن” لتفكيك الشراكة الاستراتيجية مع أنقرة. إذ لا تزال النظرة الأمريكية لتركيا تدور في فلك كونها أحد الأذرع الغربية أو أداة للناتو في مواجهة خصوم واشنطن.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/17987/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M