من إدارة الأزمة الى التنمية الاقتصادية في العراق

د. احمد ابريهي علي

 

ما أكثر التصورات الاستراتيجية والخطط والسياسات التي تناولت مستقبل الاقتصاد منذ مطلع خمسينات القرن الماضي والى يومنا، ولم تغفل الأهمية الحاسمة لتنويع مصادر الدخل، والتوظيف الكامل للقوى العاملة بإنتاجية متنامية، والعدالة الاجتماعية والعناية بالإنسان، وتقليل تفاوت التطور بين المناطق والحواضر والأرياف. وايضا إستكمال البنى التحتية ومواصلة تطويرها، وتوفير السكن اللائق والارتقاء بالصحة والتعليم … وكل ما يتمناه الناس.

وعند النظر في ابسط وأبرز حقائق الاقتصاد التي تكشف عنها البيانات، وتناولتها العديد من الدراسات، يظهر جليا ان تلك المدونات فقدت صلتها بموضوعها الأهم وهو بناء مقومات للنمو الاقتصادي وتطوير وتنويع الصادرات وتمويل الإنفاق العام باستقلال عن الريع النفطي. كما أن فاعلية نظام الاقتصاد واطئة في الإنتاج ومهمات التطوير على نحو محيّر. وفي نفس الوقت تصطدم جميع المقترحات المتداولة لدى أوساط الخبرة ودوائر القرار بحلقة مفرغة تقاوم الاختراق وتحبس الاقتصاد لإدامة الوضع الراهن.

في هذه المقالة موجز لإجراءات إدارة الأزمة، ثم تصور لأهداف التنمية الاقتصادية ومسارها من اجل الحل الجذري بعيد الأمد. لكن التنمية وما تنطوي عليه من تحولات عميقة تبقى بعيدة المنال دون تغير واسع في تنظيم الاقتصاد والإدارة الحكومية، وهو موضوع الحلقة القادمة.

تمويل العجز وتدابير الأمد القصير:

لقد بينت الدراسات السابقة، والمقالات التي أوجزتها بما فيها “عجز الموازنة العامة وتمويله في العراق”، ان هبوط قيمة صادرات النفط يعني عجزا ثنائيا في ميزان المدفوعات، الخارجية، والموازنة العامة. وأن العجز الأول هو الأخطر لكنه قابل للإدارة طالما لدى البنك المركزي احتياطيات: من الذهب وعملة إجنبية وإستثمارات خارجية عالية السيولة بما يزيد على ستين مليار دولار أواخر شهر مايو، أيار، من عام 2020 . إذ يمكن بذلك سد الفرق بين العملة الأجنبية المطلوبة من القطاع الخاص لتمويل مستورداته ومدفوعاته الأخرى وما تحوّله وزارة المالية الى البنك المركزي من قيمة صادرات النفط.

أي ان الحكومة تنظر في إيرادات النفط من العملة الأجنبية، تضيف عليها التدفقات الممكنة من القروض الخارجية القائمة والجديدة، وتقتطع من هذا المجموع متطلبات إستيراداتها ومدفوعات إلتزاماتها الخارجية، وتحول الباقي وهو قليل الى البنك المركزي، ويضيف البنك المركزي على هذا المبلغ من إحتياطياته آنفة الذكر ليستجيب لطلب القطاع الخاص على العملة الأجنبية. وباشرت الحكومة محاولاتها للحصول على قروض من الخارج، وكلما إزداد السحب على القروض الخارجية إزدادت مبيعات وزارة المالية من العملة الأجنبية الى البنك المركزي وساعدت على خفض معدلات إستنزاف إحتياطياته آنفة الذكر. بيد ان الاقتراض من الخارج يعني إضافة أعباء جديدة على موارد النفط في المستقبل القريب.

وتعتمد سلامة الاقتصاد على إمكانية إستمرار هذه العملية الأساسية في إدارة الأزمة الحالية، وذلك بغض النظر عن فهم الدوائر الرسمية لأبعاد العجز والتفسير المربك للاقتراض من الخارج “موارد النفط لا تكفي للإنفاق ونقترض من الخارج لسد الفرق”.

اما الإجراءات الموازية والتي تعالج العجز الثاني فتتمثل في تدبير تمويل بالدينار العراقي للإنفاق الداخلي: رواتب وما اليها، وقيمة مشتريات سلعية وخدمية للإنفاق الحكومي التشغيلي، والقليل جدا من المدفوعات لمشاريع إستثمارية تحت التنفيذ. فما هي مصادر تمويل الإنفاق بالدينار العراقي:

المصدر الأول قيمة مبيعات وزارة المالية من العملة الأجنبية الى البنك المركزي، وعندما ينحسر المورد النفطي تنخفض المقبوضات من هذا المصدر كثيرا؛ والمصدر الثاني إيرادات من غير النفط الخام، ضرائب ورسوم وحصة من ارباح المنشآت الاقتصادية الحكومية، ومبيعات موجودات وأملاك حكومية وما اليها؛ والمصدر الثالث القروض الداخلية وأغلبها من الجهاز المصرفي وللبنك المركزي الدور الرئيس في تيسيرها. تلك هي عناصر وآليات إدارة الأزمة عام 2020 ، بسيطة ولا تتحمل التهويل والغموض.

تتوزع أرصدة الحكومة بالعملة الوطنية والأجنبية على حسابات مصرفية عدة وتتطلب كفاءة الإدارة نظاما محكما للسيطرة عليها اولا بأول. ونهاية يوم العمل، على مدار السنة، يوجد للحكومة رصيد بالدينار العراقي في الجهاز المصرفي الوطني؛ ورصيد بالعملة الأجنبية في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والجهاز المصرفي الوطني. خلال يوم العمل التالي تعدل تلك الأرصدة بتدفقات داخلة وأخرى خارجة ثم أرصدة جديدة … وهكذا.

وإن تمويل الإنفاق الحكومي وإدارته تقتضيان، إضافة على السيطرة المحكمة على حركة الأرصدة تلك، إعتماد نظام الموازنات النقدية Cash Budgeting System وهو معروف ومعمول به في العالم، ومنشور للكاتب في أكثر من موقع بصيغة مبسطة مفهومة للجميع. ومن المعلوم أن العجز لا يدار بالعمل فقط على جانب الموارد بل والاستخدامات أيضا، ولذا من المتوقع خفض النفقات عموما والاقتصار على الضروري منها. بيد ان المبالغة في التقشف تُلحق ضررا في الاقتصاد والمجتمع لأن وظيفة الإنفاق الحكومي لا تقتصر على إدامة الخدمات العامة والأمن والدفاع … وسواها. بل هو المحدد الرئيس للطلب الكلي، من خلال آثاره المضاعفة، وبالتالي حجم النشاط الاقتصادي ومكتسبات الدخل ومستوى المعيشة لجميع العراقيين. فضلا عن أثره المباشر على حياة ملايين الناس التي تعتمد على رواتب العمل في الدولة والتقاعد والإعانات النقدية المنتظمة وغيرها.

التنمية الاقتصادية في الأمد المتوسط والبعيد:

من المتفق عليه ان في التنمية الاقتصادية فرصة تحرير العراق من مأزق الأعتماد على المورد النفطي الذي تعصف به تقلبات الأسعار في السوق الدولية، وما وراءها من سياسات المنتجين والمستهلكين، وربما ابعادها الاستراتيجية في الصراع على الدور والنفوذ في العالم، والمضاربات في أسواق النفط المالية المستقبلية… وغيرها. ولا شك في تعدد المسارات المحتملة للتنمية الاقتصادية، ضمن نطاق الإمكانية القصوى لنمو مجموع القدرات الإنتاجية إرتباطا بأنماط تخصيص الموارد بين إستخداماتها الاستهلاكية والاستثمارية، والتغير المنتظم في بنية الإنتاج وتشغيل القوى العاملة، ومسار تحولات شبكة العلاقات الاقتصادية الخارجية للعراق التي يعبّر عنها التنوع التدريجي للصادرات، والمدخلات الأجنبية: في سلة الاستهلاك ومستلزمات الإنتاج وعناصر التكوين الرأسمالي. ولا يتسع المجال، هنا، لعرض تصور وافي عن إقتصاد المستقبل ومسار الانتقال والتحليل الذي يرتكز عليه ويمكن الرجوع اليه في ابحاث منشورة، إنما التركيز على المسائل الأكثر جوهرية كما نرى:

أولا: الطاقات الإنتاجية:

– من الممكن تنمية الاقتصاد غير النفطي بمعدل سنوي أزيد من 8% حتى عام 2040، وبموازاته نمو ناتج النفط الخام والغاز ليتجاوز ضعف ما هو عليه الآن بدولارات عام 2020 ثابتة القوة الشرائية.

– زيادة الإسهام النسبي للزراعة والتعدين غير النفطي والصناعة التحويلية الى 35% من الناتج غير النفطي عام 2040 انطلاقا من الوضع المتدني الحالي وهو دون 10%.

– التصنيع المتجه للصادرات يقود عملية التنمية الاقتصادية وتتجاوز حصة الصناعة التحويلية من الناتج غير النفطي 25% عام 2040؛ والتركيز على الصناعات الكبيرة والثقيلة، وتنمية القدرة الوطنية على إستيعاب وتطوير التكنولوجيا.

– زيادة طاقة استخراج النفط نحو 9 مليون برميل في اليوم، وإستخدام ما لا يقل عن 2.5 مليون برميل يوميا في الداخل أغلبها في التصفية عام 2040. ويفهم من تقارير الخبراء ان العراق بحاجة ماسة الى توريد المياه من الخليج لحقن المكامن النفطية في عملية الاستخراج لتقليل هدر المياه العذبة. كمية المياه المطلوبة ضخمة، ومن الضروري حماية الأراضي من الأضرار المحتملة لتصريف المياه المستخدمة.

– معالجة الغاز المصاحب وتطوير الغاز المستقل كي يتجاوز المجموع 90 مليار متر مكعب في السنة عام 2040. واعتماد توليد الكهرباء على الغاز أولا ومن المصدر المحلي، والمباشرة بتصدير كميات منه تدريجيا.

– زيادة الطاقة المنصوبة لتوليد الكهرباء الى 100 ألف ميغاواط عام 2040. علما ان العجز في عام 2020 كبير حيث تقدر طاقة المحطات القائمة بحوالي 30 ألف ميغا واط والقابلة للتشغيل 16 ألف والضياعات بنسبة 40%. وتوصف شبكات النقل والتوزيع بالكثير من النواقص ويساعد تحسينها على زيادة الانتفاع من قدرات التوليد.

– مراجعة إستراتيجية الطاقة، وتعديلها وإعلان إلتزامها، بخصوص الصناعات التحويلية التي تعتمد على النفط والغاز مادة أولية لها والصناعات كثيفة الطاقة، الحديد والألمنيوم والسمنت … وتكاملها مع بقية الصناعات التي تقوم على الموارد الطبيعية المحلية ومنها الفوسفات والكبريت وغيرها. وبالارتباط مع إستراتيجية التصنيع المقاد بالصادرات إستهداف بناء سعات إنتاجية كبيرة في الحديد والبتروكيمياويات، وان يبلغ العراق في صناعة الأسمدة مستويات عالية بما فيها التصدير التنافسي.

– في الزراعة التركيز على تطوير جذري لشبكات الإرواء والمبازل. وإمتلاك مقومات عراقية للتحسين المستمر في البذور والتقاوى والثروة الحيوانية، بالانتفاع من أفضل توظيف للعلوم البيولوجية التطبيقية والزراعية، والتجريب المنظّم واسع النطاق. والبرمجة المسبقة للمستوردات الزراعية. والنهوض السريع بالصناعات الغذائية، وتكاملها مع سياسات الأسعار والإنتاج.

– أن تتضافر عمليات تطوير الطاقات الإنتاجية كي يرتفع إسهام الناتج من غير النفط الى حوالي 75% من مجموع الناتج المحلي. وتنمو الصادرات بأسرع من نمو الناتج؛ وتشكل الصادرات من غير النفط الخام مايزيد على نصف مجموع الصادرات وأغلبها، حوالي 80% من الصناعة التحويلية، و20% من الزراعة والتعدين غير النفطي وذلك عام 2040.

– وفي هذا السياق ترتفع نسبة النشطين اقتصاديا لأكثر من 32% من مجموع السكان، إذ تقدر في السنوات الماضية دون 28%؛ وتنخفض نسب البطالة والتشغيل الهامشي. وتتزايد نسبة العمل الأجير والمنظم في الإنتاج الكبير.

الاستثمار:

والمقصود بالاستثمار التكوين الرأسمالي Capital Formation اي الإضافة الى الموجودات الحقيقية، العينية، في كافة ميادين إنتاج السلع والخدمات. ومن المعروف ان تطوير شبكات الإرواء والمبازل والبنى التحتية جميعها والإسكان كلها تندرج ضمن مفهوم الإستثمار. وليس من المبالغة القول ان تكوين رأس المال هو العملية الأساسية التي تستند إليها جميع عمليات التطوير الأخرى. وتقتضي التنمية الاقتصادية على هذا المسار:

– رفع الجهد الاستثماري كي يتجاوز تكوين راس المال 35% من الناتج المحلي الإجمالي في السنوات الأولى، وتنخفض هذه النسبة نحو عام 2040 وما بعده الى دون 30%، نزولا الى 25%.

– يتولى القطاع العام، الحكومة والمنشآت العامة، ما يزيد على 60% من تكوين رأس المال لأن ثلثي الدخل يتولد حاليا في القطاع العام بما فيه مورد النفط، إضافة على قدرته في تعبئة التمويل من مصادر عدة، وعوامل قوة أخرى.

– الخفض المستمر لكلفة التكوين الرأسمالي عبر تغيير شامل للنمط الحالي في إعداد وتنفيذ المشاريع والرقابة على عملية الاستثمار بمراحلها المختلفة. وانسجاما مع خفض التكاليف، الارتقاء بكفاءة العملية الاستثمارية، رفع معدل العائد الداخلي للاستثمار بالمقياس الاقتصادي الكلي. وبالنتيجة إتساق نمو الفائض والأجور وتحمل الضرائب او ما في حكمها في قطاع الأعمال العام. أي تتطلب التنمية الاقتصادية للخروج من المأزق تصميم الجهد الاستثماري لبناء إقتصاد غير نفطي ومن دلالاته القابلية الذاتية على تمويل حجم مناسب من الإنفاق الحكومي.

– تحكُم النشاط الاستثماري سياسة تخصيص وتوجيه بما يضمن إحداث التحولات البنيوية المشار إليها آنفا. وضوابط للتكنولوجيا، واستخدام الطاقة، والعمل، وخفض الاعتماد على المدخلات الأجنبية، والإسهام في الصادرات، وتمويل الإنفاق العام.

– إقتصار إجازة الاستثمار الأجنبي على الصناعة التحويلية، إضافة على الموجود منه في قطاع النفط والغاز بأشكال مختلفة وهو بحاجة الى مراجعة وإعادة تنظيم.

– يرتبط النجاح في إستكمال وتطوير البنى التحتية على النهوض بالجهد الاستثماري، كما تقدم، وتدابير أخرى تتصل بتغيير إدارة القطاع العام كما سيأتي. وأيضا، المباشرة في إعادة تصميم المدن، جميعها، لاستيعاب الواقع الحالي، بضمنه العشوائيات، ما أمكن بأقل الخسائر، وإنصاف الفقراء، وتصحيح التجاوزات على حقوق الملكية، ملكية الحكومة والأفراد والكيانات الخاصة؛ وتعديل التصنيف الرسمي للأراضي بما يساعد على الاستيعاب القانوني لواقع الحال. وهذه العملية مشروحة في مكان آخر ومن السهل إعداد خطة عمل لإنجازها.

– إعداد برامج إستثمار حسب الأنشطة وتركيبها في برنامج وطني شامل بعيد الأمد، واستيعاب المشاريع تحت التنفيذ ضمن البرامج الجديدة. ويتطلب التوجه الجديد الفحص الدقيق للمشاريع المنجزة والملتزم بها لتشخيص مصادر المبالغة في التكاليف واسباب تدني المواصفات وتقييم التصاميم ومجريات الإدارة.

– في سياق ما تقدم من المنتظر: تجاوز العجز، نهائيا، في أبنية التعليم وبقية الخدمات العامة قبل عام 2025. وتحويل الملوثات عن الأنهار وتغطية كافة المدن بشبكات الصرف الصحي حوالي عام 2035.

والمباشرة لبناء شبكة حديثة للسكك الحديد مواكِبة للتقدم العالمي في هذا المجال وتوسيعها تدريجيا.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/economicarticles/23448

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M