موقف حَرِج.. مستقبل النظام السياسي التركي مع اقتراب استحقاقات 2023

  • ماري ماهر
  • بسنت جمال

 

يستعد النظام التركي لاجتياز استحقاق انتخابي مهم يُمثل محطة فارقة في مستقبل نظام حزب العدالة والتنمية الذي صعد للمرة الأولى إلى السلطة قبل عشرين عامًا، بينما يواجه حاليًا اختبارًا حاسمًا، إذ تظهر استطلاعات الرأي انخفاضًا حادًا في شعبيته مدفوعًا بالتبعات الاقتصادية والجيوسياسية لانتهاء سياسة “صفر مشاكل” واستبدالها بعمليات انخراط واسعة النطاق في ساحات الصراع الممتدة بين شمال إفريقيا وبحر قزوين بالتزامن مع التحول الاستبدادي للنظام التركي. وفي هذا الصدد، تتناول الورقة فرص وتحديات حزب العدالة والتنمية وأحزاب المعارضة بالتزامن مع بدء الاستعدادات المبكرة لانتخابات 2023.

إشكاليات متداخلة

يواجه النظام التركي إشكاليات متعددة ومتشابكة تضع مستقبله السياسي على المحك بحلول الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية والتشريعية المقررة في عام 2023، نستعرضها على النحو التالي:

• انخفاض شعبية الائتلاف الحاكم لصالح المعارضة: تُظهر نتائج استطلاعات الرأي التي أجرتها العديد من مراكز دراسات الرأي العام المتخصصة ميلًا عامًا لأحزاب وشخصيات المعارضة التركية، مقابل تراجع مستويات التصويت المتوقّع لتحالف الشعب المكون من حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية. فوفقًا للبيانات المتاحة، حصد حزب العدالة والتنمية نسبة تأييد بلغت 31.05% في المتوسط، بما يمثل تراجعًا ملحوظًا عن نسبة 42.6% التي أحرزها في جولة 2018، ليأتي خلفه حزب الشعب الجمهوري بمتوسط نسبة تأييد 25.93%، ويحتل حزب الشعوب الديمقراطي المركز الثالث بنحو 10.93%، يليه حزبا الخير والحركة القومية بحوالي 9.23% و5.78% على الترتيب، ليأتي في المركزين الأخيرين حزبا الديمقراطية والتقدم بزعامة علي باباجان، والمستقبل بزعامة أحمد داود أوغلو بنحو 1.8% و1.05% على التوالي.

وترتيبًا على ذلك، يتبين انخفاض حاد في تأييد الائتلاف الحاكم “تحالف الشعب” ليصل إلى 37.8% في المتوسط، بما يمثل تراجعًا حادًا عن نسبة 53.6% التي أحرزها في انتخابات 2018 لا يؤهله لتشكيل حكومة بمفرده، مقابل تصاعد شعبية تحالف الأمة أحزاب (الشعب الجمهوري، الشعب الديمقراطي، الخير والسعادة) إلى 42.57%، وقد زادت جائحة كورونا من شعبية حزب الشعب الجمهوري في أكبر مدينتين اكتظاظًا بالسكان (إسطنبول وأنقرة)، بعدما تولى رؤساء بلدياتهما توفير الخدمات والمساعدة الاجتماعية للسكان، وبالتالي وفّرت الحكومات البلدية للمعارضة منبرًا سياسيًا لعرض بديل لحكم أردوغان. علاوةً على ذلك، انخفضت نسبة الناخبين المستعدين للتصويت لأردوغان لتسجل 29.7% بحسب استطلاع شركة ميتروبول، وهي نسبة تقل كثيرًا عن رقم 67% الذي أحرزه بعد الانقلاب الفاشل صيف 2016، و45% في بداية العام الجاري.

• استعداد المعارضة لخوض الانتخابات: اتخذت أحزاب المعارضة خطوات مبكرة استعدادًا للمشاركة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة عبر التحرك ضمن مسارات عدة؛ أولها: عقد اجتماعات دورية لبحث فكرة وجود مرشح لمنافسة أردوغان، فقد طور حزب الشعب الجمهوري حوارًا مشتركًا مع أحزاب المستقبل والديمقراطية والبناء، بينما أعلن حزب الشعوب الديمقراطي الموافقة على فكرة المرشح الواحد. وثانيها: تصعيد اللهجة الخطابية ضد سياسات النظام الحالي، وتبني الدعوة لخارطة طريق تسفر عن العودة للنظام البرلماني وإيجاد حل سياسي سلمي للمسألة الكردية. وثالثها: محاولة استمالة المكون الكردي؛ إذ أبدى حزب الشعب الجمهوري خروجًا على موقفه التقليدي المتحفظ تجاه القضية الكردية، وشرع في جولة غير مسبوقة إلى إقليم كردستان العراق، حيث تبعث برسالة مفادها أن الحزب يقر بتجاوز القضية الكردية لحدود تركيا، وتخلق شعورًا بأن الحزب يمُكنه اتخاذ موقف أكثر جرأة من كردستان السورية في المستقبل.

• المعالجة غير الكُفء للأزمات: أظهرت الحكومة استجابات متأخرة ومحدودة التأثير تجاه الأزمات التي عصفت بالدولة خلال العامين الماضيين، ولعل أزمتي جائحة كورونا والحرائق والفيضانات كاشفة لسوء وانتقائية إجراءات معالجتهما بحيث لم تكن كافية لتقليص تداعياتهما السلبية إلى حدها الأدنى، فبينما لم تنغمس تركيا في أزمة جائحة كورونا بالدرجة ذاتها التي شهدتها الدول اليمينية الشعوبية الأخرى، فإن المعالجة الحكومة أظهرت عجزًا عن تقديم أنواع الدعم والتمويل التي قدمتها الحكومات الغربية لمواطنيها، واقتصر الأمر على مساعدات اجتماعية محدودة للفقراء بما فاقم معدلات الفقر الذي ضرب بالأساس فقراء المدن الأكثر موالاة لحزب العدالة والتنمية، وتسبب في تزايد حالات الانتحار وإفلاس أصحاب الأعمال الصغيرة.

إضافةً إلى ذلك، كشفت الأزمة تعثّر نظام الرعاية الصحية التركي الذي روج له حزب العدالة والتنمية كأحد أكبر منجزاته، وكلفت سياسة التطعيم التي ركزت في البداية على استخدام لقاح سينوفاك الصيني فقط ضياع بعض الأشهر الحاسمة التي كانت كفيلة باحتواء انتشار الوباء، قبل أن تتحول الحكومة فجأة إلى لقاح فايزر في يونيو 2021 لإنقاذ الوضع المتدهور. علاوة على أن الإجراءات الاحترازية طُبقت بشكل انتقائي ووفق معايير مزدوجة أضرت بالشركات وتسببت في ارتفاع البطالة، إذ أغلق حوالي 29 ألف صاحب متجر أعمالهم خلال الربع الأول من العام الحالي 2021، بزيادة قردها 11% مقارنة بالفترة نفسها العام الماضي 2020.

فيما كشفت أزمة الفيضانات وحرائق الغابات على طول ساحل بحر إيجه، وجهًا آخر للقصور الحكومي يتعلق بالفشل في الاستعداد والاستجابة للأزمات الطارئة، ولا سيمَّا في بلد تشكل حرائق الغابات فيه مصدر قلق دائم؛ حيث أظهرت عدم وجود أسطول وطني من طائرات مكافحة الحرائق، وبالتالي اضطرت تركيا إلى انتظار وصول طائرات متخصصة من دول أخرى بما في ذلك إسبانيا وأوكرانيا وروسيا. وبينما أصر حزب العدالة والتنمية على وصف استجابته للأزمة بالرائعة معتبرًا أن أولئك الذين انتقدوا الحكومة لديهم نوايا خبيثة؛ سارعت أحزاب المعارضة بتحميله نتائجها السلبية واتهامه بإنفاق الأموال على المشاريع المُضرّة بالبيئة.

• تغيير المزاج الشعبي تجاه اللاجئين: تصاعدت المشاعر المعادية للاجئين كاشفة عن درجة عالية من الكراهية والاحتقان بين شرائح واسعة من الأتراك، وهو ما جسدته الاحتجاجات المعادية لهم في مديني أنقرة وإسطنبول التي شهدت اشتباكات عنيفة بين السكان المحليين ومهاجرين سوريين أسفرت عن طعن تُركيين اثنين تُوفي أحدهما، إلى جانب تخريب بعض الأعمال التجارية التي يديرها الأجانب، كما شهدت مدينة أزمير نزاعات مسلحة بين شباب أتراك وسوريين أودت بحياة سوري وخلفت خسائر في ممتلكاتهم.

وقد وجدت المعارضة التركية الفرصة سانحة لاستغلال الرأي العام الغاضب في التعبئة السياسية ضد حزب العدالة والتنمية مع قرب الاستحقاقات الانتخابية في 2023، عبر إذكاء الخطاب المُعادي للاجئين في محاولة لتوحيد المحافظين الدينيين والتقدميين المعتدلين، والتركيز بشكل متزايد على تلك القضية لا سيمَّا مع تنامي المخاوف بشأن عبور اللاجئين الأفغان الذين وصلوا لإيران الحدود التركية. فمثلًا، يقوم مكتب حاكم إسطنبول من حزب الشعب الجمهوري بالإبلاغ عن عمليات اعتقال شبه يومية للأفغان غير المسجلين وغيرهم من الأشخاص غير النظاميين الذين يتم إيداعهم بعد ذلك في مراكز الاحتجاز، بينما علق الحزب لافتات على مبانيه في المدن الكبرى تحمل شعار “حدودنا تساوي شرفنا”، وأكد زعيمه كمال كليتشدار أوغلو أنه إذا وصل حزبه إلى السلطة، فسوف يعيد جميع اللاجئين إلى بلدانهم الأصلية.

• شهادات زعيم المافيا سادات بيكار: فعبر تسعة فيديوهات منشورة أزاح بيكار الستار عن منظومة الفساد الحاكمة مؤكدًا الاعتقادات القائلة بوجود تشابكات بين كبار المسئولين وعالم الإجرام، ومرسخًا الصورة الفاسدة للنظام ورجاله، ومُظهرًا حزب العدالة والتنمية كمؤسسة لإدارة علاقات فاسدة ومشبوهة مع تصاعد تيار ينادي بالتحقيق في تلك الاتهامات وإبعاد المتورطين بها، بينما تزايدت شعبية أحزاب المعارضة، وأصبح حزب الخير ممثلًا لليمين القوي غير الفاسد.

• الجدل بشأن صحة أردوغان: اتسع الجدل مؤخرًا بشأن اعتلال صحة أردوغان، حيث يواجه صعوبات في المشي والكلام والتذكر بما يثير تساؤلات بشأن مستقبله السياسي وقدرته على البقاء رئيسًا بحلول انتخابات عام 2023. وبالتأكيد فإن الحالة الصحية ستكون إحدى الأوراق التي ستوظفها المعارضة ضد أردوغان لإبراز عدم لياقته لأداء مهام منصبه. إضافة إلى أن غيابه يترك حزب العدالة والتنمية يواجه مصيرًا مجهولًا، ولا سيمَّا مع اتخاذ كوادره الأساسية كأحمد داود أوغلو وعلي باباجان وعبداللطيف شينر مسارات سياسية مستقلة.

• تفاقم الأزمة الاقتصادية: تشهد تركيا في الوقت الحالي أزمة مالية واقتصادية حادة في ظل انهيار قيمة العملة المحلية إلى مستويات قياسية، وزيادة معدلات التضخم، وتآكل الاحتياطي النقدي وما ترتب على ذلك من تراجع القدرة على الاستيراد أو سداد خدمة الدين العام، ليلقي كل ذلك بظلاله على المواطن الذي يُعاني من الفقر والبطالة وتراجع القوة الشرائية.

ودخلت البلاد دائرة مفرغة من الأزمات الاقتصادية بالتزامن مع اتّباع البنك المركزي “سياسة نقدية غير تقليدية” بضغط من أردوغان تتسم بخفض متتالٍ لأسعار الفائدة رغم ارتفاع معدلات التضخم بعكس ما تقتضيه النظرية الاقتصادية التقليدية بأن “خفض الفائدة يساهم في انخفاض الإقبال على الودائع، وهو ما يعني زيادة السيولة في أيدي المواطنين وارتفاع مستوى الإنفاق الذي سيصب في النهاية في زيادة معدلات التضخم”. ولم يدخر أردوغان جهدًا في مواجهة ارتفاع أسعار الفائدة، حيث تدخل للحد من استقلالية البنك المركزي والقضاء على خططه لرفعها، إذ أقال محافظ البنك المركزي مراد أويصال في نوفمبر 2020 ليعين ناجي أغبال بدلًا منه، ليقيله عقب ذلك في مارس 2021 ويعين شهاب كافجي خلفًا له، لتُعد هذه المرة الثالثة التي يُقال فيها محافظ المصرف المركزي خلال عامين، هذا بالإضافة إلى إقالة نائب محافظ البنك المركزي مراد جيتين كايا في الشهر نفسه.

وفي أعقاب قرار البنك المركزي بخفض أسعار الفائدة للمرة الثالثة على التوالي لتصل إلى 15% نوفمبر الجاري -وهي مستويات دفعت بأسعار الفائدة الحقيقية إلى النطاق السالب- تهاوت قيمة الليرة التركية إلى مستويات غير مسبوقة تتخطى خانة الآحاد مسجلة 16.42 ليرة مقابل الدولار، بسبب انسحاب المستثمرين الأجانب من الأسواق، مما ساهم في زيادة الطلب على الدولار وفي مزيد من التراجع في قيمة الليرة، كما يتبين من الرسم:

الشكل 1- سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار الأمريكي

وصب انخفاض قيمة العملة المحلية المزيد من الوقود على معدلات التضخم المرتفعة بالفعل في ظل العجز المستمر للميزان التجاري، حيث ارتفع معدل التضخم أكتوبر الماضي بنسبة 19.89% على أساس سنوي، وقفز مؤشر أسعار المستهلكين بنسبة 150.2% خلال الفترة (يناير 2014 حتى أكتوبر 2021) من 233.54 نقطة إلى 584.32 نقطة، كما موضح تاليًا:

الشكل 2- مؤشر أسعار المستهلكين شهريًا (نقطة)

وبهذا يتضح أن التضخم في تركيا جاء مدفوعًا بانهيار سعر صرف الليرة بالتزامن مع ارتفاع الواردات لمستويات تتجاوز الصادرات مع نمو الواردات السنوية من المواد الخام والسلع الرأسمالية والسلع الوسيطة، حيث يؤدي تراجع قيمة العملة المحلية إلى ارتفاع تكلفة الاستيراد وصعود تكلفة الإنتاج وأسعار السلع النهائية، ويُمكن استعراض عجز الميزان التجاري على النحو الآتي:

الشكل 3- الميزان التجاري التركي (مليار دولار)

ونلاحظ أن الاقتصاد التركي لم يتمكن من الاستفادة بشكل كامل من انخفاض قيمة العملة في عملية تعزيز صادراتها بسبب انخفاض مرونة الصادرات لسعر الصرف الناتج عن اعتماد شركات التصنيع المحلية على المواد الخام القادمة من الخارج والتي تزداد تكلفتها مع انهيار سعر الصرف، فضلًا عن اعتماد البلاد على واردات الطاقة، مما يحدّ من تأثيرات القدرة التنافسية لانخفاض قيمة العملة على الصادرات.

وترتيبًا على كل ما سبق، تراجع الاحتياطي النقدي في البلاد، ولا سيّما في ضوء الضغوطات التي مارستها جائحة كورونا على مصادر العملات الأجنبية الأخرى في البلاد، حيث انخفضت إيرادات السياحة بنحو 65.1% خلال العام الماضي وحده إلى حوالي 12.05 مليار دولار، وكذلك تراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة الوافدة لتركيا، كما يبين الرسم التالي:

الشكل 4- الاستثمار الأجنبي المباشر (مليار دولار)

بالنظر للرسم السابق، يتّضح أن الاستثمار الأجنبي المباشر سجل أدنى مستوياته العام الماضي خلال الفترة المذكورة سلفًا عند 7.88 مليارات دولار مقارنة بنحو 12.969 مليار دولار خلال عام 2014 بنسبة تراجع تبلغ 39.2%، ويُمكن إرجاع ذلك إلى تراجع ثقة المستثمرين في الاقتصاد التركي بجانب تأثيرات الجائحة السلبية على حركة الاستثمار العالمية. ومع تراجع قيمة الاحتياطي النقدي، تتراجع قدرة أي دولة على سداد ديونها، ولذا نجد أن نسبة الدين الخارجي للدخل القومي التركي قد ارتفعت من 43.63% خلال 2014 لتسجل 61.27% بحلول العام المنصرم، وفقًا لقاعدة بيانات البنك الدولي الموضحة في الرسم الآتي:

الشكل 5- نسبة الدين الخارجي للدخل القومي (%)

وبينما لم تُفِقْ تركيا من الأزمات الاقتصادية الداخلية، حتى تلقت ضربات عدة من الدول الأخرى حيث فرضت إدارة الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” تعريفات جمركية على الصادرات التركية من الحديد والألمنيوم، كما أطلقت السعودية حملة شعبية بداية من 3 أكتوبر 2020، بدعوة من رئيس الغرف التجارية “عجلان العجلان” لمقاطعة تركيا بشكل كامل على مستويات التجارة والاستثمار والسياحة، وهو ما استجاب له الآلاف من السعوديين، فيما قرر المغرب تعديل اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا عبر زيادة الرسوم الجمركية بنحو 90% على 1200 سلعة تركية لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد.

وتضررت الأحوال المعيشية للمواطن التركي وتراجعت قوته الشرائية وانخفضت ثقته في الاقتصاد الوطني كنتيجة حتمية للتدهور الاقتصادي وإفلاس العديد من الشركات، ولهذا ارتفعت معدلات البطالة والفقر جنبًا إلى جنب كما يتبين من الشكل الآتي:

الشكل 6- نسب البطالة والفقر (%)

يتبين من الرسم السابق ارتفاع معدل البطالة من 9.9% خلال 2014 مسجلًا 13.2% بحلول عام 2020، في حين قفز معدل الفقر العام الماضي إلى أعلى مستوياته خلال الفترة محل الدراسة عند 12.2%.

استجابة محدودة التأثير

دفعت التعقيدات التي تُحيط بالمشهد السياسي التركي النظام لتبني إجراءات ترمي إلى تثبيت أركانه، والقفز على تراجع شعبيته، ومحاصرة التيارات المعارضة، واستيعاب الضغوط التي تتعرض لها الحكومة، ومنها:

• الدعوة لكتابة دستور جديد: أعلن أردوغان اعتزامه تقديم مسودة دستور جديد خلال الأشهر الأولى من العام المقبل 2022، في محاولة لإعادة هندسة المشهد السياسي بما يخدم فرص التحالف الحاكم، فالدستور المزمع يسعى للالتفاف على مطالب المعارضة بالعودة للنظام البرلماني، وتعزيز هيمنة أردوغان على السلطة لضمان فوزه بولاية جديدة بغض النظر عن النسبة التي يستطيع إحرازها عبر إجراء الانتخابات ضمن جولة واحدة يفوز بها الحاصل على العدد الأكبر من الأصوات دون الحاجة إلى بلوغ النسبة الاعتيادية “50+1″، علاوة على إنقاذ شريكه الحكومي، حزب الحركة القومية، بتخفيض الحد الأدنى لدخول البرلمان.

• تخفيض الحد الأدنى لدخول البرلمان: بغية إنقاذ حزب الحركة القومية الذي تراجعت شعبيته بشكل كبير جراء الانشقاقات التي طالت صفوفه، يعتزم حزب العدالة والتنمية تقديم مشروع قانون للبرلمان، في أكتوبر المقبل، لخفض الحد الأدنى الواجب إحرازه لدخول البرلمان إلى 7% نزولًا من 10% التي لا يرجح أن يتمكن حزب الحركة القومية من إحرازها، وهو أمر يحمل في طياته منافع أخرى لتحالف الشعب الحاكم، كونه سيسمح لبعض الأحزاب الصغيرة والمقربة من حزب العدالة والتنمية، كحزبي السعادة والوطن الكبير القومي المتطرف، بدخول البرلمان والانضمام للائتلاف. وفي هذا، تركز الدعاية التركية على الترويج لفكرة أن النظام الرئاسي لا يحتاج لحد أدنى مرتفع لدخول البرلمان.

• لعبة العصا والجزرة مع الأكراد: تتحرك استراتيجية حزب العدالة والتنمية تجاه الأكراد وفقًا لمسارين متعارضين لكنهما مكملان لبعضهما بحسب وجهة نظر الحزب؛ الأول: يهدف لاستمالة أصوات الأكراد ذوي التوجه المحافظ الذين يميلون لأردوغان بسبب خلفيته الإسلامية أو أولئك الذين لا يسعون للحصول على حقوق، فضلًا عن منع المزيد من خسارة أصوات الأكراد الموالين للحكومة، إذ بدأ التأييد لأردوغان يتآكل بسرعة بين الناخبين الأكراد؛ فوفقًا لاستطلاع رأي أجرته شركة “راوست” للأبحاث قال أقل من 30% إنهم سيدعمون إعادة انتخاب أردوغان رئيسًا، وكان حزب العدالة والتنمية استطاع كسب 35% من أصوات تلك المنطقة في انتخابات 2018.

وعليه، يعتزم أردوغان إحداث انفتاح محسوب على الولايات ذات الغالبية الكردية، تجسدت أبرز مؤشراته في زيارته مدينة ديار بكر يوليو 2021، وهي الزيارة الأولى للمدينة منذ عامين ونصف، حيث أطلق مجموعة من المشاريع، منها تحويل السجن المركزي إلى مركز ثقافي ومتحف أملًا في محو ذكرى أيام المواجهات بين قوى الأمن والمواطنين، خاصة أن انتخابات البلدية لعام 2019 أظهرت مدى أهمية التصويت الكردي، حيث انتزع مرشحو حزب الشعب الجمهوري مدينتي أنقرة وإسطنبول بدعم من تحالف قوى المعارضة بما في ذلك الأكراد. ومع ذلك، تظل توقعات الأكراد منخفضة بشأن جدوى تلك السياسات، فمن الصعب تصور انخراط حزب العدالة والتنمية في عملية سلام مع الأكراد بينما لا يزال مؤتلفًا مع حزب الحركة القومية.

أما المسار الثاني، فيتعلق بمحاولات حظر حزب الشعوب الديمقراطي لإعطاء التحالف فرصة الفوز بأصوات جنوب شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية، بالتوازي مع تنفيذ خطة ممنهجة لإرهاب ناخبي الحزب الموالي للأكراد شملت عمليات قتل وهجمات، فيما أصبحت التهديدات على معاقل الحزب في مدن مختلفة شبه روتينية. ولا تقتصر الهجمات على الأكراد المرتبطين رسميًا بحزب الشعوب الديمقراطي، وإنما طالت السكان الأكراد العاديين وأئمة الصلاة باللغة الكردية، وامتدت مظاهر العنف لتشمل رفض إطلاق حملة كردية للتلقيح ضد فيروس كورونا ما يجعل المدن ذات الأغلبية الكردية الأقل في معدلات التلقيح، وهو وضع يتوقع الخبراء استمراره وزيادة وتيرته مع اقتراب الانتخابات.

• إرهاب الأحزاب المعارضة: تصاعدت وتيرة الاعتداءات المسلحة بحق شخوص ومقرات أحزاب المعارضة بغية قمع أي صوت مُعارض، وبالتوازي تطلع أردوغان إلى إحداث تصدعات داخل أحزاب المعارضة، فقد شهد حزب الشعب الجمهوري انشقاقات عدّة أبرزها استقالة المرشح الرئاسي السابق عن الحزب محرم إينجه وإعلانه تأسيس حزب جديد، كما أعلن النائب السابق بالحزب أوزترك يلماز تأسيس حزب جديد باسم حزب الحداثة، وتُشير أصابع الاتهام للنظام الحالي. علاوة على ذلك، حاول أردوغان ضرب حزب الخير بمحاولة إعادة توحيده مع حزب الحركة القومية المنشق عنه، لكن رفض زعيمته ميرال أكشينار العرض إلا بشروط معينة دفع النظام لتحريض نائب رئيسة الحزب، القيادي القومي أوميت أوزداغ، على الادعاء بوجود صلات بين ممثل الحزب في إسطنبول وجماعة فتح الله جولن المصنفة إرهابية.

ختامًا، لا يُمكن الجزم بمغادرة حزب العدالة والتنمية للسلطة خلال استحقاقات عام 2023؛ فهناك عقبات تقلل فرص إزاحته كليًا عن الحكم، منها: عدم وجود مرشح توافقي يُمكن أن تجتمع بشأنه المعارضة، وتدور التكهنات حول رؤساء بلديات إسطنبول وأنقرة، أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش، وزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار، ويواجه هذا الأخير إشكالية تتعلق بانتمائه للمذهب العلوي. إضافة إلى تمتع أردوغان بشعبية كبيرة بين الناخبين الأكبر سنًا من ذوي الخلفية المتدينة الذين يشعرون بالقلق من فقدان المزايا الاجتماعية التي حصلوا عليها في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، فضلًا عن إمكانيات التلاعب المباشر أو غير المباشر بنتائج الانتخابات. وفي هذا السياق، لا شك أن الصوت الكردي سيكون ترجيحيًا ويتطلب الأمر من المعارضة تطوير أجندة سياسية تخاطب القاعدة الكردية دون خسارة الأصوات القومية.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/18310/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M