توسيع معادلة الردع… خلفيات الوتيرة المتسارعة لتجارب بيونج يانج الصاروخية

في استغلال واضح للوضع الدولي الحالي في ظل تفاقم أزمة الحرب في أوكرانيا، تتحرك كوريا الشمالية بشكل حثيث لتصعيد التوتر بينها وبين كوريا الجنوبية ومحيطها الآسيوي، لتصبح بذلك على رأس قائمة الدول التي ترى في الوضع القائم في شرق أوروبا فرصة سانحة لتوسيع نطاق معادلة الردع القائمة منذ عقود بينها وبين جيرانها، لتصبح أكثر تعقيدًا وأكثر تنوعًا فيما يتعلق بالوسائط القتالية المنخرطة في هذه المعادلة، خاصة مع التلويح المستمر من جانب كوريا الشمالية بالعودة إلى التجارب النووية مرة أخرى.

قبل تناول التجارب الصاروخية المكثفة التي شرعت فيها كوريا الشمالية منذ مطلع العام الجاري، لابد من إلقاء نظرة على مسار هذه التجارب على مدى العقود الماضية، ومدى ارتباط وتيرتها بحالة العلاقات مع كوريا الجنوبية والولايات المتحدة الأمريكية من عدمها، وهي علاقات تعد محركًا أساسيًا لهذه التجارب التي تبدو مرتبطة بالعوامل السياسية بقدر ارتباطها بخطة التحديث العسكري الكوري الشمالي، والتي تضمنت عدة مراحل يمكن من خلالها بسهولة ملاحظة حجم التقدم الذي أحرزته بيونج يانج فيما يتعلق بالقوة الصاروخية الباليستية والعابرة للقارات.

أواخر السبعينيات … البناء على التجارب السوفيتية

النسخة الكورية الشمالية من صواريخ “سكود” الباليستية

شرعت بيونج يانج أواخر سبعينيات القرن الماضي في برنامجها الصاروخي الباليستي، وأجرت أول تجربة في هذا الصدد مطلع عام 1984، عبر تنفيذ ستة تجارب متتالية على صواريخ “سكود – بي” الباليستية السوفيتية قصيرة المدى. وتمحورت هذه التجارب على بحث آلية زيادة مدى هذا النوع من الصواريخ، ليتجاوز حاجز 300 كيلو متر، وهو مسعى حاولت دول عديدة أخرى -من بينها دول عربية مثل العراق- تحقيقه، عبر تقليل حجم الشحنة المتفجرة التي يحملها الصاروخ، مقابل زيادة كمية الوقود السائل التي يحملها.

وتمكنت خلال عام واحد من زيادة مدى هذا الصاروخ بمقدار 20 كيلو متر، وبدأت في إنتاجه تحت اسم “هواسونج-5″، وهي النسخة التي مثلت بداية البرنامج الصاروخي الكوري الشمالي، وكذلك بداية البرنامج الصاروخي الإيراني، حيث عقدت طهران عام 1985، صفقة لشراء عشرات الصواريخ من هذا النوع، ومن ثم شرعت في برنامجها الصاروخي الخاص، اعتمادًا على النموذج الكوري الشمالي.

توقفت التجارب الصاروخية الكورية الشمالية خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، إلى أن جاء عام 1990، حيث تمت في شهر مايو من هذا العام، التجربة الأولى للصاروخ الباليستي الكوري الشمالي متوسط المدى “هواسونج – 7″، والذي كان أيضًا نسخة من الصاروخ السوفيتي “سكود – بي”، لكنه كان أكبر من حيث المدى، حيث تراوح مدى هذا الصاروخ في نسختيه “نو دونغ – 1” و”نو دونغ – 2″، ما بين 1200 و1500 كيلو متر.

في الشهر التالي، أجرت كوريا الشمالية تجربة لإطلاق الصاروخ الباليستي السوفيتي الأصل “سكود – سي”، بعد أن حصلت على التصاميم الخاصة به من الصين، وقامت بإنتاجه محليًا. تلت هذه التجربة تجارب صاروخية أخرى، من بينها تجربة لإطلاق صاروخ “سكود – سي” عام 1991، وتجربة أخرى عام 1992 لإطلاق صاروخ “هواسونج – 7″، بجانب ما بين ثلاثة وأربعة تجارب خلال عام 1993 على النوعين معًا.

في أغسطس 1998، حققت كوريا الشمالية واحدًا من أهم إنجازاتها فيما يتعلق بالصواريخ الباليستية طويلة المدى، حيث تمكنت من تجربة الصاروخ الباليستي ذي المراحل الثلاث “تايبو دونغ – 1” المعروف أيضًا باسم “أونها-1″، بعد تحميله بقمر اصطناعي كوري شمالي. وعلى الرغم من فشل الصاروخ في تفعيل المرحلة الثانية من مراحله الثلاث وسقوطه في البحر، إلا أن التجربة أثبتت انه وحسب وزن الحمولة التي سينقلها سيتراوح مداه الأقصى بين 2000 و6000 كيلو متر، وهو مدى يعد قياسيًا بالنظر إلى حالة البرنامج الصاروخي الكوري الشمالي في ذلك التوقيت.

أحدثت هذه التجربة حينها ضجة كبيرة؛ نظرًا إلى تحليق الصاروخ فوق الأراضي اليابانية انطلاقًا من قاعدة انطلاقه شمال شرق كوريا الشمالية. وعلى الرغم من وصول السلطات الأمريكية إلى قناعة عام 2003 بأنه لا توجد نية لدى السلطات الكورية الشمالية لتحويل هذا الصاروخ إلى أن يكون صاروخ أرض – أرض للاستخدام العسكري، إلا أن هذه الاحتمالية تبقى قائمة حتى الآن.

أوقفت كوريا الشمالية أوائل عام 1999 تجاربها الصاروخية للمرة الأولى، على خلفية بدء مباحثات سرية بينها وبين عدد من الدول من بينها اليابان والولايات المتحدة والصين؛ من أجل تخفيف التوتر الذي نجم عن تجربة عام 1998 الصاروخية. وتوقفت بيونج يانج منذ ذلك التوقيت عن إجراء أي تجارب صاروخية جديدة حتى مارس 2005 حين أجرت تجربة واحدة لإطلاق صاروخ قصير المدى، إلا أن العام التالي شهد عودة قوية للتجارب الصاروخية الكورية الشمالية، حيث أجرت خلال هذا العام سبعة تجارب صاروخية على مرحلتين، تمت جميعها في شهر واحد وهو شهر يوليو.

التجربة الأبرز ضمن هذه التجارب كانت تجربة فاشلة لإطلاق نسخة أحدث من صاروخ “تايبو دونغ – 1″، تمت تسميتها “تايبو دونغ – 2″، وهذه النسخة تم تصميمها على أساس أن يتعدى مداها الأقصى عشرة آلاف كيلومتر، إلا أن الصاروخ انفجر بعد نحو دقيقة من إطلاقه. تم في هذه التجارب أيضًا اختبار أربعة صواريخ من نوع “نو دونغ – 1” وصاروخين من نوع “سكود – سي”. كان لهذه السلسلة من التجارب صدى ضخم على المستوى الدولي، لأنها جاءت بعد سنوات من توقف التجارب الصاروخية الكورية، وهو ما أدى إلى تصاعد الاحتقان بين بيونج يانج وعدد من الدول على رأسها اليابان والولايات المتحدة.

عام 2009 شهد أيضًا موجتين من موجات التجارب الصاروخية الكورية الشمالية، بواقع ثمانية تجارب صاروخية، منها تجربتين لإطلاق صواريخ “نو دونج – 1″، وخمسة تجارب على صواريخ “سكود – سي”، بجانب تجربة فاشلة لإطلاق صاروخ “تايبو دونغ -1″، كان فيها محمّلًا أيضًا بقمر اصطناعي محلي الصنع.

وبرغم فشل هذه التجربة إلا أن أداء الصاروخ فيها كان أفضل بمراحل من تجربة عام 1998، لأن مرحلتيه الأولى والثانية تم تفعيلهما بشكل ناجح، والخلل كان في المرحلة الثالثة من مراحل تحليق الصاروخ، بجانب أن هذا الصاروخ تمكن خلال هذه التجربة من التحليق لمسافة تجاوزت ثلاثة آلاف كيلو متر، أي أكثر من ضعف المسافة التي حلقها عام 1998، وهو ما أثار انتباه الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، لأن هذه التجربة وضعت كوريا الشمالية على بعد خطوة واحدة من إرسال صواريخ إلى خارج المجال الجوي للأرض، وهو ما مهد لاحقًا لدخولها عصر “المركبات الانزلاقية”، التي تعد إحدى أهم التقنيات المستخدمة حاليًا في الصواريخ العابرة للقارات.

أوقفت كوريا الشمالية للمرة الثانية تجاربها الصاروخية خلال عامي 2010 و2011، إلا أن هذه التجارب عادت مرة أخرى عام 2012، عبر تجربتين مهمتين لإطلاق نسخة أحدث من صواريخ “تايبو دونغ” الفضائي، وهو الصاروخ “تايبو دونغ – 3”. التجربة الأولى لم تكن ناجحة، على عكس التجربة الثانية التي تمت في شهر ديسمبر، حيث نجحت نجاحًا باهرًا، وتمكن الصاروخ من التحليق وإتمام مراحله الثلاث، ووضع قمر اصطناعي محلي الصنع في مداره حول الأرض.

في العام التالي أجرت كوريا الشمالية ستة تجارب متتالية على صواريخ “كي إن – 02” الباليستية قصيرة المدى، والتي تعد نسخة من الصواريخ السوفيتية التكتيكية “توشكا-يو”، ويصل مداه إلى 170 كيلو متر. تصاعد في عام 2014 -بشكل لافت- حجم التجارب الصاروخية الكورية الشمالية، بإجراء تسعة عشر تجربة، بواقع 13 تجربة على صواريخ “سكود – بي” و”سكود – سي” السوفيتية المعدلة، وتجربتين على صاروخ “نو دونغ -1″، بجانب أربعة تجارب على صاروخ “كي إن – 02”.

صاروخ “هواسونج-10” العابر للقارات

عام 2015، أجرت كوريا الشمالية مزيدًا من التجارب على صاروخ “كي إن – 02” بواقع عشرة تجارب، تضاف إليها تجربتان على صواريخ “سكود – سي”، وثلاثة اختبارات إحداها كان فاشلًا للصاروخ الكوري الشمالي الأول الذي يتم إطلاقه من على متن الغواصات، وهو الصاروخ “كي إن -11″، الذي يتراوح مداه الأقصى بين 900 إلى 1200 كيلو متر.

في العام التالي، نفذت كوريا الشمالية 24 اختبارًا صاروخيًا متنوعًا، بواقع سبعة اختبارات لصواريخ سكود، وخمسة اختبارات لصواريخ “نو دونغ -1″، واختبار واحد لصواريخ “تايبو دونغ – 3″، وثلاثة اختبارات لصواريخ “كي أن – 02″، بجانب ثمانية اختبارات تم اعتبارها بمثابة الظهور الأول لواحد من أهم الصواريخ الكورية الشمالية، وهو الصاروخ الباليستي العابر للقارات “هواسونج-10″، الذي يعمل بالوقود السائل ويبلغ مداه الأقصى 4000 كيلو متر، ومثل نقلة نوعية في التسليح الصاروخي لبيونج يانج.

صاروخ “هواسونج-15” العابر للقارات

عام 2017 كان عامًا مفصليًا في التجارب الصاروخية الكورية الشمالية، ففيه تم اختبار مجموعة من الصواريخ الباليستية متوسطة وبعيدة المدى الموجودة في الترسانة الكورية في ذلك التوقيت، معظمها خضع للمرة الأولى للاختبارات العملية، حيث تم إجراء نحو 20 تجربة صاروخية، تتضمن ست تجارب لإطلاق الصاروخ الباليستي العابر للقارات “هواسونج – 12″، وهو تحديث لصاروخ “هواسونج-10″، وبلغ المدى الأقصى لهذه النسخة أيضًا أربعة آلاف كيلو متر، لكنها كانت مزودة برأس حربي يتميز بإمكانية تحميله بشحنة نووية.

كذلك تمت خلال هذا العام تجربتان لإطلاق الصاروخ الباليستي العابر للقارات ذي المرحلتين “هواسونج – 14″، والذي يتعدى مداه الأقصى عشرة آلاف كيلو متر، ويحمل رأسًا حربيًا تقليديًا أو نوويًا تبلغ زنته نصف طن، وتجربتان لإطلاق صاروخ باليستي جديد متوسط المدى تمت تسميته “بوكوكسونج-2″، إحداهما تمت في فبراير 2017 خلال زيارة رئيس الوزراء الياباني إلى الولايات المتحدة، وقد بلغ مدى هذا الصاروخ نحو 2000 كيلو متر، علمًا بأنه يعمل بالوقود الصلب. من ضمن تجارب هذا العام، كانت تجربة إطلاق الصاروخ الأهم على الإطلاق في الترسانة الكورية الشمالية في تلك الفترة، وهو الصاروخ الباليستي العابر للقارات ثنائي المراحل “هواسونج-15″، والذي يصل مداه الأقصى إلى 13.000 كيلو متر، ومزود برأس حربي تقليدي تبلغ زنته طن واحد، مع إمكانية تزويده برأس حربي نووي.

صاروخ “بوكوكسونج-3” الباليستي

قررت كوريا الشمالية عام 2018 إيقاف التجارب الصاروخية، على خليفة بدء مباحثات عالية المستوى بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن هذه التجارب عادت بكثافة عام 2019، بعد انهيار هذه المباحثات. وتم في هذا العام تسجيل الرقم القياسي الحالي لأكبر عدد من التجارب الصاروخية في كوريا الشمالية، والتي بلغت 27 تجربة صاروخية، أهمها 23 تجربة على سلسلة الصواريخ الباليستية قصيرة المدى، “كي إن – 23″ و”كي إن – 24” و”كي إن – 25″، التي تتراوح أمديتها بين 400 و600 كيلو متر، بجانب تجربة غير مسبوقة لإطلاق صاروخ “بوكوكسونج-3″، الباليستي والذي تم إطلاقه بنجاح من على متن غواصة معدلة من الفئة “سينبو-سي”، وهو ما شكل نقلة إضافية في القدرات الصاروخية الكورية الشمالية التي كانت تعتمد حصرًا على منصات الإطلاق الأرضية ذاتية الحركة. وتشير التقديرات إلى ان هذا الصاروخ العامل بالوقود الصلب يستطيع الوصول إلى أهداف تقع على بعد 2500 كيلو متر من موقع إطلاقه.

اكتفت بيونج يانج عام 2020 بإجراء تسع تجارب صاروخية فقط، تركزت جميعها على الصواريخ الباليستية قصيرة المدى “كي إن – 24” و”كي إن – 25″، في ظل أجواء دولية بدا منها أن شبه الجزيرة قد تشهد انخفاضًا كبيرًا في التوتر الذي كان سائدًا خلال السنوات الماضية. لكن بدا من طبيعة التجارب الصاروخية التي أجرتها كوريا الشمالية عام 2021، رغم عددها المحدود والذي بلغ ست تجارب فقط، أن بيونج يانج تسعى حثيثًا نحو زيادة قدرات الردع الصاروخية الخاصة بها، خاصة بعد أن بدأت في اتخاذ خطوات تصعيدية لافتة كان أهمها تفجير مكتب الارتباط المشترك مع كوريا الجنوبية في يونيو 2020، وكذا إعلان الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون أوائل نفس العام عن بدء بلاده قريبًا برنامجًا لتصنيع أسلحة استراتيجية جديدة.

تجارب عام 2021 شملت أربعة تجارب إطلاق لنسخة مطورة من صواريخ “كي إن – 23” الباليستية قصيرة المدى، تم خلالها إطلاق هذا الصاروخ من ثلاث منصات مختلفة “سكك حديدية – منصة أرضية – غواصة”. حمل اختبار النسخة المطورة من هذا الصاروخ حينها عدة مؤشرات بالغة الأهمية؛ أولها أن هذه الاختبارات تعد الأولي في ظل إدارة بايدن واستهدفت كوريا الشمالية من خلالها إرسال رسالتين إلى الإدارة الجديدة: الأولى تختبر فيها ردود فعل هذه الإدارة، وتؤكد من خلالها أنها ستستمر في تطوير قدراتها الصاروخية، والثانية مفادها أنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام تصاعد التعاون العسكري بين واشنطن وسيؤول.

المؤشر الثاني المهم في هذا الصدد، كان في خصائص النسخة المطورة التي تم إطلاقها في التجارب الأربع، حيث حلقت هذه النسخة خلال تجارب الإطلاق لمسافة 600 كيلو متر، برأس حربي تم تعديله بشكل جذري لتصبح زنته ما يقرب من 2500 كيلو جرام، وهو ما يجعل هذا النوع من الصواريخ ذا تأثير تدميري ضخم، مع توفر إمكانية -تبدو ضئيلة- لتحميله برؤوس حربية غير تقليدية.

من النقاط اللافتة في هذا الصدد أن القيادة العسكرية في اليابان وكوريا الجنوبية أخطأت في البداية في تحديد مدى النسخة الجديدة من هذا الصاروخ، فقالتا في البداية إن مداه لم يتجاوز 450 كيلو متر، لكن عادت واعترفت أن مداه وصل إلى 600 كيلو متر، وأنه أتبع نمط تحليق معقد؛ إذ حلق في البداية على ارتفاع يبلغ 60 كيلو متر من سطح البحر، ثم نفذ في المرحلة الأخيرة من التحليق انزلاقًا جويًا إلى مستوى منخفض جدًا فوق سطح البحر، وهو ما يصعب مهمة رصد واعتراض هذه الصواريخ، ويمثل تحديًا جديًا لكوريا الجنوبية، التي فشلت في رصد المراحل الأخيرة لتحليق هذا الصاروخ خلال تجربتين على الأقل من التجارب الأربع.

تجربة إطلاق هذا النوع من الصواريخ من على متن قطار تم تعديله خصيصًا ليصبح منصة إطلاق صاروخية كان من الأمور اللافتة في تجارب هذا العام، خاصة أنه خلال هذه التجربة حلق صاروخ “كي إن – 23” مسافة أكبر من مسافة تحليقه في التجارب الأخرى، ووصل إلى مسافة 800 كيلو متر. واللافت هنا أن هذه التجربة ألقت الضوء على تشكيل الجيش الكوري الشمالي لأفواج متحركة على قضبان من منصات إطلاق الصواريخ، وهي ميزة تكتيكية مهمة بالنظر إلى قابليتها بشكل أكبر للبقاء من المنصات الثابتة، ويمكن من خلالها في حالة الضرورة الاستفادة من خطوط السكك الحديدية في البلاد البالغ طولها 7435 كيلومترًا، ناهيك عن تميزها بالتمويه نظرًا لأنها تبدو ظاهريًا مثل قطارات الشحن المدنية، ويمكن تخزينها وإخفاؤها في الأنفاق الخاصة بهذه القطارات. يضاف إلى ما سبق، إمكانية الاستفادة من هذه المنصات في إطلاق الصواريخ الباليستية الثقيلة بعيدة المدى.

من تجارب هذا العام أيضًا تجربة نوعية لإطلاق صاروخ باليستي يسمى “هواسونج-8″، مزود برأس حربي انزلاقي تفوق سرعته سرعة الصوت، وتمت عملية الإطلاق عبر منصة ذاتية الحركة قبيل ساعات من إلقاء سفير كوريا الشمالية لدى الأمم المتحدة خطاب بلاده في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. حلق هذا الصاروخ لمسافة أقل من 200 كيلو متر، على ارتفاع يتراوح بين 30 و60 كيلو مترًا.

ربما لم يكن مدى هذا الصاروخ أو ارتفاع تحليقه بمثابة إضافة نوعية للقدرات الكورية الشمالية، لكن المهم في ما يتعلق به هو أنه يمثل المحاولة الأولى من جانب بيونج يانج لتطوير تقنية توصلت إليها سابقًا دول كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وهي تقنية “المركبات الانزلاقية”، وهي رؤوس حربية منزلقة تحلق بسرعة الصوت نحو هدفها بعد أن تنفصل عن الصاروخ الحامل لها خارج الغلاف الجوي للأرض، ما يجعل من الصعب على شبكات الدفاع الجوي تتبع هذه الصواريخ ورصدها واعتراضها، نظرًا لضيق الوقت المتاح أمام هذه الشبكات لرصد هذه المركبات لأنها تأتي من خارج الغلاف الجوي بسرعات عالية.

جدير بالذكر هنا أن عام 2021 شهد أيضًا تجربة كورية شمالية لإطلاق “صاروخ جوال” تم إطلاقه من منصة ذاتية الحركة تحمل خمسة أنابيب للإطلاق. الصاروخ الجديد حلق عبر ثمانية مسارات متعددة الأشكال لمدة ساعتين وست دقائق، قطع خلالها أكثر من 1500 كيلو متر، بسرعة تتراوح بين 440 و700 كيلو متر في الساعة، وهو يتشابه إلى حد كبير مع الصاروخ الجوال الروسي “كي إتش-55”.

لفتت هذه التجربة بشدة انتباه اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، ليس فقط لأن هذه التجربة تمت قبل يوم واحد فقط من اجتماع كبار المفاوضين النوويين من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان في طوكيو لبحث مستقبل الوضع الكوري الشمالي، لكن أيضًا لأن كوريا الشمالية كانت تعمل منذ سنوات على تصنيع رؤوس حربية نووية مصغرة لتحميلها على صواريخ تكتيكية ذات مدى كبير، وهو ما يتوفر بشكل واضح في الصاروخ الجوال الجديد الذي يمتلك نظريًا القدرة على حمل رؤوس نووية.

وفي حالة ما إذا تأكد سعي كوريا الشمالية إلى تطوير صواريخ جوالة ذات رؤوس نووية، فإن امتلاكها هذه التقنية سيوفر لها قدرة عسكرية جديدة تضاف إلى صواريخها الباليستية، لأن الصواريخ الجوالة تكون أسهل في النقل والإخفاء، وتتميز بصعوبة كشف مكان إطلاقها، وكذلك إمكانية استخدامها في مهاجمة كافة أنواع الأهداف البرية والبحرية. علاوة على ذلك، فإن نجاح كوريا الشمالية في هذا الصدد، قد يتيح لها الفرصة لتطوير صواريخ جوالة أخرى يتم إطلاقها من منصات بحرية أو جوية.

2022… توسيع معادلة الردع الكورية الشمالية

صاروخ “هواسونج-8” الباليستي

بالتزامن مع تفاقم أزمة الحرب في أوكرانيا، نفذت كوريا الشمالية منذ مطلع العام الجاري وحتى الآن اثنتي عشرة تجربة صاروخية متنوعة، تضمنت تجربة بعض الأنواع الجديدة من الصواريخ التي لم يسبق اختبارها سابقًا، وظهرت خلال المعرض العسكري الذي أقامته بيونج يانج في أكتوبر الماضي، وكذلك في العرض العسكري الذي أقيم في أبريل الماضي.

تضمنت هذه التجارب إطلاق صواريخ مضادة للطائرات، وصواريخ باليستية قصيرة المدى من البحر والبر، بجانب تجربة فاشلة لإطلاق الصاروخ الفضائي “أونها-3”. أهم هذه التجارب كانت تجربتان تمتا في يناير الماضي لإطلاق نسخة محسنة من صواريخ “هواسونج-8″، المزودة بمركبة انزلاقية أسرع من الصوت، وقد تمكن هذا الصاروخ في كلا التجربتين من إصابة هدفه بدقة على مسافة 700 كيلو متر، وهو ما يعد نجاحًا كبيرًا بالنظر إلى تحليقه مسافة 200 كيلو متر فقط في تجربة العام الماضي.

صاروخ “هواسونج-16” العابر للقارات

تضمنت هذه التجارب أيضًا تجربة هي الأهم للصاروخ العابر للقارات الأكثر أهمية في الترسانة الكورية الشمالية حاليًا” وهو الصاروخ “هواسونج-16″، الذي ظهر للمرة الأولى في أكتوبر 2020، لكن هذا يعد الاختبار الأول له. هذا الصاروخ، الذي يعد تطويرًا لصاروخ “هواسونج-15” الذي تم اختباره عام 2017، تشير التقديرات إلى أن مداه الأقصى قد يصل إلى 13 ألف كيلو متر، وهو ما يجعله مهددًا لمعظم أراضي الولايات المتحدة الأمريكية، ناهيك عن امكانية حمله ما يصل إلى أربعة رؤوس حربية منفصلة. خلال هذه التجربة التي تمت في مارس الماضي تمكن الصاروخ المستخدم في الوصول إلى مسافة تعدت 1000 كيلو متر، وارتفاع 200 كيلو متر.

الوتيرة الكثيفة لهذه التجارب الصاروخية تزامنت مع تولي الرئيس الكوري الجنوبي الجديد “يون سوك-ديول”، المعروف بميوله المحافظة، مهام منصبه، وقد سبق له الإدلاء بتصريحات حادة حول كوريا الشمالية، لذا لم يكن مستغربًا أن تهدد كوريا الشمالية -على لسان زعيمها كيم جونج أون- في مناسبتين متتاليتين في شهر أبريل الماضي باستعمال السلاح النووي في حالة تعرض “المصالح الأساسية” لكوريا الشمالية لأي تهديد، وهذا هو نفس المعنى الذي صرحت به في نفس الشهر كيم يو جونج شقيقة زعيم كوريا الشمالية التي قالت صراحة أنه إذا اختارت كوريا الجنوبية المواجهة العسكرية مع كوريا الشمالية أو حاولت شن ضربة استباقية ضدها فإن بلادها سترد بضربة نووية، وهو تصريح كان ردًا مباشرًا على تصريحات وزير الدفاع الكوري الجنوبي “سوه ووك”، بشأن قدرة بلاده على توجيه ضربات استباقية لكوريا الشمالية.

خلاصة القول، إن كوريا الشمالية تحاول في هذه المرحلة انتهاز الانشغال الدولي بأزمة أوكرانيا؛ كي ترسي قواعد جديدة في معادلة الردع بينها وبين جارتها الجنوبية، وفي نفس الوقت ترسل رسالة واضحة حول تطور قدراتها العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في ظل احتمالات تدهور الوضع الجيوسياسي في شرق آسيا على خلفية التغيرات الجوهرية في المعادلة الدولية التي ستنتج حتمًا عن الحرب في أوكرانيا.

بيونج يانج تضع أمام ناظريها مساعي طوكيو وسول للتسلح، ووصول هذه المساعي إلى حد تطوير صواريخ باليستية نوعية، وهو ما يمثل تجاوزًا لنقطة تفوق كورية شمالية كانت سائدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهذا كان سببًا رئيسًا في جولة التطوير النوعي الملحوظة في التسليح الصاروخي في كوريا الشمالية، والذي يبدو مركزًا على توفير القدرة على تجاوز الدرع الصاروخية الأمريكية في المحيط الإقليمي لبيونج يانج. تبدو كوريا الشمالية مصممة بشكل واضح على توسيع معادلة الردع في هذا النطاق، حتى لو تطلب ذلك إعادة التجارب النووية التي تم إيقافها بعد تجربة سبتمبر 2017.

مصادر:

– https://bityl.co/CE8i

– https://bityl.co/CE8k

– https://bityl.co/CE8s

– https://bityl.co/CE8y

– https://bityl.co/CE92

– https://bityl.co/CE93

– https://bityl.co/CE95

– https://bityl.co/CE98

– https://bityl.co/CE9C

– https://bityl.co/CE9E

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/69855/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M