أوهام الغزو: لماذا لا تستطيع الصين إخضاع تايوان بالقوة؟

 نرمين سعيد

أوكرانيا الأمس- تايوان اليوم؛ يُعد هذا هو المدخل الأحدث لمناقشة قضية تايوان المثارة عبر سنوات، ويرجع الربط بين الحالة الأوكرانية والحالة التايوانية إلى وجود تصور حول أن التراخي الغربي في ردع روسيا عن غزو أوكرانيا ثم حماية كييف بعد ذلك، سيكون عاملَا مغريَا بالنسبة لبكين لتنفيذ عملية غزو لتايوان وإخضاعها بالقوة.

كما أن التحول هنا يكمن في أن الولايات المتحدة تخلت وللمرة الأولى عن سياسة الغموض الاستراتيجي التي حكمت علاقة واشنطن بتايبيه على مدى عقود، والتي تتضمن الدفاع عن تايوان دون تحديد لماهية هذا الدفاع، وانعكس ذلك التحول في تصريحات الرئيس الأمريكي خلال زيارته للعاصمة اليابانية طوكيو، والتي أكد خلالها أن واشنطن ستتخذ رد فعل عسكري إذا ما أقدمت بكين على غزو تايوان، وإن كان البيت الأبيض قد عاد ونفى أي تغير في استراتيجية واشنطن.

لكن على ما يبدو فقد كان هناك تعمد في تسريب هذا النوع من التغير في اللهجة للصينيين لتشكيل عامل ردع للشهية الصينية المفتوحة بعد الحرب الأوكرانية. وتمهد واشنطن لاستخدام استراتيجية جديدة لردع الصينيين عن طريق إقناع الصين بأنها حتى لو خرجت من الحرب منتصرة فإن تكلفة الانتصار ستكون مدمرة على الاقتصاد الصيني بشكل يفوق أي مكاسب محتملة.

أوهام الغزو

حسب الكتابات الصينية فإن بكين لا تسعى أبدًا للحصول على مبرر لغزو تايوان، وإنما على العكس من ذلك فهي تسعى إلى إيجاد مبررات لعدم الإقدام على عملية الغزو، ويمكن تفسير ذلك بالعديد من الأسباب:

 أبسط الأمور التي يمكن ذكرها أنه رغم ضخامة جيش التحرير الشعبي الصيني، فإن قدراته لم يتم اختبارها فعلًا في أي حرب خارجية حتى الآن، مع الأخذ بالحسبان أن الجيش الروسي واجه مقاومة ضخمة من الأوكرانيين سواء بجهودهم الذاتية أو بمساعدة الغرب، وما يعنيه ذلك من أن تايوان ستلاقي نفس القدر من الدعم الذي يؤهلها للمقاومة بشكل كبير، وهو ما يعد اختبارًا ضخمًا لقدرات جيش لم تختبر في حرب خارجية من قبل، وذلك على العكس من الجيش الأمريكي الذي اختبر في مرات عديدة في فيتنام وأفغانستان والعراق، وإن لم ينجح في حسم أي من هذه الحروب لصالحه فهو على الأقل لا تنقصه الخبرة.

– من جانب آخر، لا زالت بكين تعاني من الآثار الاقتصادية السيئة لجائحة كورونا ولا شك في أن حرب قد تطول سيكون لها آثار مدمرة على الاقتصاد الصيني، فضلًا عن العقوبات الاقتصادية التي سيتم توقيعها على بكين، وهو ما يجعل عملية خاطفة للسيطرة على الجزيرة أكثر إغراءً لبكين من شن حرب، ولكنه في نفس الوقت تفكير نظري غير قابل للتحقق والحرب الأوكرانية ليست بعيدة، إذ اعتقد فيها أن الجيش الروسي قادر على السيطرة على كييف في أيام.

 تمتلك الصين استراتيجيات بديلة في التعامل مع تايوان، وذلك عن طريق تحليل الاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع حروبها الخارجية وعلى رأسها العراق، حيث اعتمدت واشنطن على سياسة الحرب النفسية عن طريق إثارة الرعب والفزع لدى العراقيين من قبل أن تبدأ الحرب، ولأن الصين درست ذلك بدقة  فقد قدم جيش التحرير الشعبي عقيدة الحروب الثلاث في عام 2003، والتي تركزت حول الحرب النفسية، وحرب الرأي العام، والحرب القانونية ردًا على الألعاب النفسية التي تنفذها الولايات المتحدة، خصوصًا أن الصين اعتبرت حرب العراق خطأ استراتيجي فادح أدى إلى خفض مكانة الولايات المتحدة على المسرح العالمي وشكل بداية تراجع القوة الأمريكية. ومن ضمن بنود الحرب النفسية الصينية ضد تايوان، فرض حالة من العزلة السياسية مع الأخذ بالحسبان أن معظم البلدان التي تمتلك تجارة ضخمة مع تايبيه لا تعترف بها دبلوماسيًا.

 تجري الصين تدريبات عسكرية ضخمة، ولكن التساؤل الأهم بخصوص هذه النقطة هو: هل هذه التدريبات كافية لإنجاح الهجوم على تايوان إذا ما وقع، وتكفي الإشارة هنا إلى أن جيش التحرير الشعبي أجرى  تدريبًا واسع النطاق للدبابات والمدفعية وقوات المشاة، للهجوم على نموذج بالحجم الطبيعي للمكتب الرئاسي التايواني، وفي أكتوبر 2021، أرسلت الصين ما يقرب من 200 طائرة عسكرية تابعة لجيش التحرير الشعبي للأجواء التايوانية، حيث يبدو أن بكين ستعتمد على هذا العنصر بشكل كبير في حالة الغزو بسبب عوائق جغرافية سيتم التطرق لها لاحقًا. كما أن لعبة الطائرات المستمرة هي جزء من الحرب النفسية واستنزاف أعصاب الجانب التايواني، مع التركيز هنا على أن الصين تستخدم أراضي الإيجور كمنطقة اختبار عسكري مما وفر نافذة واضحة لاستراتيجية جيش التحرير الشعبي ضد تايوان، ولكن ماذا لو وصلت الأمور مع الإيجور لطريق مسدود؟

 على الرغم من أن بكين تدرك أن التدخل في تايوان عن طريق البحر لن يكون الخيار الأمثل، فقد قامت بإجراء تجارب على مستوى احترافي تضمنت  اختبار في صحراء تاكلامكان على مجموعة أهداف شبيهة بالأهداف الأمريكية حيث إن النطاق الأول، الذي تم تحديده في أكتوبر 2021، يحتوي على جسمين، كلاهما لهما أبعاد متطابقة مع السفن الحربية التابعة للبحرية الأمريكية: أحدهما مدمرة من طراز Arleigh Burke، والآخر حاملة من فئة Ford، وعلاوة على ذلك قام الجيش الصيني في فترات سابقة ببناء نماذج بالحجم الطبيعي للسفن الحربية الأمريكية، بما في ذلك حاملات الطائرات والمقاتلات السطحية الكبيرة. ولكن يبقى الموقع المكتشف حديثًا في صحراء تاكلامان يحمل تشابهًا واضحًا مع قاعدة سواو البحرية في تايوان.

 وليبدو الأمر أكثر وضوحًا من الناحية المنطقية، فإن الولايات المتحدة وحلفائها من غير المعقول أن يتركوا سفنهم مكشوفة في الموانئ بمجرد أن يتم إعلان حالة الطوارئ، وهو ما تعول عليه بكين بشكل كبير حيث إن تشكيلات الصواريخ  لديها مدربة على استهداف السفن في الموانئ لأغراض عسكرية واضحة، تتضمن  استهداف السفن الحربية الأمريكية على أمل توجيه “ضربة قاضية” ضد تحالف واشنطن بين المحيطين الهندي والهادي، بل توجيه ضربة للحلفاء أيضًا ولمصالح واشنطن لدى الحلفاء، والجدير بالذكر هنا أن  المنشآت الأمريكية في اليابان تمتلك حماية محدودة.

 ولكن وإن بدت النقطة السابقة مصدر تفاؤل للصينيين، فينبغي الإشارة هنا إلى أن الحالة التايوانية تختلف عن الحالة الأوكرانية، فبينما تشترك أوكرانيا وروسيا في حدود برية طولها 1200 ميل، فإن تايوان جزيرة مفصولة عن البر الرئيسي للصين بمقدار 100 ميل من المياه مما يخلق مصاعب جغرافية جمة، إضافة إلى أن حجم الإنفاق العسكري على القوات البحرية الصينية لا يؤهلها لهجوم بحري ناجح، ويمكن أن يضاف إلى ما تقدم  أن العامل النفسي يلعب دورًا مهمًا، ومن خلال فهم الصين لتاريخها العسكري فإنها تعترف بالعلاقة بين الهزيمة الكبرى في البحر واستقرار النظام ؛ وعلى سبيل المثال  فقد خسرت الصين معركة كبرى في عام 1894 ضد اليابان  وفي تلك الأثناء، جرت أغلب معارك الحرب الصينية اليابانية الأولى في عرض البحر، وخلالها فرضت البحرية اليابانية نفسها بفضل تطور سفنها الحربية وفرضت على بكين هزيمة مذلة.

 تعد تايوان أكثر إغراءً بالنسبة لواشنطن لتقديم مساعدات سخية، حيث إن تايبيه هي المصدر الرئيس للإلكترونيات وأشباه الموصلات، وتلعب أيضًا دورًا أكبر بكثير في الاقتصاد العالمي، في حين أن تايوان هي تاسع أكبر شريك تجاري لواشنطن بينما تحتل أوكرانيا المرتبة 67.

– وإلى جانب المساعدات الدفاعية التي تقدمها الولايات المتحدة لتايوان، فإنها تقدم نوع آخر من الدعم الأكثر الأهمية مندرجًا تحت استراتيجية عسكرية أوسع تعمل على تعزيز أمن تايوان، وذلك من خلال استغلال قدرة الصين المحدودة على التعامل مع تحديات متعددة. تحقيقًا لسياسة “الحمل الزائد على النظام”، من خلال توسيع نطاق التحديات التي يواجهها جيش التحرير الشعبي في المسارح الأخرى والحد من قدرته على شن حرب.

 ونصل هنا إلى ميزانية الدفاع الصينية التي تبلغ حاليًا حوالي 229 مليار دولار، وقد تضاعفت هذه الميزانية سبعة أضعاف على مدار الأعوام الماضية، ولكن على الرغم من ذلك لا تزال هذه الموارد أقل من الأمريكية، ولو استمر معدل الإنفاق العسكري الصيني يتنامى بنفس المعدل خلال العامين القادمين، فإن بكين ستكون قادرة على شن عملية ضد تايوان خلال عامين وليس الآن وذلك مع تجاهل الدعم الأمريكي في هذه الحالة. خصوصًا في الوقت الذي زادت فيه تايوان هي الأخرى من معدل إنفاقها العسكري، كما أن السلطات التايوانية أضافت أنها تتابع عن كثب ما يقوم به الأوكرانيون ضد روسيا لاستلهام الدروس.

– المخاطر هنا تكمن أنه في حال تعرضت الصين لهزيمة ساحقة فإنها ستكون أقرب بكثير لاستخدام سلاح نووي، حتى وإن لم تكن تنوي القيام بذلك قبل اندلاع الحرب، وما يؤهلها لذلك أنها تمتلك ترسانة نووية ضخمة تزيد من قدراتها باستمرار، مع الأخذ بالحسبان هنا أن بكين تعتمد على استراتيجية تتضمن الخلط بين القوة الصاروخية التقليدية والنووية، مما يخلق بيئة خصبة للتصعيد إذا قامت القوات الأمريكية بضرب الأصول الاستراتيجية للصين.

 كما تمثل الصين رابع قوة نووية في العالم وتمتلك مخزون من الرؤوس الحربية يؤهلها لذلك، ولكن مع كل هذه الترسانة تبقى بكين متواضعة من الناحية النووية أمام الولايات المتحدة التي تملك 1750 رأسًا نوويًا حربيًا إضافة إلى 2050 رأس في الاحتياط، ويجب أن نراعي هنا أن الصين تتبنى استراتيجية بخصوص استخدام القوة النووية تتلخص في “عدم الاستخدام الأول”، أي أنها لن تكون الطرف الذي يبدأ حربًا نووية، ولكن ليس من المعروف إذا كانت بكين ستلزم مبدأها إذا ما هددت مصالحها الحيوية. ولكن حتى إذا وقعت حرب نووية لا ينبغي للصين أن تتأمل في أنها الطرف الرابح، ويثار هنا تساؤل آخر حول إلى أي مدى ستذهب واشنطن في دفاعها عن تايوان، بعبارة أخرى هل يمكن دفع أمريكا إلى حرب نووية للدفاع عن استقلال تايوان؟

إجمالًا؛ لا تبدو الأطراف في قضية تايوان تفهم دوافع ومحركات بعضها البعض بالشكل الكافي، ولكن عدم الفهم على اتساعه لا يزال يضع الولايات المتحدة في المقدمة في هذا الصدد، فواشنطن لم تدرك حتى الآن أن تايوان لا تشبه أي قضية أخرى في السياسة الخارجية للصين، ولم تدرس تصريحات الرئيس الصيني التي قال فيها إنه لا توجد تفسيرات مختلفة لـ “مبدأ الصين الواحدة”، فبالنسبة للحكومة الصينية والصينيين، فإن تايوان هي بالفعل أرض صينية وفي الوقت الذي يقدم البعض فيه  حجة مغلوطة تتضمن أن الصين تشعر بنفس الشيء تجاه العديد من الجزر المتنازع عليها في كل من بحر الصين الجنوبي والشرقي، فلا يمكن تصديق أن الجزر  المرجانية غير المأهولة من الأساس تحمل نفس الوزن التاريخي والإنساني الذي تحمله مثل تايوان، ليس فقط للصين الحديثة ولكن للحزب الشيوعي الصيني نفسه، ولكن كما سبقت الإشارة فإن الصين ترتضي الإبقاء الوضع الحالي وكل ما يثير مخاوفها وقد يجبرها على مغامرة عسكرية مؤهلة للفشل على الأغلب، هو إقدام تايبيه ومن ورائها الولايات المتحدة على تغيير الوضع الراهن، وهذه الرسائل التي ترسلها الولايات المتحدة هي نفس الرسائل التي بعث بها الغرب إلى الروس في الحالة الأوكرانية، فبدأت الحرب واستمرت فيما ظلت الأوضاع الراهنة كما هي!

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/70172/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M