اتخاذ القرار بين الاندفاع والتردد

ما من مفرٍّ من اتخاذ القرارات. أحيانًا نتخذ القرارات في غمرة لحظات السعادة، وأحيانًا في غيرها؛ أحيانًا في حياتنا المهنية أو العملية، وأحيانًا في غيرها؛ أحيانًا من أجل ربح أو تحقيق تقدُّم، وأحيانًا لأجل شيء آخَر؛ أحيانًا لأننا قرَّرنا أنه قد حان الوقت لاتخاذ قرار، وأحيانًا لأن اتخاذ القرار يُفرَض علينا. ومهما كانت الأسباب، فمِن المنطقي أن نؤدِّي هذه المهمة بكفاءة بدلًا من الاعتماد على الحظ؛ مما يعني أن فهْم الكيفية التي تُتَّخَذ بها القراراتُ أمرٌ له جدواه.

من أجل التقييم النهائي للقرار، علينا أن ننتظر حتى تظهر عواقبه، مهما استغرق ذلك من وقتٍ. وأحيانًا لا نعرف ذلك مطلقًا أو حتى نعيره اهتمامًا؛ لأن القرار الذي بَدَا يومًا ما مصيريًّا قد يصير محض ذكرى باهتة بعد اتخاذه بوقت قليل؛ فالأحوال تتغير.

أدهى من ذلك أن النتيجة النهائية لا تُعَدُّ طريقة فعَّالة للحكم على مدى جودة أدائنا وقت اتخاذ القرار؛ فإذا حدث شيء لم يكن بمقدورنا توقُّعه، فليس من الإنصاف أن نُلامَ عليه إنْ كانت المفاجأة سيئةً، وليس من الأمانة أيضًا أن ندَّعِي الفضلَ فيه إنْ كانت النتيجة جيدةً. فالحظ -سيئًا كان أم سعيدًا- يحالف الجميع، وإذا ما حدث وقرَّرنا أن نذهب في نزهة طويلة سيرًا على الأقدام في يومٍ ربيعيٍّ رائعٍ، وانتهى الأمر بهجومِ أحد الطيور المارة علينا، فهذا لا يعني أن قرارَ التنزُّه كان سيئًا؛ فالأمور السيئة تقع على أي حال.

إذن فإنَّ ما نعنيه بالقرار الصائب هو أنه قرار يمثِّل أفضل ما يمكن أن نفعله في ظلِّ ما نعرفه في ذلك الوقت، فإذا بذلنا أقصى ما في وسعنا، وكان تفكيرنا عقلانيًّا، فسنكون قد فعلنا كلَّ ما هو متوقَّع منَّا، وما يقع خارجَ نطاق سيطرتنا لا حيلةَ لنا فيه.

إنَّ حاجتنا للقرارات تلوح لنا كلَّ صباح، ولا تهدأ مطلقًا؛ فنحن نقرِّر ما سنتناوله على الإفطار، إلى أن تترسخ عاداتنا في ذلك، ونقرر ما إذا كنَّا سنقوم بعملية شراء مفاجئة ونحن نقف أمام خزينة الدفع في أحد المتاجر الكبيرة، ونقرر ما إذا كنَّا سنتزوج أم لا، ومتى (أو يجعلنا شريك حياتنا المحتمل نعتقد أننا نتخذ قرارًا). ونتخذ قراراتٍ بالذهاب إلى السينما، أو التمشية، أو شراء سيارة، أو وضْع حفاض للطفل، أو تناوُل وجبة السبانخ بالكامل، أو المراهَنة على اللون الأحمر أو الأسود في لعبة الروليت، أو الالتحاق بوظيفةٍ ما أو تركها، أو تأليف كتاب، أو حتى قراءة كتاب؛ وأيًّا ما كانت أسبابُك – واعية أم لا، مدروسة جيدًا أم لا -.

بالنسبة إلى القرار الشخصي، الذي يَصدر عن شخص تجتمع لديه قوةُ الاختيار والقدرة على تحمُّل العواقب، هناك «طريقة مثلى» لأداء مهمة اتخاذ القرار، بالرغم من أنه لا يمكن أن يُتوقَّع منَّا أن نبذل قصارى جهدنا طوال الوقت؛ ففي كثيرٍ من الأحيان نتخبَّط في الحياة ونتخذ قراراتٍ مندفعةً، بعضُها صائب وبعضها ليس كذلك، ولا نتذكَّر إلا أحيانًا – وفيما بعدُ – ما إذا كنَّا على صواب أم على خطأ (إلا إذا كان موقفًا لا يُنسَى؛ وفي كلتا الحالتين، مَن ذا الذي يتذكَّر القراراتِ التي اتُّخذت على مائدة الغداء الخميس الماضي؟) أحيانًا يكون القرار ذا أهمية، وحينئذٍ قد ينتهي بنا الحال إما مهنِّئين أنفسنا أو متخيِّلين ما كان يمكن أن يحدث غير ما حدث، وقد كَتب كلٌّ من روبرت براونينج وجون جرينليف ويتيَر أشعارًا شهيرة عن ذلك، منها: «ربما كان ممكنًا ذات مرة؛ ذات مرة فحسب …»

والناس ليسوا سواءً عندما يتعلَّق الأمر باتخاذ القرارات؛ فهناك مَن يجرِّبون أيَّ شيء، وهم يتَّسِمون بالتسرُّع والجرأة والجاذبية، كأبطال الروايات الشعبية والتليفزيون. تعني كلمة «متهوِّر» فعْلَ الشيء دون تقدير؛ أي دون تفكير (وأبطال الروايات المتهوِّرون عادةً ما يحميهم المؤلِّفُ من عواقب جرأتهم؛ فهم يقفزون من الأماكن المرتفعة دون أن يُصابوا بخدشٍ من جرَّاء قفزتهم. أما الحياة الواقعية، فهي أقل تسامحًا). وهناك آخَرون يعيشون في معاناة التردُّد الدائم، وهؤلاء قابعون في أماكنهم وخائفون من الخطأ، ولا يحقِّقون أبدًا أيَّ شيء جدير بالذكر، وقد قال روبرت هيريك: «فَلْتجمع البراعمَ متى كان بمقدوركَ.» ويَعني بهذا أن تَنتهز الفرصَ. ويظل هناك بعضُ الأشخاص الآخَرين الذين لا يتخذون سوى قراراتٍ غاية في التحفُّظ، متجنِّبين ارتكابَ الأخطاء مهما اقتضى الأمر، وأيضًا دون أن يحقِّقوا أبدًا أيَّ شيء جدير بالذكر، ويُوصَم بيروقراطيو الحكومات بذلك الخلل في الشخصية. وما بين النقيضين عدد هائل من التنوعات والتدرجات.

وتزداد الأمور صعوبةً حينما يكون هناك المزيدُ من الشركاء الذين يتقاسمون تبعات القرارات السيئة، والمزيدُ ممَّن يَجْنُون فوائدَ القرارات الصائبة، والمزيدُ ممَّن يشاركون في اتخاذ القرار نفسه. ومن الممكن أن تكون لديك أي توليفة من متَّخِذي القرار والأهداف؛ قليلين أو كُثرًا لكل دور. وقد جَرَت أول محاولة جادة لفهم اتخاذ القرارات التي يشترك فيها العديد من اللاعبين في سياق ألعاب الفِرَق الجماعية التنافُسية؛ حيث يمكن أن تترجَم القرارات الأفضل مباشَرة إلى فوز. وبالرغم من كل المحاضرات الجوفاء التي يتلقَّاها أطفالنا عن اللعب لمجرد متعة اللعب، فإن الأشخاص الذين يمارِسون الألعاب يَهْوَوْن تحقيقَ الفوز بالفعل. ولقد مُورِسَت الألعاب على مدى التاريخ الإنساني – فالأطفال يعدُّون العدةَ لحياة البالغين من خلال ألعاب المحاكاة – وهناك بعض الأشخاص يتفوَّقون على غيرهم في ألعاب التفكير. (تولي الرياضات المختلفة أدوارًا مختلفة لعملية اتخاذ القرارات الذكية، وهي ليست دائمًا أدوارًا مهمة؛ ففي لعبة كرة السلة ومصارعة السومو، يخسر العبقري الصغير الحجم دائمًا.).

تتضمن استراتيجية الحرب نظرية الألعاب، وقد تكون جائزة اتخاذِ قراراتٍ أفضلَ من خصمك هي بقاءك على قيد الحياة، أو بقاء أسرتك، أو عشيرتك، أو بلدك. من المُجدِي التدرُّبُ قبل أن يرتفع سقف المخاطرة، وهذا هو مضمون معظم الألعاب. ورياضات المبارزة، والملاكمة، والبولو، والشطرنج، ورمي الرمح، ولعبة «جُو»، والمصارعة – جميعها – تنمِّي المهاراتِ القتاليةَ. ويُزعم أن ويلينجتون قال (مصيبًا كان أم مخطئًا، ليس لنا أن نحكم على ذلك) إنَّ النصر قد تحقَّق في معركة ووترلو على ملاعب إيتون. ويجيد الخبراء الاستراتيجيون العسكريون العظماء التفكيرَ مسبقًا في العديد من التحرُّكات والتحركات المضادة المحتملة، مثلهم مثل لاعبي الشطرنج الماهرين، وأفضلهم (مَن يظل منهم على قيد الحياة فعليًّا) ينتهي به الحال بالكتابة عن كيفية تحقيق ذلك (فالفائزون يكتبون عن نبوغهم، أما الخاسرون فنادرًا ما يكتبون عن أخطائهم. ويتمتع الجنرالات عادةً بسمعةٍ أفضل ممَّا يستحقون؛ فأمام كل فائز، هناك خاسر).

وفي العصر الحالي، يقرأ الجنود المتدرِّبون هذه الكتبَ ويتدارسون هذه المعارك القديمة، لكن لا يوجد سوى بضعة مبادئ عامة ليسترشد بها المبتدئ؛ بالطبع هناك بعض الشعارات التي خلَّفَتْها تجاربُ الأسلاف: «فَلْتكن في المقدمة» و«فرِّقْ تَسُدْ»، لكن لا يوجد سوى القليل من النظريات. (أحد المبادئ العامة القليلة للحرب، وهو قانون لانكستر، لا يعرفه سوى فئة قليلة من المتخصِّصين العسكريين على نحوٍ مثيرٍ للشفقة.) ولذا – وباستثناء وحيد حقيقي يعرفه مؤلف هذا الكتاب – تبدأ الجيوش التي تواجه حربًا حقيقية بالاستراتيجية والخطوات التكتيكية نفسها المستخدمة في الحرب السابقة، سواء كانت قد انتصرت أم هُزمت آخر مرة استخدمتها فيها. فخلال حرب المائة عام، تلقَّت فرنسا هزيمة ساحقة على يد حملة الأقواس الطويلة الإنجليز في معركة كريسي عام ١٣٤٦، ومرة أخرى في معركة بواتييه عام ١٣٥٦، وثالثة في معركة أجنيكورت عام ١٤١٥. لقد كانوا بطيئي التعلم، وكلَّفهم ذلك الغاليَ والنفيس. حتى إن اللغة الفرنسية تشتمل على مصطلح «السلاح الأبيض» – ويعني حرفيًّا «السلاح النظيف» – لوصف سلاح قاطع مثل سيف؛ ربما لأن طبقة النبلاء كانوا يعتقدون فيما مضى أن القتل مِن على بُعد باستخدام الأسهم أو البنادق ليس من الرجولة في شيء. وقد يكون ذلك صحيحًا، لكن الأسلحة التي تقتل وتصيب من على بُعد فعالة إلى حد بعيد مقارنة بالسيوف والرماح؛ ويُزعم أن ليو دورتشر قال إن المرء لن ينال مراده بطيبة قلبه ونبل أخلاقه مع الآخرين. والولايات المتحدة لم تُبلِ بلاءً حسنًا في مجالِ الابتكارِ أو الفوزِ في المعارك منذ الحرب العالمية الثانية، إلا عندما استطعنا التغلب على المعارضة بالرجال والعتاد. وتلك استراتيجية رابحة عادةً بغض النظر عن المهارة. فإذا وقف أحد العباقرة في وجه دبابة يقودها أحمق، فلتراهن حينها على الدبابة.

المصدر :https://annabaa.org/arabic/organizations/37171

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M