استهداف منظم: تعليق تمويل “الأونروا” بين التناقض والتصعيد

مع انكشاف جرائم الحرب الإسرائيلية التي ترتكب بحق المدنيين الفلسطينيين، ومع تزايد ضغوط الشعوب الأوروبية على حكوماتها؛ حدث تحول جزئي في الموقف الرسمي للدول الغربية من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ليحث إسرائيل على ضرورة الالتزام بقوانين الحرب والقانون الدولى الإنسانى، وتسهيل وصول المعونات إلى فى قطاع غزة. ولكن مع أول اختبار حقيقي اتضح أنها مجرد خطب رنانة، وسقطت كافة الشعارات الواهية في فخ المصالح؛ فرغم تأزم الوضع الإنساني بالقطاع، أعلنت الولايات المتحدة، وتلتها مجموعة من الدول الغربية، تعليق التمويل الموجه لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” بالرغم من دورها الرئيس والحاسم في إنقاذ حياة أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة وملايين الفلسطينيين خارج غزة.

تأثير الدومينو

اتهمت إسرائيل موظفين في وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” بالضلوع في عملية طوفان الأقصى التي شنتها حركة حماس في 7 أكتوبر 2023، وقال مسؤول إسرائيلي إن إسرائيل شاركت معلومات حول 12 موظفًا يُزعم تورطهم في هجمات 7 أكتوبر مع كل من الأونروا والولايات المتحدة. وزعم الجيش الإسرائيلي أيضًا أن منشآت الأونروا استُخدمت “لأغراض إرهابية”.

وهو الاتهام الذي أثار رد فعل من جانب دول غربية بإعلان تعليق التمويل المقدم من جانبها لوكالة الأمم المتحدة. ففي 26 يناير 2024، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية تعليق التمويل الإضافي لوكالة الأونروا، مؤقتًا، وقبلها أجرى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن محادثة هاتفية مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في 25 يناير “للتأكيد على الحاجة إلى تحقيق شامل وسريع في هذه القضية”. وفي المقابل، حث وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس الدول أن تحذو حذو الدول التي علقت تمويلها للأونروا، داعيًا إلى تغيير الأونروا بوكالة “تكرس عملها للسلام والتنمية الحقيقيين”.

وبعد الولايات المتحدة، توالت إعلانات مماثلة، فقد أعلنت كل من كندا وأستراليا وإيطاليا وبريطانيا وفنلندا وفرنسا وهولندا وألمانيا وسويسرا تعليق تمويلها للأونروا إثر الاتهامات الصادرة عن السلطات الإسرائيلية. الأمر الذي علق عليه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ في تدوينة بموقع إكس السبت إن قرار بعض الدول وقف تمويلها لمنظمة الاونروا ينطوي على مخاطر كبيرة سياسية وإغاثية، وطالب الدول التي أعلنت عن وقف دعمها للأونروا بالعودة فورا عن قرارها.

فيما وصف فيليب لازاريني المفوض للأونروا قرار الدول التي علقت توميلها للوكالة بأنه “صادم” داعيا إياها إلى العدول عنه، مؤكدًا أن هذه القرارات تهدد العمل الإنساني الجاري حاليا في المنطقة خاصة في غزة. وأكد رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتيه، أن إسرائيل تشن حملة دولية ضد وكالة الأونروا، مشيرًا إلى أن وقف تمويل الوكالة أمر خطير للغاية ويجب التراجع عنه.

وقدم الأمين العام للأمم المتحدة تفاصيل حول موظفي الأونروا الضالعين في “أفعال مزعومة بغيضة”. وأضاف أنه تم إنهاء خدمة 9 من بين 12 من الضالعين في تلك الأعمال، وتأكدت وفاة واحد، ويجري الآن تحديد هوية الاثنين الآخرين.

تناقض جلي

دائما تنادي وتتغنى دول الغرب بضرورة الحفاظ على مبادئ حقوق الانسان، والقانون الدولي الإنساني، والحث على ضرورة استمرار تدفق المساعدات الإنسانية للقطاع، إلا إن الأفعال الحقيقية كانت على عكس هذه الخطابات حتى الوقت الأخير. فقد ضلعت هذه الدول في قطع الدعم للمنظمة -رغم معلومية مدى التأثير الإنساني لمثل هذه الفعلة- مع محاولة التعتيم بأنه إجراء مؤقت، وأن الأمور خاضعة للتحقيق لتبيان كافة الحقائق.

وفي كل الأحوال، فإن هذا القرار يحمل رد فعل مبالغًا فيه؛ فوفق بعض التقديرات وصل عدد العناصر التي وصلت للعمق الإسرائيلي في 7 أكتوبر أكثر من ألف مقاتل، وبالمقارنة بالادعاءات الاسرائلية الأخيرة بمشاركة 12 موظف من أصل 30 ألف موظف بمنظمة الاونروا بالهجوم، يمكن القول إنها مجرد حجة ساقطة، فبفرض صدق هذه الرواية، فعدد الموظفين حوالي 1% من إجمالي المشاركين بعملية طوفان الأقصى. وهي نسبة أقل من أن يتم على أساسها تهديد حياة حوالي مليوني مدني يعتمدون بشكل كلي وجزئي على المساعدات الإنسانية والاغاثية للانوروا.

وما يؤكد أن تعليق التمويل هو مجرد حجة واهية من قبل الدول المانحة، قيام المنظمة بفصل الموظفين المشتبه بهم بشكل فوري، مع فتح تحقيق عاجل والتأكيد على مساءلة أي متورطين إن ثبت ذلك.  واتضح من خلال تصريحات إسرائيلية رسمية أن تصفية الاونروا هو هدف في حد ذاته، بزعم إنها أحد أذرع حماس، فقد أكد وزير الخارجية الإسرائيلي: “نحن نحذر منذ سنوات من أن الأونروا تديم قضية اللاجئين، وتعرقل السلام، وتعمل كذراع مدني لحماس في غزة، وسوف تعمل على ضمان ألا تكون الأونروا جزءًا من اليوم التالي”.

استهداف وتصعيد

تستهدف إسرائيل من وراء استهداف الأونروا ودفع الدول الغربية إلى تعليق التمويل القضاء على حق العودة، بوصف وكالة الأونروا معنية بتقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948 ويقدر عددهم بنحو 5.9 ملايين لاجئ، فعلى مدار 75 عام، تعتبر وكالة الأونروا ملاذا للاجئين الفلسطينيين، وتقدم العون لهم لحين التوصل إلى حلول لمعاناتهم.

فهناك ما مجموعه 58 مخيمًا للاجئين تعترف بها الوكالة الأممية، بينها 19 مخيّمًا في الضفة الغربية، ويعتمد هؤلاء اللاجئون على المساعدات من الوكالة التي تأسست في الأصل لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين وإيجاد فرص العمل لهم. وتستفيد وكالة الأونروا من دعم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بما في ذلك الحكومات الإقليمية والاتحاد الأوروبي، وتمثل هذه المصادر أكثر من 93.28% من التبرعات المالية للوكالة. ويعمل بالوكالة حوالي 30 ألف موظف، منهم 13 ألف شخص في قطاع غزة، موزّعين على أكثر من 300 منشأة موجودة على مساحة 365 كيلومترا مربّعًا. ويعني القضاء على الأونروا انتهاء صفة هؤلاء اللاجئين والقضاء على حقهم في العودة إلى أراضيهم، لا سيّما وأن حق العودة من قضايا الحل النهائي التي دائما ما تماطل إسرائيل في تطبيقه.

وتستهدف إسرائيل كذلك إنهاء اختصاص وعمل وكالة الأونروا تمامًا واستبدال منظمة دولية أخرى بها لا تتمتع بنفس صلاحياتها ولا تمنح الفلسطينيين نفس الحقوق القانونية التي تمنحها إياهم الأونروا، على أن يقتصر الأمر على تقديم المساعدات فقط، وهو فكر إسرائيلي قديم نجحت إسرائيل في إقناع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب به بعد رفض صفقة القرن فأعلن تعليق تمويل الوكالة.

ومن المحتمل أن يكون الاتهام الإسرائيل والقرارات الأوروبية رد فعل على قرار محكمة العدل الدولية والذي حمل إدانة ضمنية لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية. علاوة على المسعى الإسرائيلي لاستهداف الأمم المتحدة ومؤسساتها ونزع عنها صفة الحيادية والنزاهة جراء الموقف الأممي المتشدد ضد إسرائيل وجرائمها في غزة. ووفق ترجيحات المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بفلسطين، فرانشيسكا ألبانيز، فإن مثل هذا القرار ينتهك التزامات تلك الدول بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.

ففي حقيقة الأمر، هذه القرارات والتطورات قد تحرم مئات الآلاف من الفلسطينيين من المساعدات، وقت يعيش فيه المدنيون في قطاع غزة واقعًا إنسانيًا مريرًا وسط أزمة مجاعة وانتشار الأمراض مع استمرار القصف الاسرائيلي، وتنهي الحديث عن أي حل عادل للقضية يتوافق مع قرار الجمعية العامة رقم 194 المتعلق بالعودة وتعويض الفلسطينيين. فمؤسسة الاونروا في فلسطين تجسد مفهوم وفكرة “حق العودة”، وإعدامها هو إنهاء لهذا الحق. وهذا القرار قد يكون مقدمة ليطال كافة اللاجئين بكافة مناطق الشتات كلبنان وسوريا والأردن.

ختامًا، الوضع الراهن ينذر بمزيد من تعقيد المشهد خلال الأيام القليلة القادمة، ففقد وكالة إغاثية كبيرة ومؤثرة كوكالة الأونروا يسهم في تعقيد الوضع الإنساني، ويهدف إلى دفع أهالي غزة لمغادرة القطاع واللجوء لدول أخرى لانعدام الخدمات والأمن، وهو ما يعني تصفية حق العودة.

 

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/80671/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M