الاستدارة يميناً: السياسة الفرنسية الجديدة تجاه الإسلاميين

  • تقوم السياسة الفرنسية الجديدة في مواجهة الإسلام السياسي، على التخلص من العناصر الأشد تطرفاً، عبر الترحيل ومنع الدخول إلى البلاد مجدداً؛ وعزل الجاليات المسلمة عن القيادات الدينية والاجتماعية ذات النزوع السياسي.
  • يحاول الرئيس ماكرون، عبر سياسته المتشددة إزاء الإسلام السياسي، جذب قطاع من القاعدة الشعبية لليمين المتطرف باتجاه يمين الوسط، من طريق الاستيلاء على عناصر التعبئة الأساسية، وهي قضايا الهجرة والإسلاموية. 
  • ستكون لسياسة إدارة ماكرون الجديدة تجاه الإسلام السياسي آثار جذرية في عمل الجماعات الإسلامية الناشطة في فرنسا، والتي ازدادت ضعفاً في السنوات الأربع الأخيرة نتيجة التشريعات التي أقرَّتها الحكومة الفرنسية.
  • يُتوقَّع أن تؤثر هذه السياسة سلباً في نفوذ دول فاعلة مثل تركيا والمغرب والجزائر، والتي ظلت تدير لسنوات سياسات راسخة في دعم الشتات والجاليات المسلمة في فرنسا، مالياً وتنظيمياً، وهو ما يخلق تحدياً جيوسياسياً مستمراً لإدارة ماكرون. 

 

تعيش العلاقة بين السلطات الفرنسية والجماعات الإسلامية، خلال الآونة الأخيرة، تحولاً نحو مزيد من فرض القوة من طرف السلطة، ربما يقع ضمن تحول أكثر جذرية للدولة الفرنسية في مواجهة ما تعتبره “مشكلة الإسلاموية”. فقد صعَّدت السلطات من عمليات الترحيل التي تستهدف رموزاً وشخصيات تنتمي لهذا التيار، بموازاة سعيها إلى إعادة صياغة العلاقة مع مُمثلي الديانة الإسلامية، والمراكز الإسلامية على نحو مختلف عما كان سائداً لسنوات، في وقت تواجه الإدارة الفرنسية صعوداً واضحاً لتيار اليمين المتطرف، وتحديات أمنية واقتصادية، فرضها السياق الجيوسياسي المتوتر في المنطقة والعالم.

 

السياسة الفرنسية الجديدة تجاه الإسلاميين: السياق والمضمون

شكلت التوترات الأمنية والسياسية التي عاشتها فرنسا خريف العام 2020، بمقتل المدرس صامويل باتي، على يد متطرف من أصل شيشاني، انعطافة جذريةً في سياسة إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون إزاء الجماعات الإسلامية، وتنظيم وضع الديانة الإسلامية في البلاد على نحو عام. وقد استعانت السلطات في ذلك الوقت بالصلاحيات الإدارية التي تتمتع بها السلطة التنفيذية لتطبيق إجراءات ردعية ضد الشخصيات والمؤسسات، التي تتهمها بنشر التطرف. لكن تلك الصلاحيات بقيت قاصرةً أمام القضاء، بسبب الفراغ التشريعي. لذلك توجه ماكرون نحو سنّ قانون جديد يكون رافعة لمشروعه في مواجهة الإسلام السياسي.

 

وبعد جدل مجتمعي وبرلماني دام أكثر من عشرة شهور، صدر في 25 أغسطس 2021 قانون “تعزيز احترام المبادئ الجمهورية”، المعروف إعلامياً بقانون “محاربة الانفصالية الإسلاموية”. أدخل القانون الجديد تغييرات جذرية على الطبيعة التنظيمية للجمعيات والمراكز الإسلامية، على مستوى التمويل الآتي من الخارج أو من طريق التبرعات، وكذلك راجع شروط إنشاء دور العبادة وإدارتها من أجل حمايتها من عمليات الاستيلاء من قبل “الجماعات المتطرفة”. ورفع عقوبة التحريض على التمييز أو الكراهية أو العنف، الذي يرتكب في دور العبادة، إلى السجن لمدة خمس سنوات. كما أقر عقوبة لعقد اجتماعات سياسية في دور العبادة، أو تنظيم عمليات التصويت للانتخابات الفرنسية، أو التي تخص دولاً أجنبية داخل المساجد.

 

بموازاة ذلك، شرعت إدارة الرئيس ماكرون في إعادة صياغة العلاقة مع المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الممثل الرسمي للمسلمين أمام السلطات. ففي 18 نوفمبر 2020 اجتمع ماكرون مع قيادات مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا، وطلب منهم أن يضعوا في غضون 15 يوماً “ميثاقاً للقيم الجمهورية”، يتعيَّن على المجلس والاتحادات الثمانية التي يتألف منها الالتزام به، على أن يتضمن تأكيداً على الاعتراف بقيم الجمهورية، وأن يُحدِّد أن الإسلام في فرنسا هو دين وليس حركة سياسية، وأن ينصَّ على إنهاء التدخل الأجنبي أو الانتماء لدول أجنبية.

 

لكن مُهلة الخمسة عشر يوماً التي طلبها الرئيس الفرنسي امتدت إلى شهرين، إذ رفضت اللجنة التنسيقية للمسلمين الأتراك في فرنسا، وجماعة ميللي غوروش التركية، ومنظمة الإيمان والممارسة (التبليغ) التوقيعَ على نص الميثاق المقترح. هذا الانقسام داخل المجلس، جعل من تمثيله للمسلمين ضعيفاً، وأدرك ماكرون أن المجلس لم يعد قادراً على القيام بدور المحاور الرسمي والموثوق مع الدولة، فتوجَّه نحو إنشاء إطار جديد وفقاً لشكل تمثيلي جديد يقطع مع المحاصصة العرقية أو السياسية التي كانت سائدة داخله.

 

وبدايةً من عام 2022 دخلت فرنسا مرحلة جديدة في الحوار بين السلطات والمسلمين من خلال إنشاء “منتدى الإسلام في فرنسا”، بعد شهور من العمل ضمن مجموعات عمل محلية داخل الطائفة الإسلامية حول أربعة محاور، هي: تشغيل المساجد وإدارتها؛ والتأهيل المهني وتوظيف الأئمة؛ والتعاطي مع الأعمال المعادية للمسلمين وتأمين أماكن العبادة؛ وتطبيق القانون حول احترام مبادئ الجمهورية. وفي 16 فبراير 2023 استقبل الرئيس الفرنسي، بقصر الإليزيه أعضاء “منتدى الإسلام في فرنسا”، بوصفهم المحاور الرئيس للسلطات العامة، مُعلناً بذلك إنهاء وجود “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية”، الذي تمتع بهذا الامتياز على مدى عقدين من وجوده.

 

دخلت فرنسا مرحلة جديدة في الحوار بين السلطات والمسلمين من خلال إنشاء “منتدى الإسلام في فرنسا” (AFP)

 

شكَّلت هذه التحولات التشريعية والتنظيمية الأرضية للسياسة الفرنسية الجديدة تجاه الإسلاميين، والتي من حيث المضمون تقوم على الآتي:

 

1. التخلُّص من العناصر الأشد تطرفاً، عبر الترحيل ومنع الدخول إلى البلاد مجدداً. وقد أصبحت هذه الآلية أكثر الحاحاً بعد طلب ماكرون من المحافظين فحص ملف الأشخاص المتطرفين المحتمل طردهم من البلاد، للتأكد من عدم وجود “معيقات” في فحص الإجراءات، بعد هجوم بلدة أراس الذي أودى بحياة مدرس في أكتوبر 2023، والذي تورَّط فيه شاب أصله من جمهورية إنغوشيا الفيدرالية، وكان مسجلاً على لائحة S (لأمن الدولة)، ومحل متابعة من قبل المديرية العامة للأمن الداخلي، إذ سبق أن رُحِّل والده في عام 2018 بتهمة التطرف، وسُجِنَ شقيقه الأكبر لمشاركته في مخطط لهجوم يستهدف الإليزيه. وقد أسفرت هذه العمليات عن ترحيل 89 شخصاً، يُشتبَه في أنهم قد يشكلون عناصر ناقلة للتطرف حتى داخل السجون ومراكز الهجرة المؤقتة، التي يوضعون فيها. وتمثَّل التحول البارز في هذه العملية في سرعة التنفيذ من طرف الإدارة الأمنية، التي لم تعد تنتظر قرار المحاكم للبتّ في عمليات الترحيل، وتُعطي المُرحَّلين حق التقاضي من خارج البلاد. كما لم تعد تنتظر رأي الدول التي يُرحَّلون إليها. وقد استفادت الأجهزة الأمنية الفرنسية من قانون الهجرة الجديد، الذي أقرَّه البرلمان نهاية العام الماضي، والذي يسمح بطرد الأجانب المحميين حتى الآن بسبب وضعهم العائلي، خاصةً الذين لديهم أطفال قُصَّر، في حالة “تعمُّد القيام بانتهاكٍ خطِرٍ لمبادئ الجمهورية”.

 

2. عزل القيادات: يتمثَّل الجانب الثاني في السياسة الجديدة في عزل الجاليات المسلمة عن القيادات الدينية والاجتماعية ذات النزوع السياسي، سواءً عبر تعليق عمل بعض المنظمات والجمعيات بسبب وجود مثل هذه القيادات في هيئاتها التنفيذية، أو فتح تحقيقات في مصادر تمويلها، وكذلك، وهو أمر يبدو لافتاً وغير مسبوق، حالات الترحيل المتلاحقة في هذا الصدد. ففي 21 فبراير الماضي رحَّلت السلطات الإمام من أصل تونسي، محجوب المحجوبي، بشكل عاجل، بتهمة الإدلاء “بتصريحات ضد مبادئ الجمهورية، من خلال مهاجمة العلم الفرنسي والشعار الوطني”، وقد أيَّدت المحكمة الإدارية بباريس، في 4 مارس، قرار الطرد الذي وقَّعه وزير الداخلية. وفي الوقت نفسه، قرَّرت بلدية بانول سور سيز (جنوب فرنسا)، حيثُ يقيم محجوبي ويعمل إماماً، إنهاء عقد إيجار مسجد المدينة.

 

وفي بداية شهر مارس، غادر القيادي في جماعة الإخوان المسلمين، أحمد جاب الله، فرنسا عائداً إلى تونس، بعد حوالي أربعين عاماً من الإقامة، في أعقاب صدور أمر يقضي بمغادرته فرنسا ورفض السلطات تجديد إقامته. ويعد جاب الله، الذي أصدرت السلطات الفرنسية قراراً يمنع عودته إلى البلاد، أحد أبرز قيادات الإخوان المسلمين في أوروبا، حيث شغل سابقاً منصب رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، الفرع الأوروبي للإخوان المسلمين، وكذلك عميد المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية في باريس، وهو مؤسسة غير حكومية للتعليم تقوم بتدريب الأئمة. وكانت السلطات القضائية قد فتحت في عام 2020 تحقيقاً يتعلق بالتمويل الخارجي للمعهد. وقبل ذلك، كانت السلطات الفرنسية قد رحَّلت، في سبتمبر 2023، القيادي السابق في حركة النهضة التونسية، أحمد الورغمي، الذي صدر في حقه قرار بالطرد بتهمٍ تتعلق بالتطرف، منذ عام 2003، خففته المحكمة الإدارية إلى الإقامة الجبرية في العام نفسه.

 

ويبدو أن الإدارة الفرنسية تريد عزل هذه القيادات عن القاعدة الاجتماعية الواسعة للمسلمين من أجل تخفيف حدة الاستقطابات السياسية، وربما بهدف تكوين نخب إسلامية جديدة، غير متصلة بالتأثيرات الخارجية للدول والجماعات الأجنبية، وليس لها نزوع سياسي.

 

الدوافع

تنطلق السياسة الفرنسية الجديدة -الأكثر حزماً- تجاه الجماعات الإسلامية، من دافع أساسي، هو حلّ “الإشكالية الإسلاموية“، التي تعاني منها البلاد منذ حوالي ثلاثة عقود. وهو الواقع الجديد الذي أفرزته موجة “الصحوة الإسلامية” في أغلب دول أوروبا خلال تسعينيات القرن الماضي، ثم تطور لاحقاً، ليأخذ أشكال متخلفةٍ من التنظيم والتحول، وزاد ثقلاً بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، ليتحول من مسألة اجتماعية إلى تهديد أمني، ظهرت أثاره بشكل قوي ومأساوي خلال العشرية الماضية.

 

وهذا الدافع الأساسي، كان منذ البداية جزءاً من برنامج إيمانويل ماكرون، بإيحاء من صديقه ومستشاره السابق، حكيم القروي، صاحب كتاب “إسلام فرنسي مُمكِن”، والذي صدر عن معهد مونتيني، في العام 2016، وهو أحد المراكز البحثية النافذة ذات التوجه الليبرالي. كانت فرنسا هدفاً لأكثر الهجمات الإرهابية عنفاً في العام 2015، لذلك كان الإسلام السياسي والإرهاب أحد الملفات التي اشتغل عليها ماكرون قبل دخوله قصر الإليزيه عام 2017، مُعتمِداً على تشخيص القروي للوضع، والذي يلخِّصه في فكرة عدم الاكتفاء بمكافحة الإرهاب بل يجب مكافحة الأيديولوجيات التي تُغذِّيه، ومن بينها وأهمها “الإسلام السياسي”. إلا أن رؤية ماكرون للظاهرة تطورت نحو نهج أكثر ضديةً وشدة بعد وصوله السلطة، وتواصُل الهجمات الإرهابية في البلاد، الذي دفع قطاع واسعاً من الفرنسيين للتوجه نحو النقيض من خلال دعم تيار اليمين المتطرف، لهذا فإن الدافع الأصلي والمركزي، الذي انطلق به ماكرون منذ 2017، أصبح اليوم ينطوي على دوافع فرعية يمكن حصرها في ثلاث جوانب أساسية:

 

1. الدافع الأمني؛ وهو دافع معلنّ من طرف إدارة الرئيس الفرنسي، حيث تقول السلطات أن جزءاً كبيراً من المجموعات الإسلامية ذات النزوع السياسي، لديها علاقة بالتطرف، أو ناقل للتطرف، كما ينطوي نشاطها على شبهات تتعلق بتبييض الأموال والتمويل الخارجي والتأثيرات الخارجية، وعدم التوافق مع القانون الجمهوري العلماني، والتعارُض مع مدونات قوانين الأسرة والأطفال والأقليات الدينية والعرقية والجنسية.

 

ومن خلال عمليات الترحيل السريعة، تحاول الأجهزة الأمنية التخلص من العدد الأكبر من الأشخاص الموضوعين على اللائحة S (لأمن الدولة)، والمتَّهمون بالتطرف، والذين يمكُث بعضهم في السجون أو في مراكز الهجرة. لكن ارتفاع وتيرة الترحيل تبدو مرتبطة إلى حد كبير بتنظيم فرنسا للألعاب الأولمبية في الصيف المقبل. ويعد هذا الحدث الرياضي العالمي، تحدياً أمنياً كبيراً للسلطات، فقد أعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان عن عزم إدارته تنفيذ حوالي مليون تحقيق إداري مع مُنظمي الألعاب الأولمبية، والمتطوعين، ورجال الأمن، بشكل مباشر أو غير مباشر. وأُجريَ حتى الآن 89 ألف تحقيق، أدت إلى إصدار 280 إشعاراً بعدم التوافق تستهدف “الأشخاص الذين دخلوا الأراضي بطريقة غير نظامية، وكذلك الأشخاص على لائحة S”. وستُنفِّذ الوزارة أيضًا إجراءات استباقية محددة من طريق الزيارات المنزلية، أو إجراءات المراقبة والمراقبة الإدارية الفردية، وذلك بواسطة جهاز أمني أُنشئ خصيصاً لهذا الغرض، تحت اسم مركز القيادة الاستراتيجية الوطنية (CNCS)، مهمته تحليل وتجميع ونقل المعلومات الواردة حول التقدم المحرز في تأمين الألعاب.

 

2. الدافع السياسي؛ وهو دافع غير مُعلَن، لكنَّه يبدو ضمنياً جزءاً من سياسة الرئيس ماكرون لتطويق صعود تيار اليمين المتطرف. فهذا التيار يستفيد بقوة من وجود نشاط واسع لنقيضه الإسلام السياسي، وعبر ذلك ينجح في تعبئة قاعدة اجتماعية وشعبية وانتخابية كبيرة من خلال بث خطاب الخوف في صفوف الفرنسيين على أساس ديني وعرقي وثقافي. وقد بدا واضحاً أن المساحة الكبيرة التي حظيت بها الجماعات الإسلامية في البلاد، قد وسَّعت في الوقت نفسه من شعبية اليمين المتطرف، بسبب خوف قطاع واسع من الفرنسيين، أمنياً وثقافياً، من الجماعات الإسلامية. واستفاد اليمين المتطرف من درجة الاستقطاب الشديد التي عملت على ترويجها وسائل الإعلام الفرنسية خلال السنوات الماضية.

 

فالإسلام، على نحو عامٍ، وليس فقط الإسلام السياسي، شكَّل -ولا يزال- قضية مركزية في استراتيجيات التعبئة لليمين المتطرف في فرنسا، لذلك فإن تيار الرئيس ماكرون يريد جذب قطاع من القاعدة الشعبية لليمين المتطرف نحو يمين الوسط، عبر الاستيلاء على عناصر التعبئة الأساسية، وهي قضايا الهجرة والإسلام. وبالتالي، فإن أي سياسة حازمة في مواجهة الإسلام السياسي ستعود بالنفع شعبياً وانتخابياً على التيار الذي يمثله ماكرون. ووفقاً لأحدث استطلاع رأي فإن زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، ستحصل على 36% من نوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية المقبلة، مُتقدمةً على مرشح تيار الرئيس ماكرون، الذي لن تتجاوز نسبة التصويت له 22%. كما تنتظر فرنسا خلال الأشهر المقبلة الانتخابات الأوروبية، حيث يحتل حزب لوبان، “التجمع الوطني”، المركز الأول في نوايا التصويت بنسبة 28% من الأصوات.

 

شكَّل الإسلام، عموماً، لا الإسلام السياسي فقط، قضية مركزية في استراتيجيات التعبئة لليمين المتطرف في فرنسا (AFP)

 

3. الدافع الجيوسياسي؛ ويتعلق بالوضع العام للجماعات الإسلامية في أوروبا، حيث يوجد توجه أوروبي عام، لاسيما في ألمانيا والنمسا وهولندا، لمحاصرة نشاط هذه الجماعات، وكسر التأثير الأجنبي، لاسيما التركي، على الجاليات المسلمة. وفي مجابهة صعود اليمين المتطرف على مستوى القارة، تحاول الحكومات الأوروبية سحب الذرائع المتعلقة بالإسلام السياسي والتطرف من برنامج اليمين المتطرف قبل شهور من الاستحقاق الانتخابي الأوروبي، حيث تتوقع دراسة أجراها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، نُشرت في 23 يناير الماضي، تحقيق اختراق غير مسبوق للأحزاب اليمينية في انتخابات يونيو المقبل، ومن أصل 27 دولة عضو يمكن أن تشهد 9 منها فوز اليمين المتطرف، وهي: بلجيكا، وفرنسا، وبولندا، والتشيك، وسلوفاكيا، والنمسا، وهولندا، وإيطاليا، والمجر. ومن المتوقع أيضاً أن يحتل هذا التيار المركز الثاني أو الثالث في تسع دول أخرى.

 

لذلك، فإن هاجس اليمين المتطرف، يدفع الحكومات الأوروبية، وإدارة مارون في فرنسا، إلى الاستدارة نحو السياسات الأكثر يمينية، فيما يتعلق بالهجرة والإسلام، للحد من توسُّع القاعدة الانتخابية للأحزاب القومية، ومحاولة تخفيف حدةّ الخسائر الانتخابية. كما تطرح الحرب الإسرائيلية على غزة إشكاليات جديدةٍ في فرنسا حول التعامل مع حركات التضامن مع فلسطين، من خلال دفع تيار واسع من النخبة الحاكمة نحو تنفيذ عمليات ترحيل أو إصدار تشريعات ضد التضامن أو جمع التبرعات وغيرها من النشاطات، التي يمكن أن تكون المساجد والمراكز الإسلامية مكاناً لها.

 

الآفاق والتحديات

أولاً، من المرجح أن يستفيد الرئيس ماكرون، وخاصة تياره السياسي، من جزء من القاعدة الانتخابية لليمين المتطرف، بسبب السياسات الأكثر حزماً، أمنياً وإدارياً، تجاه الجماعات الإسلامية، لكن سياسته تجاه الإسلاميين لن تكون كافيةً في جذب القطاع الأوسع من قاعدة اليمين المتطرف، بسبب سياسته في القطاع الزراعي، التي تجابه احتجاجات واسعة من طرف الفلاحيين، بوصفهم أحد الخزانات الانتخابية الأساسية لليمين المتطرف. وكذلك سياسته المعادية للحمائية الاقتصادية، والتي تدفع جزء مهماً من الطبقة العاملة والبرجوازية الصناعية إلى دعم مارين لوبان وحزبها. لهذا، فإن التراجع الانتخابي في الاستحقاق الأوروبي المقبل يبدو لا مفرّ منه بالنسبة للرئيس ماكرون وحزبه. ويتعين هنا ملاحظة أن الانتخابات الأوروبية لا تبدو الهدف الأساسي من هذه السياسة التي ينتهجها الرئيس وتياره، بل الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2027، التي سيكون رئيس الحكومة الأسبق، إدوارد فيليب، أو وزير الداخلية الحالي جيرالد دارمانان، أو رئيس الحكومة غابريال أتال، منافسين فيها لمارين لوبان، بصفتهم ممثلين للماكرونية.

 

ثانياً، ستكون للسياسة الفرنسية الجديدة آثارٌ جذرية في عمل الجماعات الإسلامية، التي أصبحت تعاني ضعفاً واضحاً خلال السنوات الأربع الأخيرة، بسبب التشريعات الجديدة. ومن المرجح ألا تكون فرنسا، كما كانت لسنوات طويلة، مركز عمل أساسي لهذه الجماعات، التي تجد في دول أخرى مثل بلجيكا وإسبانيا مجالاً أوسع للنشاط. في المقابل، يمكن أن يُغير ذلك أشكال التنظيم التي تتبعها الجاليات المسلمة في فرنسا، وأشكال الخطاب الديني السائد، الذي يتراوح بين السلفية والإخوان والتبليغ والتصوف. لكن التأثير الثاني، والمهم، هو الذي سيطال نفوذ دول مثل تركيا والمغرب والجزائر، والتي تدير سياسات راسخة في دعم الشتات والجاليات المسلمة مالياً وتنظيمياً، حيث تحاول إدارة ماكرون إنهاء ما تسميه بالإسلام القنصلي، القائم على وصاية هذه الدول على الجاليات الإسلامية عبر تمويل دور العبادة وتدريب الأئمة. وهذا التحول يمكن أن يزيد من التوتر بين باريس وهذه الدول، والتي تعاني العلاقات معها صعوبات وتوترات منذ وصول ماكرون إلى السلطة. وهذا المعطى الجيوسياسي، يمكن أن يشكل تحدياً أمام توسُّع إدارة ماكرون في تنفيذ هذه السياسة على نحو مُتشدِّد.

 

ثالثاً، على رغم الأدوات التشريعية التي اكتسبتها إدارة الرئيس ماكرون لتنفيذ سياستها الجديدة في مواجهة الإسلام السياسي، فإنها ستُجابِه تحديات إجرائية تتعلق بالقضاء الإداري، الذي لن يكون دائماً في صف السلطات للموافقة على عمليات تعليق نشاط الجمعيات، أو الحظر، أو إغلاق دور العبادة والمراكز الإسلامية، ولاسيما عمليات الترحيل إلى الخارج. كما ستواجه تحديات حقوقية، تتعلق بمنظمات المجتمع المدني ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان. ناهيك بالتحدي الأوروبي المؤسسي، الماثِل في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي يُمكِن أن تمنعَ العديد من القرارات والإجراءات التي تفرضها السلطات الفرنسية، وكذلك البرلمان الأوروبي الذي بإمكانِه إحراج إدارة الرئيس ماكرون فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وخاصة ترحيل الأشخاص إلى دول يمكن أن يتعرَّضوا فيها إلى مخاطر جسدية أو قانونية، وهي تحفُّظات بدأت تُطرَح في الآونة الأخيرة. إلى جانب الضغط الشعبي والإعلامي، الذي يمكن أن تُمارسه الجاليات المسلمة.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/aliaistidara-ymynan-alsiyasa-alfaransia-aljadida-tujah-al-islamiiyn

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M