الاقتصاد التركي: هل بلغ حافة الانهيار وسط أزمات شرق المتوسط؟

عبد الامير رويح

 

تواجه تركيا أزمة اقتصادية ومالية حادة تفاقمت بشكل كبير بسبب جائحة كورونا، من أبرز مظاهرها وكما نقلت بعض المصادر، انهيار قيمة الليرة التركية التي خسرت اكثر من30 % من قيمتها أمام الدولار في 2020، وتراجُع الاستثمارات الخارجية والتمويل الأجنبي، والعجز عن سداد الديون المستحقة على الحكومة والشركات التركية، ويرى بعض الخبراء ان سياسات الرئيس رجب طيب أردوغان الفاشلة والتدخلات المستمرة في العديد من الصراعات وضعت الاقتصاد التركي في موقف ضعيف في مواجهة الازمات والتحديات الكبيرة التي يعاني منها العالم.

وما زالت الليرة التركية متجهة صوب مسار ضعيف بسبب السياسات النقدية غير المتعارف عليها التي تنتهجها تركيا، ومنها الرفض الدائم لرفع معدلات الفائدة، وسط تضخم بأرقام ثنائية الخانة، وتناقص في احتياطيات العملات الأجنبية التي نضبت في محاولة لرفع الليرة التركية للأعلى. وفي 2018، قبل الأزمة، كانت الليرة التركية عند مستوى 3.77 مقابل الدولار الأمريكي، والآن يتوقع المحللون وصولها لـ 8.5 ليرة تركية لكل دولار أمريكي.

وقال جولدمان ساكس (NYSE:GS) إن خطر تعرض العملة التركية لتقلبات حادة واضطرار صناع السياسات لرفع أسعار الفائدة بدرجة أكبر قد زاد بعد أن أبقى البنك المركزي سعره القياسي دون تغيير. وقال مراد أونور المحلل في جولدمان “نعتقد أن مخاطر الهبوط الحاد قد زادت مشيرا إلى تصور محتمل يؤخر البنك المركزي فيه تشديد السياسة النقدية، بما يفضي إلى مزيد من التقلبات في العملة ومن ثم أسعار فائدة أعلى وانكماش في الطلب.

وقال جولدمان إن مستويات عجز ميزان المعاملات الجارية وسداد ديون القطاع الخاص يشيران إلى استمرار نزوح الأموال عن الاقتصاد، مضيفا أن ذلك يضغط على العملة واحتياطيات النقد الأجنبي. وأضاف أونور “سيتعين على صناع السياسات معالجة تلك المسائل، ومازلنا نرى أن الفائدة سترتفع إلى 17 بالمئة بنهاية السنة، لكن التوقيت سيمليه في النهاية أداء الليرة التركية.”

مخاطر كبيرة

ذكر محلل كبير في وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية أن تركيا لم تشدد السياسة بما يكفي لدعم الليرة، التي نزلت إلى مستوى قياسي متدن جديد، وأن احتياطيات النقد الأجنبي والتمويل الخارجي للبلاد تظلان نقطتي ضعف. وأبلغ دوجلاس وينسلو المحلل الرئيسي المعني بتركيا أن وقوع المزيد من الضغوط من العملة وتضخم في خانة العشرات وتآكل احتياطيات النقد الأجنبي “سيزيد بشكل كبير فرص” زيادة أسعار الفائدة الرسمية بحلول نهاية العام.

ونزلت الليرة بما يصل إلى 1.7 بالمئة إلى مستوى قياسي متدن عند 8.56 مقابل الدولار، على الرغم من ضعف العملة الأمريكية إذ ما زال يتم إحصاء الأصوات في الانتخابات الأمريكية التي أُجريت مؤخرا. وقد تعاني العلاقات الثنائية لتركيا مع الولايات المتحدة إذا تقدم المرشح الديمقراطي جو بايدن وأصبح رئيسا، مما يُضاف إلى الضغوط على الليرة التي هبطت ما يزيد عن 30 بالمئة منذ بداية العام الجاري ونحو عشرة بالمئة في الأسبوعين الماضيين فقط.

ورفع البنك المركزي التركي أسعار الفائدة إلى 10.25 بالمئة في سبتمبر أيلول وقد يشدد السياسة مجددا لمنع تراجع قيمة العملة ومكافحة التضخم القابع عند نحو 12 بالمئة. لكن وينسلو مدير الفريق المعني بالشؤون السيادية لدى فيتش قال في رسالة عبر البريد الإلكتروني إن تشديد الائتمان في الأشهر الأخيرة “لم يكن كافيا لعكس الاتجاه النزولي في الليرة وفي احتياطيات النقد ألأجنبي (بشكل أقل)”.

وتركيا مصنفة عند مستوى مرتفع المخاطر من جانب وكالات التصنيف الائتماني الثلاث الرئيسية. وبينما يُعتبر تصنيف فيتش لتركيا عند ‭‭BB-‬‬ هو الأعلى، فإنها عدلت النظرة المستقبلية إلى “سلبية” من “مستقرة” في أغسطس آب مشيرة إلى تآكل احتياطيات النقد الأجنبي وضعف مصداقية السياسة النقدية. وقال وينسلو إن البنك المركزي يملك “استقلالية محدودة” عن الضغط السياسي لخفض أسعار الفائدة و”سجلا من البطء في الاستجابة للأحداث” مما يثير المخاطر من أن تؤجج سياسة فضفاضة اختلالات خارجية وعدم استقرار في السوق. بحسب رويترز.

كما أدى التوتر في العلاقات مع الولايات المتحدة والخلاف مع فرنسا والنزاع بين تركيا واليونان على الحقوق البحرية والمعارك في ناجورنو قرة باغ إلى إثارة قلق المستثمرين. وقال متعامل في سوق الصرف ببنك محلي “تصاعد التوترات الجيوسياسية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هو مصدر جديد لضغوط تُضعف الليرة. العوامل الأخرى هي الشكوك في مصداقية السياسة النقدية ومدى ملاءمة عائد الليرة”.

البطالة في تركيا

في السياق ذاته أظهرت بيانات ارتفاع معدل البطالة في تركيا إلى 13.4 بالمئة وزيادة معدل المشاركة في سوق العمل في الفترة من مايو أيار حتى يوليو تموز التي شهدت رفع إجراءات العزل العام التي كانت مفروضة لاحتواء فيروس كورونا، واستمر تطبيق حظر على تسريح العاملين، مما يرسم صورة أوضح لتداعيات الجائحة. وأفادت بيانات معهد الإحصاء التركي بأن عدد من قالوا إنهم يائسون جدا من البحث عن وظيفة وصل إلى مستوى قياسي عند مليون و380 ألفا، وهو ما يعادل تقريبا ثلاثة أمثال مستوى العام الماضي، بالرغم من أن النشاط الاقتصادي استؤنف بالكامل تقريبا في بداية يونيو حزيران.

وأبقت المساعدات التي تقدمها الدولة وحظر تسريح العاملين، الذي تقرر مده حتى نهاية نوفمبر تشرين الثاني، على مستوى البطالة مستقرا تقريبا، والذي كان 13 بالمئة العام الماضي، لكن معدل التوظيف انخفض بوتيرة غير مسبوقة. وأظهرت البيانات أنه تراجع بنحو مليوني شخص مقارنة بالعام الماضي إلى 42.4 بالمئة خلال الشهور الثلاثة. وبلغ معدل المشاركة في سوق العمل 49 بالمئة ارتفاعا من 47.6 بالمئة في الفترة السابقة مع بدء المزيد من المواطنين البحث عن عمل، لكنه مازال بعيدا عن معدل العام الماضي الذي بلغ 53.3 بالمئة. بحسب رويترز.

في الوقت نفسه، كشف اتحاد التجار والحرفيين في تركيا عن أن تزايد الانكماش والتدهور الاقتصادي الذي تشهده البلاد، تسبب في غلق نحو 38% من المتاجر الصغيرة التي افتتحت بالعاصمة أنقرة خلال العامين ونصف العام الماضيين ما يكبل هؤلاء بالديون التي تضاعف أزماتهم. وذكر بيان صادر عن الاتحاد أن الأزمة الاقتصادية التي تضاعفت بعد تفشي وباء فيروس كورونا المستجد(كوفيد-19)، تسببت في غلق 1540 متجرا خلال الأربعة أشهر الأخيرة.

وقال نائب أنقرة بالبرلمان عن حزب الشعب الجمهوري، مراد أمير، إن “الحكومة تجاهلت مقترحات السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي ينبغي تنفيذها خلال فترة الوباء، ما دفع عددًا كبيرًا من التجار إلى إغلاق محالهم”. وإجمالًا شهدت تركيا إغلاق نحو 36 ألف ورشة خلال الأشهر الست الأولى من 2020، بحسب ما ذكره، كامل أوق ياي، نائب مدينة إزمير بالبرلمان عن حزب الشعب الجمهوري، نهاية أغسطس/آب الماضي. وقالت هيئة الإحصاء التركية، إن عدد العاطلين عن العمل في السوق التركية بلغ حتى نهاية يونيو الماضي 4.1 مليون فرد، بنسبة بطالة بلغت 13.4% بزيادة 0.4 نقطة مئوية على أساس سنوي، بينما معدل البطالة غير الزراعية 15.9%.

سياسة إردوغان

على صعيد متصل أعرب المحللون الاقتصاديون عن سخطهم من القرارات السياسية القادمة من أنقرة، وقالوا إن معاناة الليرة التركية سببها تركيا نفسها. ويقول أنجوس بلاير، البنكي السابق، والأستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، “لو نظرت للسياسات، تراها أصبحت متجهة للمسار الصعب. وصراحة، يحاول المشرعون الاقتصاديون صنع قرارات منطقية لوضع لامنطقي، وتزداد صعوبة هذا يوم بعد يوم.” يقول بلاير مشيرًا إلى تعمق انخراط تركيا في الصدام العسكري بـ: ليبيا، سوريا، أذربيجان-أرمينيا، ومعاداتها لدول حلف الناتو الأخرى مثل اليونان: “ما يحدث الآن هو تزاوج بين السياسة النقدية، وإداة احتياطات النقد الأجنبي الناضبة، لو عرض المسألة بنوع من التهذيب. فتركيا تنخرط في صراعات عدة، وصراحة، لا تحب الأسواق حالة عدم اليقين، ولا تحب العدوان.”

وما يثير مخاوف المتداولين والمستثمرين من الليرة التركية هو الرئيس إردوغان نفسه بما هو معهود عنه من قرارات مفاجئة، وتدخلات مستمرة في السياسة النقدية، وسياسات البنك المركزي الذي قلت استقلاليته على مدار السنوات الأخيرة. يبغض إردوغان معدلات الفائدة المرتفعة ويصفها بـ “الشر”، بينما يرى الاقتصاديون أن تلك المعدلات المرتفعة هي السبيل الوحيد لمواجهة ارتفاع التضخم الواقف حاليًا أعلى 11% في تركيا. ويرى بلاير إن الليرة التركية ربما تتجه نحو 8.5 أو حتى 9 في ظل استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه.

تركيا تحاول التغريد خارج سرب السياسات النقدية المتعارف عليها، ولكن هذا هو جوهر مشكلة الليرة التركية. ويقول محلل كوميرز بنك: “المشكلة الجوهرية بالنسبة لليرة التركية هو فقدان الثقة في أهداف التضخم التي يضعها البنك، تلك المرتبطة بتراجع قيمة العملة.” وفي مذكرة للعملاء، يقول المحللون: “مع فلسفة السياسة النقدية غير التقليدية، وهبوط احتياطي النقد الأجنبي للسالب، واستمرار هروب رأس المال،” لن تنتهي معاناة الليرة التركية.

ومع تراجع أنشطة السياحة، وارتفاع البطالة لـ 14%، ستواجه الليرة التركية مزيد من التحديات. كما تستمر تركيا عرضة لعقوبات اقتصادية من الولايات المتحدة بسبب منظومة الدفاع الصاروخية، سوخوي 400، أو مع تهديدات الاتحاد الأوروبي جراء التوتر مع اليونان وقبرص، أو المقاطعة من السعودية، وإيقاف رحلات الطيران من وإلى الإمارات، كل هذه سيبقي ضغوط هبوطية على الليرة التركية.

والخيار الوحيد هنا هو: رفع معدل الفائدة بقوة، وفق تقرير من بنك باركليز (LON:BARC). وينتظر السوق قرار الفائدة في 22 أكتوبر. ورفع البنك المركزي التركي معدل الفائدة 150 نقطة إلى 11.75% ، وهذا ما فاجئ مراقبو السوق. ويتوقع باركليز رفع الفائدة من جديد. ولكن، يرى الاقتصاديون أن تركيا لن تستطيع الخروج من الأزمة دون مساعدة من صندوق النقد الدولي، وهذا ما يرفضه إردوغان، وبهذا ربما لن تكتفي الليرة التركية برفع معدل الفائدة وحده كمنقذ.

وتسببت جائحة فيروس كورونا هذا العام في انكماش الاقتصاد للمرة الثانية في عامين، مما أثنى البنك المركزي عن سحب التحفيز النقدي في خضم تعاف اقتصادي، لاسيما في ضوء ضغوط أردوغان من أجل تكاليف اقتراض رخيصة. وفي وقت سابق خفضت موديز التصنيف الائتماني لتركيا إلى ‭‭‭”B2”‬‬‬ من ‭‭‭”B1”‬‬‬، قائلة إن نقاط الضعف الخارجية للبلاد ستتسبب على الأرجح في أزمة في ميزان المدفوعات وإن مصداتها المالية آخذة في التناقص. وقالت وكالة التصنيف الائتماني في بيان “مع تزايد المخاطر التي تهدد الوضع الائتماني لتركيا، يبدو أن مؤسسات البلاد لا تنوي أو لا تقدر على التعامل بشكل فعال مع هذه التحديات”.

وأظهرت بيانات من وزارة التجارة أن العجز التجاري التركي قفز 170 بالمئة إلى 6.31 مليار دولار في أغسطس آب، إذ جعلت انخفاضات غير مسبوقة في قيمة الليرة المواطنين يهرعون إلى شراء الذهب وعلى خلفية مخاوف حيال نضوب عملات الاحتياطيات الأجنبية. وقالت الوكالة إن احتياطيات تركيا تتجه نحو النزول منذ سنوات، لكنها الآن عند مستوى هو الأقل في عقود كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي بسبب محاولات البنك المركزي غير الناجحة الحفاظ على تماسك الليرة منذ بداية 2020.

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M