الانتظار في المقعد الخلفي: الصين والصراع العسكري في السودان

ركَّزت الصين منذ اندلاع الصراع المسلح في السودان، الذي انفجر بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023، على الدعوة إلى وقف القتال وحث الطرفين على الحوار، إلى جانب الحرص على تأمين حياة مواطنيها المقيمين في السودان، فقد أجْلت سفن أسطول جيش التحرير الشعبي 940 مواطناً صينياً من السودان. ولكن ما محددات الموقف الصيني من الأزمة في السودان، وحدود تدخلها فيها؟

 

تتناول هذه الورقة محددات رؤية بيجين للاقتتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وتختبر إمكانية تدخلها في الأزمة السودانية.

 

تراجُع الأهمية الاستراتيجية للسودان

أدت صادرات النفط السودانية إلى الصين، التي بدأت مع منتصف تسعينيات القرن الماضي، إلى تحول السودان إلى أهم شريك تجاري للصين في أفريقيا، ولكن هذه الأهمية الاستراتيجية للسودان تراجعت في عام 2011 مع انفصال جنوب السودان الذي تتركز فيه الثروة النفطية. وعلى سبيل المثال، قدمت بيجين قروضاً للسودان في الفترة ما بين 2004 و2010 بلغت نحو 6 مليارات دولار، بينما تهاوى هذا المعدل إلى 143 مليون دولار من 2011 وحتى 2018. وخلال عهد عمر البشير، زوَّد السودانُ الصينَ بنحو 5% من وارداتها النفطية، وفي المقابل أدت بيجين دوراً حاسماً في استمرار الاقتصاد السوداني في ظل العقوبات الأمريكية التي فُرضت على الخرطوم بوصفها دولة “راعية للإرهاب”.

 

وفي إثر الثورة الشعبية التي أطاحت حكم البشير عام 2019، انطلقت الصين في موقفها من ضرورة الالتزام بمبدأ “عدم التدخل” في الشؤون الداخلية للسودان، وضرورة منح المجتمع الدولي المكونين المدني والعسكري في السودان فرصةً للقيام بانتقال سياسي “مستقر وسلس”، وهو ما سيصبح خلال معظم المرحلة الانتقالية المحرك الأساسي للسياسة الصينية تجاه الخرطوم.

 

واتضح تراجع السودان كأولوية بالنسبة للصين في تردد بيجين في أداء دور ملموس خلال المفاوضات بين المكونين العسكري والمدني حول المرحلة الانتقالية التي جرت برعاية رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في عام 2020، والتي أدت قوى إقليمية أخرى، كدولة الإمارات والسعودية، دوراً محورياً في إنجاحها. وفي المقابل، سعت الصين لأداء دور محوري في دعم مفاوضات السلام في دارفور عام 2007، والبناء على وساطتها في الصراع في جنوب السودان والحفاظ على اتفاق السلام الموقع عام 2015. ويرجع ذلك إلى تحول الصين إلى أكبر مستثمر في القطاع النفطي في جنوب السودان، وخشية بيجين من أن يؤدي انهيار اتفاق السلام إلى عودة الهجمات ضد الشركات النفطية الصينية العاملة في البلد، واضطرار بيجين إلى إجلاء العاملين في القطاع مرة أخرى. ولا تزال جنوب السودان تمد الصين بنحو 2% من إجمالي وارداتها من النفط.

 

وحالياً، توجد 130 شركة صينية تعمل في السودان في مجالات النفط والزراعة والتعدين والصحة والبنية التحتية في إطار مبادرة “الحزام والطريق”. ويُتوقع أن تتأثر هذه الاستثمارات بفعل القتال وتعطُّل الخدمات وإمدادات المياه والطاقة والإنترنت، إلى جانب التعطل الكامل لسلاسل التوريد، وإجلاء المواطنين الصينيين.

 

موقف الصين من طرفي الصراع في السودان

تركز الموقف الصيني من القتال الدائر بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ 15 أبريل الماضي في الحياد الحذِر. وقالت وزارة الخارجية الصينية إن بيجين “تدعو الجانبين إلى وقف القتال في أقرب وقت ممكن، ومنع تصعيد التوترات… وأن تزيد الأطراف في السودان من الحوار، وأن تتحرك بشكل مشترك في عملية الانتقال السياسي”.

 

وينبع الحياد من رغبة صناع القرار الصينيين في الإبقاء على مسافة من الصراع في مراحله المبكرة، والتي لم يتضح فيها بعد أبعاد النتائج التي قد تؤثر في المصالح الصينية. إلى جانب ذلك، فإن تداخل الأجندات الدولية والإقليمية يرفع من منسوب حذر المقاربة الصينية المعتمدة، كمنهجية عامة، على تجنُّب تبني رؤية طرف على حساب الطرف الآخر.

 

ورفعت الوساطة الصينية للتوصل إلى اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران في 10 مارس الماضي، التوقعات حول إمكانية قيام بيجين بوساطة مشابهة بين الطرفين المتحاربين في السودان، نظراً للعلاقات الصينية الإيجابية معهما. لكن التدخل الصيني في هذا الصراع محكوم بعوامل عدة، أهمها محدودية مصالح الصين في السودان، فضلاً عن أن الصين ليست لاعباً رئيساً في الساحة السودانية مقارنة بلاعبين دوليين وإقليميين آخرين.

 

تتوقف المقاربة الصينية إزاء الصراعات الداخلية على عوامل أهمها مبادئ السياسة الخارجية التي تركز على دعم الاستقرار وعدم التدخل والحفاظ على سيادة الدول، إلى جانب حجم المصالح الصينية، وإمكانية توظيف الدعم الصيني لتقليص النفوذ الغربي في الصراع.

 

وفي السودان، لا يزال مبكراً التنبؤ بما إذا كانت الصين ستُقْدم على دعم طرف على حساب الطرف الآخر. وأغلب الظن أن بيجين ستتبنى نهجاً تقليدياً في مثل هذه الدرجة من الغموض عبر الاستمرار في إظهار الحياد العلني إلى حين تكشف الوقائع الميدانية وظهور طرف متغلب في الصراع.

 

وتطرح مقاربة الحياد نقاشات موازية حول مشروعية الصين كطرف يحظى بقبول كاف من الطرفين للتوسط في حل الصراع، وهو ما سيحاول القسم التالي استكشاف إمكانية تحقُّقه بشيء من التفصيل.

 

سيناريوهات الدور الصيني المحتمل في الصراع السوداني

على رغم تراجع أهمية السودان الاستراتيجية بالنسبة للصين، إلا أنه من الناحية النظرية لا يزال بإمكان بيجين أن تؤدي دوراً ما فيما يخص الصراع الدائر في هذا البلد، لاسيما باتجاه محاولة احتوائه وإنهائه. ويمكن في هذا السياق استكشاف ثلاثة سيناريوهات محتملة لمثل هذا الدور الصيني، على النحو الآتي:

 

السيناريو الأول، الانضمام إلى مساعي وساطة متعددة الأطراف

يفترض هذا السيناريو، مُنخفِض الترجيح، موافقةَ الصين على الانضمام إلى جهود متعددة الاطراف للوساطة بين الطرفين المتحاربين في السودان. ويَستند هذا السيناريو إلى مشاركة الصين السابقة في بعثات حفظ السلام في السودان، مثل بعثة الأمم المتحدة في السودان (يونميس)، والعملية المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور (يوناميد). بالإضافة إلى ذلك، دور الصين في التوسط بين السودان وجنوب السودان خلال عملية الانفصال.

 

وقد تشعر الصين أن المشاركة في عملية متعددة الأطراف، تشمل دول الرباعية (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والسعودية والإمارات)، والآلية الثلاثية (الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة و”الإيغاد”)، قد تكون منخفضة المخاطر وتحظى بشرعية أكبر من المجتمع الدولي. لكنْ ترجيح حدوث ذلك يظل منخفضاً للأسباب الآتية:

 

1. في ظل تنامي حدة التنافس الأمريكي/الغربي-الصيني/الروسي في أفريقيا، من المستبعد أن تسعى الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى إشراك الصين في جهود الوساطة في السودان، وبخاصة أن الصين لم تكن جزءاً من جهود الوساطة بين الفرقاء السودانيين في الفترة السابقة التي تلت سقوط نظام البشير، فضلاً عن أن بيجين تدرك أن الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى مثل المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، هي الأقدر على الاضطلاع بجهود وقف القتال والوساطة بين قائد الجيش عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، بسبب العلاقات التي تجمعها بين الرجلين.

 

2. رغم تقارب الرؤى السياسية الصينية-الأمريكية تجاه دعم الاستقرار في السودان، يدفع غياب الثقة وشكوك بيجين حول نوايا القوى الغربية طويلة المدى في السودان، واقتناعها بأن التدخل الغربي للوساطة يهدف إلى تأمين المصالح الغربية على حساب السودان، إلى تجنُّب الإلقاء بثقلها الدبلوماسي ومنح الشرعية للوساطة الغربية على المستوى الدولي. ولا تزال تجربة التدخل الغربي في ليبيا، بعد الحصول على موافقة ضمنية من بيجين وموسكو في مجلس الأمن في 2011، المحدِّد الأساسي لمقاربة الصين للتدخلات الغربية في المنطقة. وتجسَّدت الشكوك الصينية من خلال مواقف بيجين المُعطِّلة لاستراتيجيات الولايات المتحدة في مجلس الأمن طوال فترة الحرب السورية، ويُتوقع أن تتأثر أي مقاربة صينية مستقبلية إزاء القتال في السودان باستمرار الحذر تجاه المبادرات الغربية.

 

السيناريو الثاني، وساطة أحادية

وفقاً لهذا السيناريو، متوسط الترجيح، قد تَعرِض الصين الوساطة بشكل أحادي على طرفي الصراع السودانيَّين. ويستند هذا الاحتمال إلى المعطيات الآتية:

 

1. مسارعة الصين إلى التدخل في صراعات القرن الأفريقي، التي أصبحت من المناطق الاستراتيجية لها. ففي مارس 2022، أطلقت بيجين مبادرة “آفاق السلام والتنمية في القرن الأفريقي” سعياً للتوسط في الحرب الأهلية الإثيوبية. وتبع المبادرة، في يونيو، أول مؤتمر سلام برعاية الصين في القرن الأفريقي. ويوحي دعم الصين لعملية السلام الإثيوبية انفتاح بيجين على القيام بدور مماثل لحل الصراع في السودان.

 

2. أحد دوافع عزوف الصين عن التدخل في المسار الصراعي بين المكونين العسكري والمدني في السودان منذ بدء المرحلة الانتقالية عام 2020، هو عدم تأثر المصالح الاقتصادية الصينية بشكل مباشر، لكن مع تصاعد وتيرة الاقتتال وإجلاء العاملين الصينيين في السودان توقفت الشركات الصينية عن العمل. وقد يكون هذا السبب دافعاً إضافياً لعرض الصين وساطة، في تكرار لسيناريو جنوب السودان الذي أجبرت فيها الحرب بيجين على دعم جهود الأمم المتحدة وقطر ووسطاء آخرين لإنهاء الحرب.

 

3. مع استمرار التصعيد في الصراع في السودان، وزيادة احتمالات اتخاذ الأزمة بُعداً إقليمياً، قد يُفكر صُنَّاع السياسات في بيجين في التواصل مع موسكو ودول الخليج لصياغة مقاربة مشتركة تهدف إلى إنهاء الصراع السوداني خشية من تهديد مصالح الصين الإقليمية لو امتد الصراع إلى خارج حدود السودان.

 

4. تمتُّع الصين بخطوط اتصال دبلوماسي مفتوحة منذ بدء المرحلة الانتقالية ضمن سياسة تحوط ضد مفاجآت التحول السياسي. وتشمل هذه الخطوط المكون العسكري بشقيه (الجيش والدعم السريع)، ومعسكري قوى الحرية والتغيير، والإسلاميين. وقد أدى كلٌّ من السفير الصيني في الخرطوم ما تشينمين، والمبعوث الصيني إلى الشرق الأوسط جاي جون، دوراً محورياً في الحفاظ على هذه الاتصالات التي تمنح الصين نفوذاً وشرعية لدى الطبقة السياسية في الخرطوم تسمحان لها بالوساطة.

 

لكنْ، هناك مجموعة من التحديات التي قد لا تُشجع الصين على الإقْدام على القيام بذلك تتجسد في السيناريو الثالث الوارد أدناه.

 

السيناريو الثالث، الاكتفاء بـ”دبلوماسية المقعد الخلفي”

يفترض هذا السيناريو، المرتفع الترجيح، عزوفَ الصين عن التدخل في الأزمة السودانية، ويستند هذا الترجيح إلى عدة محددات تدعم حدوثه، وتمثِّل بدورها عوائقاً لتحقق السيناريوهين الأول والثاني. هذه المحددات هي:

 

1. يُعدّ تراجُع أهمية السودان على خارطة المصالح الصينية سبباً مهماً في استبعاد سعي بيجين لوضع مصداقيتها المستحدثة بصفتها طرف وساطة مسؤولاً على المحك أو استنزاف رصيدها الدبلوماسي المحدود في عملية سلام قد لا تحقق مكاسب جوهرية للصين أبعد من استعادة الاستقرار في السودان. ومن ثم، فإن أقصى ما قد تُقْدم عليه بيجين هو دعم عمليات الوساطة التي قد تقوم بها أطراف غير غربية، كالاتحاد الأفريقي أو الأمم المتحدة أو دول الخليج، فيما يُعرف بـ”دبلوماسية المقعد الخلفي” التي تميز مواقف الصين في مثل هذه الظروف.

 

2. حرص الصين على تجنُّب خلق تناقضات بين أجندتها السياسية في السودان مع أجندات شركائها الأقرب المتمثلين في روسيا ودول الخليج، إلى جانب تجنُّبها استفزاز الولايات المتحدة في ملف السودان الذي لا يحظى بأهمية استراتيجية كبرى لها.

 

3. الرفض المبطن للدور الصيني بين قطاعات واسعة من الشعب السوداني (تعبّر عنها مشاعر قادة الحرية والتغيير) استناداً إلى دعم بيجين المتصور لحزب المؤتمر الوطني تحت حكم البشير، والانتقادات للممارسات البيئية لشركات النفط الصينية، خصوصاً قبل انفصال الجنوب.

 

السودان في ظل التنافس الصيني-الأمريكي

منطقياً، تتعارض المصالح الصينية-الأمريكية في السودان نتيجة لعدم تطابق الرؤية النهائية للحل السياسي؛ فالولايات المتحدة تشجع انتقالاً صريحاً ونهائياً نحو الديمقراطية والحكم المدني، بينما تأمل الصين في تحول السودان، الذي كان يطلق عليه “النموذج” للتعاون الصيني مع الدول الأفريقية، إلى نموذج الحوكمة والتنمية الصينية. ورغم ذلك، فإن نقاط الاتفاق في السودان محورية أيضاً، وتتمثل نقاط الاتفاق في الآتي:

 

أولاً، دعم الجهود متعددة الأطراف الداعمة لبدء المفاوضات. وقد دعم الممثل الصيني الدائم في الأمم المتحدة جهود المنظمة الدولية، والاتحاد الأفريقي، و”الإيغاد” لاستعادة الاستقرار والأمن في السودان.

 

ثانياً، منْع تحول الصراع إلى صراع إقليمي، وانتقاله ليشمل دولاً أخرى في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، ومنطقة جنوب الصحراء غير المستقرة، أو شمال أفريقيا.

 

ثالثاً، الاهتمام المشترك بالاستقرار الاقتصادي وإعادة تأهيل الاقتصاد الكلي على المدى الطويل. ويملك الجانبان القدرة، بعد انتهاء الصراع، على توظيف نفوذهما للضغط على الخرطوم لإجراء إصلاحات جوهرية مقابل اعتماد برامج الإعفاء من الديون أو برامج تمويلية جديدة، أو ضخ استثمارات صينية مباشرة ضمن مبادرة “الحزام والطريق”.

 

لكنْ، لكي يتحقق هذا الالتقاء النادر في المصالح، يشترط إنهاء الاقتتال في السودان أولاً، وهو ما يبدو أن الصين مترددة في تأدية دور حاسم فيه، لكنها ستكون مستعدة -على الأرجح- لدعم جهود الأطراف المتعددة للتوصل إليه.

 

الاستنتاجات

لا تبدو الصين مستعدة لإلقاء بثقلها الدبلوماسي في عملية وساطة بين الجيش وقوات الدعم السريع في السودان، كما لا يرجح أن تنحاز لأحدهما؛ لأسباب عديدة، أهمها تراجُع أهمية السودان على خارطة المصالح المباشرة الصينية بعد انفصال الجنوب الغني بالنفط، وتقاطع الأجندات بين أقرب شركاء بيجين في السودان، وإسراع الولايات المتحدة للتدخل منذ اندلاع الحرب لفرض الهُدن والوساطة. ومن ثم، يُرجح أن تحافظ الصين على مسافة من الصراع طالما ظل الطرفان مترددين في بدء التفاوض، لكن قد تصبح الصين أكثر انفتاحاً على القيام بدور يدعم استعادة الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد بعد انتهاء الصراع.

 

ورغم التنافس المحتدم بين الولايات المتحدة والصين في أفريقيا عموماً، فإن بيجين تشارك واشنطن الاهتمام بالاستقرار السياسي والاقتصادي في السودان، ومنع تمدد الصراع إلى الإقليم.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/scenario/alaintizar-fi-almaqaad-alkhalfi-alsiyn-walsirae-alaskari-fi-alsuwdan

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M