الانخراط النَّشِط: فهْم سياسة فرنسا العربية في عهد ماكرون

محمد قواص

 

شكَّل انعقاد مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة في البحر الميت، في الأردن، في 21 ديسمبر 2022، أحدث شواهد حضور السياسة الخارجية الشرق أوسطية لفرنسا، التي أرساها الرئيس إيمانويل ماكرون. انعقد المؤتمر في نسخته الحديثة بعد تلك الأولى التي عُقِدت في 28 أغسطس 2021 في العاصمة العراقية بتنسيق كامل بين الحكومتين الفرنسية والعراقية. والمؤتمر يُمثِّل آلية بلورها الرئيس الفرنسي بالتعاون مع العراق، بهدف نسج علاقات متعددة الأطراف تشمل بلداناً عربية، إضافة إلى تركيا وإيران. وتضاف هذه الآلية إلى رصيد ماكرون في السعي خلال السنوات الأخيرة لإرساء دبلوماسية نشطة في الشرق الأوسط، شملت دول الخليج وشمال أفريقيا ومصر ولبنان، في محاولة لإيجاد دينامية فرنسية ذات طابع تكاملي و/أو تنافسي داخل الصراع الأميركي الصيني الروسي على النفوذ في المنطقة.

 

وتتحرك ثوابت سياسة فرنسا في عهد ماكرون في العالم العربي في ضوء الثوابت التي سبق إرساؤها منذ عهد الرئيس الراحل شارل ديغول، الذي صاغ “سياسة فرنسا العربية” المستقلة عن تحالفات فرنسا الغربية. وقد تميّزت سياسة باريس حيال الشرق الأوسط في الموقف الذي اتخذه ديغول ضد إسرائيل إثر حرب عام 1967، وفي المقاربة المختلفة التي اتخذها رؤساء فرنسا بعد ذلك للمسألة الفلسطينية.

 

سياسة باريس الخليجية

لقد بدا ماكرون مهتماً، على نحو خاص، بتطوير علاقاته مع دول مجلس التعاون الخليجي، لاسيما السعودية والإمارات وقطر، آخذاً بعين الاعتبار حساسيات العلاقات البينية الخليجية، وشدّة المنافسة الغربية في هذه المنطقة، وتحديداً مع الولايات المتحدة وبريطانيا، ناهيك بتقدم نفوذ روسيا والصين. وتميّزت مقاربة باريس باحترامها للظروف الموضوعية لدول هذه المنطقة، واحترام قواعد أجنداتها في ذروة تضارب المواقف من “الربيع العربي” والإسلام السياسي، لاسيما لدى مصر وتونس ودول الخليج.

 

السعودية: اشتغلت فرنسا على تطوير علاقاتها مع السعودية من خلال إقامة علاقة شخصية مستقرة بين ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمد سلمان. وتميّز موقف ماكرون على نحو لافت عن المواقف الأميركية الأوروبية التي اتخذت مواقف سلبية حيال الرياض بعد “أزمة خاشقجي”، بحيث استمرت باريس في تطوير علاقاتها مع السعودية، والاستفادة من تماسُك هذه العلاقة ومرونتها في الوقت نفسه، في محاولة للتعامل مع أزمة لبنان، وفي لعب دور مفصلي في علاقة أوروبا مجتمعة مع السعودية والخليج.

 

الإمارات: تَسهُل ملاحظة أن علاقات فرنسا والإمارات وصلت إلى مستويات متقدمة في عهد ماكرون، بُنيَت على ما سبق مراكمته في علاقات البلدين خلال العقود الأخيرة. وكان واضحاً أن توقيع عقد شراء الـ 80 مقاتلة فرنسية من طراز رافال في ديسمبر 2021، إضافة إلى عقود أخرى في مجالات الدفاع والتجارة والتكنولوجيا، رفع علاقات فرنسا والإمارات إلى حدود تلامس المستويات الاستراتيجية. إلا أن طبيعة العلاقات الاقتصادية والعسكرية والثقافية على وجه الخصوص، مكّنت فرنسا من إيجاد موطئ قدم رحب في المنطقة يكون نموذجاً لعلاقات تطمح إليها فرنسا مع كل دول الإقليم.

 

قطر: نجحت فرنسا في عهد ماكرون في صيانة علاقاتها القديمة مع الدوحة، وتطوير علاقات اقتصادية، وأمنية، على الرغم مما أثارته علاقة باريس بالدوحة من أسئلة داخلية حول مدى انسجام الموقف الفرنسي المعادي للإسلام السياسي مع موقف قطر. والاستفادة من دور الدوحة في الشأن الأفغاني لتوفير بيئة اتصال تكون فيها باريس فاعلة داخل هذا الملف. وعلى الرغم من الموقف الغربي السَّلبي الذي ظهر ضد قطر بمناسبة استضافتها لكأس العالم مؤخراً، وامتناع المسؤولين الغربيين عن زيارة الدوحة بهذه المناسبة، فإن ماكرون هو الزعيم الغربي الوحيد الذي زار العاصمة القطرية على الرغم مما أثاره ذلك من جدل في الساحة الفرنسية.

 

العلاقة الخاصة مع لبنان

تاريخياً، يعدّ لبنان أحد البوابات الأساسية للدبلوماسية الفرنسية في الشرق الأوسط. ولطالما انخرطت فرنسا، بصفتها سلطة الانتداب السابقة في هذا البلد، داخل ملفات السياسة والأمن والاقتصاد في لبنان مُستندة على زاد تاريخي لا يتّسق بالضرورة مع مستوى نفوذها النسبي داخل لبنان، ومع مستوى نفوذها الدولي الإقليمي المتوسط. وقد اصطدم الرئيس الفرنسي بهذه الحقائق بعد فشل مبادراته المكثّفة لإيجاد تسوية تخرج البلد من انسداده الاقتصادي والسياسي.

 

وقد واجه ماكرون، بعد زيارة عاجلة قام بها إلى بيروت عقب انفجار مرفئها في 4 أغسطس 2020، مقاومة من قبل الطبقة السياسية اللبنانية الحاكمة ضد مقترحاته من جهة، وبمعارضة علنية من قبل إيران، من دون وضوح موقف أمريكي مُسانِد لمبادراته. وقد اعتمدت باريس على استمرار تواصلها مع حزب الله من خلال السفيرة الفرنسية في لبنان، آن غريو، وموفدي باريس إلى بيروت، مستندة على رؤية لماكرون أعاد تأكيدها في 24 ديسمبر 2022، فيما تدرج الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية والأوروبية الحزب على لوائح الإرهاب. كما اعتمدت فرنسا على علاقات مقبولة مع إيران، وإن تدهورت في الأشهر الأخيرة، لإيجاد مخارج للأزمة اللبنانية.

 

وتقوم سياسة فرنسا في لبنان على ما استطاع ماكرون امتلاكه من علاقات ممتازة مع السعودية، ومع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بالذات، أتاحت له لعب دور لإنهاء “أزمة” رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق سعد الحريري في أواخر عام 2017 إثر تقديم استقالته من الرياض. وكانت دول الخليج قد سحبت سفراءها من بيروت في أكتوبر 2021. ولم تنتهِ هذه الأزمة إلا من خلال مبادرة حملها وزير الخارجية الكويتي أحمد ناصر المحمد الصباح، مثّلت شروط الخليجيين لإعادة الروابط الدبلوماسية مع بيروت. غير أن السياسة السعودية في لبنان تمثّل، على ما يبدو، حجر الزاوية في أي تطور للموقفين الخليجي والعربي حيال لبنان. كما أن الدعم الخليجي يعد أساسياً لإنجاح أي مسعى فرنسي في لبنان، خصوصاً في ما يتعلق بالدعم المالي، ومستقبل مفاوضات بيروت مع صندوق النقد الدولي.

 

سياسة فرنسا المغاربية

تُمثِّل منطقة المغرب العربي، وشمال أفريقيا عموماً، ميدان نفوذ تاريخي واستراتيجي فرنسي. غير أن حصة النفوذ الفرنسي في أفريقيا تبدو آيلة إلى تراجع، بسبب التنافس مع قوى دولية مُنافسة مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، والتي استطاعت مع دول أخرى توطيد حضورها في المنطقة، الأمر الذي انعكس على حراك سياستها المغاربية.

 

الجزائر: سعى ماكرون إلى تصويب علاقة بلاده مع الجزائر التي ينتابها توتر بنيوي بسبب الماضي الاستعماري لفرنسا في الجزائر. وسُجِّل له قيامه بخطوات لترميم تصدعات تاريخية في علاقة باريس والجزائر، غير أن حسابات داخلية أوقعت ماكرون نفسه في عثرات فاقمت من توتر العلاقات الفرنسية الجزائرية. ودفعت أزمة الطاقة في أوروبا ماكرون إلى بذل جهود استثنائية لإعادة الزخم في علاقة البلدين، سواء من خلال زيارته للجزائر في 25 أغسطس 2022، أو تلك التي قامت بها لاحقاً رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن، في 9 أكتوبر 2022، على رأس وفد ضمَّ حوالي نصف الحكومة الفرنسية.

 

المغرب: سعى ماكرون إلى المحافظة على علاقات مستقرة مع المغرب، على الرغم من حساسية أي علاقة مع الرباط بعلاقة باريس مع الجزائر. ولطالما اعتبرت سياسة فرنسا في عهد ماكرون أكثر حيوية مع الجزائر منها مع المغرب. وقد أسهمت أزمة الطاقة، وتنافس فرنسا مع إيطاليا بشأن غاز الجزائر، في تركيز باريس على تعزيز علاقاتها غير المستقرة مع الجزائر. ومع ذلك، فإن علاقة فرنسا والمغرب وحجم التبادلات بينهما بقي مستقراً وإن بدا أن المغرب بدأ يُعبِّر عن امتعاض ما من سياسة باريس، ويطور علاقاته مع الولايات المتحدة، ويذهب باتجاه الالتحاق بالاتفاقات الإبراهيمية مع إسرائيل في 20 ديسمبر 2020.

 

ليبيا: تعاملت فرنسا مع الأزمة الليبية مُنتهجة خيارات بدت حادة وواضحة، على الرغم من سعيها لاستضافة فرقاء الصراع، وتقديم مبادرات خاصة للحل في ليبيا. وبدت باريس أقرب للسياسة الداعمة المكوِّن السياسي في بنغازي بقيادة خليفة حفتر على حساب المكونات السياسية في طرابلس التي حظيت بدعم تركيا وقطر. وتبدو فرنسا، التي انخرطت مباشرة في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي مع بريطانيا في العمليات العسكرية للإطاحة بنظام معمر القذافي، غير قادرة على فرض مكانة أساسية لها في أي تسوية لمستقبل ليبيا. وفيما تنشط الولايات المتحدة وإيطاليا والأمم المتحدة وتركيا وروسيا داخل الميادين الطاقوية والعسكرية والسياسية في ليبيا، تتعامل باريس مع الملف من خلال العواصم الإقليمية الحليفة، لاسيما القاهرة وأبوظبي.

 

استنتاجات 

تُعوِّل فرنسا في سياستها الخارجية في عهد ماكرون على دبلوماسية معتدلة تحاول من خلالها إقناع الشركاء في المنطقة بوجاهتها في خضم الاستقطابات الدولية والإقليمية الحادة. ويُسجَّل لفرنسا قدرتها على تقديم نفسها مستقلة عن أجندات الولايات المتحدة والصين وروسيا، وأنها أكثر تمايزاً عن أجندات دول أوروبية حليفة مثل ألمانيا والمملكة المتحدة. ووفق هذا الموقع الذي تحتله فرنسا استطاعت باريس إقناع جميع الأطراف المعنية بالمشاركة في آلية مؤتمر بغداد.

 

وتستند فرنسا في حراكها الخارجي الراهن أيضاً على موقعها المحوري داخل الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعد التراجع النسبي لموقع ألمانيا المحوري بعد خروج المستشارة السابقة أنجيلا ميركيل من الحياة السياسية في بلادها. وفيما تهتم السياسة الخارجية الفرنسية بمصالح فرنسا أولاً، إلا أن سعيها لنجاح سياستها الشرق أوسطية يشكّل رافعة لموقع باريس داخل الاتحاد، ويشكّل في الوقت عينه مدخلاً فرنسياً لبناء سياسة أوروبية أكثر اتساقاً في الشرق الأوسط.

 

وعلى الرغم من الدينامية التي طرأت على علاقات ألمانيا والمملكة المتحدة مثلاً مع دول الخليج، فإن فرنسا تبدو أكثر استقراراً ودأباً ورشاقةً في علاقاتها مع العواصم الخليجية الأساسية، وأكثر قدرة على تطوير علاقات إيجابية مع المنطقة الباحثة عن تنوع في علاقاتها الدولية، والتوَّاقة إلى علاقات أكثر أماناً، تُجنِّبها العواقب السلبية الناجمة عن احتدام الصراع بين الولايات المتحدة والغرب من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/brief/aliankhirat-alnashit-fhm-siasat-faransa-alarabia-fi-ahd-makrun

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M