التنافس الصيني-الهندي على قيادة الجنوب العالمي: التداعيات على دول الخليج

  • زاد في السنوات الماضية التنافس الصيني-الهندي على قيادة الجنوب العالمي، وبخاصة في ضوء وجود مقاربة مختلفة لكل منهما إزاء هذا الجنوب. والأرجح أن هذا التنافس سيتصاعد أكثر خلال السنوات المقبلة، وسينتج عنه تداعيات مهمة متعددة الأبعاد، تشمل مجالات التمويل، والدعم الاقتصادي، ومشاريع البنية التحتية، وإصلاح المؤسسات التعددية، وتنافس القوى العظمى بين بيجين وواشنطن.
  • في حين ترغب الصين في اقتسام العالم ضمنياً مع واشنطن باعتبارها قائداً للجنوب العالمي، تُجاهِر الهند برغبتها في إنشاء جسر بين الشمال والجنوب. ويتم ذلك، وفقاً لرؤية الهند، عبر إصلاح النظام العالمي، لكنْ بشكل لا يُفضي إلى تغيير الأمر الواقع أو إنهاء القيادة الأمريكية أو تقويضها، بل يشمل منح الهند دوراً مركزياً في عملية الإصلاح. 
  • يُنتج التنافسُ بين الصين والهند تداعيات على تموضع دول الخليج ومصالحها، من أهمها أن التنافس العسكري بين القوتين في المحيط الهندي سيكون له تداعيات مباشرة على أمن منطقة الخليج، وسينعكس على مشروعات البنية التحتية، ويهدد اشتداد حدة المنافسة بينهما بتقليل فاعلية المؤسسات الممثلة للجنوب، مثل بريكس، التي تتطلع دول الخليج إلى الاستفادة منها. 

 

يشهد الجنوبُ العالمي Global South تحولاتٍ جذرية لأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن الماضي. وتتمحور أهم ملامح التحولات في الاختلافات الجوهرية التي تميز تطلعات ورؤى دول الجنوب العالمي –في أمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط، وأفريقيا، وجنوب وجنوب شرقي آسيا– عن مرحلة الحرب البادرة، ومن أهم هذه الاختلافات تخلي غالبية هذه الدول عن مركزية الأيديولوجيا المعادية للإمبريالية الغربية، وتبنّي مقاربة قائمة على إصلاح النظام العالمي لخدمة مصالحها، وبراغماتية داعمة لتعدد الانحياز (عكس عدم الانحياز) لمواجهة تهديدات متعددة الأبعاد، عبر التعددية وبناء الائتلافات العابرة للأيديولوجيا، إلى جانب التحوط الاستراتيجي ومقاومة الانضمام لتحالفات تحت مظلة القوى العظمى. وخلقت هذه البيئة العالمية الجديدة، وصعود تأثير القوى الرئيسة في الجنوب العالمي وسعيها لتعزيز مصالحها الوطنية كأولوية استراتيجية، تعقيدات جيوسياسية واقتصادية وقيمية بالنسبة للصين والهند، أنتجت مقاربتين مختلفتين في سياق تنافسهما على قيادة الجنوب العالمي.

 

مقاربة الصين للجنوب العالمي

تتسم المقاربة الصينية تجاه دول الجنوب العالمي بسياسة القوى العظمى، بالنظر إلى القوة العسكرية والاقتصادية والنفوذ العالمي الذي نجحت بيجين في بنائه منذ عصر الإصلاح والانفتاح في أواخر سبعينيات القرن الماضي. فهدف الصين الاستراتيجي يكمُن في إصلاح المؤسسات التعددية والقيم والمبادئ والأعراف الحاكمة للنظام الليبرالي العالمي القائم عبر تقديم بدائل “بخصائص صينية”، من خلال طرح مبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمية، ومبادرة الحضارة العالمية، وتعزيز رؤيتها “لمستقبل مشترك للبشرية”. إلى جانب ذلك، لا ترغب الصين في تفكيك المؤسسات التعددية الداعمة للنظام الدولي بقدر ما تريد إصلاحه من الداخل، بحيث تُفضي عملية الإصلاح إلى تعظيم نفوذ الصين، “واحتلال مكانتها الطبيعية” بصفتها قوة عظمى مكافئة للولايات المتحدة، دون السماح لقوى صاعدة أخرى بتحديد مسار الإصلاح أو احتلال مكانة مماثلة للصين. أي أن بيجين، عبر إدماج رؤيتها ومصالحها في النظام العالمي، ترغب في التحول إلى قائد الجنوب العالمي، بينما تظل واشنطن قائداً للغرب ضمن ترتيب يخلق واقعَين متوازيين ضمن نظام عالمي واحد.

 

على المستوى الجيواقتصادي، بدأت الصين تنظر إلى مبادرة “الحزام والطريق”، منذ اشتداد حدة التنافس مع الولايات المتحدة وحلفائها، باعتبارها مظلة تدعم مساعيها لقيادة الجنوب العالمي. وعلى سبيل المثال، أظهرت خريطة الحضور خلال “منتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي” الثالث، الذي انعقد في بيجين في أكتوبر الماضي، عزوف القادة الغربيين (باستثناء رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، القريب من موسكو وبيجين) عن منح الدعم للمبادرة، في مقابل حضور نحو 130 مسؤولاً أغلبهم من دول الجنوب العالمي. واكتمل هذا المسار بإعلان إيطاليا، في ديسمبر الماضي، الانسحابَ رسمياً من المبادرة. إلى جانب ذلك، باتت الميزة التراكمية للمبادرة أداةَ قوة لصالح الصين ضمن التنافس الصيني مع الهند.

 

وقد سمحت المبادرة لبيجين بالتحول إلى أكبر دائن على المستوى الثنائي بالنسبة لدول الجنوب العالمي. وتجاوز حجم الأموال التي ضختها الصين في المبادرة، وأغلبها ديون، حاجز التريليون دولار خلال عقد. وعلى سبيل المثال، أظهرت بيانات مركز التنمية العالمية التابع لجامعة بوسطن الأمريكية أن بنكين صينيَّين حكوميين فقط، هما بنك الصادرات والواردات وبنك التنمية، قدّما قروضا لمئة دولة بمبلغ إجمالي يبلغ نحو 500 مليار دولار في الفترة بين عامي 2008 و2021، وهو ما مثّل 80% من حجم القروض المقدمة من البنك الدولي خلال الفترة نفسها. لكنْ مع ظهور فقاعة الديون العالمية، خصوصاً بين الدول النامية، أظهرت الصين ميولاً لمقاومة التعاون مع المؤسسات التعددية الغربية، مثل صندوق النقد والبنك الدوليَّين ونادي باريس، في مقابل رسم طريقها الخاص في حل الأزمة، عبر التحول إلى أداء دور بديل عن هذه المؤسسات بوصفها “مُقرض الملاذ الأخير” من خلال تقديم قروض إنقاذ إضافية للدول المتعثرة.

 

ويتكرر السلوك الصيني فيما يتعلق بصندوق الخسائر والأضرار المناخية، إذ ترفض بيجين المساهمة في الصندوق باعتبارها خطوة قد تُنهي تصنيفها كدولة نامية، وهو ما يُقلص فرصها لقيادة دول الجنوب العالمي نتيجة لتغيير هويتها الثابتة منذ عام 1992، وهي قاعدة صلبة في خطاب الصين لهذه الدول. فضلاً عن ذلك، سيعني تغيير التصنيف تحمّل الصين مسؤوليات أكبر من ناحية خفض الانبعاثات والمساهمات المالية لدعم قدرات التكيف المناخي وغيرها.

 

إضافة إلى ذلك، تختلف مقاربة الصين عن الهند من ناحية التركيب النظري للارتباط التاريخي بدول الجنوب العالمي. فرغم معاناتها من الغزو على فترات، خصوصاً خلال حكم أسرة تشينغ (1636–1911)، من قبل القوى الاستعمارية الغربية، لم تُحتَل الصين ككل أو تُستعمَر أو تُغيَّر هويتها من قبل هذه القوى. وفي انعكاس لذلك، لم تكن الصين عضواً في مجموعة عدم الانحياز خلال الحرب الباردة. وعلى رغم الخطاب الصيني حول “قرن الإذلال“، الذي شهد محاولات احتواء الصين الخارجية وغزو اليابان، فإن هذا الخطاب يستهدف بشكل رئيس تغذية النزعة القومية الداخلية، وكسب تأييد الدول النامية التي عانت من الاستعمار.

 

مقاربة الهند للجنوب العالمي

على عكس الصين، عانت الهند من الاستعمار البريطاني لأكثر من 89 عاماً. وتاريخياً حاولت نيودلهي توظيف معاناتها التاريخية للانضمام إلى ركب الجنوب العالمي. وتُمثِّل هذه الهوية المقدَّمة للهند باعتبارها إحدى دول الجنوب، وأحد قادة مجموعة عدم الانحياز سابقاً، مُنطلقاً لمساعي الهند الدفع باتجاه قيادتها للجنوب العالمي.

 

تختلف مقاربة الهند عن الصين أيضاً من حيث أهدافها الاستراتيجية في إصلاح النظام العالمي. ففي حين ترغب الصين في اقتسام العالم ضمنياً مع واشنطن باعتبارها قائداً للجنوب العالمي، تكمن رغبة الهند المعلنة في إنشاء جسر بين الشمال والجنوب. يتم ذلك، وفقاً لرؤية الهند، عبر إصلاح النظام العالمي أيضاً، لكنْ بشكل لا يُفضي إلى تغيير الأمر الواقع أو إنهاء القيادة الأمريكية أو تقويضها، بل يشمل منح الهند دوراً مركزياً في عملية الإصلاح، ومن ثم تقوم نيودلهي بدور الداعم لإسماع صوت دول الجنوب العالمي، وأخْذ مصالحها في الاعتبار. وقد عبَّر رئيس الوزراء الهندي ناريندا مودي عن هذا الهدف بالقول إنه يرى أن الهند بمنزلة “الكتف القوية التي تدفع إلى الأمام الجنوب العالمي إذا كان عليه أن يحقق القفزة العالية. فبالنسبة للجنوب العالمي، تستطيع الهند أيضاً بناء روابطها مع الشمال العالمي. وبهذا المعنى، يمكن أن تصبح الهند بمنزلة الجسر”.

 

ومن الناحية الجيواقتصادية، على عكس رغبة الصين في اعتماد نموذجها التنموي الخاص وترويجه، ترغب الهند في إدماج رؤيتها التنافسية لمبادرة الحزام والطريق مع المبادرات الغربية. وأهم انعكاسات هذه المقاربة الإعلان عن “ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا” الذي يمنح الهند ترابطاً تجارياً ولوجستياً مع منطقة الخليج وأوروبا، والذي يُعد أحد مشاريع مبادرة “الشراكة العالمية للبنية التحتية والاستثمار” التي أطلقتها مجموعة السبع، إلى جانب شراكات الهند مع اليابان وألمانيا والاتحاد الأوروبي لتعزيز مسارات التنمية في منطقة الإندو-باسيفيك وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

 

وبينما تتبنى الصين مقاربةً تنافسية مع المؤسسات المالية متعددة الأطراف المدعومة من الغرب، تحاول الهند العمل من خلال هذه المؤسسات على حل أزمة الديون العالمية. ووظفت نيودلهي رئاستها لمجموعة العشرين (خلال الفترة 2022-2023) للضغط باتجاه تحمل الدائنين، وعلى رأسهم الصين، خسائر ضمن عملية إعادة هيكلة ديون الدول الأكثر تضرراً ضمن منظومة “الإطار المشترك“، وهي مقاربة تعارضها بيجين.

 

إلى جانب ذلك، لدى الهند نظرة مغايرة عن الصين لدور المنظمات التعددية البديلة للمنظمات الغربية، مثل مجموعة العشرين، ومجموعة “بريكس”، و”مجموعة الـ 77″، ومؤتمرات الأمم المتحدة للمناخ. فبينما ترى الصين أن هذه المنصات قاعدة لتقديم رؤية مختلفة للنظام العالمي، توظف الهند عضويتها فيها لمنح القوى الغربية نفوذاً لا يخل بمصالح دول الجنوب العالمي، وإنما يدعم التعددية الهادفة لحماية النظام العالمي القائم، وضمان عدم تحولها إلى مؤسسات معادية له.

 

اقرأ أيضاً:

 

التحديات أمام قيادة الصين للجنوب العالمي

تُواجه محاولات الصين التموضع بوصفها قائدة لدول الجنوب العالمي تحديات عدة، أهمها:

 

أولاً، تبنّي بيجين ممارسات ذات طابع إمبريالي ضمن سياساتها كدائن/مُقرض للدول الفقيرة، إلى جانب وجود نزعة استغلالية لثرواتها الطبيعية. وتبرز أهم انعكاسات هذه السياسة في تفضيل البنوك الحكومية الصينية وضع اليد على أصول استراتيجية مقابل الديون غير المسددة (مثل ميناء همبانتوتا في سريلانكا)، ومنح المزيد من “قروض الإنقاذ” للدول المتعثرة عن سداد دفعات الديون لها، ورفض الموافقة على التفاوض على إعادة هيكلة الديون دون موافقة المنظمات المدعومة غربياً على المشاركة في تحمل الخسائر أيضاً. وقد تكرر هذا الاتجاه ضمن مفاوضات بيجين مع سريلانكا وزامبيا وإثيوبيا وغيرها. ولا يتسبب ذلك في إطالة أمد الأزمة بالنسبة لهذه الدول، وتأخير التوصل إلى حلول مع المؤسسات المالية التعددية الأخرى فقط، لكنه ينتج أيضاً غضباً رسمياً وشعبياً تجاه الصين ويخلق رؤية عدائية إزاء أهدافها.

 

فضلاً عن ذلك، فإن بعض عقود الاستثمار الصينية في المناجم والأراضي الزراعية ومشروعات البنية التحتية تتلقى انتقادات عدة، أهمها انخفاض العائد على البلد المضيف، وشحن هذه الموارد، خصوصاً المعادن النادرة، إلى معامل في الصين لمعالجتها، وعدم توفير فرص عمل للسكان المحليين، وتغلغل الفساد في ثنايا عمليات التفاوض على هذه الاتفاقات. وثمة أضرار أخرى متصلة بما سبق، أهمها تلوث البيئة، وغياب الشفافية، وانخفاض الجودة. وتُظهر بيانات معهد “أميريكان إنتربرايز” أن حوالي 40% من إجمالي استثمارات الصين في الخارج منذ عام 2005، أو ما يعادل 600 مليار دولار، خُصصت لمشاريع الطاقة والتعدين. وأهم مثال على هذه الممارسات نزاعات الكونغو التعدينية مع الصين.

 

ثانياً، تبنّي سياسات مهيمنة في مناطق نفوذ الصين الاستراتيجية في شرق آسيا، واستغلال الولايات المتحدة وحلفائها الغضب الناتج عن تلك السياسات لتقويض نفوذ بيجين. تنصبّ الانتقادات على ممارسات الصين الأكثر حزماً إزاء نزاعاتها الحدودية في بحر الصين الجنوبي، إلى جانب سياسات الإملاء التي تنتهجها بيجين تجاه مقاربتها لجزر المحيط الهادي، في حين تساعد ممارسات الصين واشنطن في تقريب هذه الدول إلى مدارها. وكان رفض اتفاق أمني عرضته الصين على دول جزر المحيط الهادي عام 2022، ثم عقد قمة بين زعماء تلك الدول وبايدن في سبتمبر الماضي (باستثناء جزر سليمان) أحد مظاهر هذا التحول.

 

ثالثاً، دعم الولايات المتحدة وحلفائها المتزايد لمساعي الهند نحو قيادة الجنوب العالمي. وأحد أهم المجالات التي تبدو القوى الغربية مستعدة لإسناد نيودلهي من خلالها هي دعم جهودها في إعادة هيكلة ديون الدول الفقيرة من خلال آليات صندوق النقد والبنك الدوليين، إلى جانب دمج طموح الهند في منافسة مبادرة الحزام والطريق مع مبادرة “الشراكة العالمية للاستثمار والبنية التحتية” تحت إشراف مجموعة السبع، ومبادرة “البوابة العالمية” التي أطلقها الاتحاد الأوروبي. وأهم المشاريع المشتركة الجارية حالياً ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا.

 

رابعاً، نزعة الصين لتجنُّب تحمل كلف سياسية أو الانخراط في حل القضايا الجيوسياسية المستعصية في الجنوب العالمي. ويعود ذلك إلى معضلة التزام الصين بمبدأ “عدم التدخل” في الشؤون الداخلية للدول من جهة، ومن جهة أخرى صعود نفوذها العالمي واتساع نطاق مصالحها الاقتصادية وضرورة توفير الحماية لها. وللتوفيق بين هذين الهدفين، تتبنى بيجين سياسةً خارجية قائمة على مبادئ منها “السلام عبر التنمية“، و”الأمن غير القابل للتجزئة“، دون إبداء استعداد للوساطة (باستثناء اتفاق السعودية وإيران منخفض الكلفة) أو التورط في التنافس بين الخصوم الإقليميين.

 

خامساً، التناقض بين المبادئ الحاكمة لسياسات الصين لإصلاح النظام العالمي، وممارساتها الإقصائية في الداخل. وعلى سبيل المثال، تدعم مبادرة الحضارة العالمية بناء نمط جديد من العلاقات الدولية يقوم على المساواة والحوار واحترام الثقافات والهويات المختلفة، لكن الممارسات الصينية تجاه أقلية الإيغور والهوي المسلمتين وسكان التيبت وغيرهم، لا تعكس -وفقاً للانتقادات الخارجية- إيماناً حقيقياً بهذه المبادئ، بل تُظهر توظيف بيجين لها أحياناً فقط لتقويض المبادئ الليبرالية الغربية الداعمة للنظام العالمي القائم.

 

تداعيات التنافس بين الصين والهند على منطقة الخليج

يُنتج التنافسُ بين الصين والهند تداعيات على تموضع دول الخليج ومصالحها، أبرزها الآتي:

أولاً، تتبنى القوتان مفهومين مختلفين لآسيا من الناحية الجيوسياسية. فبينما تدعم الهند مفهوم الإندوباسيفيك (دمج كل المنطقة الشاسعة بين المحيطين الهندي والهادي، والمعتمد من قبل الولايات المتحدة واليابان وحلفائهما)، ترفض الصين هذا المفهوم وتَعتبره مصدراً لعدم الاستقرار في آسيا، وترى أن “فشله محتم“. ولهذا الصراع المفاهيمي تَبعات على اتجاه السياسات والتوجه الاستراتيجي وتحالفات كل دولة.

 

وإلى الآن، تتبنى دول الخليج -ضمنياً- مقاربةً متوازنة إزاء مفهوم الإندوباسيفيك. فمن الناحية النظرية، امتنعت عن تبني المفهوم في وثائقها الإستراتيجية وسياساتها المعلنة. وعلى المستوى السياسي، تشير سياسة “الانحياز المتعدد” والتوجه نحو الشرق وبناء التكتلات المصغرة المتسقة مع رؤيتي واشنطن ونيودلهي (على رأسها “آي2 يو2″، وممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا) إلى وضع المصالح الوطنية الخليجية كأولوية، إلى جانب التمسك بسياسة “التحوط الاستراتيجي” وتنويع الشراكات وتجنُّب التحول إلى جزء من سياسات طرف لاحتواء الطرف الآخر.

 

ثانياً، سيكون للتنافس العسكري بين بيجين ونيودلهي في المحيط الهندي تداعيات مباشرة على أمن منطقة الخليج. فمن خلال توسيع مشاريع مبادرة الحزام والطريق في الدول المطلة على المحيط، خصوصاً الاستثمار المزدوج في الموانئ الاستراتيجية، تُحاول الصين تعزيز نفوذها السياسي والعسكري وتوفير حماية لتدفقات الطاقة ونقل البضائع وحركة التجارة من الصين وإليها. وتنظر الهند إلى هذه الاستراتيجية باعتبارها تهدف لتطويقها استراتيجياً، وتتبنى سياسة قائمة على فرض هيمنتها على المنطقة من خلال تعزيز أسطولها العسكري وتوسيع شراكاتها الاقتصادية، بما في ذلك مع دول الخليج، ودفع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا (من خلال تحالف كواد) إلى أداء أدوار مركزية في حفظ الاستقرار في المنطقة.

ويُعد سيناريو الصراع العسكري في المحيط الهندي أهم الانعكاسات على أمن دول الخليج ومصالحها. وقد يشمل هذا السيناريو قطع ممرات الملاحة البحرية، وتعطل صادرات النفط والغاز إلى شرق وجنوب شرقي آسيا، واستخدام الصين موانئ تجارية لأغراض عسكرية (أول هذه الموانئ سيكون ميناء جوادار الباكستاني)، وانحياز إيران لأحد أطراف الصراع (غالباً الصين) في الصراع، وهو ما قد يُترجَم في استهداف مصالح الطرف الآخر في مياه الخليج. وإلى جانب ذلك، سيعني هذا السيناريو الانهيار التام للشراكات المتعددة الأطراف مع الهند، وتعطل الشراكة الاقتصادية الآخذة في النمو مع الصين.

 

ثالثاً، ارتباطاً بالمعطى السابق، سيزيد هذا التنافس من رغبة الهند في أداء دور أمني في منطقة الخليج، ليس بالصورة التقليدية، بل يُتوقع أن تدعم الهند مسار التعددية في المنطقة، دون الإخلال بدور الولايات المتحدة بوصفها ضامناً رئيساً للأمن الإقليمي.

 

رابعاً، التنافس على مشروعات البنية التحتية. وتعد هذه نقطة الضعف الكبرى بالنسبة للهند التي لا تملك القدرات المالية (فاقتصاد الصين أكبر ست مرات من الاقتصاد الهندي)، ولا الخبرات السابقة لمنافسة مبادرة الحزام والطريق. وأظهرت حكومة ناريندا مودي مؤخراً رغبة في الاستفادة من المبادرتين الغربيتين للتنافس مع الصين. ويخلق هذا التنافس تحديات بالنسبة لدول الخليج، أبرزها من ناحيتي التصورات المختلفة والتعاون التكنولوجي. وعلى سبيل المثال، تنظر الولايات المتحدة والهند إلى ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا (إلى جانب المكاسب الاقتصادية المباشرة من المشروع) بوصفه مبادرة منافسة لمبادرة الحزام والطريق، بينما تراه دول الخليج تجسيداً لسياسة تنويع الشراكات والتحول الاقتصادي. فضلاً عن ذلك، رغم تأخر الهند تكنولوجياً أمام الصين، فإن إدارة بايدن تتبنى سياسة “دعم الأصدقاء” تكنولوجياً، كما أن واشنطن قد تضغط على منطقة الخليج لتخفيف روابطها التكنولوجيا مع الصين. وقد يتسبب ذلك في تقليل البدائل أمام دول الخليج، وقد يؤخر مساعيها في التحول إلى لاعبين رئيسين في مجال التكنولوجيا الفائقة.

 

خامساً، تعميق الخلافات داخل المؤسسات التعددية غير الغربية وتقليل فاعليتها. ويبدو أن هذا المسار لا يزال في بدايته، ويتوقع أن يشتد مع تزايد حدة المنافسة. وأهم مثال على ذلك امتناع الرئيس الصيني شي جينبينغ عن حضور اجتماعات قمة العشرين في نيودلهي التي ظهرت فيها رغبة الهند في قيادة الجنوب العالمي، ودعم القوى الغربية في القمة ذلك من خلال الإعلان عن مشروع ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا. ويمكن النظر لهذا التطور (وتطورات أخرى مشابهة) باعتباره مقدمة لانقسام داخلي بين الدول الغربية والآسيوية الأعضاء في مجموعة السبع وحلفاء الولايات المتحدة من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى.

 

ولفهم تأثير هذه الانقسامات على الفاعلية طويلة المدى لهذه المؤسسات، ينبغي النظر إلى قرار الأرجنتين إلغاء خطط انضمامها رسمياً إلى تجمع بريكس بعد فوز خافيير مايلي (الليبرالي اليميني) في انتخابات الرئاسة في نهاية عام 2023. وأحد أهم أسباب هذا القرار ضغوط واشنطن، وتبني مايلي سياسة مغايرة تقوم على تخفيف الارتباط بالصين.

 

وقد ينعكس تأثير هذه الانقسامات على آلية بناء التوافق والحوار المحدِّدة لديناميات العمل داخل تجمع بريكس، الذي يعد أبرز التعبيرات المؤسسية للجنوب العالمي. فبينما لم تشهد الجولة الأولى لضم أعضاء جدد خلافات حقيقية بين الصين والهند، قد يؤدي غياب معايير مؤسسية لقبول أعضاء جدد آخرين إلى تعميق الانقسامات بالنظر إلى مقاومة الهند المتوقعة ضد المزيد من الدول الداعمة لاستراتيجية الصين، وهو ما انعكس في رفض الهند الأوّلي لتوسيع العضوية. وبطبيعة الحال، فإن توسيع عضوية التجمع في المستقبل قد يزيد صعوبة التوصل إلى توافق بين دوله، بالتزامن مع عدم اكتمال البناء المؤسسي للتجمع وغياب ميثاق منظِّم له، وهو ما سينعكس على دفع القوتين إلى تبني التجمع مصالحهما في بيئة سائلة وغير متوقعة.

 

فضلاً عن ذلك، مع تزايد حدة التنافس الاستراتيجي العالمي، قد يتعمق التنافس الصيني-الهندي داخل بريكس مع تصاعد التحديات التي تواجه محاولات الهند الحفاظ على سياسة خارجية متوازنة وعدم الانضمام إلى معسكر مُعادٍ للآخر. وأحد أوجه الاختلاف في مقاربة الجانبين لقضايا الجنوب العالمي داخل بريكس هو آليات التمويل والإقراض التي سيتبناها بنك التنمية الجديد بعد توسيع العضوية. فكما أوضحت الورقة سابقاً، فإن دفع الهند باتجاه التعاون مع المؤسسات المالية المدعومة من الغرب في إعادة هيكلة ديون الدول الأعضاء الفقيرة (مثل مصر وإثيوبيا) يتعارض مع رؤية بيجين لحل الأزمة ودفعها باتجاه تحمل هذه المؤسسات جزءاً من المخاطر. ويُنتظر أن تظهر هذه الفجوة بشكل أوضح مع تعاظم أصول البنك واتساع نطاق مبادراته التمويلية.

 

وتأمل دول الخليج تحقيق مكاسب استراتيجية من عضوية مجموعة العشرين (السعودية)، وبريكس (السعودية والإمارات)، لكن اشتداد حدة المنافسة بين الصين والهند، وتشجيع الولايات المتحدة سياسة نيودلهي الساعية للتموضع قائداً للجنوب العالمي، يُعرِّض هذا الهدف لتحدياتٍ على أكثر من صعيد.

 

الخلاصة

بات واضحاً أن التنافس الصيني-الهندي على قيادة الجنوب العالمي مرشح للتصاعد خلال السنوات المقبلة. وستتركز أبعاد التنافس في مجالات التمويل، والدعم الاقتصادي، ومشاريع البنية التحتية، وإصلاح المؤسسات التعددية، وتنافس القوى العظمى بين بيجين وواشنطن. وسيكون لهذا الاتجاه تداعيات سلبية على دول الخليج تتمثل أهمها في تباطؤ مسار التنمية الاقتصادية والتكنولوجية، وتصاعد الضغوط باتجاه الانحياز لطرف على حساب الآخر، مع اتساع هوة الانقسامات داخل المؤسسات التعددية غير الغربية وتراجع فاعليتها.

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/altanafus-alsiyni-walhindi-ala-qiadat-aljanub-alealami-altadaeiat-ala-dual-alkhalij

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M