السودان… مقترح الحل السياسي وثيقة للسلام أم لإعادة إنتاج الحرب؟

بتاريخ يوم الجمعة 15 مارس/آذار الجاري صدر بيان عن اجتماع مشترك تم في القاهرة وضم أحزاب (“الأمة القومي” و”الشيوعي السوداني” و”البعث العربي الاشتراكي”). تناول البيان عدة قضايا متعلقة بالراهن السياسي السوداني، ولكن كان أبرز ما جاء فيه هو ما ورد في الفقرة السابعة من البيان والتي جاء نصها كالآتي:

“سابعا: نما إلى علمنا تسريبات ومعلومات (غير منشورة) تدور في الخفاء الأيام الماضية عن إعداد يتم لمشروع تسوية سياسية تؤسس لشمولية يتم فيها تقاسم للسلطة لمدة عشر سنوات بين الجيش و”الدعم السريع” وأرتال من الحركات المسلحة وبعض التسميات لتنظيمات مدنية… وهي “تفاهمات” مرفوضة موضوعا وشكلا. وسنقوم باستعراضها وعمل تبيين لخطورة التماهي معها أو الصمت عليها”.

‏أشارت هذه الفقرة بشكل مباشر إلى الوثيقة المتداولة في الأوساط السياسية السودانية والمسماة: “مقترح الحل السياسي لإنهاء الحرب وتأسيس الدولة السودانية”، والتي نشرتها “المجلة”، الإثنين 18 الجاري. وهذه الوثيقة- وكما ورد في نص مقدمتها- نتاج “مبادرة من دكتور عبد الله حمدوك رئيس وزراء حكومة ثورة ديسمبر المجيدة”، كما أشارت إليه الوثيقة. ومن “تجمع المهنيين السودانيين”، وأيضا جاء في مقدمة المقترح أنها استندت إلى كل جهود الحل الجارية وعلى رأسها إعلان جدة الموقع في 11 مايو/أيار 2023 وخارطة طريق “الإيقاد” والاتحاد الأفريقي وإعلان المبادئ الموقع في المنامة.

جاء في الرسالة المتداولة في طرح هذه الوثيقة للوسط السياسي السوداني، أنها تطوير للتفاهمات والاتفاقات التي تمت في المنامة وجدة، مع إضافة جانب سياسي لها، لتصبح شاملة مثل اتفاق السلام الشامل الذي تم توقيعه مع قائد “الحركة الشعبية لتحرير السودان” (جون قرنق) عام 2005 قبل أسابيع قليلة من مقتله، لإنهاء الحرب الأهلية في جنوب السودان. ولكن فات على كاتب الرسالة أن محمد حمدان دقلو (حميدتي) ليس قرنق أو لعله يقصد الإيحاء بهذا التشابه، إرضاء للذات وخداعا للمجتمع السوداني في محاولة إيجاد تبرير أخلاقي لمواقف البعض فيما يحدث.

 

المقترح مبادرة من حمدوك و”تجمع المهنيين”، وكلاهما في تحالف سياسي واحد هو “جبهة تقدم”

 

 

ولكن هذه الحرب السلطوية التي تجري حاليا في السودان، لا تشبه في شيء نضال شعوب الهامش السوداني ضد التمييز التنموي والثقافي والإثني الذي ظلوا يتعرضون له. لأن ميليشيا “حميدتي” (“قوات الدعم السريع”) هي إحدى أدوات هذا التمييز والقمع الذي كان يتعرض له أهل الهامش السودانيون، ولا زالوا يتعرضون له على يد هذه الميليشيا، وليست مشاهد مقتل خميس أبكر، والي جنوب دارفور، على يد “قوات الدعم السريع” ثم التمثيل بجثته وسط صيحات الانتصار العنصرية، والمجازر الجماعية التي تعرض لها مجتمع المساليت على يد أفراد الميليشيا بعد ذلك، ليست بعيدة عن الأذهان.

بدءا من هذه المقدمة، يستشعر القارئ المتابع للشأن السوداني، مسار المغالطات التي تمضي فيه. فعلى سبيل المثال تشير المقدمة إلى “تجمع المهنيين السودانيين”، ولا تحدد أيا من فصيلي “التجمع” الذي تقصده. ولكن بطبيعة ورود اسم التجمع مرفقا مع دكتور عبد الله حمدوك، فهو يشير إلى فصيل “تجمع المهنيين” المنضوي حاليا في “جبهة تقدم” التي يترأسها حمدوك. وهو الفصيل الذي خسر الانتخابات التي أجراها “تجمع المهنيين” لتجديد مجلسه القيادي في منتصف عام 2020، ولكن بعد خسارته للانتخابات رفض هذا الفصيل بقيادة طه عثمان إسحق المحامي القبول بنتيجتها الديمقراطية، ليعلن عن انقسامه وتكوين تجمع موازٍ.

ولم يستنكف تحالف “قوى الحرية والتغيير” حينها تضمين الطرف الخاسر للانتخابات في أروقة هياكله بحجة أن التوجه اليساري الصارخ للجناح الآخر وهو صاحب التفويض الانتخابي، سيفسد توازن القوى داخله. وهو توازن يبدو أن “قوى الحرية والتغيير” (المسيطر حاليا على “جبهة تقدم” التي يترأسها حمدوك) كانت حريصة عليه وعلى سيطرتها على مقاليد اتجاهات الرأي عبره حتى ولو على حساب الديمقراطية والتزامها الشكلاني بها.

لم تتوقع “قوى الحرية والتغيير” أن يتساءل أحد حينها عن كيف بتحالف يرفض نتائج الانتخابات الديمقراطية وسط القوى النقابية، أن يصدق في ادعائه السعي لإحلال الديمقراطية أو الدفع بعجلات التحول المدني الديمقراطي؟! ناهيك عن أن وجود نقابات منتخبة وجبهة نقابية واسعة أعلنت عن نفسها ومكونة من هذه القيادات المنتخبة ديمقراطيا، ينفي المبرر الموضوعي لوجود “تجمع المهنيين” بالأساس.

المغالطة المنطقية الثانية في المقدمة، كانت في ذكر استناده إلى إعلان المبادئ الموقع في المنامة، وهي وثيقة لم يتم الإعلان عنها ولا عن توقيعها رسميا من أي من الطرفين، ولا بواسطة أي من الوسطاء والذين تضمنوا الإمارات ومصر والسعودية والولايات المتحدة على الاقل. بل ظل جانب معسكر الجيش ينكر مفاوضات المنامة بالأساس ناهيك عن توقيعه على اتفاق مبادئ فيها. وبغض النظر عن صدقية نفي الجيش من عدمه، فإنه لا يستقيم منطقا طرح مقترح بغرض قبوله من الطرفين بالاستناد إلى وثيقة ينكرها أحدهما بالأساس. إلا إذا جاء ذلك من قبيل المزايدة السياسية والاعلامية ليس إلا.

أما ثالثة الأثافي في شأن المقترح المقدم لعناية القوات المسلحة السودانية، و”قوات الدعم السريع”، كما نصت ديباجة الباب الأول منه، فهو أنه مطروح كمبادرة من دكتور عبد الله حمدوك و”تجمع المهنيين”، وكلاهما أعضاء في تحالف سياسي واحد وهو “جبهة تقدم”. فلماذا اختصا نفسيهما بتقديم المقترح دون باقي التحالف؟! وهل هي محاولة “استهبال” سياسي جديدة لفرض أمر واقع لصالح طرف داخلي أو خارجي معين كما قد يبدو في استعراض بقية الوثيقة؟!

 

رويترز رويترز

لاجئون سودانيون يتجمعون لتعبئة المياه من بئر في مخيم جوروم جنوب السودان، في 26 يناير 

ما علينا، فالمقدمة يبدو أنها كتبت في عجالة- كبقية الوثيقة الملأى بالثقوب.

‏جاءت الوثيقة المقترحة مبوبة في ثلاثة فصول تمت تسميتها كالآتي:

أولا: مبادئ وأسس الحل الشامل، وهو ما اشتمل على ما تسميه وثيقة مبادئ وأسس الحل الشامل.

ثانيا: وقف العدائيات والمساعدات الإنسانية وهو ما اشتمل على ما تمت تسميته “اتفاق وقف العدائيات”.

ثالثا: العملية السياسية.

غالبية النصوص الواردة في الفصلين الأول والثاني صيغت في شكل العموميات والمبادئ العامة التي لا يمكن الاختلاف عليها، ولكن جاءت نصوص أخرى لتؤكد أن الوثيقة هي محض اتفاق سلطوي آخر.

وقد احتوت بعض النصوص الافتتاحية على تفصيل إيجابي مثل الحديث عن الالتزام بإعلان جدة لحماية المدنيين الموقع في 11 مايو 2023، والذي لم يتم تنفيذ أي بند فيه على مدى الأشهر العشرة الماضية. وجاءت بعض النصوص كتكرار ممجوج لما ورد في الوثيقة الدستورية 2019 وكافة الوثائق اللاحقة لها على مدار السنوات الخمس الماضية دون أي التزام من الأطراف المعنية، مثل أن يكون الحكم في السودان مدنيا ديمقراطيا يختار فيه الشعب من يحكمه، وبناء وتأسيس جيش واحد مهني وقومي وتأسيس وإعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية بما يضمن الكفاءة والمهنية والقومية وعدالة توزيع الفرص والالتزام بمبدأ العمل السياسي السلمي وانتهاج سياسة خارجية متوازنة إلى آخر ما ورد في الفصل الأول.ولكن هذه الحرب السلطوية التي تجري حاليا في السودان، لا تشبه في شيء نضال شعوب الهامش السوداني ضد التمييز التنموي والثقافي والإثني الذي ظلوا يتعرضون له. لأن ميليشيا “حميدتي” (“قوات الدعم السريع”) هي إحدى أدوات هذا التمييز والقمع الذي كان يتعرض له أهل الهامش السودانيون، ولا زالوا يتعرضون له على يد هذه الميليشيا، وليست مشاهد مقتل خميس أبكر، والي جنوب دارفور، على يد “قوات الدعم السريع” ثم التمثيل بجثته وسط صيحات الانتصار العنصرية، والمجازر الجماعية التي تعرض لها مجتمع المساليت على يد أفراد الميليشيا بعد ذلك، ليست بعيدة عن الأذهان.
بدءا من هذه المقدمة، يستشعر القارئ المتابع للشأن السوداني، مسار المغالطات التي تمضي فيه. فعلى سبيل المثال تشير المقدمة إلى “تجمع المهنيين السودانيين”، ولا تحدد أيا من فصيلي “التجمع” الذي تقصده. ولكن بطبيعة ورود اسم التجمع مرفقا مع دكتور عبد الله حمدوك، فهو يشير إلى فصيل “تجمع المهنيين” المنضوي حاليا في “جبهة تقدم” التي يترأسها حمدوك. وهو الفصيل الذي خسر الانتخابات التي أجراها “تجمع المهنيين” لتجديد مجلسه القيادي في منتصف عام 2020، ولكن بعد خسارته للانتخابات رفض هذا الفصيل بقيادة طه عثمان إسحق المحامي القبول بنتيجتها الديمقراطية، ليعلن عن انقسامه وتكوين تجمع موازٍ.
ولم يستنكف تحالف “قوى الحرية والتغيير” حينها تضمين الطرف الخاسر للانتخابات في أروقة هياكله بحجة أن التوجه اليساري الصارخ للجناح الآخر وهو صاحب التفويض الانتخابي، سيفسد توازن القوى داخله. وهو توازن يبدو أن “قوى الحرية والتغيير” (المسيطر حاليا على “جبهة تقدم” التي يترأسها حمدوك) كانت حريصة عليه وعلى سيطرتها على مقاليد اتجاهات الرأي عبره حتى ولو على حساب الديمقراطية والتزامها الشكلاني بها.
لم تتوقع “قوى الحرية والتغيير” أن يتساءل أحد حينها عن كيف بتحالف يرفض نتائج الانتخابات الديمقراطية وسط القوى النقابية، أن يصدق في ادعائه السعي لإحلال الديمقراطية أو الدفع بعجلات التحول المدني الديمقراطي؟! ناهيك عن أن وجود نقابات منتخبة وجبهة نقابية واسعة أعلنت عن نفسها ومكونة من هذه القيادات المنتخبة ديمقراطيا، ينفي المبرر الموضوعي لوجود “تجمع المهنيين” بالأساس.
المغالطة المنطقية الثانية في المقدمة، كانت في ذكر استناده إلى إعلان المبادئ الموقع في المنامة، وهي وثيقة لم يتم الإعلان عنها ولا عن توقيعها رسميا من أي من الطرفين، ولا بواسطة أي من الوسطاء والذين تضمنوا الإمارات ومصر والسعودية والولايات المتحدة على الاقل. بل ظل جانب معسكر الجيش ينكر مفاوضات المنامة بالأساس ناهيك عن توقيعه على اتفاق مبادئ فيها. وبغض النظر عن صدقية نفي الجيش من عدمه، فإنه لا يستقيم منطقا طرح مقترح بغرض قبوله من الطرفين بالاستناد إلى وثيقة ينكرها أحدهما بالأساس. إلا إذا جاء ذلك من قبيل المزايدة السياسية والاعلامية ليس إلا.
أما ثالثة الأثافي في شأن المقترح المقدم لعناية القوات المسلحة السودانية، و”قوات الدعم السريع”، كما نصت ديباجة الباب الأول منه، فهو أنه مطروح كمبادرة من دكتور عبد الله حمدوك و”تجمع المهنيين”، وكلاهما أعضاء في تحالف سياسي واحد وهو “جبهة تقدم”. فلماذا اختصا نفسيهما بتقديم المقترح دون باقي التحالف؟! وهل هي محاولة “استهبال” سياسي جديدة لفرض أمر واقع لصالح طرف داخلي أو خارجي معين كما قد يبدو في استعراض بقية الوثيقة؟!
ما علينا، فالمقدمة يبدو أنها كتبت في عجالة- كبقية الوثيقة الملأى بالثقوب.
‏جاءت الوثيقة المقترحة مبوبة في ثلاثة فصول تمت تسميتها كالآتي:
أولا: مبادئ وأسس الحل الشامل، وهو ما اشتمل على ما تسميه وثيقة مبادئ وأسس الحل الشامل.
ثانيا: وقف العدائيات والمساعدات الإنسانية وهو ما اشتمل على ما تمت تسميته “اتفاق وقف العدائيات”.
ثالثا: العملية السياسية.
غالبية النصوص الواردة في الفصلين الأول والثاني صيغت في شكل العموميات والمبادئ العامة التي لا يمكن الاختلاف عليها، ولكن جاءت نصوص أخرى لتؤكد أن الوثيقة هي محض اتفاق سلطوي آخر.
وقد احتوت بعض النصوص الافتتاحية على تفصيل إيجابي مثل الحديث عن الالتزام بإعلان جدة لحماية المدنيين الموقع في 11 مايو 2023، والذي لم يتم تنفيذ أي بند فيه على مدى الأشهر العشرة الماضية. وجاءت بعض النصوص كتكرار ممجوج لما ورد في الوثيقة الدستورية 2019 وكافة الوثائق اللاحقة لها على مدار السنوات الخمس الماضية دون أي التزام من الأطراف المعنية، مثل أن يكون الحكم في السودان مدنيا ديمقراطيا يختار فيه الشعب من يحكمه، وبناء وتأسيس جيش واحد مهني وقومي وتأسيس وإعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية بما يضمن الكفاءة والمهنية والقومية وعدالة توزيع الفرص والالتزام بمبدأ العمل السياسي السلمي وانتهاج سياسة خارجية متوازنة إلى آخر ما ورد في الفصل الأول.

 

قائد “الدعم السريع” أقر لبعض الذين يتواصلون معه بأن هناك قوات تابعة له ولا يسيطر عليها

 

 

وجاء أيضا في الفصل الثاني المتعلق بـ”وقف العدائيات والمساعدات الإنسانية” عدد من النقاط التفصيلية الإيجابية، والذي جاءت ديباجته على خلاف الفصل الأول بإشارة واضحة إلى أنه يجيء بتسهيل من البحرين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة وجمهورية مصر العربية (بهذا الترتيب)، مما يشي بأنه من بين المسودات أو الوثائق التي تم تداولها في مفاوضات المنامة التي أنكرها الجيش، ولكن على الرغم من ذلك جاءت المادة 1.4 منه بالتأكيد على التزام الطرفين باتفاق إعلان مبادئ وأسس الحل الشامل المتفق عليه بين الطرفين والموقع بتاريخ 20 يناير/كانون الثاني 2024. والمقصود هنا هو اتفاق المنامة مرة أخرى، وهو الاتفاق الذي ينكر الجيش وقوعه في الأساس. وهو ما يبدو أنه محاولة أخرى للإحراج السياسي أو المزايدة التي تهدف إلى العودة لتكتيك “فرق تسد” الذي أدمنت “قوى الحرية والتغيير” استخدامه كتكتيك سياسي في تعاملها مع الآخر عبر السعي لتقسيم أي طرف آخر لا تستطيع السيطرة عليه، أو جره وإلزامه بخطها، بدءا من “تجمع المهنيين”، و”لجان المقاومة”، مرورا بـ”الحزب الاتحادي الديمقراطي”، وحتى “المؤتمر الشعبي”، والآن تحاول ذلك مع الجيش السوداني. وذلك عبر تأكيد الإشارة إلى اتفاق المنامة الذي يدعي قادة “تقدم” وأبواقهم الإعلامية أن شمس الدين الكباشي نائب البرهان في قيادة الجيش، قد وقع موافقا عليه، بينما رفضه البرهان وبقية قادة الجيش. وعموما فإن الإشارة المتكررة إلى هذا الاتفاق ليست مما يجعل المقترح مطروحا بنية حسنة للقبول من الطرفين بقدر ما هو سعي لتثبيت أمر واقع ما وفرضه.

بنود إيجابية

أيضا جاءت المادة الثانية بعدد من البنود الإيجابية والتي تدخل في باب الإجراءات العملية لوقف العدائيات. مثل البند 2.4 والذي يتحدث بشكل واضح عن تجميد الطرفين لقواتهما والقوات الخاضعة لسيطرتهما والمتحالفة معهما في مواقعهما الحالية. وتبدو أن هذه الصياغة جاءت بهذا الشكل تحديدا لتوفير غطاء قانوني لـ”الدعم السريع” وقيادته من الانتهاكات التي ارتكبتها قواتهم. حيث إن الطرفين لا يعترفان ولا يقران علنا بوجود قوات متحالفة معهما غير تابعة لهما بشكل رسمي. ولكن قائد “الدعم السريع” قد أقر لبعض الساسة الذين يتواصلون معه بأن هناك قوات داخل الميليشيا التابعة له لا يسيطر عليها، وادعى أنها هي التي ترتكب الانتهاكات، في سعي للتملص من المسؤولية المؤسسية تجاه ما ترتكبه هذه القوات. حدث ذلك مرارا وآخرها في اجتماعه مع قيادة “تقدم” في الأول والثاني من يناير 2024 قبيل توقيع اتفاق حمدوك– حميدتي في أديس أبابا.
وعضد هذا الادعاء أيضا، تصريح مستشار حميدتي، يوسف عزت، الذي زجر فيه ياسر عرمان أحد قيادات “جبهة تقدم”، بعد أن طلب الأخير علنا، من حميدتي عقد اجتماعات مع أهالي ولاية الجزيرة التي ينتمي إليها ياسر، للتباحث حول إيقاف الانتهاكات المرتكبة ضدهم. فما كان من عزت إلا أن زجر عرمان في كتابة علنية موجها إياه بالحديث عن هذا الأمر مع “كيكل” (وهو تاجر سلاح معروف قبل الحرب، انضم إلى ميليشيا “قوات الدعم السريع” بعد الحرب وتم إعلانه كقائد لمنطقة الجزيرة بعد اجتياحها في ديسمبر/كانون الأول 2023). وهو ما يوحي أيضا بسعي عزت (والذي يحمل الجنسية الكندية) للتنصل من المسؤولية المؤسسية التي تقع عليهم بحسب القانون الدولي. عموما سيشكل تنفيذ البند 2.4 تحديا بشكل خاص لـ”قوات الدعم السريع”، إذا اكتمل أمر هذا الاتفاق.
وأيضا جاءت البنود 2.5 عن سحب القناصة من جميع المناطق ثم قفز الترقيم إلى 2.8 (عن عدم إعاقة حركة المدنيين) ثم 2.10 (عن حسن النوايا) بشكل يدل على إعادة ترقيم الوثيقة في صياغتها من أصل مختلف، أو ربما ترجمتها عن لغة أجنبية.
فصّل البند 2.12 في قرابة 31 بندا فرعيا ما يحظر على الطرفين ارتكابه ويشكل خرقا للاتفاق وهي بنود غاية في الإيجابية باعتبار تنفيذها فعلا. بل إنها احتوت للمرة الأولى على إشارات واضحة إلى حظر التعذيب والمعاملة القاسية والعنف الجنسي والعنف القائم على التمييز بجميع أشكاله أو المضايقة والاعتداءات وأخذ الرهائن والاعتقالات غير القانونية للمدنيين (البند 2.12.17)، استخدام المدنيين كدروع بشرية (البند 2.12.23)، الاستيلاء على مرافق الخدمات الأساسية مثل المستشفيات ومنشآت الكهرباء والمياه والاتصالات (البند 2.12.24)، والاستيلاء على مساكن المدنيين أو التعدي عليها (البند 2.12.25) وغيرها من البنود، وهي ممارسات وانتهاكات ظلت تمارسها ميليشيا “قوات الدعم السريع” وتنكر الإقرار بها. ولكن سكتت المادة، بل والاتفاق بأكمله عن الحديث عما يحدث من معالجات للوضع الحالي. ماذا بخصوص المنازل والأعيان المدنية التي تحتلها الميليشيا والتي قامت بنهبها وسرقتها ونشر أفرادها ومناصريهم تسجيلات رفضهم للخروج منها. وماذا بشأن المعتقلين المدنيين والرهائن لدى الميليشيا، والتي بدأ أفرادها يرسلون صور المعتقلين إلى ذويهم ليطالبوهم بدفع فدية لإطلاق سراحهم؟

 

الاستهزاء بالجرائم المرتكبة يظهر جليا في المادة الرابعة المتعلقة بالإجراءات المتبعة في انتهاك الاتفاق

 

 

تتعامل هذه المادة بل والاتفاق بأكمله مع ما يحدث منذ 15 أبريل/نيسان 2023، وكأنه لم يحدث… وكأن هذه الحرب وما حدث فيها كان مجرد أضغاث أحلام يجب على السودانيين أن يتجاوزوه دون أن يترتب عليه أي شيء.
جاءت المادة الثالثة من الاتفاق بالحديث لأول مرة عن آلية لمراقبة وقف العدائيات. وفصلت المادة في توصيف مهام وسلطات ما سمته المركز المشترك لمراقبة وقف إطلاق النار. وأشارت إلى الملحق رقم (1) الذي يفصل فيه بشكل أكبر. وجاء البند 3.3 بالنص على اتفاق الطرفين بأن هذا المركز هو الآلية الوحيدة المنوط بها مراقبة تنفيذ هذا الاتفاق. ويبدو واضحا أن النص على وحدانية هذا المركز جاء لقطع الطريق أمام أي تدابير دولية عملية لفرض أو إنفاذ وقف إطلاق النار أو مراقبته، وما يترتب عليها من مسؤوليات قانونية وسياسية. حيث إن مقترح اتفاق وقف إطلاق النار بشكله الحالي يعتمد بشكل كامل على حسن نوايا الطرفين دون أي آليات إنفاذ عملية. وهو الأمر الذي شهد السودانيون والعالم فشله على مدار أحدى عشر اتفاقا لوقف إطلاق النار تم إقرارها في منبر جدة، منذ مايو 2023 وحتى توقف أعمال المنبر، دون أن يتم الالتزام بها. ولكن من الواضح أن مقدمي المقترح لم يسمعوا عن تعريف ألبرت آينشتاين للجنون بأنه إعادة فعل نفس الأمر بنفس الطريقة مرارا وتكرارا وأن تتوقع أن تحصل على نتيجة مختلفة. إما ذلك، وإما أنه لا يهمهم تنفيذ وقف إطلاق نار بشكل حقيقي على أرض الواقع. فقد أصبح من الواضح بعد كل تلك المحاولات، ما كان واضحا منذ البداية، أن الطرفين المتقاتلين لن يتوقفا عن الصراع على السلطة دون أن تجبرهما جهة ثالثة على ذلك. وأن محاولات تفادي تدخل قوات دولية، ولو بشكل محدود لمراقبة وقف إطلاق النار وضمان حماية المدنيين ليس سوى ضوء أخضر للميليشيا لمواصلة انتهاكاتها خصوصا بعد ما حدث في اجتياح ميليشيا “قوات الدعم السريع” لمدينتي الجنينة في ولاية غرب دارفور والأحداث المستمرة في مدينة ود مدني بعد اجتياح ولاية الجزيرة.

 

رويترز رويترز

الدخان يتصاعد من بعض مباني الخرطوم أثناء المعارك في 2 مايو الماضي 

هذه الاستسهال والاستهزاء بوطأة الجرائم المرتكبة بواسطة القوات المتقاتلة يظهر جليا في المادة الرابعة من الاتفاق والمتعلقة بالتدابير والإجراءات المتبعة في حالة خرق أو انتهاك الاتفاق. حيث قسمتها المادة إلى انتهاكات جسيمة وغير جسيمة (بحسب جدول مرفق في الملحق رقم 2). وحددت الإجراءات المتبعة في حالة الانتهاكات غير الجسيمة بأنها تشمل “التحذير والتوبيخ لطرف النزاع مرتكب الانتهاكات”، وتقديم مرتكب أو مرتكبي الانتهاك لمحكمة مختصة وإحاطة المركز بالإجراء المتخذ، ولم يتم تحديد السلطة التي تتبع لها هذه المحكمة. فهل هي محكمة عسكرية تتبع لطرف النزاع المعني، أم إنها السلطة القضائية لدولة 1956 التي تسعى ميليشيا “الدعم السريع” للقضاء عليها؟ أما الإجراءات المتبعة في حالة الانتهاكات الجسيمة فلم تخرج عن الإطار نفسه لتشمل، التشهير والتنديد بالطرف المنتهك! أو مرة أخرى تقديم مرتكبي الانتهاكات للمحاكمة! ومرة أخرى دون تبيان لطبيعة المحكمة أو ضمان لحياديتها أو أي التزام بغير إحاطة المركز بالإجراء المتبع.
هذه المادة كلها وما ورد فيها، ليست سوى تحايل مفضوح للإفلات من المسؤولية المؤسسية لطرفي النزاع على انتهاكاتهما.

 

ما ورد في الوثيقة عن ترتيبات الشؤون الإنسانية يبدو أنه كتب مجرد أداء واجب

 

 

جاء البند الأخير من هذه الفقرة ليتحدث عن آلية للتوصل لحلول بخصوص الخروقات الجسيمة التي لا يتم التوصل لحلول فيها عبر لجنة عليا مشتركة تضم رؤساء مخابرات مصر، والإمارات، والبحرين (بهذا الترتيب الوارد في النص والذي يثير ملاحظة اختلاف ترتيب الدول هنا عما ورد في ترتيبها في ديباجة الاتفاق نفسه عن الدول المسهلة له، والذي بدأ بالبحرين ثم السعودية ثم الإمارات ثم الولايات المتحدة وأخيرا مصر).
وكذلك من الملاحظ غياب تضمين مديري جهازي المخابرات السعودية والأميركية في هذه اللجنة العليا باعتبارهما من ضامني ومسهلي الاتفاق أيضا عن هذه الآلية. ويضم اجتماع الآلية أيضا نائب القائد العام للقوات المسلحة (وهو الفريق شمس الدين كباشي حاليا) والقائد الثاني لـ”قوات الدعم السريع” (عبدالرحمن دقلو – شقيق حميدتي). ويقوم اجتماع هذه الآلية بمناقشة الخروقات الجسيمة والتوصل لحلول فيها وضمان عدم تكرارها.
المدهش هنا، أن هذا الاتفاق الذي يقدمه دكتور عبدالله حمدوك (رئيس وزراء حكومة الثورة بحسب نعته في الديباجة)، وفصيل “تجمع المهنيين” السودانيين الخاسر للانتخابات، وكلاهما طرفان مدنيان يتعاملان مع الانتهاكات التي وقعت خلال هذه الحرب اللعينة على أنها محض شأن إداري يتم حله عبر اجتماعات ومناقشات آلية رفيعة، وليس كانتهاكات حقوقية يتم التصدي لها عبر سيادة حكم القانون وضمان العدالة والمحاسبة. بل إن التشهير والتنديد بالطرف المنتهك هو إجراء كافٍ بحسب مقترحهما ليتم اتباعه في حالة الانتهاكات التي صنفوها على أنها جسيمة.
جاءت المادة الخامسة عن ترتيبات الشؤون الإنسانية. وهي التي يبدو أنها كتبت كمحض أداء واجب، حيث خلت بنودها الفرعية الثلاثة عشر من أي إشارة حقيقية تعكس الواقع. بل إنها خلت حتى من الإشارة إلى غرف الطوارئ والمتطوعين الشجعان والمستجيبين الأوائل للكارثة الإنسانية في السودان وهم العلامة الأبرز والأكثر إنسانية لما ظل يحدث على مدار العام الماضي في السودان، والذين يشير إليهم وإلى بسالتهم العالم كله باعتبارهم الآلية الوحيدة التي ظلت فاعلة لتقديم المساعدات الإنسانية في السودان منذ اندلاع الحرب. لم يتحدث الاتفاق حتى عن حمايتهم، وهم الذين ظلوا يتعرضون للاعتقال من طرفي الحرب، ولا حتى عن ضرورة اعتبارهم والتعامل معهم كمقدمي خدمة إنسانية محميين تحت بنود اتفاقات جنيف، ولكن من الواضح أن ذهن معدي الاتفاق انصرف عن ذلك إلى مجرد الاستعجال في أداء الواجب وترديد أي كليشيهات في ذكر ترتيبات الشؤون الإنسانية. ولعله استمرار السعي إلى احتكار الصوت والتمثيل المدني في الفضاء السوداني والغيرة السياسية من تضمين ذكر الفاعلين الآخرين، حتى ولو كانوا في مجالات مختلفة متعلقة بمعاش الناس وحياتهم وأمنهم بشكل مباشر. لأن الواضح أن هذا الأمر ليس من هموم “تقدم” على الإطلاق.

الفصل الأكثر ثقوبا

جاء الفصل الثالث من الاتفاق المعني بالعملية السياسية الأكثر ثقوبا على الإطلاق. فقد بدأ بتحديد الأطراف التي يحق لها المشاركة في العملية السياسية التي يقترحها، وحدد هذه الأطراف في القوات المسلحة و”قوات الدعم السريع” ثم القوى السياسية والحركات المسلحة. والملاحظ أن الاتفاق بدأ بذكر الأحزاب السياسية داخل “تنسيقية القوة الديمقراطية المدنية” (تقدم) ولكنه لم يضع التنسيقية نفسها، رغم أنها كيان معلن يحتفظ بشكله التنظيمي. ثم قام الاتفاق بعد ذلك بتفصيل الكيانات الأخرى المشاركة في تكوين تقدم كجهات مستقلة تشارك أيضا من موقعها المستقل في العملية السياسية. فـ”تقدم” و”الحرية والتغيير” من قبلها ترغبان دائما في أن يتم التعامل معهما سياسيا كجبهة واحدة، ولكن عندما يأتي الأمر إلى تفاوض مباشر تُوزع مقاعدها لضمان أكبر قدر ممكن من المشاركة في المفاوضات السياسية التي تتعامل معها بمنهج المقاسمة والمحاصصات.
ويعد تكتيك الإغراق الذي ظلت “قوى الحرية والتغيير”- والتي أصبحت لاحقا (تقدم)- تسعى على الدوام لضمان أغلبية عددية ميكانيكية في أي عملية سياسية تشارك فيها أو مقاطعتها على الإطلاق، والذي يركز على المشاركين أكثر مما يركز على القضايا أو الأطروحات في العملية السياسية، هو من التكتيكات التي ظلت تمارسها “قوى الحرية والتغيير” على مدى الأعوام الخمسة الماضية بشكل أفسد على الدوام أي محاولة لتصميم عملية سياسية شاملة تخاطب جذور القضايا في السودان. وأيضا أدى بدوره إلى بروز عدد من التنظيمات الوهمية المنبتة عن الواقع والتي ليست سوى واجهات حزبية بلافتات مغايرة.

 

المحاصصة التي تتبنى تقسيم المناصب لا تصلح أساسا للإصلاح

 

 

جاء الباب المعني بتحديد قضايا العملية السياسية بعدد من البنود الخلافية، فمثلا تحدث عن تحديد قيادة الجيش الجديد مستندا إلى معادلة حل أشكال وقضايا الإصلاح الأمني والعسكري عبر تقسيم السلطة العسكرية بين الفصيلين المتحاربين حاليا. بأن يتم تكوين القيادة الجديدة باختيار اثنين من القوات المسلحة واثنين من “قوات الدعم السريع” يكون واحد منهم القائد العام للجيش الجديد، واثنان نائبان له، وواحد رئيس لهيئة الأركان. على أن يكون رئيس هيئة الأركان من “الدعم السريع” إذا كان القائد العام من الجيش، والعكس صحيح.
هذه المحاصصة التي تتبنى تقسيم المناصب لا تصلح أساسا للإصلاح. فإذا كان الأساس الذي ننطلق منه أن هناك خللا وفسادا في المنظومات العسكرية الموجودة حاليا، فكيف يمكن أن يتصور أي عاقل أن خلط المكونات السيئة سينتج مزيجا جيدا.
‏هذا التناول والتبسيط الذي استمرت “قوى الحرية والتغيير” ولاحقا “تقدم” تتناول به قضية الإصلاح الأمني والعسكري من المشاكل التي ظلت تعوق الاتفاق على مفهوم واضح للعملية الجذرية التي يحتاجها إصلاح هذه الأجهزة في السودان. وهو كسل ذهني وسياسي يفضل الركون إلى أشواق وشبق السلطة على البحث المقارن أو دراسة التجارب المماثلة والنظريات العلمية المرتبطة بهذا المجال أو حتى الاستعانة بمختصين مهنيين غير ذوي غرض سياسي لتطوير مفهوم علمي حول ماهية هذا الإصلاح.

 

رويترز رويترز

نازحات سودانيات في مخيم زمزم قرب الفاشر في شمال دارفور في يناير 

ظل هذا التحالف ينظر إلى قضية الإصلاح الأمني والعسكري باعتبار هذه المؤسسات منصة أخرى للانقضاض على السلطة، وظلت الحلول التي يطرحها لإصلاح هذه المؤسسات تتبنى نهج تقسيم السلطة والمناصب بين المراكز المتعددة في هذه المؤسسات العسكرية والأمنية. أو لعلهم يسعون إلى تمكين الدوائر حاملة السلاح المساندة لهم لضمان حماية سلطتهم السياسية. في أي من الحالتين فإن هذا المفهوم لا يصلح لتبنيه كأساس في عملية إصلاح الأجهزة الأمنية والعسكرية لخدمة أهداف التحول المدني الديمقراطي، وهو يستبطن استهجانا واضحا لمبدأ خضوع هذه المؤسسات للإشراف المدني الذي ينبغي أن يشكل ضمانا لأدائها، بل هو عدم ثقة في آليات الحكم المدني على الإطلاق وانعدام في الإرادة لتمكينه، بحيث لا تكون المحاصصة السياسية هي ضمان التزام هذه المؤسسات بأداء دورها، بل حكم القانون وسيادة أجهزة الدولة.
هذا الاتفاق أشبه بإعادة تكوين وزارة الصحة بتوزيع صلاحياتها بين أجهزة الدولة ومستشفيات القطاع الخاص. كذلك يتجاهل هذا المنهج الذي تعتنقه قوى الحرية والتغيير شرط الكفاءة والتأهيل على إطلاقه، بل هو يتعامل مع أجهزة الدولة كمغنم ليس إلا، وحله لإشكالات هيكلته وإصلاحه هو عبر توزيعه على الأطراف المتقاتلة. عملية إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية في السودان، هي عملية تحديث علمية ومهنية لتمكينها من أداء دورها في تنفيذ القانون العسكري والمدني بكفاءة وليست مجرد معادلة تقسيم سلطات سياسية.
ورد في الاتفاق ملحوظة بخط اليد تفصل في مقترح توزيع مقاعد قيادة الجيش. حيث منح القوى السياسية مهمة اختيار القائد العام للجيش باعتباره حلقة الوصل بين السياسة والعسكر، ومنح رئاسة هيئة أركان القوات البرية لـ”الدعم السريع” بينما ترك قيادة القوات الجوية والبحرية بحسب الكفاءة والتخصص. هذه الملحوظة المكتوبة بخط اليد- والتي هي مرة أخرى تشي بعدم معرفة كاتبها بهيكلة هيئة أركان الجيش السوداني الحالية أو هيكلة هيئة قيادته- لم يكلف كاتبها نفسه إجراء بحث سريع عن التطور في هيكلة الجيوش الحديثة، وما هو المناسب في فترات الانتقال والفروقات الإدارية والسياسية بين هيكلة قيادة الأركان على أساس المهام وهيكلتها على أساس القوات المقاتلة كما يرد في مقترحه، وما هو الأصلح لخدمة مرحلة الانتقال وحمايتها من الانقلاب العسكري، أو لعله يدرك كل ذلك ويريد ترك الفرصة متاحة لسيطرة طرف ما يتطلع لانقلاب عسكري آخر في المستقبل على القوات البرية كي يستعين بها على إنجازه. وهي تمضي عميقا في نهج المحاصصات التي تحتفظ لميليشيا “قوات الدعم السريع” بوجود مؤسسي مستقل يمنحها حصة في قيادة الجيش لإرضائها، وكأن تكوين جيش مهني قومي جديد سيتم عبر “توزيع الكعكة”.

 

هناك تقنين للوصاية السياسية وانتهاك لحق الجماهير التي ثارت للمشاركة في صياغة مستقبل السودان

 

 

يمضي الاتفاق في ثقوبه ليقضي بمنح قائد القوات المسلحة الحالي وقائد “قوات الدعم السريع” الحالي بعد إحالتهما إلى المعاش حصانة من الملاحقات القانونية في الحق العام، ولكن تنص الفقرة نفسها على أنه يحق لهما ممارسة العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات بعد الفترة التأسيسية الانتقالية الأولى. أي ببساطة أن يتم محو عام كامل من حياة السودانيين وكل ما حاق بهم من انتهاكات وجرائم وكأنها لم تكن، بل تتمّ مكافأة قائدي الفصيلين بإتاحة المجال لهما للمشاركة السياسية.
ناهيك عن الجدل الأخلاقي حول هذا البند، فهو يمضي في إعادة تجريب المجرب، فهذه الحصانة، وإن لم يتم النص عليها بهذه الفجاجة، بشكل أو بآخر كانت عمليا عند قيادة الجيش و”الدعم السريع”، فماذا صنعوا بها، انقلابا في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، ثم حربا أهلية في 15 أبريل 2023؟ ناهيك عن أن المؤسسة العسكرية والأمنية السودانية، (جيشها و”دعمها السريع” وجهاز أمنها وشرطتها) وحاملي السلاح والرتب العسكرية الرسمية مثل البرهان، أو الممنوحة ذاتيا (خلا- كما يسميها السودانيون) مثل حميدتي في السودان عموما هم أكثر من مارس العنف السياسي حتى أدخلو البلاد في دوامة الحرب الأهلية، لذلك يصبح من المنطقي في سياق السعي لتحول مدني ديمقراطي حقيقي، بالنص بوضوح على منع أصحاب الرتب العسكرية الرفيعة (من عميد فما فوق على سبيل المثال) من المشاركة في الانتخابات لفترة خمس إلى سبع سنوات على الأقل بعد تقاعدهم. وهذا الأمر ليس غريبا ولا مبتدعا في سبيل بناء أي نظام ديمقراطي. بل هو أمر موجود في كثير من الديمقراطيات الحديثة. والغرض منه ليس فقط المحاسبة السياسية- كما هو في حالتنا السودانية- بل أيضا الحفاظ على الحياد السياسي المطلوب لأجهزة حفظ النظام وإنفاذ القانون ومنعهم من التأثير والانحياز السياسي بما يؤثر على مبدأ القيادة المدنية للدولة.
وحتى الموظفون المدنيون العاملون في وزارات الدفاع ببعض الدول يتم منعهم من إظهار أي ميل سياسي حزبي خلال أداءهم لواجباتهم، فيما توضع قواعد أخرى تحد من إمكانية العسكريين حتى في التعليق السياسي على وسائط التواصل الاجتماعي. وذلك لا يتعلق بالديمقراطيات الغربية، بل حتى الجزائر القريبة، ناقشت وأجازت في 2019 قانونا يمنع العسكريين من الممارسة السياسية والترشح للانتخابات لمدة خمس سنوات بعد إحالتهم للحياة المدنية. وكل ذلك للحفاظ على حياد جهاز العنف الشرعي الذي يُعرّف احتكاره مفهوم الحكومة الحديثة نفسها، من الاستخدام السياسي.

 

رويترز رويترز

لاجئون سودانيون يتجمعون بينما تساعد فرق “أطباء بلا حدود” جرحى الحرب في غرب دارفور، في مستشفى أدري بتشاد، 16 يونيو 2023 

إن الحديث عن اختلاف الوضع في السودان، وخصوصيته وما إلى ذلك من المبررات التي يسوقها بعض السياسيين المتلهفين لتقاسم النفوذ بالاستعانة بحلفائهم من عسكر الجيش وعسكر “الخلا” على جهاز الدولة مرة أخرى، والذي يجعلهم يتصارعون الآن لإعادة مسلسل السيطرة على جهاز الدولة من خارجه، بدلا من مواجهة واجبهم الطبيعي كسياسيين في إدارته، ومواجهة مسؤولياتها، هو ما يجعلهم يغضون النظر عن أن حقيقة سماحهم لأنفسهم بهذا النفوذ الفوقاني سيسمح بمثله للآخرين وبالطبع للمؤسسة العسكرية بالمثل. وأن مثل هذه القواعد ضرورية، بل ولازمة لبناء أي ديمقراطية حقيقية مستقرة. وأن محاولة الحد من أحلامنا وتطلعاتنا للديمقراطية في السودان بالحديث عن الأسرار “الخطيرة” والتي ينبغي أن يتم عدم تداولها ونقاشها إلا في إطار ضيق للنخبة السياسية وتفادي النقاش الجماهيري الواسع لها لحمايتها (والمقصود هنا بالطبع حماية نفوذ هذه النخبة في تحديدها)، هو مجرد تقنين للوصاية السياسية وانتهاك صارخ لحق الجماهير التي ثارت ببسالة لاقتلاع البشير ووضع أسس مشاركتها المتساوية في صياغة المستقبل السياسي لبلادها.
إن الفقرات الممجوجة التي وردت في النقطة (د) في الحديث عن العدالة والتغني بها وضرورتها وضرورة التحقيقات، أهملت أنها سبق وبسطت يدها بالحصانات التي تضرب مفهوم العدالة الانتقالية في مقتل، فالعدالة الانتقالية ليست مجرد إجراء شكلاني للإفلات من العقاب، بل هي عملية تصالح اجتماعي حقيقية تحتاج إلى فتح الجروح وتنظيفها، وليس التعمية والتغطية عليها.
أقر الاتفاق مدة الفترة الانتقالية التي تتلو إيقاف الحرب على أنها 10 سنوات وتنقسم إلى فترتين، بحيث يكون النصف الثاني منها محكوما بهياكل انتقالية منتخبة (وهي الانتخابات التي سمح الاتفاق لقائدي الجيش و”الدعم السريع” الحاليين بخوضها). وقد ظل طول الفترة الانتقالية في السودان على الدوام محل نقاش بين القوى السياسية السودانية. ولكن هذه الفترة ليست مجرد إطار زمني، بل إن نقاش وتحديد مدتها يجب أن يكون مرتبطا بالمهام التي ينبغي إنجازها فيها، ولا يتم النص عليها بالمرور العابر وعبر شهوات شبق السلطة التي تفوح من ثنايا مقترح الاتفاق، والذي يتحدث في الوقت نفسه عن دستور انتقالي ودستور دائم بالتبسيط نفسه الذي يستسهل ذكر هذه المفردات، وتناول هذه القضايا والمرور عليها مرور الكرام في سعيه الحثيث للانتهاء وتنسم مقاعد السلطة.

 

ينبغي التوصل لإيقاف العدائيات وإسكات صوت البندقية وإنفاذ ذلك عبر آليات واضحة وقادرة

 

 

إن مقترح هذا الاتفاق في شكله الحالي لا يعدو سوى أنه ترجمة عملية لطموحات بعض الأطراف الخارجية التي ترغب في ضمان خدمة مصالحها في السودان عبر ضمان المستقبل السياسي لمالك ميليشيا “قوات الدعم السريع” محمد حمدان دقلو. وذلك عبر السماح له بالإفلات من العقاب، وإعادة تمكين مؤسسته الميليشياوية من جهاز الدولة السودانية، ثم السماح له بممارسة العمل السياسي مستعينا بنفوذها المتراكم.

في الملخص، هذا الاتفاق يتعامل مع حرب 15 أبريل الأهلية في السودان وكأنها لم تحدث، وكأنها قدر مكتوب على السودانيين ليس لهم إلا الصبر عليه والتعايش معه. وأن من الممكن إعادة عقارب الساعة للوراء وإجبار ضحايا الحرب على تناسي آلامهم ومعاناتهم والقبول مرة أخرى بمعادلات السلطة المختلة التي قادت السودان إلى دوامة هذه الحرب المهلكة في المقام الأول.
انتهاء الحرب في السودان، يرتبط إلى حد كبير بانتهاء موجة السرديات البديلة المغايرة للواقع والتي سادت بشكل كثيف منذ 15 أبريل 2023. ولكن للأسف، الملاحظ أن سرديات مغالطة الواقع وتزييفه، تتزايد هذه الأيام بشكل مطرد، في حين يجتهد حلفاء الميليشيا- من أفراد وتنظيمات، داخل وخارج “تقدم”- في الترويج لمعادلات تضمن استمرارية البقاء المؤسسي لميليشيا “قوات الدعم السريع” وضمان مستقبل سياسي لمالكها حميدتي في حال انتهاء الحرب، وكأن كل هذه الجرائم والانتهاكات والقتل والنهب والاغتصاب والتشريد التي جرت على يد الميليشيا خلال هذه الحرب لم تحدث.
إن محاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء والسعي لإنتاج معادلة قسمة سلطة جديدة بين الأطراف المسلحة في البلاد بمبررات تسعى لتصويره على أنه سعي (مقبول) لإيقاف الحرب، هي أمر غير معقول وغير مقبول. وهي ليست إلا محاولة للاستعانة بسلاح العسكر لضمان السلطة السياسية.
إن أي جهد لمخاطبة الكارثة التي تحدث الآن في السودان ينبغي أن ينصب بشكل واضح على التوصل لإيقاف العدائيات وإسكات صوت البندقية وإنفاذ ذلك عبر آليات واضحة وقادرة، دون أن يسعى إلى ربط ذلك بمطالب سياسية لاحقة. فهذه المطالب والنقاشات السياسية الهامة لا يمكن المزايدة بها على إيقاف رصاص البنادق وقنابل المدافع والطائرات ومرتزقة الميليشيا من حصاد أرواح الناس، بل يجب تركها إلى عملية سياسية شاملة تبدأ دون شروط واتفاقات مسبقة، مثل منح الحصانة وتحديد فترة الانتقال وحتى تفاصيل هياكل الفترة الانتقالية إلى آخر ما ورد في مقترح الاتفاق المسبق. وكذلك ليس ثمة عملية سياسية لا تحدد بوضوح ما تريد الوصول إليه، وهو هدف ينبغي أن يكون واضحا لكل منخرط في العمل العام جراء كل ما حدث ويحدث في السودان.
لا يمكن أن يكون لميليشيا “قوات الدعم السريع” مستقبل في الوجود المؤسسي بالسودان، وليس من سبيل للقبول باستمرارية الجيش وجهاز الدولة دون إصلاحات جوهرية تصلح من الشكل الذي كان عليه قبل الحرب.

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/313146/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%82%D8%AA%D8%B1%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A3%D9%85-%D9%84%D8%A5%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A5%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8%D8%9F

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M