الصراع على السيادة النقدية: تبعات إصدار الحوثيين عملة معدنية جديدة والسيناريوهات المحتملة

  • يُشكِّل إصدار الحوثيين عملة معدنية جديدة بصورة منفردة، تصعيداً جديداً في المواجهة المستمرة مع الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، مع ما لذلك من تداعيات مباشرة على المركز القانوني للحكومة، وجهود التسوية السياسية في البلاد.
  • رداً على خطوة الحوثيين، حذَّر البنك المركزي اليمني في عدن من التعامل مع العملة المعدنية الجديدة، وأمهل جميع المصارف ستين يوماً لنقل مراكزها الرئيسة إلى عدن. وهو توجهٌ يبدو أنَّه يحظى بدعم أمريكي وغربي، لاسيما في ظل استمرار أزمة التصعيد العسكري في البحر الأحمر.
  • مع أن نقل المراكز الرئيسة للمصارف والبنوك إلى عدن قد لا يُعطِّل نشاطها في مناطق سيطرة الحوثيين، إلا أنه سيؤثر في قدرة هؤلاء على إدارة النشاطات المالية والمصرفية داخل مناطقهم، وسيُعزز المركز القانوني للحكومة وبنكها المركزي، ويزيد من قدرتهما على التدقيق في عمليات الحوثيين المالية ونشاطهم الاقتصادي الخاص.
  • تظل فرص التهدئة بين الحكومة والحوثيين، بوساطة محلية أو خارجية، مُمكنة رغم النبرة العدائية في خطابهما الإعلامي، نظراً لحجم التبعات المحتملة الكبيرة التي قد تنجم عن تفاقُم الأزمة الحالية، بما في ذلك نسف التقدُّم المُحرَز على مسار السلام في اليمن.

 

بإعلان البنك المركزي اليمني الخاضع لسيطرة جماعة «أنصار الله» الحوثية في صنعاء، في أواخر مارس 2024، إصدار عملة معدنية جديدة من فئة 100 ريال، دُشِّنت جولة جديدة من الصراع المستمر بين الحوثيين والحكومة اليمنية المعترف بها دولياً حول السياسات النقدية وقطاع المصارف والبنوك في البلاد، الأمر الذي يزيد من القيود والتعقيدات أمام إمكانية إنجاز تقدُّم على مسار إحلال السلام في اليمن، أو حتى تحقيق انفراجة على الجانبين الاقتصادي والإنساني في المدى القريب.

 

الخلفية والسياق

تعود بداية الصراع الدائر بين الحوثيين والحكومة المعترف بها دولياً بشأن السياسات النقدية وقطاع المصارف والبنوك إلى قرار الحكومة في سبتمبر 2016 نقل البنك المركزي إلى العاصمة المؤقتة عدن، بهدف التأكيد على مركزها القانوني وضمان امتلاكها القدرة على أداء واجباتها تجاه المواطنين واستعادة السيطرة على السياسة النقدية وحرمان جماعة الحوثي من الأفضلية التي كانت تتمتع بها بفضل وجود البنك المركزي تحت سيطرتها.

 

وإثر نقل البنك المركزي إلى عدن، بدأت الحكومة في ضخ سيولة من الطبعات الجديدة من الريال اليمني من أجل تغطية العجز في إيرادات الميزانية العامة، واستمر تداول هذه الطبعات الجديدة من العملة المحلية إلى جانب الطبعات القديمة بسعر صرف واحد في مناطق سيطرة الحكومة ومناطق سيطرة جماعة الحوثي على السواء من بداية عام 2017 حتى نهاية عام 2019، عندما قررت جماعة الحوثي وقتذاك فرض حظر صارم على تداول الطبعات الجديدة في مناطق سيطرتها، وقصر التداول/التعامل هناك على الطبعات القديمة فقط، وهو ما أدى لانتقال الكتلة النقدية من الطبعات القديمة بالكامل تقريباً إلى مناطق سيطرة الحوثيين، بينما تكدَّست الطبعات الجديدة من العملة المحلية في مناطق سيطرة الحكومة.

 

ونتيجةً لذلك، تحوَّلت الطبعات القديمة والجديدة من العملة المحلية إلى عملتين مستقلتين كلياً من ناحية وجود سعر صرف مختلف لكل منهما (بحسب العوامل والمتغيرات ذات الصلة على مستوى نطاق تداولهما)؛ حيث حافظت الطبعات القديمة على سعر صرف ثابت منذ ذلك الحين، عند مستوى 600 ريال يمني مقابل الدولار الأمريكي الواحد قبل أن ترتفع تدريجياً منذ أبريل 2022 لتصل إلى مستوى يتأرجح بين 520 و530 ريال مقابل الدولار الأمريكي؛ أما الطبعات الجديدة فقد اتخذت منحاً تراجعياً وصل إلى ذروته في أواخر عام 2021 مع تجاوز سعر صرف الدولار الواحد حاجز الـ 1700 ريال من هذه الطبعات، قبل أن تتعافى نسبياً، إذ وصلت إلى مستوى تأرجح بين 1100 و1200 ريال في مقابل الدولار على مدار معظم أشهر 2022، قبل أن تنتكس مجدداً في بداية 2023 لتصل حالياً إلى مستوى 1660 ريال في مقابل الدولار.

 

ويَرجَع هذا التفاوت الكبير في سعر الصرف بين الطبعات القديمة والجديدة من الريال، إلى حقيقة أن الكتلة النقدية من الأولى ظلت ثابتة، بل وأخذت بالتقلص نتيجة تهالكها السريع في سوق التداول اليومي، بينما كانت الكتلة النقدية من الثانية تزداد باستمرار إلى أن بلغ حجمها ضعفي حجم الكتلة النقدية للأولى، مع الأخذ في الاعتبار أن الكتلة السكانية الأكبر، والنشاط الاقتصادي، يتركزان في مناطق سيطرة جماعة الحوثي، حيث يجري تداول الطبعات القديمة، وليس في مناطق سيطرة الحكومة، حيث تُتَداول الطبعات الجديدة.

 

لكن المتعاملين الأفراد، والمؤسسات، والشركات في مناطق سيطرة جماعة الحوثي بدأوا يواجهون مشكلة شح السيولة من الطبعات القديمة للريال، وبالتحديد من فئات الـ 50 والـ 100 والـ 250 ريالاً، نتيجة اهترائها وتلفها بشكل أساسي، وإن كانت المشكلة تشمل أيضاً فئتي الـ 500 والـ 1000 ريال (وهما أكبر فئتين) لكن بدرجة أقل. وكانت جماعة الحوثي تحاول على مدار السنوات الماضية معالجة هذه المشكلة عبر طباعة إصدارات جديدة خاصة بها من الريال، لكنها فشلت في ذلك بسبب رفض الجهات والشركات الدولية المختصة التعامل معها، إلى أن تمكَّنت أخيراً، وتحديداً 30 مارس الفائت، من الإعلان عن تحقيق اختراق مهم على هذا الصعيد، بإصدار البنك المركزي في صنعاء فئة 100 ريال معدنية جديدة، والشروع في ضخِّها وتداولها في مناطق سيطرتها.

 

وقد شدَّدت قيادة البنك المركزي في صنعاء على أنها ستستخدم هذه الإصدار الجديد من العملة المحلية في استبدال نفس الفئة من الطبعات القديمة والتالفة فقط، مؤكدةً أن هذه الخطوة لن تتسبب في أي تأثير على سعر صرف العملة المحلية في مناطق سيطرة الحوثيين، مُشيرةً إلى أن هذه الخطوة ستعقبها خطوات أخرى لاستبدال بقية الفئات من الطبعات القديمة والتالفة، كما زعمت بأن هذه الخطوة ستسهم أيضاً في التعجيل بتنفيذ خريطة الطريق والتفاهمات التي جرى التوصل إليها بوساطة سعودية وعمانية، وعَدَّت خطوتها الأحادية هذه رداً على ما وصفته بـ “مماطلة” الحكومة اليمنية بشأن خريطة الطريق والتفاهمات حولها، ولوَّحت بإمكانية اتخاذ خطوات أخرى في حال تعذَّر تحقيق تقدُّم على ذلك المسار في المدى القريب.

 

ورداً على هذه الخطوة، حذَّر البنك المركزي اليمني في عدن جميع الأفراد والجهات من التعامل مع أي عملة مزورة، وصادرة عن كيان غير قانوني، وبالمخالفة لكل القوانين والأعراف المالية والمصرفية، كما حمَّل البنك الحوثيين المسؤولية عن تبعات هذا التصعيد، وقال إنه يحتفظ بحقه في اتخاذ كل الإجراءات القانونية والاحترازية المناسبة من أجل حماية الأصول المالية للمواطنين والمؤسسات المالية والمصرفية.

 

وفي ظرف ثلاثة أيام فقط، وتحديداً في 2 أبريل الجاري، أصدر البنك المركزي في عدن قراراً يقضي بنقل المراكز الرئيسة لجميع البنوك التجارية والمصارف الإسلامية وبنوك التمويل الأصغر المحلية والأجنبية من صنعاء إلى عدن، خلال ستين يوماً من تاريخ صدور القرار، وهدَّد البنك باتخاذ جميع الإجراءات القانونية بموجب أحكام قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بحق المتخلفين عن تطبيق قراره بعد انتهاء هذه المهلة.

 

يُشكِّل إصدار الحوثيين عملة معدنية جديدة، تصعيداً جديداً في المواجهة المستمرة مع الحكومة اليمنية (وكالات)

 

الدلالات والتداعيات

من وجهة نظر اقتصادية ومالية، يمكن النظر إلى إصدار البنك المركزي الخاضع لسيطرة جماعة الحوثي في صنعاء عملة معدنية جديدة، بوصفه “اختراقاً مهماً” قد يُسهِم في معالجة مشكلة تلف نسبة كبيرة من الطبعات النقدية القديمة من فئة الـ 100 ريال، خاصة أنها ضمن ثلاث فئات (50-100-250) نسبتها الأكبر تالفة، وكان في حكم المستحيل الاستمرار في تداولها لولا انعدام وجود بدائل أخرى. لكن البيانات المتوفرة عن حجم كل فئة من الإصدارات النقدية ضمن الكتلة النقدية المصدرة ككل تُشير إلى أن فئة الـ 100 ريال تُمثِّل 1.2% فقط من تلك الكتلة، وإن كان حجمها (أي الكتلة النقدية من العملة المحلية المتداولة في مناطق سيطرة الحوثيين) يفوق في الواقع حجم الكتلة النقدية من الطبعات القديمة، بسبب استثناء نسبة بسيطة من الطبعات الجديدة من قرار الحظر، وتقتصر هذه النسبة المستثناة على جزء من الطبعات النقدية الصادرة في العام 2016 (لكنها مؤرخة بالعام 2017) ويتراوح حجمها بحسب التقديرات بين 200 و300 مليار ريال يمني من فئة الـ 1000 ريال، بالإضافة إلى قرابة تريليون ومئة مليار ريال من الكتلة النقدية المصدرة من الطبعات القديمة الموجودة منذ نهاية عام 2015؛ وبالتالي فإن فئة الـ 100 ريال تمثل في الحقيقة نسبة أقل من 1.2% من الكتلة النقدية المتداولة في مناطق سيطرة جماعة الحوثي.

 

وعليه، فإن استبدال فئة الـ 100 ريال من الطبعات القديمة التالفة بالإصدار المعدني الجديد لن يترك تأثيراً ملموساً في سعر صرف الريال في مناطق سيطرة الحوثيين، كما أنه لا يمثل مساهمة حقيقية في معالجة شح السيولة من العملة المحلية هناك؛ لاسيما عند المقارنة مع فئة الـ 1000 ريال التي كانت تمثل 83.2% من الكتلة النقدية من الطبعات القديمة للريال في نهاية 2015، أو فئة الـ 500 ريال التي كانت تمثل 12.5%، أو حتى فئة الـ 250 ريال التي كانت تمثل 2% من تلك الكتلة. كما أن ضخ سيولة كبيرة من فئة الـ 100 ريال المعدنية الجديدة إلى سوق التداول يُعد مهمة معقدة وصعبة، وإن كانت غير مستحيلة على المدى البعيد وضمن حدود معينة، ومن ثم من المستبعد أن يُفضي استخدام هذا الإصدار النقدي إلى حل مشكلة الطبعات القديمة التالفة من بقية الفئات، أو حل مشكلة شح السيولة النقدية من العملة المحلية في مناطق سيطرة الحوثيين، عموماً، خلال المدى القريب.

 

وإذ لوَّحت قيادة البنك المركزي الخاضع لسيطرة جماعة الحوثي في صنعاء بأنها قد تتخذ خطوات أخرى مشابهة في المستقبل القريب لمعالجة مشكلة الطبعات القديمة والتالفة من بقية الفئات النقدية للعملة المحلية، فإن قدرتها على ذلك تبدو مُستبعَدةً أيضاً، للأسباب الآتية:

 

  1. لجوء البنك المركزي في صنعاء إلى إصدار عملة معدنية لاستبدال فئة من الطبعات القديمة الورقية يدل على يأسه من إمكانية إقناع الجهات الدولية المختصة بطباعة إصدارات جديدة (ورقية) من العملة المحلية رغم كل المحاولات التي بذلتها في هذا الجانب، ووثقتها تقارير فريق خبراء مجلس الأمن المعني باليمن.
  2. إن المؤسسات الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي لم تكن لتلجأ لتلك الجهات الدولية أساساً لولا عدم وجود القدرة لديها، ولدى داعميها، على طباعة إصدارات جديدة من العملة المحلية لتعويض التالف من الطبعات القديمة المتداولة داخل مناطق سيطرتها.
  3. من الصعب إصدار عملات معدنية لاستبدال بقية الفئات التالفة والمتهالكة من الطبعات القديمة للريال، وخاصة الفئتين الأكبر والأكثر تداولاً منه (واللتين تمثلان 95% من إجمالي الكتلة النقدية)، وهما فئتي الـ 500 والـ 1000 ريال، نتيجة القيود المعروفة على تداول العملات المعدنية واستعمالها في التعاملات الكبيرة.
  4. إن إصدار عملات معدنية من الفئات الكبيرة بمستوى الجودة المُنخفِض التي أُصدِرَت فيها العملة المعدنية من فئة الـ 100 ريال سيُشجع على تزويرها على نطاق واسع، بسبب العائد الكبير مقابل التكلفة المحدودة.

 

وحتى إذا تمكن الحوثيون من إصدار طبعات جديدة من الريال لاستبدال التالف من الطبعات القديمة من جميع الفئات، فمن المستبعد أن ينتُج عن ذلك تحقيق انفراجة اقتصادية ملموسة أو يُمكِّن السلطات الموالية لجماعة الحوثي من فرض سياسات نقدية ناجحة بسبب غياب المقومات الضرورية لديها، ولعل المثال الأبرز على ذلك يتجلى في تباهي الجماعة بقدرتها على تثبيت سعر صرف الريال في مناطق سيطرتها منذ عام 2020، مع أن ذلك تحقق رغم تسبُّبه بتأثيرات سلبية كبيرة على معيشة المواطنين هناك.

 

تَسبَّب حظر الحوثيين تداول الطبعات الجديدة من الريال في تقييد قدرة الحكومة المعترف بها دولياً على مواصلة دفع رواتب موظفي القطاع العام في مناطق سيطرة الجماعة، ويمكن القول إن تراجع سعر صرف الريال اليمني هناك في حال رُفِعَ الحظر على الطبعات الجديدة، بما لذلك من تأثير على القيمة الحقيقية لمرتبات موظفي القطاع العام، كان سيغدو خياراً أقل سوءاً من انقطاعها بالكامل، وذلك بمعزل عن التأثير الإيجابي الأكبر الذي كان سيخلقه تدفُّق السيولة على هذا النحو إلى مناطق سيطرة الحوثيين، لاسيما أن هيكل الأجور في القطاع الخاص كان بمقدوره التكيُّف بسرعة مع التغييرات في سعر الصرف، كما أن العملة المحلية، بفعل استمرار الصراع في اليمن وانعدام اليقين بشأن تسويته، لم تعد تستخدم في الادخار على نطاق واسع، ومن ثمَّ فليس ثمة مخاوف كبيرة على هذا الصعيد.

 

علاوة على ذلك، من الصعب تحديد مكاسب حقيقية من تثبيت سعر صرف الريال أو ارتفاعه منذ عام 2022 في مناطق سيطرة الحوثيين مقارنة بالتكاليف التي تكبدها المواطنين على خلفية ذلك، أو على الأقل مكاسب توازي حجم هذه التكاليف، وهي معطيات من المفترض أن تكون بديهية في بلد مثل اليمن، وخصوصاً في الجزء المتعلق بمساهمة النفقات العامة وبند الأجور تحديداً في الاقتصاد الوطني، لكن جماعة الحوثي كانت تغفل ذلك أو تعمدت التغافل عنه من أجل غرض واحد يتمثل في دفع سعر صرف الريال في مناطق سيطرة الحكومة، إلى المزيد من التراجع.

 

وعلى أية حال، فإن مشكلة الطبعات النقدية القديمة التالفة، وشح السيولة الذي نتج عنها في مناطق الحوثيين، ليست سوى إحدى نتائج توجهات الجماعة الحوثية وتوظيفها للملف الاقتصادي في إدارة الصراع مع الحكومة المعترف بها دولياً، ناهيك بالمشكلات والتحديات الاقتصادية الأخرى التي ولَّدتها طريقة إدارة الحوثيين لمؤسسات الدولة في مناطق سيطرتهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تسبب قرار الحوثيين بمنع ما وصفوه بـ “المعاملات الربوية” بحالة ارتباك كبير في قطاع المصارف والبنوك، إذ تجاهل القرار، ولدواعٍ أيديولوجيةٍ صرف، أساسيات السياسة النقدية والعمل المصرفي المعاصر.

 

من غير المتوقع أن يترك الإصدار المعدني الجديد تأثيراً ملموساً في سعر صرف الريال في مناطق سيطرة الحوثيين (وكالات)

 

الاستجابة الحكومية وسيناريوهات المستقبل

رغم توالي الإجراءات والقرارات الأحادية التي اتخذتها جماعة الحوثي في الملف الاقتصادي، امتنعت الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وقيادة البنك المركزي في عدن، عن اتخاذ خطوات عقابية ضد الحوثيين خلال الفترة الماضية، بدافع ما قالت الحكومة إنه حرص على تجنيب المواطنين أي تداعيات قد تمس بأحوالهم المعيشية، وعدم تقويض مساعي إنهاء الحرب وإحلال السلام في اليمن، ولم يتغير هذا الموقف حتى بعد استهداف الحوثيين منشآت تصدير النفط في مناطق سيطرة الحكومة، وما نتج عن ذلك من توقُّف للتصدير منذ ما يزيد على عام كامل، الأمر الذي تسبب في أزمة مالية خانقة للحكومة، وتقلبات كبيرة في سعر صرف الريال بمناطق سيطرتها.

 

غير أن خطوة الحوثيين الأخيرة المتمثلة في إصدار عملة معدنية جديدة، مع ما لذلك من تداعيات مباشرة على المركز القانوني للحكومة اليمنية، وجهود الحل السياسي للصراع، لم يترك الكثير من الخيارات أمام الحكومة والبنك المركزي في عدن، ولذا شرعا في مقاومتها بقوة من خلال أمر المصارف كافة بنقل مراكزها الرئيسة إلى عدن، في غضون شهرين فقط، وتهديد المتخلفين بعواقب كبيرة. ويبدو موقف الحكومة والبنك المركزي في عدن هذه المرة أقوى من ذي قبل، نظراً للدعم الصريح الذي تلقَّياه من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، من خلال البيانات التي أصدرتها سفاراتهم في اليمن، ونددوا فيها بإصدار الحوثيين عملة جديدة، وحذروا من عواقبها الخطرة على الاقتصاد اليمني.

 

وفي ضوء ذلك، من المتوقع أن يشرع البنك المركزي في عدن في معاقبة المصارف التي تمتنع عن تنفيذ قراره بنقر مقراتها الرئيسة إلى عدن بعد انتهاء مدة المهلة الممنوحة لها، على نحوٍ تدريجي، وصولاً إلى تجميد تعاملاتها الدولية (السويفت) بصورة كاملة، وربما إدراجها في قوائم المؤسسات المتورطة في غسيل الأموال أو في تمويل الإرهاب، ومثل هذه العواقب من الصعب أن تتعايش معها مؤسسات قطاع المصارف والبنوك داخل اليمن. ومن ناحيتها، من المتوقع أن تُمارس جماعة الحوثي ضغوطاً كبيرةً على تلك المؤسسات والمصارف التي تُبدي التزامها بقرار الحكومة المعترف بها، وقد يشمل ذلك التهديد بمصادرة أصولها في حال قررت نقل مراكزها الرئيسة من صنعاء. ومع أن خطوة كهذه (انتقال المراكز الرئيسة للمصارف والبنوك إلى عدن) لن تُعطِّل، عملياً، قدرة المصارف على مواصلة نشاطها في مناطق سيطرة الحوثيين، إلا أنها ستؤثر في قدرة هؤلاء على إدارة النشاطات المالية والمصرفية داخل مناطقهم وستُعزز تلقائياً المركز القانوني للحكومة والبنك المركزي في عدن، وتزيد من قدرتهما على التدقيق في عمليات الحوثيين المالية ونشاطهم الاقتصادي الخاص.

 

وتبعاً لذلك، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة لمآلات الأزمة الراهنة:

 

السيناريو الأول: تصاعد الأزمة واحتدامها. وينبني هذا السيناريو على فرضية تمسُّك جماعة الحوثي بموقفها، ومضيها في إصدار فئات نقدية أو عملات معدنية جديدة لاستبدال نسبة أكبر من الطبعات القديمة المتداولة في مناطق سيطرتها، ومضي الحكومة قدماً، في المقابل، في جهودها للتصدي لهذا التوجه، من خلال تفعيل صلاحيات البنك المركزي في عدن التي تخوله بإدارة قطاع المصارف والبنوك، وممارسة الرقابة على العمليات المالية بين اليمن والعالم. وضمن هذا السيناريو قد تلجأ جماعة الحوثي، تحت وطأة مخاوفها من تبعات تجاوب البنوك والمصارف مع قرارات البنك المركزي في عدن، إلى ممارسة الضغط الميداني على خصومها، عبر زيادة تصعيدها العسكري الذي يستهدف مناطق سيطرة الحكومة والمصالح الحيوية فيها، من أجل إجبار الحكومة وداعميها على الرضوخ لمطالبها، أو على الأقل دفعها لتقديم بعض التنازلات للوصول إلى تسوية ما للأزمة القائمة.

 

السيناريو الثاني: التهدئة واحتواء التصعيد. وينبني هذا السيناريو على إمكانية دخول وساطة محلية أو خارجية على خط الأزمة، والتوصُّل إلى تسوية آنية بين الحوثيين والحكومة المعترف بها دولياً، بضمانات إقليمية ودولية، تقوم، مثلاً، على وقف أي توجه للبنك المركزي في صنعاء لإصدار عملات نقدية جديدة مستقبلاً، مقابل تراجع البنك المركزي في عدن عن قراره بنقل المراكز الرئيسة للبنوك والمصارف من صنعاء إلى عدن.

 

السيناريو الثالث: موافقة الحوثيين على سحب العملة المعدنية الجديدة من سوق التداول. وينبني هذا السيناريو على فرضية أن الضغوط الكبيرة والمتوالية على جماعة الحوثي، داخلياً وخارجياً، قد تُجبرها في نهاية المطاف على سحب العملة المعدنية الجديدة من فئة الـ 100 من السوق، ووقف تداولها بشكل كامل، في مقابل تراجُع البنك المركزي في عدن عن قراره بنقل المراكز الرئيسة للمصارف، وتلافي الطرفين من ثمّ أي التبعات الأخرى الأوسع نطاقاً التي قد تنتج عن هذه الأزمة، بما فيها التبعات السياسية والعسكرية التي تُعقِّد جهود التسوية النهائية بين الأطراف، برعاية سعودية وأممية.

 

وبموازنة السيناريوهات الثلاثة، يبدو السيناريو الأول (تصاعد الأزمة) مُستبعداً بسبب قوة موقف الحكومة والبنك المركزي في عدن بفضل الدعم الدولي الذي حصلا عليه، وينسحب الأمر ذاته على السيناريو الثالث (موافقة الحوثيين على سحب العملة المعدنية الجديدة)، نظراً لعدم وجود أي مؤشرات أو شواهد سابقة تنبئ بإمكانية قبول هؤلاء بتقديم تنازلات من هذا النوع، والظهور تالياً بمظهر الضعيف في مواجهة خصومهم. وعليه، فإن سيناريو التهدئة واحتواء التصعيد، بضمانات إقليمية ودولية، تبدو فرصه أكثر رجحاناً، لاسيما أن الحكومة والبنك المركزي في عدن يُبديان حرصهما على تجنُّب التبعات الممكنة لتفاقُم الأزمة، كما أن هذه الصيغة قد تكون مناسبة لأولويات جماعة الحوثي في هذه المرحلة.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/tabieat-isdar-alhuthiiyn-umla-madinia-jadida-walsiynariuhat-almuhtamala

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M