العربية في ألمانيا…أتتحرّر من “الإخوانية”؟

تبدو مسألة تعليم اللغة العربية لأبناء الجاليات العربية المقيمة في ألمانيا وأطفالها، ضعيفة الحضور في الحياة العامة والتربوية الألمانية، منذ نهاية خمسينات القرن العشرين حتى اليوم. لكن موجة اللجوء السورية الضخمة التي حطت رحالها في ألمانيا، حرّكت المسألة الراكدة والملتبسة بتعليم الدين الإسلامي، ونشّطتها، لكن في سعي لإدراجها في أطار منفصل عنه. قبل الموجة السورية كانت الجاليات العربية في ألمانيا مصرية ومغربية وفلسطينية وعراقية ولبنانية. لكنها كانت صغيرة أو ضئيلة الأعداد ومشتتة، مقارنة بالجالية التركية الأقدم زمنا في وفادتها، والقوية والكثيفة الحضور في البلاد الألمانية: يتجاوز عديدها 3 ملايين نسمة اليوم، وبدأ حلولها في ألمانيا في خمسينات القرن العشرين، بناء على عقود عمل موقتة. أما جالية اللجوء السورية والهجرة قبلها، فيبلغ عددها نحو مليون ونصف المليون نسمة.

العربية والإسلام التركي

طغت على تعلّم وتعليم العربية في ألمانيا، بل ابتلعتهما مسألة/ معضلة أكبر منهما بكثير، وأرّقت وتؤرق الحكومة والمجتمع الألمانيين: حضور الدين الإسلامي والتربية الإسلامية في المساجد والجمعيات التابعة لها، وفي مدارس خاصة تدمج تعليم الدين بالعلم. وبما أن الجالية التركية تتصدّر المشهد الإسلامي في ألمانيا، لأنها أقدم عهدا بكثير من السورية الحديثة زمنا، وأقوى حضورا وتماسكا من سائر مثيلاتها العربيات، انشغلت ألمانيا بالإسلام التركي. وهذا منذ مطلع الألفية الثالثة، بل منذ التسعينات، حتى اليوم، وبعدما كان إسلام الأتراك المهاجرين في سائر دول أوروبا إسلاما تقليديا خافتا أو ذاويا خلف صلابة القومية التركية الكمالية. لكنه استفاق وصار حيا، وسياسيا فاعلا، منذ تصاعد قوة “حزب العدالة والتنمية” الإخواني التركي، وخروجه خروجا سلسا عن الكمالية العلمانية المتشددة، وصوغه القومية التركية صوغا جديدا، جعلها قومية تركية إسلامية، أثناء صعوده إلى سدة السلطة والحكم في تركيا التي صارت أردوغانية، بعدما كانت كمالية.

في الأثناء، أي منذ العام 2000 حتى اليوم، صارت الجالية التركية في ألمانيا إسلامية قومية، ومرتبطة عضويا بقيادة وسياسات “حزب العدالة والتنمية”. وهذا ما يؤرق الحكومة والمجتمع الألمانيين من الإسلام عامة، والتركي منه على وجه الخصوص، ليس لأنه إسلام ديني واجتماعي وثقافي، بل لأنه سياسي ومرتبط بدولة خارجية ترعاه وتديره وتوجهه سياسيا في ألمانيا، ولو على نحو مسالم بلا عنف.

 

تحت عنوان تنظيم شؤون الإسلام، وضعت حكومات الولايات الألمانية، برامج شعارها “إمام صنع في ألمانيا”

 

 

أما الإسلام العربي اللسان واللغة والثقافة، قبل الموجة السورية الضخمة، فكان إسلاما مصريا إخوانيا، ويخالطه إسلام مغربي، وتعود بداياته إلى أواخر الخمسينات، حينما شن النظام المصري الناصري حملته العنيفة على جماعة الإخوان المسلمين، فهاجر شطر منهم أو فرَّ إلى أوروبا، حيث أسسوا خلايا تنظيم الإخوان الدولي بين ألمانيا والنمسا وبريطانيا. وفي ألمانيا اختلط إسلاميون مغاربة بالإخوان المصريين، الذين اختلطوا لاحقا بالإسلام الإخواني التركي، القوي والواسع.

إمام صُنع في ألمانيا

نورد هذه الخريطة السريعة والجزئية للإسلام في ألمانيا، مقدمة ضرورية لعرض حال المهاجرين العرب هناك مع لغتهم الأم العربية. وهذا للإشارة إلى أن مسألة الإسلام، بوصفه دين عقيدة اجتماعية – سياسية، هي التي تصدرت التعريف بالهجرة والمهاجرين المسلمين، فوق تعدد أقوامهم ولغاتهم. وكذلك بمشكلاتها (الهجرة) ومشكلاتهم، مما أدى إلى إزاحة مسألة لغاتهم وعلاقتهم بلغاتهم الأم إلى الهامش. لكن اتساع حضور الإسلام التركي وقدرته على التنظيم، حمل ألمانيا على إدراج اللغة التركية، شأن الروسية، في برامج تعليم مدارسها الرسمية، من دون أن تدرج اللغة العربية في تلك البرامج، بسبب قلة أعداد الجاليات العربية وقدرتها على التنظيم وتفرقها، قبل موجة اللجوء السوري الكبيرة.

أما الدستور الألماني الاتحادي فيكفل، في ألمانيا الفيديرالية كلها، مبدأ حرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية كافة وللجميع. لكن الإسلام التركي الضخم والقوي اجتماعيا، الذي باشرت جمعياته ومنظماته ومؤسساته الناشطة بناء مساجد في مدن ومقاطعات ألمانية كثيرة، وحولتها مقارّ لدروس دينية ونشاط دعوي إسلامي، حمل الحكومة الألمانية على التدخل في تلك الأنشطة المساجدية لتنظيمها، والحد من فوضاها.

Aliaa Abou Khaddour Aliaa Abou Khaddour

كانت تلك الأنشطة قد بدأت في العام 1984، ونجم عنها تأسيس “الاتحاد الإسلامي للشؤون الدينية” التركي، المعروف بـ”ديتيب” اختصارا. وقد جاءت ولادته في مدينة كولن بمقاطعة وستفاليا شمال الراين، كبرى المقاطعات الألمانية وأكثرها سكانا – 15 مليون نسمة من أصل 82 مليون نسمة، إجمالي سكان ألمانيا – وأعداد مهاجرين. وسرعان ما كبر “الاتحاد الإسلامي” وتوسع نشاطه، فصار يضم 930 جمعية ويدير 900 مسجد في الولايات الألمانية الـ 16. حدث ذلك بعد العام 2000، بتمويل من تركيا “حزب العدالة والتنمية”، وبأئمة مساجد درّبهم وموّلهم الحزب إياه. فالاتحاد يتبع مباشرة هيئة الشؤون الدينية (ديانت) في تركيا. ويقول ألمان كثيرون عارفون إنه تابع مباشرة للرئيس رجب طيب أردوغان.

وتضاعف بين العامين 2000 و2015 بناء المساجد، صغيرها (نحو 3 آلاف مسجد) وكبيرها (230 مسجدا) في البلاد الألمانية. وسرعان ما تنبهت السلطات الألمانية إلى فوضى كبيرة تلابس إدارة هذه المساجد، إذ خلّف “الاتحاد” الجامع هيئات وجمعيات متنافسة ومتضاربة التوجهات والمذاهب الدينية، في تدريسها القرآن والشريعة والتربية الإسلاميتين، باللغة التركية غالبا، وليس بالألمانية، وعلى نحو محدود بالعربية، حسب حضور بعض أبناء جالياتها ومساهمتهم في نشاط المساجد. لكن هذا غالبا ما ينطوي على منافسة ومنازعات، لأن القيمين على شؤون التعليم تلك، إلى جانب أئمة المساجد، يتحدّرون من أصول تركية في معظمهم.

تحت عنوان تنظيم شؤون الإسلام، وضعت حكومات الولايات الألمانية، برامج شعارها “إمام صُنع في ألمانيا”، وغايتها إعداد أئمة مساجد بمناهج مدروسة تضعها هيئاتها التربوية، لتدريس التربية الإسلامية في المدارس الألمانية الرسمية، بمراحلها كافة وباللغة الألمانية. وذلك كي لا تترك الأمر للفوضى والنزاعات الدائرة بين الجمعيات الإسلامية على إدارة المساجد. هكذا صارت حكومات الولايات تشرف مباشرة على إعداد أئمة المساجد، ثقافيا ومهنيا، كما على برامج تدريس التربية الإسلامية.

عربية المنزل والمدارس الخاصة

خلف هذا المشهد الإسلامي الطاغي على أوضاع الجاليات المهاجرة في ألمانيا قبل موجة الهجرة السورية الكبيرة، اختفت مسألة تعليم أبناء المهاجرين العرب لغتهم الأم. أما السوريون فقد انهمكوا، في السنوات الأولى من حلولهم في ألمانيا، بتدبير شؤون حياتهم الجديدة: تعلّم اللغة الألمانية، والانخراط في دورات تدريب مهني. وهما تستغرقان بين سنوات ثلاث وأربع، والشرط الضروري لحصولهم على إقامة دائمة والدخول إلى سوق العمل. ومن لديهم أطفال منهم، سجلوهم في المدارس الألمانية الرسمية التي كانت قد بدأت تدرّس التربية الإسلامية باللغة الألمانية، حصة واحدة في الأسبوع لمن يرغب ويشاء من تلامذتها المسلمين.

تشير الإحصاءات الألمانية إلى أن غالبية اللاجئين السوريين من الشباب. ومتوسط أعمارهم 24 سنة. 70 في المئة منهم ذكور. ونسبة العازبين 58 في المئة. المتزوجون نسبتهم 31 في المئة. معظمهم حصل على تعليم ثانوي (71 في المئة). 44 في المئة منهم يتحدثون الإنكليزية بإتقان. وبعد سنوات قليلة بلغت نسبة المتحدثين بالألمانية بينهم، 56 في المئة. و80 في المئة منهم يعتزمون البقاء الدائم في ألمانيا.

 

لا يجد العرب في ألمانيا سبيلا لتعليم أولادهم العربية سوى المساجد ومراكز الجمعيات الإسلامية

 

 

تبين هذه الأرقام أن الجالية السورية في ألمانيا معظمها من المتعلمين الجاهزين للانخراط في المجتمع الجديد والاندراج في سوق العمل. الكاتبة السورية رشا عباس التي التقتها “المجلة” في برلين حيث تقيم، قالت إن كثرة من الكتاب والمثقفين السوريين عزفوا عن تعلم الألمانية، لأنهم يجيدون الإنكليزية التي تعتبر لغة ثانية وأساسية في ألمانيا، وتمكنهم من التواصل والعمل في الدوائر والأوساط التي يحتكون بها. أما مسألة تعليمهم أطفالهم لغتهم الأم، فقد تأخر بروزها في أوساطهم إلى ما بعد إنجازهم شكلا من أشكال الاستقرار، وتنبُّههم إلى أن المدارس الرسمية الألمانية لا تدرج تعليم اللغة العربية في برامجها التربوية، أسوة بالتركية والروسية مثلا. لذا بدأوا، كسواهم من المهاجرين السابقين، البحث عن طرق ووسائل لتعليمهم العربية، فلم يجدوا لذلك مكانا – غير المنزل الذي يعتمدون فيه على أنفسهم – إلا المساجد ومراكز الجمعيات الإسلامية.

شاب سوري متزوج من ألمانية من أصل فلسطيني في برلين، ولديهما طفل في السابعة من عمره، قال إنه فتش عن مدرسة خاصة لتعليم طفله العربية، بعدما اكتشف ارتباط تعليمها في المساجد ومراكز الجمعيات، بالدين الإسلامي وقراءة القرآن. وحين تعرف إلى امرأة سورية سبقته في الهجرة وأنشأت مدرسة خاصة في الحي الذي تقيم فيه ببرلين، وجد أن المدرسة غرفة واحدة يتعلم فيها 5-4 أطفال ساعة أو اثنتين في عطلة نهاية الأسبوع. وبعد تردد ابن الشاب السوري مرات على تلك المدرسة – الغرفة، قال لوالديه إنه غير راغب في تعلم العربية. لذا اتفق الزوجان على أن يكون المنزل مكان تعلّم طفلهما لغة والديه الأم: والده يكلمه بالعربية، وأمه بالألمانية. وهكذا أخذ الابن الصغير يتكلم عربية مكسرة، ولا يرتاح أثناء نطقه كلماتها، فيما يستدرجه والده إلى الكلام بها.

مدارس الدين والعربية

روى مدرّس لغة عربية في مدرسة خاصة ببرلين، وهو مغربي الأصل، أن المدرسة احتفلت في 21 فبراير/شباط 2023 بــ “اليوم العالمي للغة الأم“. فدعت أهالي تلامذتها وسواهم من معارفهم إلى المشاركة في الاحتفال. المدرسة قديمة نسبيا، ويعود إنشاؤها إلى العام 2005، تجاوبا مع تزايد طلب الجاليات العربية البرلينية على تعليم أولادهم لغتهم الأم، خوفا عليهم من أن يكبروا ويغتربوا عنها تماما، بعدما دارت على ألسنتهم في حياتهم البيتية. لكن المدرس المغربي الأصل – وهو رئيس نادٍ لدعم اللغة العربية – علّل ذلك الخوف بـ”حنين الأهل إلى بلدانهم الأولى، وإلى ذكرياتهم فيها”. أما هو، المدرس، فيرى أن تعلّم العربية غايته “الترابط الأسري والعائلي، وحفظ القرآن، وممارسة الشعائر الدينية”، معتبرا أن “العربية والإسلام واحد لا تنفصم عراه”. ولدى سؤالنا إياه عن الكتب المدرسية العربية المعتمدة في المدرسة، قال إنها أُعدّت وطُبعت في فرنسا.

المدرسة هذه واحدة من مثيلاتها في مدن ألمانية عدة. وهي تعلم التلامذة العربية في عطل نهاية الأسبوع. ومعظمها نشأ بسبب غياب تدريس العربية في المدارس الرسمية الألمانية. وكثرة منها تسمى “مدرسة النور”، وتتبع مساجد بالاسم نفسه. وهي غالبا ما تخصص ساعة لتدريس العربية، وساعتين لمبادئ الدين الإسلامي. والأهل يُحضِرون أطفالهم إلى المدرسة، فيتعارفون ويتحادثون على الرصيف قربها، أو في مقهى قريب، منتظرين انصراف أطفالهم منها.

رجل من منتظري أولادهم في المقهى، قال إن اليمين المتطرف الألماني (أي حزب البديل من أجل ألمانيا) يلتقي مع الإسلاميين في إدانة تدخين “الشيشة”، أي النرجيلة. وقال أيضا إنه يكتفي بتعليم ابنه دروس اللغة العربية فقط في المدرسة القريبة من المسجد، عازفا عن حضوره حصة التربية الدينية وحفظ القرآن. وهو أضاف أنه ينتظر أن تقرر الحكومة الاتحادية الألمانية إدراج تعليم العربية في المدارس الرسمية، كي يقلع عن اصطحاب ابنه إلى مدرسة النور هذه. ذلك أنه قرأ في صحف ألمانية مقالات تدعو إلى ضرورة تعليم العربية في المدارس الرسمية. وهذا علما أن قطاع التعليم الألماني ليس مركزيا في إدارته، ولا من اختصاص الحكومة الفيديرالية وحدها، بل هو من اختصاص كل ولاية على حدة.

مبادرات عربية وألمانية

“تدريس اللغة الأم للمهاجرين يساعد في اندماجهم”، يقرُّ عدد من باحثين في ألمانيا. لكن هذا الرأي يتحفّظ عنه رأي آخر ألماني أيضا: “وحدها الألمانية لغة الاندماج”. ومفهوم الاندماج غالبا ما ينتقده باحثون يرون أن تعدد الثقافات وأنماط العيش واللغات من ضرورات الديمقراطية، ومناهضة التيارات اليمينية المتطرفة المعادية للتنوع والأجانب، وللهجرة والمهاجرين.

مترجمة سورية مقيمة في مدينة أخن، وناشطة في حملة لتعليم أطفال مهاجرين ولاجئين سوريين اللغة العربية، تمهيدا لتأسيس مدرسة خاصة لهذه الغاية، أشارت إلى أن السنوات العشر التي مضت على موجة لجوء السوريين الكبيرة، نبهتهم إلى ضرورة البحث عن سبل لتعليم أطفالهم لغتهم الأم. وتحت عنوان أو شعار “المدرسة بديلا للمسجد” ظهرت في أوساط مهاجرين يقولون إنهم علمانيون، مبادرات عدة يشارك فيها معارفهم من الألمان. وتدعو هذه المبادرات إلى إدراج تعليم العربية في المدارس الألمانية الرسمية، وتعمل في سبيله.

وتحدثت الناشطة والمترجمة السورية عن صديقة لها تونسية في مدينة أسن، أطلقت منصة إلكترونية لتعليم العربية والثقافة الإسلامية على نحوٍ مختلف عن أساليب ومضامين إسلام المساجد. المنصة تمهيد لتأسيس نادٍ ثقافي، من نشاطاته تعليم العربية للأطفال. لكن مثل هذه المبادرات لا تُغني قط عن العمل على دعوة الإدارة التربوية الألمانية إلى إدراج تعليم العربية في المدارس الرسمية، حسب الناشطة السورية.

في مقالة صحافية في القسم العربي لوكالة الأنباء الألمانية “دوتشيفيلة” (D.W) ورد أن “اللغة العربية خرجت من معاهد الإسلاميات الأكاديمية، إلى الشوارع والحياة اليومية في ألمانيا، وصار لها بعض الحضور في سوق العمل”. فبعد برامج لغة الاندماج (الألمانية) ودورات معاهد التعليم المهني للمهاجرين، يجب أن يبدأ التفكير بوضع برامج ومناهج لتعليم اللغة العربية في المدارس الألمانية الرسمية. وهذا بعدما تعالت أصوات فئات واسعة من مهاجرين ولاجئين أصولهم عربية وسورية خصوصا وحازوا الجنسية الألمانية، تطالب بأن يتعلم أطفالهم لغتهم الأم، أسوة بسواهم من أبناء الجاليتين الروسية والتركية، وربما اللاجئين الأوكران الذين استقبلتهم ألمانيا بأعداد كبيرة.

وعدّدت المقالة المبادرات الألمانية التي استجابت عمليا بعض حاجات الجاليات العربية:

•          ترجمة الدستور الألماني إلى العربية، وتوزيعه على نطاق واسع في مراكز اللجوء والبلديات ومراكز الخدمات الاجتماعية.

•          إصدار بعض الصحف الألمانية طبعات خاصة جزئية باللغة العربية.

•          تخصيص برنامج تلفزيوني أسبوعي ناطق بالعربية في عنوان “مرحبا بكم في ألمانيا”، وغايته تعريف المهاجرين واللاجئين بألمانيا ومجتمعها وقوانينها. وأثار هذا البرنامج جدالا في أوساط ألمانية. فالبعض احتج عليه قائلا: “قد نشاهد غدا في التلفزيون الألماني إمام مسجد يتلو القرآن ويرفع الأذان للصلاة!”. لكن هذا الاحتجاج جابهته أوساط ألمانية أخرى بالقول إن ألمانيا بلد تعددي منفتح ومستقبل للثقافات واللغات التي تثريه.

•          ومن المبادرات الألمانية التي تعتمد العربية في التواصل، تخصيص إدارة الهجرة واللجوء في الولايات الألمانية خطا هاتفيا ساخنا يستقبل اتصالات غايتها استشارات واستفسارات وإرشادات عائلية من اللاجئين والمهاجرين على مدار 24 ساعة. ويتلقى هذه الاتصالات مرشدون اجتماعيون يجيدون العربية، ومؤهلون في القانون والتربية العائلية.

لا فصل بين العربية والإسلام

لكن في المقابل، أثار وضع لافتة باسم أحد الشوارع بالعربية في مدينة دوسلدورف، عاصمة ولاية وستفاليا الإدارية، تحفّظا في المدينة. وقام نقاش بين المحافظين الذين تحدثوا عن “تعريب ألمانيا”، وسواهم من التيارات المرحبة بالهجرة واللجوء والتعدد الثقافي واللغوي. وغالبا ما تثير المسائل المتعلقة بالإسلام والمسلمين، ومن ضمنها اللغة العربية، نقاشا وانقساما واسعين في ألمانيا. وهذا ما حدث قبل سنوات في مدينة كارلسروه، ثاني أكبر مدينة في مقاطعة بادن بعد شتوتغارت، وعدد سكانها 313 ألف نسمة، وتعدّ مدينة جامعية، ووفدت إليها العمالة التركية منذ ستينات القرن العشرين. وفي العام 1988 توسع فيها نشاط جمعيات إسلامية أنشأت مسجدا سُمي مسجد النور.

 

تحت عنوان أو شعار “المدرسة بديلا للمسجد” ظهرت في أوساط مهاجرين مبادرات عدة تدعو إلى إدراج تعليم العربية في المدارس الألمانية

 

 

وروى لبناني تخرّج في جامعة المدينة، ويعمل اليوم في مدينة كولن حيث التقته “المجلة”، أن مهاجرين مصريين وسودانيين ومغاربة تعاونوا مع أتراك على إنشاء الجمعيات والمسجد الذي راح منشئوه يسمونه “جامعة إسلامية” لتدريس القرآن والفقه، إلى جانب اللغتين التركية والعربية. وبلغ عدد طلاب المسجد في عطل نهاية الأسبوع نحو 500 من أعمار مختلفة، بينهم فتيات محجبات. وسرعان ما نشأت خلافات بين الأتراك والعرب القيمين على المسجد الذي يصلي فيه أيام الجُمَع ما يزيد على 3 آلاف شخص. وأضاف الراوي اللبناني قائلا: لك أن تتخيّل ماذا يمكن أن يحدث في المدينة في هذه الحال التي ساهمت في حمل حكومة الولاية على الإسراع في إقرار مشروع “إمام صُنع في ألمانيا”، الذي أدى إلى تعليم التربية الإسلامية باللغة الألمانية في مدارس الولاية.

Aliaa Abou Khaddour Aliaa Abou Khaddour

زارت “المجلة” مسجد الرسالة في أحد أحياء برلين. ومن تحدثت إليهم من القيمين عليه والعاملين فيه وفي المركز الإسلامي التابع له، لا يفصلون في كلامهم بين تعليم العربية وتعاليم الإسلام. إمام المسجد قال إن “تعليم العربية والإسلام في بيت الله، ينقذ الفتيان من تلقيهم معرفة مشوّهة بدينهم عن الإنترنت”. امرأة سودانية ثلاثينية، قالت إنها تحضر خطب الجمعة في قاعة النساء في المسجد. نهار السبت تصطحب طفلتها لتلقي درس اللغة العربية والدين فيه. شابة أخرى محجبة، وهي من أصل مصري قالت: “علاقتي باللغة العربية علاقة عشق وحب شبه صوفي لجذوري وهويتي وأصالتي وديني”. وسرعان ما تساءلت قائلة:  “كيف لي أن أرتاح، فيما أبناء العروبة والإسلام يتكلمون الأعجمية، ويحلمون بلغة لاتينية؟”.

في اتصال هاتفي بإمام وخطيب مسجد مدينة كيل – وهو اشترط إغفال اسمه للإدلاء بشهادته عن عمله في المسجد وفي المركز الإسلامي التابع له – قال إن المركز تأسس في نهاية التسعينات، ويدرّس العربية والتربية الإسلامية بمبادرة من جمعية مهاجرين مغاربة ومصريين، سبقهم مهاجرون أتراك في إنشاء المسجد، وسمحوا لهم  لاحقا بتدريس العربية في المركز إلى جانب تعاليم الإسلام.

وحسب إمام المسجد أن “دعوات مجابهة الإسلام والمسلمين تتزايد في ألمانيا”. وهو علّل ذلك بـ “انتشار الإسلام بين الألمان أنفسهم، وبتزايد عدد المساجد التي يفوق عدد زوارها زوار الكنائس الخاوية. وهذا ما ولّد خوفا لدى الألمان على النصرانية”. لكن المفاجأة الكبرى في كلام الإمام جاءت في حديثه عن دراسة ألمانية قال إنه قرأها، وتفيد بأن نحو ألفي شخص ألماني يعتنقون الإسلام سنويا. وهو علّل ذلك بافتتانهم بشعائر الإسلام في الأعياد وصيام رمضان وفي الإفطارات الرمضانية.

تأويل ليبيرالي للدين

في مقابلة صحافية مع الباحثة الألمانية غوردون كريمر، وقد نشرها موقع وكالة “دوتشيفيلة” الألمانية، تحدثت كريمر عن الأهداف والغايات التي انطوى عليها تنفيذ مشروع “إمام صُنع في ألمانيا” الذي يهدف إلى الحدّ من فوضى التعليم الديني في المساجد، بتخريج أئمة يحملون شهادات من معاهد ألمانية عليا تستغرق الدراسة فيها سنتين وفق مناهج عقلانية، وتنتهي بتولّي المتخرجين تدريس التربية الإسلامية باللغة الألمانية في المدارس الرسمية، بإشراف هيئات تربوية وأكاديمية متخصصة.

من الأفكار التي عرضتها كريمر، حاجة المسلمين إلى “تأويل ليبيرالي للدين الإسلامي” ليتمكنوا من تحديد علاقتهم “بالمقولات الواردة في القرآن والسنّة النبوية”. والإقرار بأن القرآن هو كلام الله المنزّل، ولا يمكن تغييره، يجب ألّا يجعل منه “كتاب تعليمات في القانون المدني الدنيوي”. ثم إن على المسلمين اعتبار الإسلام دينا للسلام، بدل المطالبة بالجهاد والحض عليه. وفي إشارة مزدوجة منها حول مشكلة الرسوم الكاريكاتورية الذائعة المسيئة للإسلام والمسلمين، ذكرت أن على المسلمين في مجتمع تعددي أن “يجدوا للإسلام مدخلا يسمح بالشك والسؤال”. لكنها سرعان ما أضافت: “إذا كان لا يتبادر إلى ذهن أحد في ألمانيا أن يتهكم على اليهود أو على المحرقة اليهودية، فيجب اعتماد رهافة وحكمة مماثلة حيال المسلمين”. وهي تساءلت في هذا السياق: “لماذا ولأي غرض يُقال إن على المسلمين تحمّل السخرية في المواضع التي تؤلمهم؟ وهذا في حال كنت أريد كسبهم ودفعهم إلى مراجعة دينهم وتراثهم. لذا ليس من المجدي قط أن استهدف مواضع الألم في وجدانهم مرارا”.

 

لا يفصل رجال الدين في المساجد بين تعليم العربية وتعاليم الإسلام

 

 

أحد الباحثين من معدّي الكتب المدرسية للتربية الإسلامية، يشرح في المقدمة الأساسية للكتاب التعريفي بمناهج هذه الكتب، مشيرا إلى أنها تعرض القضايا الأساسية في الإسلام، ومنها مفهوم الله والنبي والنبوة، هيكل القرآن الكريم، المسؤولية الاجتماعية، حقوق الإنسان والأطفال. ويذكر أن الهدف من تعليم الدين الإسلامي هو “تكوين نظرة إليه، نقدية وبنّاءة. وتقديم فرصة للطلاب للتفكير في دينهم في سياق الحياة والمجتمع الذي يعيشون فيه. وتزويدهم القدرة على فهم الأحكام الدينية وتقييمها”.

وعن المنهاج المتّبع في تدريس التربية الإسلامية، قال الباحث إنه “تجريبي، ويشجع الطلاب على إقامة مسافة من الفهم الحر والمستقل للدين”، مشددا على ضرورة امتلاك المسلمين حق تعليم أبنائهم تعاليم دينهم بإشراف مؤسسات الدولة، كسواهم من أبناء الديانات الأخرى.

العربية في المدارس الرسمية

وكما أدت تراكمات دامت عقودا من فوضى تعليم الدين واللغة العربية في المساجد ومراكز الجمعيات الإسلامية، إلى إقرار تعليم التربية الإسلامية في المدارس الرسمية الألمانية والشروع فيه، يبدو أن الشروع في إدراج تعليم اللغة العربية في المدارس إياها يسير بخطى سريعة في ألمانيا، وإن على نحو متفاوت على مستوى الولايات. فوزير التربية في حكومة ولاية وستفاليا، نوّه قبل أكثر من سنة بالمبادرات التي تدعو إلى إقرار المشروع “المفيد” في تخليص فوضى تعليم العربية مندمجة بتعاليم الدين الإسلامي في المساجد.

بعض المدارس الرسمية في مدن ألمانية عدة، بادرت فعلا إلى الاستعانة بمدرسي لغة عربية كانوا يدرّسونها في نوادٍ أو مدارس خاصة، فوظفتهم مدرسين فيها. والمدارس هذه استفادت من خبرات هؤلاء، وتعاقدت معهم بعد إجراء دورات تدريبية على المنهاج المدرسي العام. وهذا ما حصل في مدينة مونستر، على سبيل المثل. وفي ولاية سارلاند، تدرس الحكومة منذ العام 2019 خيار تعليم العربية في مدارسها الرسمية، بعدما تزايد عدد اللاجئين فيها، وحاجة 7500 تلميذ إلى تعلّمها.

المترجمة السورية والناشطة في تدريس العربية، التي التقتها “المجلة” في برلين، قالت: “ليس من السهل أن تصبح مدرّسا. صحيح أن عدد المدارس الرسمية التي تدرّس العربية يزداد باضطراد، لكن المسار لا يزال في بدايته. الحكومة الفيديرالية تدرس الأمر، وتقوم ببعض الاختبارات قبل أن تُقدم على تعميم التجربة”.

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/313471/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A7%D8%A3%D8%AA%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%91%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9%D8%9F

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M