العودة إلى الواجهة: مؤشرات قيام دولة داعشية في الساحل الأفريقي ومخاطره

مع تصاعُد موجة العمليات الإرهابية في مالي وبوركينا فاسو، ووصول التهديدات الأمنية إلى دول خليج غينيا ووسط أفريقيا، برزت مؤشرات عديدة على وجود «صفقة» بين الحكومة العسكرية في مالي وتنظيم «الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى» قد ينتج عنها إنشاء إمارة داعشية في شمال شرقي مالي على الحدود المشتركة مع بوركينا فاسو والنيجر.

 

الموجة الجديدة من العمليات المسلحة في الساحل

تصاعدت موجة العمليات المسلحة في منطقة الساحل الأفريقي، واستهدفت على الخصوص منذ نهاية شهر يونيو وبداية شهر يوليو دولة بوركينا فاسو. وبحسب تقرير مؤشرات الإرهاب لعام 2023 الصادر عن “معهد الاقتصاد والسلام” في أستراليا، تزايد عدد ضحايا التطرف المسلح في الساحل خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة بنسبة 2000 بالمئة، وتصدرت دولة بوركينا فاسو كل بلدان أفريقيا من حيث عدد الضحايا (وهي الدولة الثانية عالمياً من هذا المنظور بعد أفغانستان). وفي حين قُدِّر عدد ضحايا الإرهاب في الساحل ما بين 2007 و2022 بنحو 22,074 قتيلاً، بلغ عدد مواطني بوركينا فاسو من بين هؤلاء الضحايا 8,564. وقد تركزت العمليات الأخيرة في شمال وغرب بوركينا فاسو، وكان آخرها الهجوم المتزامن الذي وقع في بداية شهر يوليو الجاري على قرية كوغسابلوغو في المنطقة الوسطى الشمالية، ومدينة فوو في الغرب، وزاد عدد القتلى على عشرين فرداً في هذه الهجمات، في حين أُحرَقَت الأسواق والبيوت، وهُجِّرَ السكان، ودُمِّرَت آلاف العربات والدراجات. وفي 26 و27 يونيو الماضي، جرت عمليات مماثلة في قرية تيا في الغرب، وفي منطقة نواكا في الوسط الشمالي، وذهب ضحيتها 75 قتيلاً، من بينهم 39 عسكرياً، و36 متطوعاً من المدنيين المسلحين.

 

وبالإضافة إلى استمرار العمليات الإرهابية في مالي والنيجر، بدأ الخطر يتمدد إلى الدول الأطلسية، مثل بنين وتوغو وكوت ديفوار (ساحل العاج). فقد تعرَّض غرب بنين لاعتداءات متكررة من “الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى” (التابعة لتنظيم داعش)، كما تعرَّض شرقها لهجوم مماثل من “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” (التابعة لتنظيم القاعدة). وتعرَّض شمال توغو لعمليات مماثلة أدت إلى حركة تهجير واسعة من بين السكان، بينما سُجِّل نشاط مماثل للجماعات الراديكالية في أوساط اللاجئين من بوركينا فاسو في كوت ديفوار.

 

وقد جرت هذه التحولات في سياق انسحاب القوات الفرنسية الموجودة في شمال مالي منذ عام 2013، والتي كانت تسيطر بالكامل على المواقع الحيوية في الشمال، إلا أن الحكومة العسكرية الجديدة في باماكو قررت إنهاء مهامها بذريعة إخفاقها في مواجهة الجماعات الإرهابية، والذي تم نهائياً في أغسطس 2022. وجرى الأمر نفسه في بوركينا فاسو التي أنهت حكومتها العسكرية تعاونها في محاربة الإرهاب مع فرنسا في فبراير 2023. وإذا كانت الحكومة المالية قد استبدلت القوات الفرنسية بوحدات “فاغنر” الروسية في مواجهة الجماعات الراديكالية، فإن حكومة بوركينا فاسو تسعى إلى الخطوة ذاتها، وإن كانت استراتيجية الشراكة مع المجموعة الروسية مازالت غير واضحة المعالم.

 

وفي الاتجاه نفسه، يندرج قرار الحكومة المالية إنهاء مهمات بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام (مينوسما) الموجودة في شمال مالي منذ 2013، بعد صدور تقرير عن البعثة يتهم الجيش المالي بالضلوع في جرائم ضد الإنسانية وانتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان. ومن شأن هذا الانسحاب أن يولد معادلة أمنية واستراتيجية جديدة في مالي، من سماتها الأساسية انحسار الوجود الغربي نهائياً في المنطقة، في الوقت الذي ظهرت بعض المؤشرات على فشل استراتيجية الاستعانة بقوات “فاغنر” في تأمين المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة، بما يفسر المحاولة الأخيرة للتوافق التكتيكي مع مجموعة “داعش”.

 

دلالات إفراج سلطات مالي عن القيادات الداعشية 

فاجأت الحكومة العسكرية في مالي العالمَ في الأيام الأخيرة بإطلاق سراح بعض قادة تنظيم “داعش”، في مقدمتهم يوسف ولد شعيب، قائد العمليات العسكرية سابقاً في الشمال، وأمية أغ البكاي وهو القائد العسكري للتنظيم في إقليم غاو، ودادي ولد شوعب وهو قائد معروف من قواد التنظيم، بالإضافة إلى بعض العناصر الأخرى من تنظيم “الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى”. ومن المعروف أن هؤلاء القادة اعتقلوا سابقاً من طرف القوات الفرنسية التي كانت مرابطة في شمال مالي، وهم مسؤولون عن عمليات عنيفة ودموية ذهب ضحيتها آلاف القتلى.

 

ووفق معلومات مُسرَّبة، تندرج خطوات الإفراج عن قادة التنظيم في صفقة كبرى بين الحكومة العسكرية المالية وقيادة التنظيم تسمح بعقد هدنة بين الطرفين، تمكّنهما من القضاء على “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” التي تزايد نشاطها كثيراً في السنوات الأخيرة في المثلث الحدودي المشترك بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، والتي سجلت اختراقا ملحوظاً في شمال نيجيريا.

 

وقد سُجِّل في الأسابيع الأخيرة تزايد وتيرة القتال بين عناصر “داعش” و”النصرة” في مناطق تادنجدجون وفتلي وهرار في مالي على الحدود المشتركة مع بوركينا فاسو، وفي منطقة تيسيت شمال شرقي مالي. وقد عبّرت أوساط في بوركينا فاسو عن خشيتها من أن تكون بلادها ضحية لهذه الصفقة بين مالي و”داعش”، التي سيطرت على مناطق واسعة في شمال شرقي مالي، واستولت على العديد من القرى والأرياف في المنطقة، ويُعتقد أنها ستتخذ من مدينة ميناكا عاصمةً لإمارتها الجديدة في الساحل والصحراء. وفي حال هذه السيطرة ستصبح لجماعة “الدولة الإسلامية” قاعدة ثابتة وصلبة تمكِّنها من التوسُّع إلى مناطق واسعة من بوركينا فاسو وشمال شرقي النيجر.

 

وبحسب المعطيات المتوافرة، يبدو أن الحكومة العسكرية المالية لا تُمانع في التوافق مرحلياً مع قيادة “داعش” من أجل القضاء على الخصوم المشتركين من جماعة “النصرة” والجماعات المسلحة في إقليم أزواد التي وقّعت مع حكومة مالي عام 2015 اتفاقية الجزائر للسلم والمصالحة، التي بقيت معلقة دون تنفيذ. ومن المتوقع أن تسمح الصفقة بعودة الإدارة المالية إلى الشمال، وتوسيع دائرة المشاركة الانتخابية إلى سكان المدن الكبرى في المنطقة، باستثناء إقليم ميناكا.

 

ومع أن بعض التحليلات اعتبرت الصفقة الأخيرة مجرد صفقة تبادل رهائن بين الجيش والمجموعات المسلحة، وفق ترتيب معروف له بعض السوابق، بل إن الحكومة المالية نفت رسمياً وجود الصفقة أصلاً، إلا أن مصادر فرنسية أكدت عملية الإفراج عن قادة تنظيم “داعش” وربطتها بالصراع الدائر مع قوات “النصرة” بسعي حكومة باماكو استعادة مدن الشمال الكبرى، وترك مواقع حيوية لتنظيم داعش مقابل تخليه عن مهاجمة الجيش المالي. ومن المستبعد أن يكون غرض الحكومة المالية من الصفقة دمج الوحدات التي أُطلِق سراحها في النسيج الاجتماعي والسياسي، باعتبار أن القيادات المذكورة من الشخصيات المحورية في التنظيم الداعشي أيديولوجياً ودعوياً، ومن بينها زعامات غير مالية تنحدر من البلدان المجاورة. ووفق المعلومات المتداولة لا يزال التنظيم قوياً في المنطقة، وله ذراعه التنظيمية والدعوية النشطة بما يجعل من احتوائه أمراً صعباً. وقد وضعت السلطات الفرنسية تقريراً بهذا الغرض أمام منظمة الدول الساحلية الخمس.

 

الحالة الداعشية الجديدة في ميناكا

على رغم أن إعلان الإمارة الداعشية الجديدة في ميناكا لم يتم بعد، فإن المعطيات على الأرض تبين أن هذه الإمارة أصبحت حقيقة قائمة فعلاً، وبتواطؤ من حكومة باماكو. وبحسب المعلومات المتاحة، توافد على المنطقة عددٌ من القيادات العسكرية السابقة للتنظيم في العراق وسورية، وأصبحت تتولى تدريب العناصر المقاتلة على تقنيات الحرب وصناعة المتفجرات وإدارة منظومات الاتصال. كما أن التنظيم أصبح له مجاله الإقليمي الواسع الممتد على مناطق متصلة على طول الحدود المشتركة بين الدول الساحلية الثلاث، وهي مناطق غنية بالثروات الطبيعية. ومن الأساليب التي يعتمدها التنظيم إغلاق القرى والمدن الكبرى لقطع صلتها بالحكومات المركزية، في حين يُدير التنظيم اقتصاد التهريب والجريمة المنظمة، ويفرض إتاوات على تجارة المواشي، ويشرف على تجارة السلاح، ويقيم معسكرات كبرى للتجنيد والعمل الدعائي.

 

وبالنظر إلى عجز الحكومات المركزية عن مدّ الخدمات التنموية إلى هذه المناطق البعيدة وغير المستقرة، يسعى التنظيم إلى سد الفراغ من خلال الإشراف على عمليات المساعدة والحماية، بما يعزز حضوره الفعلي في هذه الأقاليم التي خرجت عملياً عن سيطرة الدولة. ومن هنا ندرك أن منطقة الساحل مرشحة لتكون المركز الجديد لدولة “داعش” بعد هزيمة جناحها الشرقي.

 

خلاصة

في الوقت الذي تضاعفت العمليات الإرهابية في منطقة الساحل وتركزت في جبهة بوركينا فاسو، تصاعد الصراع بين تنظيم “داعش” وتنظيم “النصرة” التابع للقاعدة في الإقليم، بينما ظهرت بوادر صفقة غير مسبوقة بين الحكومة العسكرية المالية وتنظيم “الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى”. وفي حين لم يتم الإعلان الرسمي عن الإمارة الداعشية الجديدة في شمال شرقي مالي بعد، إلا أنها أصبحت حقيقة قائمة بالفعل، بما يتطلب موقفاً استباقياً حاسماً لمواجهة هذا الخطر الذي تتجاوز آثاره المستقبلية منطقة الساحل الأفريقي.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/brief/muashirat-qiam-dawla-daeishia-fi-alsahil-alafriqi-wamakhatiruh

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M