زخم ممتد: آفاق العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا

بسنت جمال

 

في خطوة متوقعة منذ نوفمبر 2022، أعلنت كلٌ من مصر وتركيا يوم الثلاثاء 4 يوليو 2023 رفع مستوى علاقاتهما الدبلوماسية إلى مستوى السفراء بهدف المضي قدمًا نحو تدشين علاقات طبيعية بين البلدين من جديد، وذلك عقب إجراء سلسلة من المفاوضات بين الدولتين لأكثر من عاميين كاملين. وقد أرسلت تلك الخطوة إشارات إيجابية بإمكانية الارتقاء بمستوى العلاقات الاقتصادية بين الدولتين، حتى وإن كانت لم تتأثر بشدة جراء الخلافات السياسية بين الدولتين، ليس فقط على المستوى التجاري وإنما على المستوى الاستثماري أيضًا.

الفصل بين الخلافات السياسية والمصالح الاقتصادية

على الرغم من تنامي الخلافات السياسية بين مصر وتركيا على مدار العقد الماضي، فإن تلك الخلافات لم تلق بظلالها على العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدولتين التي ظلت مستمرة ومتزايدة خلال نفس الفترة، وذلك بسبب رغبة الطرفين في الاستفادة اقتصاديًا من استمرار العلاقات بينهما، كما يُمكن توضيحه على النحو الآتي:

• حجم التجارة الثنائية: احتلت تركيا المركز الأول في قائمة أكبر الدول المستوردة من مصر خلال عام 2022 أي إنها أصبحت وجهة رئيسية للصادرات المصرية غير النفطية، فيما جاءت في المركز الثامن كأكبر الدول المصدرة لمصر، مما يدلل على ازدياد زخم العلاقات الاقتصادية بين الجانبين؛ إذ ارتفع حجم التجارة الثنائية بين مصر وتركيا إلى 6.9 مليار دولار مقارنة مع 5.7 مليار دولار خلال عام 2021، حيث بلغت الصادرات المصرية لتركيا خلال العام الماضي نحو 3.78 مليار دولار فيما سجلت الواردات المصرية حوالي 3.18 مليار دولار، كما يتبين تاليًا:

الشكل 1 – حجم التبادل التجاري بين مصر وتركيا (مليار دولار)

Source: Trade map, bilateral trade between Türkiye and Egypt.

يتبين من الشكل السابق تذبذب حجم التجارة الثنائية بين القاهرة وأنقرة منذ عام 2011 حتى عام 2016 الذي شهد انخفاضًا ملحوظًا في قيمة الواردات المصرية مقابل ارتفاع طفيف في قيمة الصادرات، وربما يعود ذلك إلى تأثير انخفاض قيمة الجنيه المصري على الصادرات التي أصبحت أرخص نسبيًا عما كانت عليه، والواردات التي زادت تكلفتها مع تراجع سعر الصرف. كما يتبين من الشكل أن الميزان التجاري بين الدولتين كان يصب لصالح تركيا حتى عام 2021 بسبب تجاوز حجم صادراتها إلى مصر قيمة وارداتها منها، إلى أن انعكس الوضع بحلول عام 2022 مع تحول العجز التجاري إلى فائض وذلك بفضل الزيادة الأخيرة في حجم صادرات الغاز الطبيعي.

والجدير بالذكر أن مصر وتركيا وقعتا اتفاقية للتجارة الحرة عام 2005 لتدخل حيز النفاذ بحلول عام 2007 بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي بين الطرفين وإزالة المعوقات والقيود الماثلة أمام التجارة السلعية مع توفير ظروف عادلة للمنافسة في التجارة بين الطرفين إلى جانب خلق ظروف مواتية لزيادة وتشجيع الاستثمارات المشتركة بين الدولتين.

ولم تساهم الاتفاقية في زيادة الحجم الإجمالي للتجارة فحسب، بل أدت إلى حدوث تغييرات في هيكل التبادلات التجارية بين البلدين، حيث زاد المكون الصناعي في التبادلات التجارية بين الدولتين مقابل المواد الخام، حيث أصبحت التجارة السلعية بين الدولتين تتركز في الحديد والصلب، والوقود والزيوت المعدنية، المنتجات الكيميائية غير عضوية، واللدائن ومصنوعاتها، علاوة على السيارات والدراجات، والآلات والأجهزة والمعدات الكهربائية، والزجاج والملابس.

• الاستثمارات المشتركة: سجلت الاستثمارات التركية في مصر أعلى مستوياتها في عشر سنوات خلال العام المالي 2021/2022 عند 179.9 مليون دولار، مقابل 138.1 مليون دولار في العام السابق، وهو ما يعكس زيادة قيمتها 41.8 مليون دولار، وبنسبة زيادة تصل إلى 30.26% على أساس سنوي، كما يوضح الشكل الآتي:

الشكل 2- صافي الاستثمارات التركية في مصر (مليون دولار)

المصدر: البنك المركزي المصري.

وكان رئيس مجلس الوزراء المصري “مصطفى مدبولي” عقد اجتماعًا في منتصف فبراير 2023 مع وفد من ممثلي شركات تركية تعمل في مصر أو ترغب في بدء استثمارات جديدة في السوق المصرية خلال المرحلة المقبلة، في أول لقاء من نوعه منذ 10 أعوام، حيث تعمل الشركات التركية التي قابلها في مجالات تتضمن: تطوير المناطق الصناعية، والغزل والنسيج، والملابس الجاهزة، والملابس الرياضية، والمستحضرات الطبية، والأجهزة الكهربائية، وقد تم الإعلان خلال هذا الاجتماع عن التزام الشركات التركية بضخ استثمارات جديدة تبلغ نحو 500 مليون دولار. وقد جاء هذا الاجتماع بعد عدة شهور من مصافحة الرئيسين عبد الفتاح السيسي ورجب طيب أردوغان، وما تلاها من قمة ثلاثية جمعت قادة مصر وتركيا وقطر يوم 20 نوفمبر 2022 على هامش افتتاح مونديال قطر 2022.

• دعم التبادل التجاري بالعملة المحلية: انتشرت الكثير من الأنباء عبر المنصات الإخبارية في أبريل 2023 أن تركيا  تعتزم اقتراح بدء استخدام العملات المحلية في التبادل التجاري مع مصر، ورغم عدم تأكيد تلك الخطوة بصورة رسمية حتى الآن، إلا إنه يعطي دلالات واضحة للطموح التركي بتعميق العلاقات الاقتصادية مع مصر لاسيما في ظل انخفاض قيمة عملاتهما المحلية، الجنيه المصري والليرة التركية، في محاولة للحد من هيمنة الدولار الأمريكي على المعاملات الاقتصادية، وبضغط من تداعيات الحرب الأوكرانية على مصادر النقد الأجنبي المختلفة إلى جانب ارتفاع معدل التضخم في كلا البلدين لمستويات غير مسبوقة.

• استمرار توافد السائحين: أعلنت السلطات المصرية نهاية مارس الماضي عن إطلاق مجموعة من التيسيرات والتسهيلات الجديدة الهادفة للحصول على التأشيرة السياحية للجنسيات المختلفة من بينها المواطنين الأتراك، في إطار سعيها لزيادة معدلات الزيارة السياحية، والوصول إلى 30 مليون زائر سنويًا. وظهرت آثار تلك السياسة الجديدة عبر تصريحات سفير أنقرة الجديد في مصر “صالح موتلو شن” بأن العاملين في مجال السياحة في مدينة شرم الشيخ أكدوا أن عدد السياح الأتراك قد ارتفع بما لا يقل عن 5 مرات مقارنة بالعام الماضي، متوقعًا أيضًا أن يصل عدد السياح المصريين في تركيا إلى مليون سائح في غضون خمس سنوات نظرًا لمساعي الدولتين في حث مواطنيهما على زيادة التبادل السياحي في المستقبل.

آفاق واعدة

يُمكن أن تساهم انفراجة العلاقات السياسية في خلق فرصة للارتقاء بالعلاقات الاقتصادية خاصة في ظل وجود أرضية تمهد لتعزيز هذه العلاقات، حيث تتطلع الدولتان إلى رفع حجم التبادلات التجارية إلى ما يتراوح بين 15 مليار دولار إلى 20 مليار دولار خلال السنوات القليلة المقبلة، إلى جانب تنشيط الاستثمارات التركية في مصر من خلال 200 شركة تعمل في البلاد، حيث يُمكن لمثل هذه الشركات الاستفادة من اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين ومن توافر العمالة والغاز الطبيعي من أجل زيادة إنتاجهم بمصر والتصدير إلى الأسواق الأفريقية.

وهكذا، فمن الممكن أن تستفيد تركيا من ضخ الاستثمارات في مصر التي تعد بوابة رئيسة للنفاذ إلى السوقين الأفريقية والأوروبية؛ وذلك بفضل الاتفاقيات التجارية التي ترتبط بها مصر مع هذه الأسواق، كما يُمكن أن يساعد تعزيز العلاقات الاقتصادية مع تركيا الاقتصاد المصري الذي يسعى إلى جذب المزيد من الاستثمارات العربية والأجنبية المباشرة، فضلًا عن دخول رؤوس أموال أجنبية للسوق المحلية؛ من أجل توفير المزيد من فرص العمل، وزيادة حجم الاحتياطي النقدي الذي يواجه العديد من التحديات مؤخرًا كارتفاع فاتورة الواردات وتراجع الإيرادات السياحة، مما قد يعزز في نهاية الأمر من قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي.

وإلى جانب الفوائد الاقتصادية الكلية، فيُمكن توثيق أواصر التعاون في مجال الطاقة بين الدولتين كون تركيا تتصدر قائمة مستوردي الغاز الطبيعي من مصر بقيمة تبلغ 917.2 مليون دولار حتى الربع الأول من عام 2022 تليها إسبانيا بنحو 425.7 مليون دولار وإندونيسيا بقيمة 317.8 مليون دولار، وفقًا للبيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

كما يُمكن للتعاون التركي المصري واستغلال نفوذ الدولتين السياسي والاقتصادي أن يعزز عملية السلام والاستقرار الإقليمي عبر تقليل التوترات في شرق المتوسط وحل الخلافات القائمة على حقوق التنقيب عن الغاز الطبيعي ودخول دول حوض شرق المتوسط في مفاوضات جماعية من أجل تسوية الخلافات الممتدة في تلك المنطقة، وحصول تركيا على دعم مصر لانضمامها إلى منتدى غاز شرق المتوسط شريطة ألا يؤثر ذلك على تحالفات مصر الحالية والاتفاقات التي تم التوصل إليها بالفعل مع الدول الأعضاء بالمنتدى.

ختامًا، يتبين مما سبق أن الجانبين المصري والتركي قررا إعلاء المصالح الاقتصادية على الخلافات السياسية المستمرة منذ عشر سنوات إعمالًا بمبدأ “الاقتصاد أولًا” ونظرًا لعدم رغبتهما في خسارة المكاسب التجارية والاستثمارية الناتجة عن استمرار تلك العلاقات، ولهذا، فمن المرجح أن تساهم الانفراجة الدبلوماسية في العلاقات الثنائية في تعزيز التبادل التجاري والاستثماري والطاقوي والسياحي بينهما.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/35212/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M