العودة للمفاوضات: سياق إحياء المحادثات بين الجيش السوداني والدعم السريع

منذ تعيين المبعوث الأمريكي للسودان ” توم برييلو” في فبراير الماضي، وهناك مساعي إقليمية حثيثة لإعادة إحياء مباحثات جدة بين الجيش السوداني والدعم السريع، في سياق العراقيل التي واجهتها المسارات التفاوضية الأخرى، وتحديدًا مسار الإيجاد وحوار المنامة، الذي لاقى تأييد القوى المدنية كمرجعية تفاوضية يمكن البناء عليها.

ووفق ما هو معلن، هناك مساعي لعقد جولة تفاوضية جديدة من مباحثات جدة بمشاركة كل من مصر والإمارات والإيجاد في الثامن عشر من إبريل الجاري. ورغم هذه المساعي، تأتي المسارات الميدانية والتفاعلات السياسية، لتكشف عن تباعد في الرؤى والمواقف، على نحوٍ يلقي بظلاله على مسار الحوار.

استهداف القوى المدنية

في الثالث من أبريل الجاري،   تداولت عدد من الصحف السودانية نبأ يفيد بصدور أمر نيابي بإلقاء القبض على رئيس تنسيقية تقدم “عبد الله حمدوك” وسبعة عشر شخصًا من أعضاء التنسيقية، إذ وجهت اللجنة الوطنية لجرائم الحرب وانتهاكات قوات الدعم السريع دعاوى بنيابة بورتسودان شرقي السودان في مواجهة من قادة تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية. وتتعلق هذه الدعاوى بإثارة الحرب ضد الدولة وتقويض الدستور والجرائم ضد الإنسانية، وهي دعاوى تصل العقوبة فيها إلى الإعدام وفقًا للقانون الجنائي السوداني.

وشملت الدعاوى المتحدثة باسم التحالف والصحافية رشا عوض والأمين العام لحزب الأمة الواثق البرير والقيادتان في الحزب زينب ومريم الصادق المهدي.ورئيس حزب المؤتمر السوداني عمر الدقير ونائبه خالد عمر يوسف، علاوة على رئيس المكتب التنفيذي للتجمع الاتحادي بابكر فيصل والمتحدث باسم التجمع الاتحادي جعفر حسن والقيادي فيه محمد الفكي سليمان. وضمت الدعاوى رئيس الحركة الشعبية ــ التيار الثوري الديمقراطي ياسر عرمان، ورئيس حركة العدل والمساواة سليمان صندل، فضلًا عن ماهر أبو الجوخ وشوقي عبد العظيم، إضافة إلى القيادي في القوى المدنية طه عثمان إسحاق.

وتأتي تلك الخطوة مماثلة لقرارات شبيهة استهدفت لجان المقاومة، إذ أصدر وزير الحكم الاتحادي في الثاني والعشرين من يناير الماضي، قرارًا يقضي بحلّ جميع لجان التسيير والخدمات بجميع ولايات السودان، وشمل القرار حصر جميع ممتلكاتهم وتجميد أصولهم، وتضمن كذلك تشكيل لجان تسييرية بديلة في القرى والأحياء والأسواق مكونة من سبعة أشخاص غير منتمين سياسيا بإشراف السلطات المحلية؛ في سياق الاتهامات الموجّه لهم بالانحياز للدعم السريع.

سياق حاكم

تأتي تلك الخطوة التصعيدية تجاه القوى المدنية، لتعكس الاستقطابات الشديدة بين الفواعل السياسية المكونة للمشهد، وتعكس في الوقت ذاته موقف القادة العسكريين من مسار المفاوضات الجاري الإعداد لها؛ خاصة مع وجود رؤية داعمة لإشراك القوى المدنية في مرحلة تالية على الحوار بين القوى العسكرية، تمهيدًا لتسوية سياسية أشمل.

  • انخراط القوى المدنية في المشهد

تجري القوى المدنية برئاسة عبد الله حمدوك على مدار الأشهر الماضية عددًا من الجولات الإقليمية التي تحشد من خلالها الرأي العام بهدف الضغط على طرفي الصراع لوقف الحرب واللجوء للتسوية السلمية للصراع. وتم الإعلان عن تنسيقية القوى الديموقراطية والمدنية (تقدم)، خلال اجتماع القوى المدنية في أديس أبابا برئاسة حمدوك وقوى الحرية والتغيير “المركزي” وعدد من النقابات المهنية ولجان المقاومة في 23 أكتوبر 2023، على أن يتم الإعلان عن المؤتمر التأسيسي للجبهة في منتصف أبريل الجاري، وفق ما كان مخطط له.

وخلال تلك الفترة، واصلت التنسيقية جهودها لوقف الحرب، ومهدت لإطلاق مؤتمرها التأسيسي بعدد من الورش التي تناقش قضايا الانتقال السياسي، على نحوٍ يعيد صياغة رؤية الجبهة لإدارة البلاد، باعتبارها الأرضية المشتركة التي يتم في ضوئها التوافق مع بقية القوى المدنية.

وجاءت إعادة صياغة هذه الرؤية من خلال عقد عدد من الورش التي تناقش من خلالها القضايا المختلفة، إذ بدأت فاعليات ورشتي الترتيبات الدستورية والحكم المحلي في بالعاصمة الكينية نيروبي، ضمن الورش السابقة على إطلاق المؤتمر التأسيسي لتقدم  في 23 فبراير 2024. وفي 3 مارس، في كمبالا عاصمة أوغندا، عقدت ورشتي العدالة الانتقالية وإصلاح القطاع العسكري، في سياق رؤيتها لتطوير رؤية لإدارة الدولة ومعالجة القضايا الانتقالية.

وفي 2 أبريل الجاري، بدأت الهيئة القيادية لتنسيقية تقدم برئاسة عبدالله حمدوك اجتماعاتها في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، إذ تناولت الجلسة الأولى ورقة القضايا الإنسانية، وذلك قبل القرار القضائي السابق الإشارة إليه، بما يقطع على التنسيقية فرص تدشين المؤتمر التأسيسي.

وتأتي تلك المحاولات من جانب القوى المدنية، في الوقت الذي لا تزال فيه القوى المدنية منقسمة، إذ في الوقت الذي تحاول فيه مجموعة المركزي توحيد جهودها تحت مظلة تنسيقية تقدم، كانت الكتلة الديمقراطية بقيادة مالك عقار في العاصمة الإريترية أسمرا في سبتمبر الماضي، حيث تم الإعلان عن  إعلان أسمرا، يتضمن فترة انتقالية مدتها عامين يرأسها رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان.

  • موقف القوى المدنية من التفاوض

أسست المحاولات السالف الإشارة إليها لإعادة توحيد الجبهة المدنية وإعادة صياغة رؤيتها من التفاوض ومستقبل الحكم الانتقالي وتدابير نقل السلطة، وفق الوثيقة الجاري الإعداد لها، كميثاق تأسيسي لجبهة التقدم، تتضمن بنوده الرؤية الحاكمة للقوى المدنية والمرجعية التي ينضم وفقًا لها من أراد ومن تبقى من القوى المدنية، والتي تتفاوض وفقًا لها مع القوى العسكرية، والتي من المفترض أن تستند إلى الوثائق الدستورية والانتقالية السابقة.

ومؤخرًا، انتشرت تقارير تفيد بتبني تنسيقية تقدم لمبادرة لوقف الحرب في السودان، تضمنتها وثيقة تحمل عنوان “مقترح الحل السياسي لإنهاء الحرب وتأسيس الدولة السودانية”، تستند للجهود القائمة للحل بما في ذلك إعلان جدة وخارطة طريق الاتحاد الأفريقي وإعلان المبادئ الموقع بالعاصمة البحرينية المنامة، الموقعة بين الجيش السوداني والدعم السريع في 20 يناير الماضي.

وتتضمن الوثيقة وقف العدائيات لمدة 60 يومًا وتشكيل حكومة مدنية انتقالية وجيش موحد خلال فترة تستمر عشر سنوات، وكان أهم ما أثار الجدل في الوثيقة المتداولة، البنود المتعلقة بإنشاء جيش مهني موحد، بمشاركة الجيش مع الدعم السريع في القيادة، وهو الأمر الذي لم يلق تأكيد تنسيقية تقدم ولا القوات المسلحة، لكنها اعتبرت انحيازًا من تقدم للدعم السريع مما أثار حفيظة القوى العسكرية، الرافض لخطوة تقدم التي أقدمت عليها في الأول من يناير بإعلان أديس أبابا مع حميدتي، مما ساهم في تأجيل اللقاء الذي دعت إليه تقدم مع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان.

وفي خطوة مفاجئة، أعلنت «قوات الدعم السريع» في 25 مارس الماضي، عن تأسيس إدارة مدنية لولاية الجزيرة في وسط السودان، مكونة من 31 عضوًا، ويترأسها صديق أحمد. وقد أثارت تلك الخطوة جدلًا وتوترًا داخل حزب الأمة وفق ما هو معلن، إذ طالب بعض أعضاء الحزب بضرورة رفض تنسيقية تقدم لتلك الممارسات التي تبدو في ظاهرها مناصرة للدعم السريع، خاصة وأن بعض عناصر الإدارة المدنية محسوبة على تنسيقية تقدم؛ رغم إدانة التنسيقية للانتهاكات الإنسانية التي ترتكب بحق المدنيين في ولاية الجزيرة وتحميل مسؤولية أرواحهم للدعم السريع.

وخلال اجتماعها الأخير في أديس أبابا، أوضحت تقدم رؤيتها لأسس الحل الشامل، من خلال وقف إطلاق النار وضمان حماية المدنيين والتوافق على برنامج للعدالة الانتقالية يسمح بتحقيق السلام والمصالحة والتعويض وجبر الضرر، وإطلاق عملية سياسية يشارك فيها الجميع باستثناء حزب المؤتمر الوطني، على أن تناقش العملية السياسية قضايا الإغاثة والصحة والتعليم، علاوة على الترتيبات الدستورية وآليات إدارة المرحلة الانتقالية ما بعد الحرب، وتأسيس جيش قومي من القوات العسكرية وإصلاح المنظومة الأمنية ومتابعة عملية الترتيبات الأمنية وضمان خروج المؤسسة العسكرية من الشؤون السياسية والاقتصادية.

ووفق الأخبار المتداولة، تدعم القوى المدنية تشكيل قوى مشتركة من دول الإقليم، تضمن تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار وفتح المسارات الآمنة وضمان مرور المساعدات الإنسانية، وهو أمر رفضته المؤسسة العسكرية من قبل، حينما خرج كمقترح ضمن مخرجات الإيجاد.

التمسك بالحسم العسكري

على نحوٍ مخالف للجهود الدبلوماسية الجارية للدفع بطرفي الصراع للعودة إلى طاولة الحوار مرة أخرى، خاصة مع الجهود الدبلوماسية التي يجريها المبعوث الأمريكي للسودان “توم بريلو”، إذ أثيرت خلال الأسابيع الأخيرة توقعات تفيد بعودة مباحثات جدة بمشاركة كل من مصر والإمارات بعد عيد الفطر المبارك؛ فإن المواقف العسكرية تمضي في التمسك بسيناريو الحسم العسكري،  إذ شهدت الأشهر القليلة الأخيرة  تصعيد الخطاب العسكري الداعي لحسم المعركة وحشد المقاومة الشعبية.

ولعل ما يعكس رفض المؤسسة العسكرية لأي اتفاقات مستقبلية لتقاسم السلطة، تصريح الفريق ركن إبراهيم جابر، عضو مجلس السيادة والرجل الثاني في الجيش، الذي أوضح فيه رفض المؤسسة العسكرية لأي اتفاق تقاسم سلطة مع القوى السياسية المدنية والأحزاب المتهمة بالتحالف مع الدعم السريع.

وأعلن خلال كلمة له في 25 مارس 2024، أمام جنود وضباط الفرقة الثانية مشاة بولاية القضارف، أن القوات المسلحة لم تعد طرفًا في أي اتفاقيات مع السياسيين، وأن القوات المسلحة هي الجيش الوطني الوحيد للسودان، مشيرًا إلى تشكيل فترة انتقالية غير سياسية مع حكومة تكنوقراط، تتولى إدارة شؤون الشعب السوداني وتحضر للانتخابات.

وفي تصعيدٍ مماثل، أعلن مساعد القائد العام للجيش الفريق ياسر العطا في 16 مارس 2024، عن رفض تسليم السلطة للمدنيين قبل الانتخابات ما اقترح إجراء انتخابات محلية وولائية للجان المقاومة الشعبية لاختيار رئيس الوزراء وولاة الولايات. وساهم انتشار قوات العمل الخاصة، ضمن القوات المقاتلة إلى جانب الجيش السوداني، في الجدل المثار بشأن مشاركة أعضاء الحركة الإسلامية – مثل كتيبة البراء بن مالك- في الحرب، وهو أمر يلقى تأييد من الفريق ياسر العطا، الذي ردّ في تصريح تالي على تحفظات كباشي على المقاومة الشعبية، قائلًا: ” وجود عناصر النظام السابق ضمن صفوف المقاومة الشعبية، مثل وجود باقي عناصر التنظيمات السياسية الأخرى”. وفي هذا السياق، أرجعت بعض التفسيرات لقرار النيابة السودانية المتعلقة بتنسيقية تقدم، إلى تصريحات للعطا، قبل ثلاثة أيام على القرار، انتقد فيها انحياز النيابة للقوى المدنية المؤيدة لجرائم الدعم السريع.

وفي سياق يبدو أنه مغاير، صرّح شمس الدين كباشي نائب القائد العام للجيش، بأن الخطر القادم على السودان يمكن أن يأتي من المقاومة الشعبية، محذرًا من استخدام الجيش للمقاومة الشعبية كوقود للحرب، دعيًا خلال كلمة له أمام جنود بالقضارف إلى تقنين استخدام سلاح المقاومة الشعبية. ويأتي موقفه متسقًا مع دعمه لمسار التفاوض، الذي انعكس في لقائه بعبد الرحيم دقلو في المنامة مرتين الأولى في 6 يناير والثانية في 20 يناير الماضي، قبل أن يتغيب عن الجلسة الثالثة، الأمر الذي فهم منه بأن هذا المسار يواجه ضغوطًا داخلية.

وتصاحب المواقف السابقة، ازدواجية في المواقف المعلنة من الدعم السريع، ما بين إبداء الاستعداد للقبول بالتفاوض وإعلان المضي في الحسم العسكري وتحقيق الانتصارات الميدانية، تزامنًا مع استمرار معسكرات الحشد الشعبي في استقطاب المواطنين على أساس قبلي في الولايات المختلفة، بالتوازي مع إعلان الحركات المسلحة انحيازها بشكل صريح للقوات المسلحة، بما في تلك الكتيبة المحسوبة على “مني أركو مناوي” بحركة تحرير السودان، في الوقت الذي انحازت فيه بعض الحركات للدعم السريع، بما يهدد بحرب أهلية واسعة النطاق، وسط مواقف متطرفة من الطرفين، تزيد من الفجوة بينهما، دون أي أفق للحل السياسي. وعلى المستوى الميداني، تواصل القوات المسلحة المواجهات على كافة المحاور القتالي، استنادًا إلى إعلان ياسر العطا رفض الهدنة الإنسانية في رمضان، ومع ما حققته من تقدم في أم درمان تستعد للهجوم على الجزيرة.

ولعل في القرار الأخير بوقف نشاط قنوات “سكاي نيوز، العربية، الحدث”، لمبررات تتصل بالتضليل الإعلامي وتزييف أخبار الحرب، بما في ذلك الفيديو الذي يفيد بمشاركة داعش في الحرب، كأحد الشواهد على مشاركة القوى الإسلامية في الحرب، الأمر الذي وفقًا له تم وقف عمل القنوات السابقة، المتهمة بالانحياز للدعم السريع؛ مؤشرًا على استمرار التصعيد العسكري بما يزيد من الفجوة ويفاقم الضغط على الأدوار المتوقعة من وسطاء الحوار، فيما يتعلق بإجراءات بناء الثقة بين الطرفين.

يبدو في الأخير أن السياق الحاكم الذي يعمل في ضوئه وسطاء السلام لاستئناف الحوار، لا يحمل أية مؤشرات لبناء الثقة بين كافة أطراف وفواعل المعادلة، التي تتخذ من الحسم العسكري شعارًا ومحددًا لتحركاتها، الأمر الذي يستدعي مزيدًا من تكثيف الضغوط على كافة الأطراف لإبداء المزيد من المرونة، والقبول بالجلوس للتفاوض، في ضوء المعاناة الإنسانية والتهديدات الأمنية المتصاعدة.

 

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/81333/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M