المسألة الإيرانية بوصفها «مُعضلة إقليمية»: مُعالجَة جذور التأزيم والهشاشة والتنمية المُعاقَة

نقاط أساسية

  • الإصرار الإيراني على ممارسة السياسة عبر الوكلاء المحليين في دول الجوار، وعبر الميليشيات، يعد أحد أهم عوامل الهشاشة في النظام الإقليمي، وأحد أبرز إشكالات السلوك الإيراني من وجهة نظر بقية القوى الإقليمية.
  • من أهم الأسباب التي أدّت إلى تعميق الهشاشة الإقليمية خلال العقدين الماضيين، الإصرار على المقاربات والحلول الجزئية التي تستند إلى تفاهُمات ثنائيّة، ومقطعيّة، وأحياناً “محاورية”، وتتجنَّب المقاربات الشاملة، والحلول الجماعية.
  • ينبغي إعادة النظر في مقاربات القوى الدولية للمنطقة، وابتكار آليات للتأثير الحيادي “الإيجابي” الذي يضمن بقاء القوى الدولية في منطقة الضامن للمخرجات المحليّة، من دون الانخراط في عملية إنجاز هذه المخرجات.
  • تحقيق الاستقرار في المنطقة يتطلب ترويض النزعة الثورية في النظام الإيراني، ومساعدة إيران على التحوُّل إلى “دولة طبيعية”، وصولاً إلى تكريس “الوضع الطبيعي” في الشرق الأوسط.
  • يمكنُ أنْ تكون أزمة تغير المناخ، الملف الذي تبدأ منه محاولات “مأسسة” التعاون الإقليمي. ويُوفّرُ انعقاد مؤتمر “كوب 28” في دولة الإمارات، فرصةً ذهبيّةً لاختبار نجاعة العمل الإقليمي المشترك، انطلاقاً من هذا الملف. 

 

نجح بعضُ بلدان المنطقة، وعلى رأسها دول الخليج العربية، خلال الأعوام الماضية، في احتلال مراتب متقدمة ضمن قائمة الدول المستقطبة لرؤوس الأموال العالمية. وتطمح هذه الدول إلى تحقيق تنمية اقتصادية، وإنسانيّة، متماسكة، ومستدامة. وتتطلّب هذه الطموحات من دون شك بيئة آمنة، ومستقرة، بحيث تكون فيها التطوُّرات قابلة للتوقع، وتجد فيها الخلافات مسارات تفاوضية، وتوافقية فاعلة، وقادرة على إنتاج الحلول والتسويات السياسية. لكنّ منطقة الشرق الأوسط ما فتئت تشهدُ حالةً من عدم الاستقرار، ناتجة عن الانفجار المفاجئ والمتتالي للأزمات والنزاعات الكامنة، والتي لا يزال معظمها عصيّاً على الحلول السياسية. وتُهدّد هواجس الانزلاق المفاجئ إلى الأزمات، مسيرة التنمية المستدامة، وتُنذر بتقويض الاستقرار الذي يُعدُّ شرطَ ضرورةٍ للتنمية الاقتصادية، والاستثمار.

 

ولا يمكنُ إلقاء اللوم على طرف واحدٍ، إقليميّاً كانَ، أم عالميّاً، في حالة الهشاشة التي يمرّ بها الشّرق الأوسط منذ عقود، إلّا أن العديد من حالات الانزلاق المفاجئ نحو الأزمة، تجدُ جذورها في مُعضلتينِ رئيستينِ: القضية الفلسطينية، والمسألة الإيرانية. ففي حين تواصل إسرائيل احتلال الأراضي الفلسطينية، وتوسع عمليات الاستيطان فيها، خلافاً للشرعيّة الدوليّة، والقرارات الأمميّة، ترفض حكومات اليمين المُتشدّد الحالية في إسرائيل حلّ الدولتين، وتُعيقُ أيَّ تقدُّم في العملية السلميّة؛ ما يُبقِي المنطقة برمّتها عُرضةً للأزمات العديدة المتناسلة عن القضية الفلسطينية والقابلة للاشتعال في أيّ وقت. وعلى الجانب الآخر، تحمل إيران طموحات هيمنة إقليمية يدفعها نظام سياسيّ عقائدي، يتبنّى أيديولوجيا تستند في جزء كبير منها على فكرة التناقض مع الآخر؛ حيث تؤكد أدبيات الثورة الإيرانية تناقضها مع الغرب الذي تسميه “نظام الاستكبار العالمي”، وتناقضها مع السلفية السُّنية التي تُسميها “الوهابية التكفيرية”. وفيما نشهد اليوم، تراجُع أهمية التناقض مع السلفية السنيّة لصالح تصاعد التناقض مع العالم الغربي/الأمريكي، والوجود الإسرائيلي المرتبط بها ارتباطاً وجوديّاً. كان التناقض مع السلفيّة السنية هو الأولوية القصوى لإيران، طوال عشرية “الربيع العربي”. إنها تناقضات خاضعة للحسابات السياسية، ومرتبطة بخرائط الأهداف، ومصادر التهديد المُفترضَة.

 

ستقتصر هذه الورقة على مُقاربة المعضلة الإيرانيّة باعتبارها أحد المصدرين الرئيسين للهشاشة الإقليمية، لتقييم تأثير المسألة الإيرانية على الرؤى التنموية الإقليمية، وعلى موقع الشرق الأوسط الكبير في النظام العالمي المُتكوِّن، وتقديم التوصيات والحلول المقترحة لتفكيك هذه العقدة.

 

المسألة الإيرانية: الإشكاليّات المُعزِّزة للهشاشة الإقليمية

أثبتت التجربة التاريخية أن التسويات والحلول التي لا توافق عليها القوى الإقليمية الرئيسة تبقى حلولاً نظرية، وتستعصي على التطبيق في الميدان. وبات واضحاً للعيان أنّ أية حلول أو تسويات، أو رؤى مستقبلية إقليمية لمنطقة الشرق الأوسط، من الصعب أنْ تصمد كثيراً، ما لم تأخذ بالحسبان طبيعة التأثير الإيراني، وخصوصية مؤسسات النظام الإيراني السياسية، والاقتصادية، والعقائدية، والعسكرية، وآليات صناعة قراراته الاستراتيجية.

 

وليس من شك في أن مختلف القوى الإقليمية والدولية بذلت جهوداً على مدار العقود الماضية من عمر الثورة، على إدماج إيران في نسقٍ تعاونيٍّ إقليميّ، عبر مبادرات، ومقترحات متنوعة بهدف التوصل إلى تفاهمات ثنائية، أو متعددة الأطراف. وقد أبدت إيران كذلك رغبتها بالحوار، واقترحت التوصل إلى “هيكل أمنيّ إقليمي”. ويُشكِّل التفاهم السعودي-الإيراني الذي تمّ التوصل إليه بوساطة صينية مُؤخّراً، أحد آخر النماذج المشجعة لتلك المحاولات. لكنّ الإشكاليات التي ظلت تعيق التوصل إلى حلول جذرية للمسألة الإيرانية، تتمثل في الآتي:

 

1. ممارسة إيران السياسة ضمن مستويات دون الدولة؛ ليس من المبالغة القول إن الإصرار الإيراني على ممارسة السياسة عبر الوكلاء المحليين في دول الجوار، وعبر الميليشيات، هو أحد أهم عوامل الهشاشة في النظام الإقليمي، وأحد أبرز إشكالات السلوك الإيراني من وجهة نظر بقية القوى الإقليمية. ومارس النظام الإيراني هذا السلوك الإشكالي منذ عقود من خلال ارتباطه المباشر بمنظمات “تحررية”، وميليشيات متقاربة معه في الرؤية العقائدية أو السياسية، والتي تصاعدت موجتها خلال العشرية الثانية من الألفية الراهنة. ويُظهِرُ تأكيد وزير الخارجية في حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي منذ اليوم الأول لمزاولة مهامه في أغسطس 2021 على أن “دعم “محور المقاومة” سيكون على رأس برنامج عمل الحكومة الجديدة”، رغبة الحكومة أيضاً في ممارسة السياسة عبر الوكلاء. وفي حين أكّدت حكومة رئيسي أنها عازمة على ترسيخ أسس التعاون الإقليمي، لكن التطورات أظهرت أنها تمنح الأولوية لإعادة تشكيل تحالفاتها مع منظمات ما دون الدولة الموالية لها في المنطقة. وحاولت إيران استخدام هؤلاء الفاعلين المحليين للتأثير على مسارات إقليمية عدّة، ومهّدت بذلك إلى استفحال ظاهرة الميليشيات. وتجد الدول الإقليمية صعوبة في التعامل مع دولة تُرجِّح التعامل مع فاعلين دون الدولة. وبشكل عام، يصعب العمل السياسي في بيئة تترسخ فيها منظمات دون الدولة إلى الحدّ الذي باتت فيه قدرات هذه المنظمات تفوق أحياناً ما تمتلكه بعض دول المنطقة؛ إذ لا تلتزم هذه المنظمات بقواعد العمل التي تلتزم بها الدول.

 

2. المخاطر الناشئة عن التعاون العسكري الإيراني-الروسي؛ لا يُشكّل التعاون العسكري بين بلدين إشكالية بحدّ ذاته، إلا إذا جرى وفق رؤية، وظروف معينة، تخرجه عن سياق التعاون الطبيعي. وعلى الأقل، فمن وجهة نظر إقليمية (شرق أوسطية)، وغربية (أوروبية-أمريكية) يُعدُّ التعاون العسكري القائم بين موسكو وطهران مشكلة ينبغي التعامل معها. وعلى الجانب الإيراني، يكرس هذا التعاون سلطة “الحرس الثوري الإيراني” باعتباره تعاوناً مع الحرس أكثر من كونه تعاوناً مع مؤسسات الدولة الإيرانية، ويخدم هذا التعاون تطلعات الحرس الثوري على صعيد الصواريخ البالستية التي تهدد بها المؤسسة العسكرية الإيرانية أطرافا إقليمية، وأخرى دولية. كما يسهم في تطوير برنامج الحرس للمسيرات التي تستخدمها الميليشيات الموالية لإيران لضرب أهداف إقليمية. وعلى المستوى الاستراتيجي، يُسهم هذا التعاون في جرّ موسكو إلى اللعبة الإقليمية الإيرانية. ويتّسم التعاون العسكري بين البلدين بعدم الشفافية؛ ما يعزز من مخاوف الأطراف المتضررة إقليمياً ودوليّاً، ويُصَعِّد التنافس الدولي في المنطقة. والجدير بالذكر أن الإشكالية نفسها تنطبق جزئيّاً على التعاون الصيني-الإيراني، وذلك في ظل رغبة إيران بتحويل هذا التعاون إلى مستوى التحالف الاستراتيجي الذي يدعم مكانة إيران الإقليمية، ويخدم مشروعها للهيمنة، كما في ظل تعامل الصين مع اقتصاد الدولة العميقة في إيران، والذي يسهم في تكريس هيمنة أجهزة الدولة العميقة المطلقة في المنافسة الداخلية. ومع ذلك ليس من الواضح حتى الآن، ما إذا كانت الصين ترغب في استخدام الورقة الإيرانية في المواجهة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، ولعلّ هذا أبرز ما يميز الصين عن روسيا التي أظهرت رغبة واضحة بتوظيف المسألة الإيرانية في مواجهتها الصريحة مع الغرب.

 

3. عسكرة الاقتصاد الإيراني؛ في ظل الحاجة المستمرة لدعم الجاهزية العسكرية، واستمرار “حالة التأهب” لسنوات طويلة، تطوّرت في إيران نزعة إلى “عسكرة الاقتصاد” الإيراني؛ وهو ما أضعف التنمية المستدامة التي تتطلب قطعاً، مغادرة “حالة التأهب”، والوصول إلى قدر معقول من الاستقرار. وخلقت “عسكرة الاقتصاد” شبكات مصالح مستفيدة من الأزمات المتعاقبة، ولذلك فإنها تعمل على تكريس “حالة التأهب” المتواصلة تلك، وتسعى إلى التأكد من عدم مغادرتها، وتكريس منطق المقاربات العسكرية، والهواجس الدفاعية على معظم مسارات التعاون، والتقارب الإقليمي. وفي ظل هذا الواقع، تستهدف مبادرات التعاون الإيرانية مع مختلف الأطراف الإقليمية قبل كل شيء، تحقيق الأمن الدفاعي، وتستند إلى أولويات دفاعية-عسكرية، وليس إلى الأولويات الاقتصادية والتنموية؛ وهو ما جعل من التنمية والتكامل الاقتصادي بالنسبة لصانع القرار الإيراني ضرورة من الدرجة الثانية؛ فهو يرصد نسبة كبيرة من الموارد المتاحة لتلبية متطلبات الهواجس الدفاعية. وتؤدي “عسكرة الاقتصاد” إلى إبعاد حتى تلك الاستثمارات العالمية القليلة التي قد تفكر في الانخراط في جسد الاقتصاد الإيراني المحاصر؛ ما يُبقي السوق الإيرانية تحت “حظرٍ استثماري” يتظافر في تطبيقه الداخل والخارج. ولعلّ أخطر النتائج المنبثقة عن “عسكرة الاقتصاد”، توجُّه النظام الإيراني إلى دخول المنافسات الاقتصادية الإقليمية بأدوات جيوسياسية، وعسكرية، وميليشياوية، بمعنى أنه يواصل استخدام ذات الأدوات القديمة التي كانت متبعة في المنافسة الجيوسياسية الآفلة، في المنافسة الجيواقتصادية الجديدة الناشئة في المنطقة والعالم. إنها أدوات قديمة لعصر جديد تُنذر بإعادة المنطقة إلى الوراء.

 

4. الحرب الباردة الإيرانية-الإسرائيلية؛ تٌنذر هذه المواجهة باستمرار الاستقطاب، وترسيخ حالة الهشاشة الإقليمية الراهنة، وإبقاء المنطقة على حافة الحرب المفتوحة؛ حيث يشارك في هذه المواجهة طيفٌ واسعٌ من “اللاعبين ما دون الدولة”، الذين يسعون إلى إجهاض مسارات الحلول، والتسويات الإقليمية. وظهرت تداعيات هذه المواجهة بشكل بارز في الملف النووي؛ حيث قاومت إسرائيل المسار الدولي المعتمد لحل الملف النووي، فيما قاوم وكلاء إيران الإقليميين مسار التطبيع العربي-الإسرائيلي، وانتهج الطرفات تكتيكات “الوخز الأمني” المتواصل لتحقيق أهدافهم؛ ما وضع المنطقة على حافة مواجهة مسلحة أكثر من مرة. ولم تنجح الحرب الباردة في إيقاف مشاريع التسلح الإيرانية، أو المشروع النووي، وأسهمت في تباعد إيران عن المسار الدولي، وانخراطها أكثر في محاولات إطاحة التوافقات العربية-الإسرائيلية.

 

5. ازدواجية مراكز اتخاذ القرار الإيراني؛ وما تخلقه من مشاكل على مستوى التعامل مع الدولة الإيرانية والانخراط في مفاوضات معها. وهي إشكالية ناجمة عن شرخ يفصل بين مؤسسات الدولة متمثلة بالحكومة وأجهزتها الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية، ومؤسسات الثورة متمثلة في “الحرس الثوري”، ومؤسسة “بيت القائد” الأعلى، ومنظومة معقدة من الأجهزة الاقتصادية والأمنية والعسكرية والدبلوماسية المرتبطة بهما. وتقوض هذه الازدواجية معظم التوافقات التي يتم التوصل إليها مع الحكومات والأجهزة الدبلوماسية الإيرانية؛ ما يجعل مفاوضات الجهات الدولية مع إيران عديمة الجدوى، إلا إذا التزمت الدولة العميقة بما يتمّ التوافق عليه مع مؤسسات الدولة الرسمية. وقاد الوعي بهذه الازدواجية أطرافاً دولية إلى تجاهل مؤسسات الدولة في علاقاتهم مع النظام الإيراني، وتداول العمل السياسي مع مؤسسات الدولة العميقة بشكل مباشر. ومع مجيء حكومة إبراهيم رئيسي، رجحت هيمنة المحافظين على الحكومة احتمال وضع حد لهذه الازدواجية بسبب التقارب بين رجال الحكومة الجديدة، ومؤسسات الدولة العميقة التي خرج هؤلاء من غرفها، إلا أن تطورات العامين الماضيين، تُظهِرُ أن الخط الفاصل بين الدولة، والدولة العميقة، لا يزال موجوداً.

 

6. ترسُّخ ظاهرة النفط المنفلت؛ تعاني إيران التي تعدُّ من مؤسسي “منظمة أوبك” من تعدّدية مراكز بيع النفط منذ مطلع العقد الثاني من القرن الحالي، ويعود ذلك جزئيّاً إلى العقوبات التي أوصلت صادرات إيران النفطية إلى مستويات متدنية قياسية، وجعلت الأسواق العالمية تعتاد على غياب النفط الإيراني. لكن مزيجاً من الأسباب، أدى خلال الأعوام الثلاثة الماضية إلى ترسيخ ظاهرة “النفط الإيراني المنفلت” أو “الرمادي” الذي لا يتّبع أية توافقات رسمية؛ إذ تبيع إيران نفطها خارج “منظمة أوبك” للتحايل على العقوبات. وساعدها في ذلك رضا الأطراف الغربية التي تساهلت في تطبيق العقوبات لأسباب متعلقة بالحرب في أوكرانيا، كما ساعدها رضا الصين التي حصلت على النفط الإيراني بأسعار زهيدة. ويسهم “النفط الرمادي” في تمويل مؤسسات تقع خارج جسد الحكومة الإيرانية، وهو ممّا يدعم الإشكالية الأولى، والإشكالية الثانية ضمن هذا النص. كما أدى بيع النفط خارج إطار “أوبك” إلى الضغط على سياسات الدول المصدرة للنفط، ومن المحتمل أن يتزايد هذا الضغط، نتيجة ارتفاع مبيعات إيران من “النفط الرمادي”، ويُنذر ذلك أيضاً، بتحول آلية النفط إلى أداة ضغط عالمية إضافيّة على بلدان المنطقة.

 

الدور المطلوب عربيّاً، وإقليميّاً، ودوليّاً

على الرغم من طبيعة السلوك الإيراني التي تبدو إشكاليّةً في العديد من المجالات، إلّا أن ذلك لا يُعفي الأطراف الإقليمية من المسؤولية تجاه استمرار حالة الانغلاق في المسألة الإيرانية على مدار العقود الأربعة الماضية. وينبغي الإقرار بأنّ جميع الأطراف مقصرون في استمرار هذه الحالة، سواءٌ كان ذلك نتيجة الانفعال، أو التجاهُل، أو عدم امتلاك المُبادرات الشاملة، والجماعيّة، والاقتصار على محاولات الحلّ المقطعي، والمسارات الثنائيّة لتطبيع العلاقات، وأحياناً الانخراط في “سياسات المحاور الإقليمية” التي لم تفعل شيئاً أكثر من تعميق تلك الإشكاليّات.

 

وللأسف يبدو أن معظم الفاعلين في الشرق الأوسط لديهم خشية من المقاربات الجماعية؛ إذْ ارتبطت المقاربات الجماعية دائماً بالفشل، وعدم الفاعليّة، والنتائج الشكليّة. وهذا قد يكون صحيحاً جُزئيّاً، لكنّ المنطقة اليوم تواجه قائمة طويلة من التحديات المشتركة التي لا يمكن بأي حال مقاربتها بالحلول المنفردة، ولا المسارات الثنائية، ولا حتى بالتحالفات القائمة على فكرة المحاور. لا بدّ من ممارسة العمل الجماعي الذي لا يستثني أحداً، ولا بدّ من خلق طاولات للحوار تتّسع للجميع. ولعلّ التّحدّي المُناخي أحد الأمثلة البارزة التي ينبغي للجميع الانخراط في مسار مشترك لمواجهتها. ويتيحُ انعقاد مؤتمر الأطراف حول المناخ (كوب 28)، أواخر هذا الشهر في الإمارات، فرصةً ثمينةً لاختبار هذا النوع من المُقاربات.

 

وتُظهر تجربة الأعوام الماضية، أنه كلما كانت لدى دول الخليج العربية مبادرة سياسية مطروحة فإن الواقع السياسي الإقليمي يتحرّك ويتفاعل إيجابيّاً، وقد استطاعت المبادرات الخليجية في العديد من الأحيان تغيير شروط اللعبة الإقليمية جزئيّاً، أو كليّاً، واستطاعت أحياناً إحداث تغيير في المقاربات الدولية للُّعبة الإقليمية. والمبادرة السعودية الأخيرة لتفعيل الدور الصيني في معالجة المشكلات مع طهران خيرُ دليلٍ على ذلك؛ إذْ أدّت إلى نتائج عمليّة، أحدثت تغييراً في مقاربة كُلٍّ من الصين والولايات المتحدة، لمنطقة الشرق الأوسط.

 

وتبدو دول الخليج العربية، باعتبارها دول الاقتصادات الطامحة، معنيّةً أكثر من غيرها بمغادرة الفضاء الإقليمي الإشكالي الذي يُهدّد مسارات التنمية، ومشاريع التحوُّل الاقتصادي، ناهيك عن تهديد الحياة البشريّة، بفعل أزماتِ المُناخ والبيئة المتفاقمة. ولعلّ من أهم الأسباب التي أدّت خلال العقدين الماضيين إلى تعميق الهشاشة الإقليمية، الإصرار على المقاربات والحلول الجزئية التي استندت إلى تفاهُمات ثنائيّة، ومقطعيّة، وأحياناً “محاورية”، وتتجنَّب المقاربات الشاملة، والحلول الجماعية، رُبّما خشيةَ مواجهة الإخفاق في ظل كثرة التناقضات الإقليميّة، وتعقيدها.

 

وتُثبِتُ الأحداثُ والأزمات التي تنفجرُ مرةً بعد مرة، أنّه من الخطأ تصوُّر إمكانية الخروج من هذا الفضاء الإشكالي من دون مقاربة شاملة، تتضمنُ معالجة كل الملفات ضمن مسار مُتعدِّد الأطراف، وبحيث لا يغيبُ عنه أيٌّ من الفاعلين المؤثرين في المشهد الإقليمي. وسيكونُ من الخطأ أيضاً، تصوُّر إمكانية نجاح الحلول التي تحاولُ الأطرافُ الدوليّةُ المؤثّرة فرضها في إدارتها للمشهد الإقليمي؛ إذ تُبيِّنُ التجربة أنّ الحلول الدولية المفروضة، لا تؤدي إلّا إلى مفاقمة حالة الاستقطاب في المنطقة، وتُنذر بتحويل الشرق الأوسط إلى ساحة صراعٍ للمشاريع الجيوسياسيّة الدوليّة. كما تثبتُ التجربة عدم التزام الأطراف الإقليمية بهذه الحلول، وتحيُّنها الفرص للانقلاب عليها.

 

وإذ يعكس التنافس الدولي في الشرق الأوسط القيمة الاستراتيجية لهذه المنطقة في العقائد السياسية للقوى العالمية الكبرى، وللاقتصاد العالمي، ولأمن الطاقة العالمي، فإنه يتعين على جميع القوى الدولية المنخرطة في هذا التنافس المحموم، والقوى الإقليمية المتفاعلة معها في النطاق الإقليمي، إدراك حقيقة أنّ الشرق الأوسط الذي يعاني من الهشاشة، ينبغي ألّا يكون مسرحاً لصراعٍ دوليّ قد تكون آثاره مدمرة على المنطقة أولاً، وعلى القوى الدولية المنخرطة في هذه المنافسة المحمومة ثانياً. وينبغي إعادة النظر في مقاربات القوى الدولية للمنطقة، وتصميمها بعناية فائقة، بحيث لا تتجاوز منطقة “الحياد المؤثر”؛ وهو ما يعني ابتكار آليات للتأثير الحيادي (Neutral effect) الذي يضمن بقاء القوى الدولية في منطقة الضامن للمخرجات المحليّة، من دون الانخراط في عملية إنجاز هذه المخرجات. وينبغي أن يدرك الجميع أهمية دعم الحوار الشامل، وأهمية بناء مؤسسة تعاون إقليمية جامعة، وفاعلة، وذات صلاحيات كافية، بحيث تكون قادرة على تصميم وإدارة طاولة مصالح استراتيجية إقليمية لا يرغب أي طرف بالانقلاب عليها، أو يشعر بأنه متضرر فيها.

 

وفيما يتعلق بالمسألة الإيرانية، ينبغي مقاومة انزلاق المنطقة إلى منطق اللعبة الإيرانية القائمة على تفعيل دور الميليشيات والوكلاء المحليين من مستوى ما دون الدولة. بل على العكس من ذلك، يتعيّن ابتكار الحلول التي من شأنها جرّ النظام الإيراني إلى منطق الدولة. ولن يكون ذلك مُمكناً، إلا عَبْر طرحِ طاولة مصالح مشتركة، لا يكون بمقدور إيران أنْ تغضّ الطرف عنها، أو تنقلب عليها، ولا بدّ أنْ تحمل تلك المصالح وزناً استراتيجيّاً يفوق الإغراءات الاقتصادية، وأن تستجيبَ لهواجس النظام الإيراني الدفاعيّة المشروعة، وبخاصّةٍ تلك المتعلقة بالتهديدات الوجودية، وأن تتضمنَ آليات عمل إقليمية تأخذ بعين الاعتبار ضرورة تحييد الفاعلين دون الدولة. لقد بات واضحاً أنّ تحقيق الاستقرار في المنطقة يتطلب ترويض النزعة الثورية في النظام الإيراني، ومساعدة إيران، والنظام الإيراني على التحوُّل إلى “دولة طبيعية” وصولاً إلى تكريس “الوضع الطبيعي” في الشرق الأوسط.

 

ولا بدّ من ابتكار طرقٍ لمعالجة الصّراع المتأجّج بين إسرائيل وإيران، أو على الأقلّ تجميده، باعتباره مُحرِّكاً للعديد من الأزمات الإقليميّة، وذلك عبر بلورة نظامٍ لأخذ الضّمانات غير المباشرة من الجانبين، وإيجاد ثقةٍ كفيلةٍ بوضع كل من إسرائيل وإيران بعضهما البعض، في مستوىً دون مستوى الأخطار الوجودية. ويمكن الاستفادة في هذا السياق من تأثير قوى عالمية مهمة، مثل الصين، وروسيا، باعتبارهما قادرتين على التواصل المباشر مع مؤسسات الدولة العميقة في إيران، لانتزاع توافقات أكثر صموداً وقابليّةً للاستمرار، وذلك إلى جانب الولايات المتحدة باعتبارها الحليف الرئيس لإسرائيل.

 

هل يُشكِّل “كوب 28” فرصة لتجاوز الهشاشة في الفضاء الإقليمي؟

ينبغي ألّا يغيب عن أذهاننا، أنّ هذا الوضع الإقليمي المتأزّم، يحدُث في وقت تنجرفُ فيه منطقة الشرق الأوسط إلى أعماق أزمة مناخية تتفاقمُ باستمرارٍ، لتُشكّل تحدّياً وجوديّاً للحياة البشريّة، ولتُنذر بتداعيات سلبيّة كبيرة على استدامة التنمية والازدهار الاقتصادي، كما تُنذر بحروب أهليّة، وإقليميّة ضارية. ولعلّ من فُضول القول، التأكيدُ على أنّه لا يمكن مُقاربة أزمة المناخ الإقليميّة بمشاريعَ وحلول محلية، بل يتطلبُ هذا التحدّي تعاوناً إقليميّاً ودوليّاً، ويحتاجُ إلى إجماعٍ مُستندٍ إلى المصير المُشترك، وهو إجماعٌ يصعبُ حصوله في ظلِّ بيئةٍ سياسيّةٍ تحكُمها التناقُضات.

 

ولعلّ المُقترح الأساسي الذي يمكن تقديمه في هذا السياق، هو العمل على الذهاب التدريجي نحو بلورة “نظام تعاون إقليمي” يتضمّن مصالح أمنية واقتصادية مُشتركة للجميع، ويتضمّن آليات إقليمية لفضّ النّزاعات، على أن تكون مدعومة بقرارات أممية، وتأييد دولي لضمان التزام الأطراف بمخرجاتها. وقد تبدو هذه الفكرة مثاليّةً، وحالمةً، وذلك في ظلّ اختلال توازن القوى، واحتمالية عدم استجابة إيران (الدولة العميقة) لها. لكنْ يجب الأخذ بالحسبان، أنّ اللحظة التاريخية مؤاتية لإنجاز هذه الخطوة، في ضوء التّقارب غير المسبوق بين مؤسسة الدولة، ومؤسسات الدولة العميقة في إيران؛ ما يجعل التفاوض مع الجهاز الدبلوماسي لحكومة إبراهيم رئيسي ذو جدوى محتملة أكثر من جميع المحاولات السابقة.

 

وتقعُ قضية المناخ ضمن الملفات الإقليمية الجامعة التي تتشارك مختلف الأطراف الإقليمية الرغبة في مواجهتها. ويُعد المناخ مجالاً حيويّاً يمكنُ فيه إلى حدٍّ كبيرٍ، تجنُّب الخلافات السياسية والأيديولوجية، بالرغم من امتداداته السياسية والأمنية المعروفة. وبالتالي، يمكنُ أنْ تكون أزمة المناخ، الملف الذي تبدأ منه محاولات “مأسسة” التعاون الإقليمي. ويُوفّرُ انعقاد مؤتمر المناخ “كوب 28” في دولة الإمارات العربية المتحدة، فرصةً ذهبيّةً لاختبار نجاعة العمل الإقليمي المشترك عبر البحث، مثلاً، في إمكانية إنشاء “أمانة عامة للإدارة الإقليمية لأزمة المناخ في دولة الإمارات العربية المتحدة”، واستخدام “دبلوماسية المناخ” لممارسة تجربة التعاون الإقليمي الشامل برعاية دولية.

 

الخلاصة والتوصيات العامّة

تُنذِرُ التطوّرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، بتحوُّل المنطقة إلى بؤرة أزمات، يُعادُ إنتاجها باستمرارٍ، وتؤدي إلى إعاقة مسيرة التنمية المستدامة في المنطقة، ورفعِ تكاليف الأمن البشريّ، وأمنِ رؤوس الأموال. كما تُنذرُ بتأزيم المساحات الآمنة، وتهديد المساحات المزدهرة، عبر تسرُّب الصراعات والأزمات، من بؤرها الراهنة إلى النطاقات الإقليمية الأوسع، وبما يضع المنطقة برمّتها تحت أولوية الهواجس الأمنية.

 

وتعودُ أسبابُ هذه الهشاشة الإقليمية إلى تداخل عدة إشكالات، يعمل كل منها على تأزيم المنطقة، ولا يعمل أي من هذه الإشكالات بمفرده على تفجير الأزمات، لكنها تدعم أثر بعضها بعضاً، لتُحَوِّل المنطقة إلى بؤرة أزمات معادة، ومتواصلة، تهدد مسيرة التنمية الطموحة لدى بعض الأطراف الإقليمية عبر توسع نطاق الأزمات؛ ما يعني أن معالجة هذه الإشكالات يجب أن تتم بشكل متزامن. وتتلخص أهم هذه الإشكالات بالآتي:

 

  • مشاريع الهيمنة الإقليمية ذات المنطلقات الأيديولوجية؛ وقعت منطقة الشرق الأوسط ضحية مشاريع هيمنة، مارستها عدة أطراف خلال الأعوام الماضية، من منطلقات أيديولوجية (عقائدية أو سياسية)، وأدت إلى تداخل المصالح المتعارضة غير القابلة للاندماج، وبلورت أزمات إقليمية. وضمن هذا المسار فإن التوصية العامة التي تتبناها الورقة هي تحويل مشاريع الهيمنة من أيديولوجية إلى اقتصادية. ويقدم النموذجان التركي والسعودي مثالاً جيّداً على الأثر الإيجابي الملموس لمثل هذا التحوُّل الذي من شأنه أنْ يؤدي إلى خفض حدّة التوتر، وتكريس منطق حلّ الأزمات عبر الطرق غير العنيفة. إن مَحْوَرَةَ مبادئ الهيمنة حول الاقتصاد، تُساعِدُ إلى حدٍّ كبيرٍ في تعزيز التنافس الاقتصادي الاقليمي، كما تُساعدُ في تحقيق الاستقرار الأمني والعسكري في منطقة الشرق الأوسط.

 

  • ممارسة الفعل السياسي عبر مستويات ما دون الدولة؛ ولا يقتصر هذا السلوك على إيران فقط، لكنّ الحالة الراهنة تظهر انخراط إيران فيه بشكلٍ بارزٍ، وبما يُنذرُ بتحوُّل هذا المسار إلى قاعدة عمل إقليمية طبيعة، ويُكرّس طُغيان ظاهرة كيانات دون الدولة على المشهد الإقليمي. وهناك مؤشرات خطيرة على تحوُّل هذا المسار من مُجرّد منهج عمل إقليميّ، إلى منهج عملٍ للقوى الكبرى أيضاً في مقارباتها للنطاق الإقليمي؛ حيثُ بدأ بعض القوى الكبرى بتسيير رغباتها من خلال كيانات ما دون الدولة. وضمن هذا المسار فإن التوصية العامة، هي: العمل على ترسيخ منطق الدولة في النطاق الإقليمي، عبر مأسَسَة آليات التعاون الإقليمية، وترسيخ التنسيق بين مؤسسات الدولة، ودعم صمود مؤسسة الدولة في جميع البلدان التي تُعاني من الهشاشة في وجه كيانات ما دون الدولة. وتفترضُ هذه التوصية العمل على إنشاء “منظمة تعاون إقليمية برعاية دولية” تعملُ على جر الدول، خصوصاً تلك التي تميل نحو التعاون مع كيانات ما دون الدولة، إلى شكلٍ رسميٍّ من التّعاون المُستدام مع الدول الأخرى، عبرَ طاولة مصالح مغرية، تجعلُها راغبة بالعودة إلى سلوك الدولة الطبيعي.

 

  • مخاطر تحول المنطقة إلى ساحة صراع لمشاريع الهيمنة العالمية؛ كان الشرق الأوسط ولا يزال مَسْرحاً رئيساً لتنافس القوى الكبرى، لكنّه يتحوّلُ تدريجيّاً اليوم إلى مسرحٍ للصراع. بحيث تتحول دول المنطقة من مستوى الدول الحليفة أو غير الحليفة إلى مستوى “الوكلاء المحليين”. وحينها ستتحول المنطقة برمّتها -لا سمح الله- إلى ساحة مواجهات بالوكالة بين هذه القوى الكبرى. ولوقف هذا المسار، فإن التوصية العامة هي: تكريس حالة ” الحياد الإيجابي للقوى الكبرى” في النطاق الإقليمي، عبر جرّ تلك القوى إلى عملية تسوية وإدماج إقليمية-سياسية ذاتيّة الدّفع، وشاملة في المنطقة، وبحيثُ يكون حضور القوى الكبرى في هذه العمليّة، ليس لفرض الأجندات والمصالح، بل للإشراف على عملية الصهر، وضمان مُخرجات هذه العملية التي ستعود على الجميع بمصالح استراتيجية، وتمنح الاقتصاد العالمي، وأمن الطاقة العالمي مزيداً من الاستقرار، وفرص الازدهار.
  • المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/almasaala-al-iraniya-biwasfiha-mudela-eqlimiya

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M