المشهد الأمني الجديد في القرن الأفريقي: التداعيات الجيوسياسية لتغيُّر ديناميات النزاع والتعاون

  • تمرُّ منطقة القرن الأفريقي في الفترة الأخيرة بمنعطفٍ حَرِج يجعل استقرارها على المحك، مع ما لذلك من تداعيات إقليمية، وربما عالمية. 
  • يُهدِّد توسع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، بدخول السودان منعطفاً أكثر قتامة، لاسيما في ضوء التحول الدراماتيكي في خريطة النفوذ وموازين القوة على الأرض، والتغيُّر النسبي في التحالفات المحلية، واستمرار جمود المسار الدبلوماسي.
  • أدت مساعي إثيوبيا للحصول على منفذ بحري، إلى توتير علاقاتها مع الحكومة الصومالية الفيدرالية، وأطاحت بجهود جيبوتي لاستئناف المحادثات بين مقديشو وهرجيسا. 
  • بينما يسعى الصومال إلى توسيع شراكاته الدفاعية والاقتصادية مع دول مثل تركيا ومصر، وتشديد العزلة والقيود الخارجية على هرجيسا؛ تمضي صوماليلاند في مساعيها الاستقلالية، ومحاولة برهنة أنها أصبحت خارج دائرة نفوذ مقديشو.
  • لدى دول الخليج، والقوى الدولية الشريكة، مصلحة أكيدة في المساعدة على استعادة الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، بما في ذلك عبر زيادة الاستثمار في آليات ومنصات العمل الجماعي المعنية باحتواء الأزمات في المنطقة.

 

تقع منطقة القرن الأفريقي في قلب التجاذبات الإقليمية والدولية، ليس فقط بسبب موقعها المميز المطل على باب المندب والبحر الأحمر، وما تحويه بلدانها من ثروات طبيعية متنوعة وأراضٍ خصيبة، فحسب، وإنما أيضاً لتاريخها وحاضرها الحافلين بالصراعات والحروب داخل الدول وفيما بينها، وبما تزخر به من عرقيات ذات امتدادات متداخلة ومتنافسة، وعوامل ديمغرافية وسياسية أخرى عديدة، تُسهم في تغيُّر ديناميات النزاع والتعاون باستمرار، وتجعل المنطقة عالقة وسط شبكة من قضايا الأمن الإقليمي.

 

وتمرُّ منطقة القرن الأفريقي في الفترة الأخيرة بمنعطفٍ حَرِج يجعل استقرارها على المحك، مع ما لذلك من تداعيات إقليمية وربما عالمية؛ ففضلاً عن توسُّع الصراع السوداني بين الجيش وقوات الدعم السريع، وحالتي عدم اليقين السياسي والانكشاف الأمني في الصومال، جراء الانقسامات السياسية وتهديدات حركة الشباب الإرهابية، والاضطرابات في جنوبي شرق أرض الصومال؛ أدت مساعي إثيوبيا للحصول على منفذ بحري، إلى توتير علاقاتها بجاراتها الساحلية على البحر الأحمر وخليج عدن، وفي مطلع يناير الماضي انفجرت أزمة كبرى مع الصومال بعد توقيع الحكومة الإثيوبية مذكرة تفاهم مع حكومة أرض الصومال (صوماليلاند) بهذا الشأن، عَدَّتها مقديشو انتهاكاً صارخاً لسيادتها ووحدة أراضيها، كما أطاحت هذه الأزمة بجهود جيبوتي لاستئناف المحادثات بين مقديشو وهرجيسا، وقد تزامن هذا كله مع تزايد مساعي القوى الخارجية الفاعلة للاستفادة من التحولات التي تشهدها المنطقة لتعزيز نفوذها، وكسب المزيد من المزايا التنافسية.

 

اتساع دائرة الصراع السوداني

تُهدِّد دوامة الاستقطاب والتوترات الناتجة عن الصراع في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، والتي تتسع وتجذب لاعبين إقليميين ودوليين، بدخول الحرب الأهلية في هذا البلد منعطفاً جديداً أكثر قتامة، لاسيما في ضوء التحول الدراماتيكي في خريطة النفوذ وموازين القوة على الأرض، والتغيُّر النسبي في التحالفات المحلية، واستمرار جمود المسار الدبلوماسي.

 

وبلمحة سريعة، يمكن استعراض أبرز المستجدات في المسرح السوداني وعلى صعيد التفاعلات الإقليمية والدولية إزاء الصراع وطرفيه، خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي تمثَّلت في الآتي:

 

● توسُّع جغرافية المعارك باتجاه وسط البلاد وشرقها؛ جراء سيطرة قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة الاستراتيجية، بما في ذلك عاصمتها ود مدني، البوابة الجنوبية للخرطوم، والمتاخمة لولايتي كسلا والقضارف الحدوديتين مع إريتريا وإثيوبيا، أواخر ديسمبر الماضي، وما تلاه من تحشيد للجيش السوداني وحلفائه من الحركات المسلحة والقبائل لاستعادتها؛ فتوسُّع رقعة القتال باتجاه الشرق عُد نقطة تحوُّل، تتجاوز تأثيراتها الديناميات المحلية للصراع إلى الأبعاد والتصورات والتحالفات الإقليمية المرتبطة به.

 

● تخلي الحركات المسلحة عن حيادها، نتيجة جملة من العوامل، بما فيها اتساع رقعة القتال ومؤشرات إطالة أمد الحرب؛ والعامل القبلي والعداوات التاريخية المتجذرة؛ والحسابات البراغماتية الخاصة بالفاعلين المحليين؛ وإغراءات طرفي الحرب لهم لاستمالتهم؛ والعامل الخارجي، وبمعنى آخر الحوافز التي تُقدمها أطراف إقليمية لهم للانحياز لأحد طرفي الصراع.

 

في هذا السياق، رأت بعض الحركات المسلحة الدارفورية، وأبرزها حركتا العدل والمساواة، بزعامة جبريل إبراهيم-وزير المالية الحالي؛ وتحرير السودان (جناح مني أركو مناوي- حاكم إقليم دارفور)،  في تمدُّد قوات الدعم السريع، تهديداً لها ولمكاسبها الميدانية وأنشطتها الاقتصادية التي ضاعفتها مؤخراً، مُستغلة الفراغ الذي تركه الجيش السوداني، لذلك فضَّلت التقارب مع هذا الأخير، وإِن مرحلياً، وأعلنتا الانضمام للجيش منذ منتصف نوفمبر، دون أن تخوضا معه لاحقاً معارك حقيقية ضد الدعم السريع. وتقع أغلب قوات هاتين الحركتين في شمال إقليم دارفور وغربه. وفضلاً عنهما، هناك “حركة تحرير السودان” (بقيادة مصطفى طمبور) والتي ساندت الجيش منذ أواخر يوليو الماضي.

 

لكن ما لفتَ الأنظار أخيراً، هو تحالف “الحركة الشعبية لتحرير السودان-الشمال”، بقيادة عبد العزيز الحلو، التي تُسيطر على مناطق واسعة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، مع الجيش، لمنع دخول قوات الدعم السريع وحلفائها مدينة “الدلنج” ثاني أكبر مدن ولاية جنوب كردفان، وذلك على الرغم من نفي قيادي رفيع في الحركة الشعبية-شمال في أواخر يناير، وجود أي تحالف بينها والجيش السوداني، وتأكيده تبايُن الأهداف والعقيدة القتالية لحركته عن الجيش، وأنَّ موقفها الثابت والمعلن يتمثَّل في “تفكيك المؤسسات العسكرية، وإعادة هيكلتها على أسس جديدة”.

 

يُهدِّد توسع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، بدخول السودان منعطفاً أكثر قتامة (Shutterstock)

 

● ارتفاع مخاطر تدويل الصراع؛ وهو ما تجلى مثلاً في تجميد عضوية السودان في الهيئة الحكومية للتنمية بشرق أفريقيا “إيغاد”، ومقاطعة الفريق عبد الفتاح البرهان لقمة الكتلة الإقليمية المنعقدة في العاصمة الأوغندية كمبالا في الـ 20 من يناير، فضلاً عن استئناف العلاقات، بعد قطيعة استمرت نحو سبع سنوات، مع إيران، وهو اتفاق مكَّن الجيش من الحصول على طائرات مسيرة إيرانية، على رغم أن هذا التطور قد يُسهم في تحويل السودان إلى ساحة للتنافس الإقليمي والدولي. كما تبدو الخرطوم فاقدة الحيلة إزاء تزايد انخراط إريتريا وتنامي تأثيرها في المشهد السوداني؛ فهناك تقارير عن ضلوع أسمرة في عسكرة القبائل، عبر احتضانها معسكرات تدريب لمجموعات مسلحة من شرق السودان وسادسة من دارفور، في خطوة تعكس الشواغل الأمنية لأسمرة، وطموحاتها في استعادة نفوذها التاريخي في الإقليم، وكسب ميزة للمساومة على المستويين الإقليمي والدولي، وهو تطوُّر يُعيد المخاوف بتفجُّر الصراعات القبلية، وإمكانية زحف الحرب الأهلية إلى شرق السودان.

 

● تراجُع فرص التسوية؛ في ظل استمرار تصلُّب طرفي الحرب وتزايد رهاناتهما بقدرتهما على المناورة، وإحداث تحوُّلات حاسمة في الميدان، ومن ثمّ التأثير في الديناميات المحلية والمواقف الدولية لصالحهما. كما أن تعدُّد المنابر ومبادرات الحل، وغياب الإجماع المحلي والخارجي بشأنها، من بين تعقيدات أخرى تُقوّض الجهود الدبلوماسية الرامية لخلق بيئة مواتية للتسوية السياسية في السودان، وتدفع باتجاه تصاعُد موجة الحرب التي وصلت إلى مستويات مقلقة. ويُعزّز ما سبق، رفض مجلس السيادة لقرار مجلس الأمن الدولي الصادر في 8 مارس الجاري، والذي دعا أطراف النزاع إلى الوقف الفوري للأعمال العدائية خلال شهر رمضان، والبحث عن حل مستدام للنزاع من خلال الحوار، وإزالة أي عوائق أمام تمكين وصول المساعدات الإنسانية.

 

وحتى الآن، ما مِن مؤشرات حقيقية تبعث على التفاؤل بشأن تزايد قناعة طرفي الحرب بجدوى الخيارات السلمية، على نحوٍ يُمهِّد لاقتراب الصراع من نهايته، وذلك على الرغم من اكتساب تحركات القوى المدنية زخماً متزايداً، وخصوصاً تلك التي تقودها “تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية” (تقدم)، برئاسة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، الرامية لبناء إجماع وطني للتأثير على التفاعلات السياسية في البلاد، والضغط لوقف الحرب وإعادة تصويب المسار الديمقراطي، بالتزامن مع عودة الاهتمام الدولي والإقليمي بالملف السوداني، بعد أن كان تراجع جراء الانشغال بحرب غزة، والتوترات الجيوسياسية والأمنية في البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

 

أزمة الاتفاق الإثيوبي البحري مع صوماليلاند

تجلى التطور الأبرز المعبِّر عن المشروع الاستراتيجي الإثيوبي للتمدد إلى البحر الأحمر، من خلال مذكرة التفاهم التي وقعتها أديس أبابا مع إدارة أرض الصومال في 1 يناير 2024، والتي تُتيح للبحرية الإثيوبية التموضع في سواحل خليج عدن واستخدام ميناء بربرة لأغراض تجارية، مُقابل وعد إثيوبي بالاعتراف بأرض الصومال “دولة ذات سيادة”، وحصولها على بعض الأسهم في شركة الخطوط الجوية الإثيوبية. ولا تزال الحكومة الفيدرالية الصومالية، التي استدعت سفيرها في أديس أبابا، تعبيراً عن رفضها القاطع للاتفاق، الذي عدته “انتهاكاً” لسيادة الصومال ووحدته وسلامته الإقليمية وأمنه الحيوي، تضع عقبة كبيرة أمام أي مساع للتوسط بينها وجارتها الإثيوبية، حيث تشترط “انسحاب إثيوبيا من مذكرة التفاهم غير القانونية، وأن تُعيد التأكيد على سيادة الصومال ووحدة أراضيه”.

 

وعلى الرغم من محاولة حكومة آبي أحمد الدخول في حوار مع نظيرتها الصومالية لخفض التوتر وبحث سُبُل الحل الدبلوماسي للأزمة، فإن الخطاب الإثيوبي لم يُفلِح بعد في تهدئة مخاوف مقديشو بشأن الوجود العسكري الإثيوبي المزمع في ساحل أرض الصومال، ومنح الأخيرة الاعتراف، من منطلق أن خطوة كهذه ستُحفِّز النزعة الانفصالية لدى الولايات الصومالية الأخرى. وأدى الجدل الدبلوماسي بين أديس أبابا ومقديشو عقب اتهام الرئيس الصومالي شيخ محمود إثيوبيا بمحاولة منعه من دخول مقر الاتحاد الأفريقي، للمشاركة في القمة الأفريقية المنعقدة في أديس أبابا يومي 17 و18 فبراير الماضي، إلى زيادة القطيعة بين الجانبين، وعمَّق مخاوف الصوماليين بأن أديس أبابا تسعى لفرض تصوراتها بالقوة، مستغلةً هشاشة الأوضاع في بلدهم.

 

لم يُفلِح الخطاب الإثيوبي في تهدئة مخاوف مقديشو بشأن الاتفاق البحري مع صوماليلاند (منصة إكس)

 

وفي حين يجري الحديث عن جهود حثيثة لنزع فتيل الأزمة الإثيوبية-الصومالية، لاسيما من قبل الرئيس الكيني وليام روتو، الذي حاول تنشيط القنوات الدبلوماسية الخلفية لجمع الدولتين على طاولة التفاوض في ظل استمرار تعذُّر ترتيب لقاء مباشر بين زعيميهما شيخ محمود وآبي أحمد؛ إلَّا أنَّه، ما من مؤشرات على إمكانية احتواء التوترات المتصاعدة بين مقديشو وأديس أبابا، والتي سيزيدها اشتعالاً مُضِي كلٌّ من الأخيرة وهرجيسا في وضع اللمسات النهائية على اتفاقيتهما. ومن المتوقَّع عندئذٍ أن تؤدي هذه الأزمة ليس فقط إلى الإضرار بالعلاقات الثنائية؛ وإنما أيضاً إلى تغيير الموازين والحسابات الجيوسياسية في المنطقة الأوسع، بحيث قد تُقوّض التوترات التعاون والتكامل الإقليميين، وخاصة في مجال الأمن الإقليمي، ومكافحة الإرهاب في الصومال والقرن الأفريقي، وتُؤجّج التدافع الخارجي نحو المنطقة، وتُشعِل قضايا المياه في حوض النيل، لاسيما في ظل تعثُّر المحادثات بشأن سد النهضة، واحتمال وجود نوايا لدى أديس أبابا لإنشاء مشروعات مماثلة على أنهار أخرى لتقييد تدفقات المياه العذبة إلى جاراتها، بما في ذلك على نهري “وويا شبيلي”، و”داوا” على سبيل المثال.

 

وحتى في حال أبدى الطرفان رغبتهما في تبريد الخلافات، واستكشاف مسارات ممكنة لحلحلة الأزمة، ومعالجة الشواغل الخاصة بكل منهما بطريقة ودية تعاونية، فإن سيناريو كهذا يبدو متفائلاً، مع أنَّه لن يكون سهلاً، وسيتطلب إرادة سياسية وتنازلات حقيقية، وتوافر جملة من الشروط الموضوعية والظروف الجيوسياسية، قد تشمل حلحلة قضية “أرض الصومال”.

 

تصاعُد التوترات بين الصومال و”صوماليلاند”

لم تكن الصفقة التي أبرمتها حكومة الرئيس موسى بيحي عبدي مع الدولة الإثيوبية كفيلة بنسف الجهود التي بذلتها جيبوتي، قبلَها بأيام قليلة، لاستئناف المحادثات بين مقديشو وهرجيسا، فحسب؛ ولكن أيضاً بإعادة الأمور بين الأخيرتين إلى مربع الصفر، وآذَنَتْ بدورة جديدة من التوترات والاتهامات المتبادلة، بما في ذلك حول إدارة المجال الجوي، في تنصُّل عن الاتفاقيات السابقة التي تمحورت حول قضايا الأمن، وعدم تسييس المساعدات الدولية وإدارة المجال الجوي. ففي 17 و18 يناير، منعت هيئة الطيران المدني الصومالية طائرتي شحن كانتا متجهتين إلى هرجيسا، الأولى إثيوبية بحجة أنها كانت تحمل وفداً إثيوبيا رفيع المستوى لإتمام الاتفاق البحري مع أرض الصومال في صيغته النهائية، فيما الثانية تايلندية، بزَعم أنَّها تحوي شحنة أسلحة إلى المنطقة الانفصالية، لينشأ نزاع جوي هو الأول من نوعه منذ تولَّت الحكومة الفيدرالية الصومالية إدارة المجال الجوي للبلاد نهاية عام 2017، وقد أثار هذا النزاع المخاوف من تأثيراته على حركة الملاحة الجوية، ومثَّل تحدياً جديداً لأصحاب المصلحة الإقليميين والدوليين المعنيين بالحفاظ على الأمن الإقليمي، وسلامة الطيران الدولي.

 

ويكشف هذا المناخ المشحون عُمق الأزمة والتوترات الراسخة بين طرفي النزاع الصومالي في جنوب البلاد وشمالها، كما يُؤكد على التشابك المعقد بين التفاعلات المحلية والديناميات الإقليمية والتحالفات الدولية في القرن الأفريقي؛ فبينما يسعى الصومال إلى تعزيز موقعه الاستراتيجي، بما في ذلك عبر توسيع الشراكات الدفاعية والاقتصادية مع دول مثل تركيا ومصر، وتدعيم موقفه بشأن قضية صوماليلاند باعتبارها “شأناً داخلياً”، وبالتالي تشديد العزلة والقيود الخارجية على هرجيسا؛ تمضي صوماليلاند في محاولة برهنة أنها أصبحت خارج دائرة نفوذ مقديشو، وأن الأخيرة تفتقر لعناصر القوة والمقومات الأساسية اللازمة لفرض السيادة عليها، ولذا تعمد باستمرار إلى التقليل من فعالية تحركات حكومة شيخ محمود بهذا الشأن، وتحذير القوى الخارجية من مغبة الاصطفاف مع الصومال ضد “إرادة شعب أرض الصومال”؛ لتؤكد هرجيسا بذلك تصميمها على فك الارتباط عن الدولة الصومالية، والمضي قدماً في الاتفاق البحري وتعزيز التعاون الدفاعي والأمني مع أديس أبابا، مع تزايد تعويلها على جارتها الكبرى (إثيوبيا)، وأنَّ طريقها لنيل الاستقلال والاعتراف الدولي يمر -في جزء كبير منه- عبر أديس أبابا، والتي تحتاج للحصول على حمايتها في ظل تنامي مهددات الاستقرار في “صوماليلاند”.

 

أطاحت أزمة الاتفاق البحري بين إثيوبيا وصوماليلاند بجهود جيبوتي لاستئناف المحادثات بين مقديشو وهرجيسا (AFP)

 

الاختراق التركي الجديد 

في ظل استمرار التوترات الجيوسياسية في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وتصاعد الأزمة بين الصومال وإثيوبيا، أبرمت تركيا والصومال، في 8 فبراير 2024، ما سمي “الاتفاق الإطاري للتعاون الدفاعي والاقتصادي ومكافحة الإرهاب”، والذي أقرَّه البرلمان الصومالي على عجالة بعد أسبوعين فقط (في 21 من الشهر نفسه)، وبموجبه ستحمي تركيا سواحل الصومال ومياهه، لمدة 10 سنوات، بما في ذلك من “الغزو الأجنبي والتدخلات الخارجية”، والأنشطة غير القانونية، مثل القرصنة والصيد الجائر وتهريب المخدرات والإرهاب، وتساعده على بناء قواته البحرية وتدريبها، وتعزيز قدراته على حماية مجاله البحري، وتنمية موارده البحرية واقتصاده الأزرق، من بين مجالات وجوانب أشمل للتعاون يُغطِّيها الاتفاق، الذي وصفه المسؤولون الصوماليون بـ”التاريخي”، ورفضته حكومة أرض الصومال وحركة الشباب المجاهدين المتطرفة.

 

ووفقاً للمعلومات المتوفرة، يتضمن الاتفاق الشامل الذي ستتَبَعه بروتوكولات فرعية تفصيلية، صلاحيات أمنية واسعة ومكاسب اقتصادية لتركيا، مما يعزز وجودها في هذا البلد ومياهه الإقليمية، إذ سيُفتَح المجال الجوي الصومالي والمناطق الأمنية الصوماليَّة أمامها، وستحصل على 30% من عائدات المنطقة الاقتصادية الخالصة للصومال، وقد شرع الأتراك بالفعل في استغلال الاحتياطيات الهيدروكربونية للصومال المقدرة بعشرات مليارات البراميل (نحو 30 مليار برميل وفق التقديرات الأمريكية)، حيث وقَّع وزير الطاقة التركي ونظيره الصومالي للبترول والثروة المعدنية في 7 مارس الجاري، اتفاقاً للتنقيب عن النفط والغاز بالمنطقة الاقتصادية الصومالية، بالتزامن مع إرسال أنقرة وفداً عسكرياً رفيع المستوى إلى مقديشو، بعد أيام من توجُّه شيخ محمود إلى تركيا لحضور منتدى أنطاليا الدبلوماسي، وحصوله من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تأكيدات بدعم أنقرة للصومال لحماية سيادته ووحدة أراضيه. وهو ما يعكس عزم الجانبين على سرعة ترجمة توجهاتهما بشأن تعزيز الشراكة.

 

هناك من يرى بأن الحضور التركي في الصومال قد يخلق نوعاً من التوازن بين الأطراف المتنازعة (AFP)

 

وفي حين أكد الرئيس الصومالي أن اتفاقية التعاون الدفاعي الموقعة مع تركيا، لا تستهدف أيّ طرف ثالث، في إشارة واضحة إلى إثيوبيا، وإنما تأتي في إطار تحقيق مصلحة الصومال وحماية مياهه الإقليمية من الأطماع الخارجية، هناك من يرى بأن الحضور التركي قد يُحقِّق نوعاً من التوازن، بما يُضيّق خيارات إثيوبيا ويكبح اندفاعها للمضي قدماً في تنفيذ اتفاقها البحري مع صوماليلاند، وربما يُعزِّز أوراق أنقرة وحظوظها لتؤدي دوراً فاعلاً للتوسط واحتواء الأزمة.

 

غير أن الخطوة التركية تعكس تطوُّر رؤية تركيا الاستراتيجية للانتشار العسكري خارج أراضيها، لتوسيع نفوذها وتأمين مصالحها في القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، فمن خلال الاتفاقات الدفاعية المبرمة مع دول المنطقة، بما فيها إثيوبيا وكينيا، وآخرها جيبوتي التي وقّعت معها في 19 فبراير نفسه، ثلاث اتفاقيات تعاون (في مجال التدريب العسكري، والتعاون المالي العسكري، وبروتوكول تنفيذ المساعدات النقدية)، تُهيئ أنقرة نفسها لتصبح لاعباً مؤثراً في الأمن الإقليمي ومختلف قضايا المنطقة والقارة الأفريقية وملفاتها، نظراً لشبكة علاقتها الاقتصادية وطموحاتها الجيوسياسية الآخذة في التنامي.

 

وهكذا، يمكن استنتاج أنَّ أبعاد الاتفاق التركي-الصومالي أعمق، وربما ستكون انعكاساته أوسع نطاقاً، مقارنة بمذكرة التفاهم الإثيوبية-الصوماليلاندية، لجهة إعادة ترتيب العلاقات وتشكيل التحالفات وتغيير الموازين والديناميات في منطقة القرن الأفريقي، التي تشهد تدافعاً دولياً وإقليمياً متزايداً، في ضوء تزايد أهميتها الجيوسياسية والاقتصادية في التقدير الاستراتيجي للقوى المتنافسة، على وقع التحولات العالمية الكبرى، بما فيها بوادر تشكُّل نظام عالمي جديد مُتعدِّد الأقطاب، والديناميكيات المتطورة في أسواق المعادن الحيوية للتحول العالمي نحو الطاقة الجديدة والمستدامة.

 

تمسُّك الفرقاء بـ”مبدأ الحلول الأفريقية للمشاكل الأفريقية” أسهم في تعقيد نزاعات القرن الأفريقي وإطالة أمدها (AFP)

 

كيف يمكن المساعدة في احتواء أزمات القرن الأفريقي؟

لدى دول الخليج، والشركاء الدوليين، وخاصة الغربيين، مصلحة أكيدة في المساعدة على استعادة الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، بما في ذلك عبر زيادة الاستثمار في آليات ومنصات العمل الجماعي المعنية باحتواء الأزمات والحد من بُؤر التوتر في المنطقة، والإسهام في إعادة صياغة العلاقات والتفاعلات بين الجهات المحلية الفاعلة والحكومات والدول وفيما بينها، وخفض مخاطر الصراع بالوكالة وتدويل ملفات القرن الأفريقي وقضاياها، وخلق مناخات لترشيد التنافس والتعاون، بما يُسهم في تعزيز السلم والأمن الإقليميين، وتوسيع الشراكات المربحة للجميع.

 

وبينما يُدرك الشركاء تصلُّب المواقف والمستوى الذي وصلت إليه التوترات الحالية، وهوة انعدام الثقة بين الفرقاء المحليين والإقليميين، قد يكون من المهم، بحث الضمانات والحوافز والضغوط المشتركة اللازمة لجعلهم يتبنون مسارات سلمية لحل الأزمات القائمة، ومن ثمّ أخذ الموجهات الآتية بعين الاعتبار:

 

  • ضرورة انخراط القوى الخارجية الفاعلة في منطقة القرن الأفريقي، بحسن نية في جهود حلحلة الأزمات بدلاً من التركيز على استخدامها لتعزيز المصالح الخاصة، والعمل باستمرار على تأطير منافسة صحية وإيجابية لتجنيب المنطقة الارتدادات السلبية للاستقطاب والتدافع الخارجيين، عبر زيادة مستويات التنسيق فيما بينها، وكذلك مع الدول والجهات الفاعلة في المنطقة، من أجل موائمة الأهداف وخفض احتمالات تضارب المصالح، والتوافق حول رسم مسارات موثوقة ومتنوعة للتعاون طويل الأمد، واستكشاف فرص وآفاق جديدة لتوسيع الشراكات الرامية لتعزيز المنافع المتبادلة.
  • تعزيز الانخراط الدبلوماسي المشترك في مسار معالجة منازعات القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، حيث ثبت في حالات عديدة أن تمسُّك الفرقاء في المنطقة بـ”مبدأ الحلول الأفريقية للمشاكل الأفريقية” أسهم في تعقيد النزاعات وإطالة أمدها، في ظل افتقار الاتحاد الأفريقي والمنظمات الإقليمية لاستراتيجيات استباقية لمنع النزاعات في المنطقة، وآليات إيجاد حلول نهائية ومستدامة للصراعات، وضمان إلزام المعنيين بالمضي في تنفيذها.
  • إعطاء الأولوية لمنع تصاعُد التوترات والتهدئة بين مقديشو وأديس أبابا من جهة، وبينها وبين أرض الصومال من جهة ثانية. وقد يفيد الاسترشاد بحالات ونزاعات دولية مشابهة، لوضع تصورات عملية لكيفية الموائمة بين طموحات إثيوبيا البحرية، ومعالجة شواغل مقديشو المتعلقة بالسيادة والسلامة الإقليمية.
  • إيلاء الوضع في أرض الصومال وقضيتها المزمنة المزيد من الاهتمام، ووضع طرفي الأزمة الصومالية في صورة العواقب المحدقة لتصعيد العداء الداخلي والسياسيات “الصفرية”، وأهمية استعادة التعاون، لاسيما في المجال الأمني والجوي، وفي مواجهة التهديدات المشتركة كالإرهاب والجفاف. ومن ثمَّ، الدفع لاستئناف المفاوضات بين مقديشو وهرجيسا، وبلورة خريطة طريق للتسوية بينهما.
  • زيادة الضغط على القوى المتصارعة في السودان للجنوح إلى التهدئة واتباع خيار السلام، وبذل المزيد من المساعي لرسم خريطة طريق واضحة تُنهي الأزمة السودانية وتعالج جذورها، تتضمن خططاً عملية لاستئناف وتسريع العملية التفاوضية، مع التركيز للتوصل لوقف مرحلي للأعمال العدائية، يُمكِن تمديده والبناء عليه لتعزيز تدابير الثقة وإطلاق عملية سياسية شاملة في البلاد.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/almashhad-alamni-aljadid-fi-alqarn-alafriqi-altadaeiat-aljiusiasia-ltghyur-dinamiaat-alnizae-waltaawun

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M