المحكمة الاتحادية العليا في العراق: من تخويف المعارضين إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي

  • في ضوء تنامي الدور السياسي للمحكمة الاتحادية العليا، يشهد العراق تغيُّراً أساسياً في قواعد اللعبة السياسية لصالح هيمنة الإطار التنسيقي على حساب الأطراف السياسية الأخرى، وإنهاء ما تبقى من توافق بين المكونات الثلاث الرئيسة في البلاد (الشيعة، والسُّنة، والأكراد).
  • إذا استمر الدور السياسي الراهن الذي تؤديه المحكمة الاتحادية، فإنه من غير المستبعد أن تتشكل مستقبلاً جبهة واسعة نسبياً مُناهِضة للمحكمة من قوى مختلفة تضررت من قراراتها، وستُطالِب هذه القوى بتشريع قانون المحكمة الاتحادية كما هو منصوص عليه في دستور 2005، ما يعني إنهاء عمل المحكمة الحالية.
  • في حال لم يُشرَّع قانون المحكمة الاتحادية كما نص عليه دستور 2005، سيكون على الإطار التنسيقي تقديم ضمانات موثوقة للأطراف المختلفة، خصوصاً الصدريين، للمشاركة في الانتخابات المقبلة، من دون مواجهة قرارات قضائية مُسيَّسة تستهدفهم كما حصل بعد انتخابات عام 2021.

 

على مدى الشهور الماضية، برزت المحكمة الاتحادية العليا في العراق بوصفها فاعلاً سياسياً مؤثراً، عبر اتخاذها سلسلة قرارات حاسمة أعادت صياغة المشهد السياسي العراقي بشكل ملموس، كما في قرار إنهاء عضوية رئيس مجلس النواب العراقي، محمد الحلبوسي، في نوفمبر 2023، وقراراتها الأخيرة بخصوص إقليم كردستان التي تضمَّنت إلزام الحكومة الاتحادية بدفع رواتب موظفي الإقليم، وحكومة الإقليم بتسليم جميع إيراداتها النفطية وغير النفطية إلى خزينة الدولة، وإعادة تقسيم المناطق الانتخابية في الإقليم، وتخفيض عدد النواب في برلمانه، وإلغاء كوتا الأقليات فيه. وكان لهذه القرارات تأثير قوي على المعادلات السياسية الكردية والسُّنية، خصوصاً لجهة تفتيت قوة الفاعلين الرئيسين، كُردياً وسنياً، على نحوٍ يُسهم في تعزيز هيمنة الإطار التنسيقي خارج مناطقه التقليدية الشيعية، ليشمل الآن المحافظات الكردية والسنية.

 

تُناقِش هذه الورقة النفوذ المتصاعد للمحكمة الاتحادية العليا في الخريطة السياسية العراقية عبر قراراتها القضائية، والانعكاسات السياسية المحتملة لهذه القرارات على ميزان القوى في العراق.

 

الإطار التنسيقي وتنامي التوظيف السياسي للمحكمة الاتحادية

في الأسبوع الأول من شهر مارس 2024، أصدرت محكمة في بغداد حكماً بالسجن ستة أشهر ضد عضو البرلمان العراقي، هادي السلامي، على خلفية اتهامه باستخدام وثيقة مزورة “لتشويه صورة وزير التجارة أمام رئيس الوزراء”[1]. وُضعَ السلامي في السجن، واستُند في ذلك على تفسير للمحكمة الاتحادية، اعتبرت فيه أنه لا توجد حصانة للنواب إلا في حالات معينة محدودة. ولكن، بعدها بيومين سحبت وزارة التجارة دعواها ضد السلامي ليُطلق سراحه. ومع أن الحادث كله انتهى بسرعة، فإنه أثار اهتماماً إعلامياً واسعاً، وقَلقاً غير معلن من جانب نواب كثيرين بخصوص افتقادهم الحصانة البرلمانية بسبب تفسيرات مُتعسِّفة للدستور من قبل المحكمة الاتحادية.

 

يتجنَّب الساسة والإعلاميون العراقيون عموماً انتقاد القضاء، وعلى نحو أخص المحكمة الاتحادية، ورئيس السلطة القضائية القاضي فائق زيدان، بسبب قدرة هذه السلطة على وضع المنتقدين وراء القضبان على أساس مواد قمعية في قانون العقوبات العراقي الموروث من العهد البعثي (القانون 111 المعدل لعام 1969)، خصوصاً المتعلقة منها بالإساءة إلى المؤسسات والشخصيات العامة.[2] لكن الدور المهم الذي تؤديه المحكمة الاتحادية خصوصاً يذهب إلى ما هو أبعد من تقييد حرية الرأي وتخويف المعترضين، ليتجاوزه إلى ما هو أشد تأثيراً على المستقبل السياسي للبلد، أي استخدامها أداة سياسية بيد الإطار التنسيقي الحاكم، تُحقق له عبر “القانون” ما يعجز عن تحقيقه بالسياسة، ليعيد صياغة خارطة السياسة في العراق على نحو مختلف كثيراً عما كان سائداً منذ عام 2003، من خلال تحويل السُّنة والأكراد من شركاء نديين للشيعة إلى شركاء تابعين دون قدرة حقيقية على الاعتراض، أي إنهاء ما تبقى من التوافق السياسي بين المكونات الثلاثة في البلد، الشيعة والأكراد والسُّنة، لصالح هيمنة شيعية إطارية شبه مطلقة على حكم العراق.

 

في ظل الشراكة الندية السابقة كانت هناك قدرة لدى الأكراد والسُّنة على ممارسة بعض الضغط الفعال على البيت الشيعي، وتغيير مواقفه في القضايا الأساسية التي تتعلق بالمصالح الكردية والسنية، وأحياناً في القضايا الوطنية العامة، وهو ما كان يعني هامش مناورة واسعاً نسبياً للممثّلين السياسيين لهاتين المجموعتين، لكنْ بعد انسحاب التيار الصدري من السياسة، وانفراد الإطار التنسيقي بالسلطة وما يبدو من دعم إيران الكامل له، أصبح الأكراد والسنة عملياً دون نفوذ سياسي يستطيع ردع اندفاعات الإطار التنسيقي. وفي سياق هذا التحول الجوهري في معادلة السياسة في البلد، برز دور المحكمة الاتحادية السياسي في ترسيخ هيمنة الإطار التنسيقي، ومنحها الشرعية القانونية اللازمة.

 

من الناحية التاريخية، برز التوظيف السياسي للمحكمة الاتحادية بعد الانتخابات البرلمانية العامة في أكتوبر 2021 عندما أنقذت المحكمة الاتحادية الإطار التنسيقي من خسارة معركته السياسية ضد التيار الصدري الفائز بتلك الانتخابات.[3] فقد أصَرَّ التيار الصدري حينها على تشكيل حكومة أغلبية سياسية من “التحالف الثلاثي”، الذي يضم إضافة إليه شريكان، كردي وسني: الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) بزعامة مسعود بارزاني، وتحالف السيادة بزعامة محمد الحلبوسي، ليكسر بذلك تقليد حكومات “الوحدة الوطنية” التي سادت في البلد منذ أول انتخابات برلمانية في 2005. عارضَ الإطار التنسيقي هذا المقترح بشدة، لأن قيام مثل هذه الحكومة يُجبره، كله أو معظم أطرافه، على الذهاب إلى مقاعد المعارضة البرلمانية، ما يعني حرمانه من امتيازات السلطة التنفيذية التي تتضمن إدارة مؤسسات ووزارات حكومية (التي تمثل مصدر النفوذ والموارد) على أساس المحاصصة الطائفية والحزبية التي سادت في ظل حكومات “الوحدة الوطنية”، والتي تَشكَّلَ إجماعٌ سياسي وشعبي على فشلها.

 

تنامي الدور السياسي للمحكمة الاتحادية العليا في العراق، عزز من هيمنة الإطار التنسيقي الحاكم (AFP)

 

بعد فشل الضغوط المختلفة التي مارسها الإطارُ التنسيقي لدفع الحليفين الكردي والسني إلى مغادرة “التحالف الثلاثي” الذي جمعهما مع التيار الصدري، وترْك الأخير وحيداً بهدف إجباره على التحالف مع الإطار التنسيقي، جاء قرار المحكمة الحاسم في بداية فبراير 2022، أي قبل أيام قليلة من عقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، باشتراط أغلبية الثلثين كنصاب لعقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، ليمنح القرار بذلك الإطار التنسيقي امتياز الثلث المعطل.[4] ومن دون انتخاب رئيس الجمهورية، لا يمكن تكليف رئيس الوزراء بتشكيل الحكومة، لأن رئيس الجمهورية المنتخب بعد آخر انتخابات هو الوحيد الذي يَحِقُّ له تكليف رئيس الوزراء بهذه المهمة. وعلى الرغم من عدم وجود معطيات مؤكدة بخصوص الأسباب التي قادت المحكمة إلى المجيء بتفسير الثلث المعطل الذي يخالف النص الدستوري بشكل صريح، فإنه ثمة مؤشرات على الطابع السياسي وليس القانوني لهذا التفسير.

 

على رغم هذا التفسير، صَمَدَ التحالف الثلاثي، ليأتي بعده بأقل من أسبوعين في منتصف فبراير 2002، قرارُ المحكمة بإبطال قانون النفط والغاز لحكومة إقليم كردستان الصادر في عام 2007، الذي كان الإقليم بموجبه يُصدِّر النفط دون العودة إلى الحكومة الاتحادية أو التنسيق معها. وعلى الرغم من وجود أساس دستوري رصين لإبطال هذا القانون، كان لافتاً قرار اللجوء إلى المحكمة الاتحادية لتحدّيه بعد 15 عاماً من تشريعه ودخوله حيز التنفيذ، وبالذات في أثناء الصراع الحاد على تشكيل الحكومة.

 

وبعد عدة محاولات فاشلة لتجاوز عقبة الثلث المُعطِّل، قرر التيار الصدري الاستقالة من البرلمان، والانسحاب من العملية السياسية. على إثر ذلك تمكن الإطار التنسيقي من نسج تحالف برلماني مع الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي)، وتحالف السيادة، اللذين أصبحا في حِلٍّ من تحالفهما السابق مع التيار الصدري، ليُصار الى تشكيل حكومة “وحدة وطنية” جديدة. لكن يبدو أن تشكيل هذه الحكومة لم يكن نهاية الدرب بالنسبة للإطار التنسيقي، فالرغبة في الاقتصاص من حليفَي التيار الصدري السابقَين على تحديهما الإطار كانت حاضرة. ففي نوفمبر 2023، صَدَر قرارُ المحكمة الاتحادية بإسقاط عضوية محمد الحلبوسي في البرلمان، وهو ما أفقده تلقائياً رئاسة مجلس النواب، رغم مخالفة القرار الصريحة للمادة 52 من الدستور العراقي، التي تحصر حرمان العضوية في البرلمان بتصويت البرلمان بأغلبية ثلثي أعضائه أولاً.

 

وما كانت خطوة التخلص من الحلبوسي مرتبطةً بالاقتصاص السياسي فقط، وإنما نبعت من حسابات سياسية أوسع؛ فبروز الرجل بوصفه لاعباً سنياً أول يستطيع أن يتصرَّف على نحو مستقل مثَّل مصدر قلق للإطار التنسيقي، كما كشفت تجربة التحالف الثلاثي. وهناك القلق الآخر المتعلق بوحدة الصف السني العامة، رغم وجود خلافات بينية هنا وهناك، في ظل قيادة الحلبوسي، في وقت كان الشيعة مُفكّكين سياسياً، كما كان الحال مع الأكراد المنقسمين فيما بينهم أيضاً. كان امتياز القوة هذا الذي شكّله الحلبوسي يتجاوز الخطوط الحُمْر الإطارية التي لا تسمح بوجود شركاء أقوياء قادرين على توحيد الجماعات التي يمثلونها، وعلى تحدي الإطار عندما تقتضي مصالحهم ذلك.

 

لم يكن تفكيك الزعامة السياسية السنية أمراً صعباً بالنسبة للإطار التنسيقي، فالسُّنة العرب منذ 2003 هُم الشريك الأضعف سياسياً، وتعرَّضت قياداتهم للتفكيك من قبل المكون السياسي الشيعي، بصمتٍ أو تواطؤٍ كردي، بضع مرات، كما في إطاحة نائب رئيس الجمهورية الأسبق، طارق الهاشمي في 2012 على يد رئيس الوزراء حينها نوري المالكي. فضلاً عن أن الكثير من القيادات السنية صَدَرت ضدها أوامر إلقاء قبض بتهم مختلفة تجعلها عاجزة عن تحدي الإطار التنسيقي، أو الذهاب بعيداً في المسارات التي تؤكد استقلالها عنه. وما يجعل عملية التقويض هذه سهلة نسبياً، أن مصدر قوة السُّنة العرب في عراق ما بعد 2003 كان يعتمد دوماً على حصولهم على موارد الدولة الاتحادية من مناصب وتعيينات وصفقات اقتصادية تمر كلها بموافقة البيت الشيعي، بالعكس من الأكراد الذين كانوا دوماً يتمتعون بمصادر قوة مستقلة عن الشريك الشيعي، بينها الترتيب الفيدرالي الخاص بهم المنصوص عليه دستورياً، ووجود موارد نفطية في مناطقهم. لهذا السبب تُركز قرارات المحكمة الاتحادية، تلبيةً لرغبات الإطار التنسيقي السياسية، على تفكيك أقصى ما يمكن من مصادر قوة الإقليم الذاتية من دون إطاحة الترتيب الفيدرالي نفسه، أو إخضاعه على نحو كامل للسيطرة الشيعية، كما يحصل مع السُّنة العرب.

 

تقويض نفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني 

في هذا السياق، تبدو القرارات الأخيرة للمحكمة الاتحادية في نهاية فبراير الماضي، بخصوص إقليم كردستان، مُعدَّة خصيصاً لإضعاف الطرف الكردي الأكثر استعداداً لتحدي الإطار التنسيقي، وتأكيد الاستقلالية الكردية النسبية، وهو الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي)، فتلك القرارات مجتمعةً تُضعف كثيراً نفوذه المؤسساتي والسياسي في الإقليم وتهدد سلطته فيه، في الوقت نفسه الذي تُقوِّي موقع الاتحاد الوطني الكردستاني (اليكتي) بزعامة بافل طالباني، المنافس الكردي التقليدي لـلبارتي، والمنضوي في الإطار التنسيقي. فكوتا الأقليات في برلمان الإقليم بمقاعدها الـ 11، من مجموع مقاعد البرلمان البالغة 111 عضواً، تذهب كلها إلى البارتي حصراً، ما يساعده على تأمين أغلبية مريحة في برلمان الإقليم ضد منافسيه الآخرين (بحسب قرار المحكمة، ينبغي أن يكون عدد نواب الإقليم 100 فقط، بعد إلغاء كوتا الأقليات). كما أن القرار الداعي إلى تقسيم المناطق الانتخابية في الإقليم إلى أربع أو أكثر بدلاً من المنطقة الواحدة السائد الآن، يمنح الأحزاب الكردية الأخرى المنافسة للبارتي، وعلى الأخص اليكتي، فرصاً أعلى للحصول على المزيد من مقاعد البرلمان الكردي، ما يهدد جدياً بإنهاء الأغلبية البرلمانية التقليدية للبارتي التي تُؤِّمن له الاحتفاظ برئاسة الإقليم، وهو المنصب الذي لم يغادر صفوف البارتي منذ 2003 وعبره يتحكم البارتي، إلى درجة كبيرة، بالإقليم.

 

أما قرار المحكمة بضرورة دفع بغداد رواتب موظفي الإقليم مباشرةً بعد “توطينها”، أي تسجيل الموظفين رسمياً لدى بغداد ودفع رواتبهم إلكترونياً من هناك لتذهب إلى حسابات هؤلاء الموظفين المصرفية مباشرة، بدلاً من دفعها إلى حكومة الإقليم لتقوم الأخيرة بدفعها نقداً للموظفين، ما يزيد احتمالات تضخيم أعدادهم (وهي التهمة التقليدية في بغداد بخصوص رواتب موظفي الإقليم)، فإنه يحرم البارتي من أحد المصادر التمويل، إذا صحَّت اتهامات بغداد بتضخيمه أعداد الموظفين في الإقليم، ويَربِط هؤلاء الموظفين ببغداد بدلاً من أربيل، ما يُضعِف روابط الولاء السياسي لديهم نحو البارتي ويحولها إلى بغداد. فضلاً عن ذلك، يحرم قرار المحكمة بإلزام الإقليم بتسليم كل الموارد الجمركية والنفطية إلى بغداد البارتي من أكبر مصادر تمويله وأسباب استقلاله السياسي النسبي عن بغداد، وتحديه -عند الحاجة- للأحزاب الشيعية الحاكمة فيها. وعلى رغم أن بعض هذه القرارات تحل مشاكل حقيقية، كما في دفع الرواتب، إذ يعاني الموظفون، على الأخص في محافظة السليمانية الخاضعة لسيطرة اليكتي، من العجز شبه المزمن لحكومة الإقليم عن دفع رواتبهم، فإنها بشكل عام تخالف الدستور، وتُقوِّض مبدأ الفيدرالية المنصوص عليه دستورياً. وفي هذا الصدد، بَدَت إشارة عضو المحكمة من أربيل، القاضي عبد الرحمن زيباري، الذي أعلن في مؤتمر صحفي انسحابه منها احتجاجاً على قراراتها الأخيرة بخصوص الإقليم، دقيقةً، إذ قال “إن ما لمسته في اتجاهات وقرارات المحكمة الاتحادية العليا، وتفسيراتها لنصوص الدستور في الكثير من الدعاوى والقرارات، هو الاتجاه نحو التفسير الواسع الخارج عن السياق، والذي قد يصل إلى مستوى التعديل الدستوري، وبما يُشكل مساساً بالعديد من المبادئ الدستورية، ومن ضمنها المبدأ الفيدرالي، ومبدأ الفصل بين السلطات”.

 

وما ذكره زيباري بخصوص تقويض المحكمة للفيدرالية مُعلن ومُوثَّق حتى قبل إعلان الرجل انسحابه منها، فقد أعلن القاضي فائق زيدان، في لقاء رسمي له في فبراير الماضي مع محافظ ورئيس مجلس محافظة الأنبار، أنه باستثناء الفيدرالية الممنوحة لإقليم كردستان بسبب ظروف تاريخية خاصة، فإن “فكرة إنشاء أقاليم أخرى في أي منطقة في العراق مرفوضة، لأنها تهدد وحدة العراق وأمنه.” وما يثير الانتباه في هذا التصريح ليس فقط مخالفته الصريحة للدستور والقانون العراقي النافذ، وأنَّه يُمثِّل تدخلاً من جانب السلطة القضائية في الشؤون السياسية ما يخالف مبدأ الفصل بين السلطات، بل أيضاً لأن هذا الرأي تعبير حقيقي عن موقف الإطار التنسيقي من الفيدرالية، إذ يرفضها على نحو مستمر وقاطع. فعلى مدى السنوات، رفض الإطار التنسيقي، غالباً على نحو غير قانوني، طلبات إنشاء أقاليم فيدرالية تقدمت بها عدة محافظات مثل البصرة وديالى وصلاح الدين والأنبار. ويمتد هذا الرفض، ولكن على نحوٍ مُخففٍ وضمني، إلى الفيدرالية الكردية القائمة، ويتجلى من خلال السعي لتقليم أظافرها مؤسساتياً عبر ربطها بنيوياً بإرادة بغداد في مجالات إدارة المال والثروات والانتخابات. ويُسهم هذا الربط البنيوي في تقويض النزوع الاستقلالي الكردي مستقبلاً، وهو النزوع الذي يمثله الحزب الديمقراطي الكردستاني أكثر بكثير من الاتحاد الوطني الكردستاني، ويجعل كل الإقليم الكردي تحت سيطرة بغداد.

 

وفي آخر المطاف، تبدو هذه المَركَزة الشيعية للسلطة في بغداد محاولة ناجحة، حتى الآن، لإعادة موضعة القوى السياسية “الشريكة”، السنية والكردية، وتحويلهم إلى حلفاء طائعين غير قادرين على التحدي الجدي للإطار التنسيقي، كما حصل في تجربة التحالف الثلاثي.

 

استخدم الإطار التنسيقي المحكمة الاتحادية العليا لاستبعاد رئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسي (AFP)

 

ردود الأفعال المحتملة على تسييس المحكمة الاتحادية

بدخول المحكمة الاتحادية العليا القوي ميدان التشريع غير المباشر، عبر التفسير المتعسف والمبالغ به لمواد الدستور، ومن ثمَّ إعادة ترتيب الخريطة السياسية لصالح الإطار التنسيقي، ونشرها أجواءَ الخوف بين الناشطين والبرلمانيين والصحافيين، تُعرِّض المحكمة نفسها للتقويض، بجمعها الكثير من الخصوم الصامتين والمتربصين، الذين يستطيعون إثارة نقطة ضعفها الأساسية التي لا يمكن لها أن تلتف عليها، وهي عدم تشكُّلها على أساس دستوري. فالدستور العراقي ينص في المادة 92 على تشكيل محكمة اتحادية عليا مستقلة مالياً وإدارياً ومعنوياً، تتكون “من عدد من القضاة وخبراء في الفقه الإسلامي وفقهاء القانون، يُحدَّد عددهم وتُنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة، بقانون يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب”. غير أن هذا القانون لم يُسنَّ منذ إقرار الدستور في 2005 رغم كثرة المحاولات بهذا الصدد، التي فشلت أساساً بسبب الخلاف الشديد بين الكتل السياسية حول طبيعة خبراء الفقه الإسلامي وعددهم ودورهم، وما إذا كان لهم حق نقض قرارات المحكمة أم لا، فضلاً عن نقاط خلافية أخرى بخصوص هذا القانون البالغ الأهمية.

 

ولأن كل انتخابات عراقية، بحسب الدستور، تحتاج إلى مصادقة المحكمة الاتحادية العليا على نتائجها حتى تصبح رسمية ومُلزمة، لجأت الكتل السياسية، على نحو غير دستوري، إلى استخدام محكمة اتحادية عليا أخرى ومؤقتة، هي المحكمة الحالية. تشكَّلت هذه المحكمة بموجب الأمر رقم 30 لعام 2005، الذي أصدره رئيس الوزراء العراقي الأسبق، أياد علاوي قبل ثمانية أشهر من إجراء الاستفتاء على الدستور الحالي. وبحسب هذا القانون، فإن المهمة الرئيسة لهذه المحكمة هي “الفصل في المنازعات المتعلقة بشرعية القوانين والقرارات والأنظمة والتعليمات والأوامر الصادرة من أي جهة تملك حق إصدارها، وإلغـاء التي تتعارض منها مع أحكام قانــون إدارة الدولـــة العراقيــة للمرحلـة الانتقاليـة”. كان قانون إدارة الدولة بمنزلة الدستور المؤقت للعراق على مدى 14 شهراً، وهي الفترة التي جرى خلالها “تحويل السيادة” من رئيس سلطة الائتلاف المدني، بول بريمر، إلى الحكومة العراقية برئاسة أياد علاوي في نهاية يونيو 2004، ثم إقرار الدستور العراقي الدائم في منتصف أكتوبر 2005. وقاد الفشل المتكرر للكتل السياسية، على مدى السنوات، في تشريع قانون المحكمة الاتحادية العليا المنصوص عليه في الدستور، إلى أن تتولى المحكمة الحالية كل المهمات التي حددها الدستور للمحكمة المفترضة، بحكم الأمر الواقع، وبالضد من الدستور، وغالباً بتواطؤ الكتل السياسية المختلفة، ومن بينها تلك المتضررة من القرارات الأخيرة للمحكمة.

 

وإذا ما استمر الدور السياسي الراهن الذي تؤديه المحكمة الاتحادية، فإنه من غير المستبعد أن تتشكل مستقبلاً جبهة واسعة نسبياً مُناهِضة للمحكمة من قوى مختلفة تضررت من قراراتها، وستُطالِب هذه القوى بتشريع قانون المحكمة الاتحادية كما هو منصوص عليه دستورياً، ما يعني إنهاء عمل المحكمة الحالية. وقد تدعم عوامل ثلاثة مثل هذه الجبهة؛ أولها، أنّ المنهاج الوزاري لحكومة السوداني الذي صادق عليه البرلمان، احتوى فقرة في المحور التشريعي تتعلق بتشريع قانون المحكمة الاتحادية العليا خلال ستة أشهر من عمر الحكومة. ويتعلق العامل الثاني باتساع جبهة المتضررين من الدور السياسي للمحكمة، التي تشمل التيار الصدري، وكثيراً من النواب الأكراد والسنة، فضلاً عن الشيعة من خارج الإطار التنسيقي، والناشطين السياسيين والحقوقيين والصحافيين الذين ضاقوا ذرعاً بتقييد الحريات الذي تمارسه المحكمة خصوصاً، والقضاء العراقي عموماً، باستخدام المواد العقابية الموروثة من العهد البعثي. أما العامل الثالث فيتصل بإجراء الانتخابات البرلمانية في العام المقبل (2025)، فإذا كان الإطار التنسيقي يأمل بمشاركة التيار الصدري فيها، وهو ما يسعى له بجدية كي لا يبقى التيار خارج الحقل السياسي ما يُثير احتمالات تأجيجه الشارع ضد الإطار، فسيكون صعباً على التيار خوض الانتخابات في ظل وجود المحكمة الحالية التي أدت دوراً حاسماً في إفراغ فوزه الانتخابي الذي حققه التيار في انتخابات عام 2022 من محتواه، وبالتالي دفعه إلى مغادرة المشهد السياسي.

 

من الصعب تصوُّر أن تشريع قانون المحكمة الاتحادية العليا، بما يعنيه من ضوابط ونقاشات ومساءلات برلمانية للقضاة المترشحين لشغل المناصب في هذه المحكمة، وصولاً إلى التصويت على القانون بالمصادقة بأغلبية الثلثين الصعبة، يمكن أن يحدث من دون تبني طرف شيعي رئيس لهذا التشريع، مصحوباً بدعم أطراف اخرى، كردية وسنية، وحتى بعض الأطراف الاطارية التي لا تريد معارك كسر عظم مع السنة والأكراد عبر المزيد من القرارات القضائية المسيسة. سيكون تشريع مثل هذا القانون الضروري خطوةً كبيرة إلى الأمام تتطلب تعاون أطراف مختلفة من أجل التمهيد لانتخابات غير خلافية، وامتصاص غضب كردي وسني ومدني شيعي متصاعد لكنه يبقى مكتوماً في الغالب في المرحلة الراهنة. وبخلاف تشريع هذا القانون، سيكون على الإطار التنسيقي تقديم ضمانات كبيرة ويمكن الوثوق بها لهذه الأطراف المختلفة، خصوصاً الصدريين، للمشاركة في الانتخابات المقبلة، من دون مواجهة قرارات قضائية مُسيَّسة تستهدفهم قبل السباق الانتخابي وبعده. فالإطار التنسيقي يحتاج إلى انتخابات هادئة وسلسة على غرار انتخابات مجالس المحافظات، رغم المقاطعة الواسعة لها، لا يُشكَّك في نتائجها، لاستعادة بعض المصداقية الشعبية والسياسية، ولتجنُّب تأجيج الشارع ضده من جانب أطراف مختلفة تشترك بالغضب منه، ومن تسييسه للقضاء ضد مصالحها.

 

مستقبل الدور السياسي للمحكمة الاتحادية

يمكن تصوُّر ثلاثة سيناريوهات رئيسة لمستقبل دور المحكمة الاتحادية في المشهد السياسي العراقي، وذلك على النحو الآتي:

 

1. تشريع قانون المحكمة الاتحادية كما هو منصوص عليه دستورياً. لكن تحقُّق هذا السيناريو يبدو صعباً حالياً، بسبب تعقيده الشديد، واشتراطه تعاوناً واسعاً بين قوى سياسية كثيرة غير متاح في الظروف الحالية.

 

2. تقديم الإطار التنسيقي ضمانات ملزمة، وإن كانت غير مباشرة، بإبعاد المحكمة الاتحادية خصوصاً، والقضاء عموماً، عن الصراعات السياسية. يبدو مثل هذا السيناريو أكثر احتمالاً من السيناريو الأول، لكن في ظل هيمنة “نشوة الانتصار” على الخصوم لدى بعض القوى الإطارية النافذة، قد يتردد الإطار في تقديم مثل هذه الضمانات والالتزام بها.

 

3. الإبقاء على الوضع الحالي، مع إمكانية التقليل النسبي للجوء القوى العراقية إلى القضاء لحسم الخلافات السياسية فيما بينها. ويبدو هذا هو السيناريو الأكثر احتمالاً في ظل الظروف الراهنة، خصوصاً في ظل الضعف العام للأطراف المعترضة على هيمنة الإطار التنسيقي الحاكم.

 

الاستنتاجات

في ضوء بروز دور المحكمة الاتحادية العليا بوصفها لاعباً سياسياً تدعم قراراتها مصالح الإطار التنسيقي الشيعي الحاكم، يشهد العراق تغيراً أساسياً في قواعد اللعبة السياسية فيه لصالح هيمنة طرف سياسي فيه على حساب الأطراف الأخرى، وإنهاء ما تبقى من التوافق بين الجماعات السياسية الكبرى. ومن الصعب المحافظة على معادلة مختلة كهذه على المدى الطويل، وبالتالي فلابد من التوصل إلى حل وسط ما، يُحيِّد المحكمة سياسياً في حال العجز عن تشريع القانون الخاص بها كما نصّ عليه الدستور. وعلى الأغلب، سيكون تشريع مثل هذا القانون أمراً شديد الصعوبة والتعقيد في ظل الظروف الحالية المتأزمة. ويفرض هذا على الإطار التنسيقي تقديم ضمانات تُطمئن الآخرين حول حياد المحكمة السياسي في خضم الانتخابات البرلمانية المقبلة. ويمثل هذا تحدياً جديداً للإطار التنسيقي، إذ يحتاج انخراط الأطراف المختلفة في التفاوض حوله، وأن تتوحد في الالتزام بضمان حياد المحكمة إزاء الصراعات السياسية والمنافسات الانتخابية المقبلة.

 


[1] عُرِفَ النائب هادي السلامي بتعقُّبه قضايا الفساد، وقد اتهمَ وزير التجارة العراقي الحالي، أثير داوود سلمان، بالفساد بخصوص السلة الغذائية التي تبيعها الحكومة بأسعار مُخفَّضة للفقراء، عندما كان مديراً لشركة الحبوب العامة. وقد نشر السلامي كتاباً لديوان الرقابة المالية يعود لعام 2022، يُوصي بمعاقبة سلمان. لكن وزارة التجارة أكدت، من جهتها، أن لا أصل لهذا الكتاب لدى الديوان، عادَّةً إياه مزوراً، وقدَّمت دعوى ضد السلامي أمام القضاء بتهمة التزوير.

[2] تُطالِب منظمات حقوق الإنسان العراقية والعالمية بإلغاء هذه المواد، لأنها تتعارض مع المادة 38 من الدستور العراقي المتعلقة بحرية التعبير، ورُفِعت دعاوى ضد هذه المواد أمام المحكمة الاتحادية لإلغائها، لكن المحكمة كانت في كل مرة ترفض الدعوى، وتحاجج بأن هذه المواد لا تُناقِض روح الدستور العراقي. ويُذكر أن رئيس سلطة الائتلاف المدني بول بريمر عَلَّقَ، في عام 2003، العمل ببعض الفقرات الإشكالية في هذا القانون، لكن حكومة أياد علاوي أعادت العمل بها لاحقاً. 

[3] على الرغم من أن المحكمة الاتحادية العليا كانت عموماً، منذ تشكيلها في عام 2005، تقف مع الطرف الأقوى، أي الحكومة، في معظم قراراتها المهمة كما في قرار تفسير الكتلة الأكبر الفائزة في الانتخابات التي يحق لها تشكيل الحكومة في عام 2010، والذي عملياً حرم أياد علاوي الذي فازت كتلته بالانتخابات من تشكيل الحكومة ومنْحها لنوري المالكي، فإن المحكمة تجنَّبت في الغالب التدخل في حسم القضايا السياسية الخلافية والحساسة، وتركتها للتنافس السياسي.

[4] في الدورات البرلمانية السابقة، كان نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، ككل جلسات الانتخاب الأخرى، هي الأغلبية المطلقة بحسب المادة 59 من الدستور العراقي. وفي عام 2007 فَسَّرت المحكمة الأغلبية المطلقة على نحو مختلف، ليشير الى أغلبية الحاضرين في الجلسة البرلمانية بعد استكمال النصاب اللازم (أي ما يزيد على النصف).

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/scenario/almahkama-alaitihadia-alulya-fi-aleiraq-min-takhwif-almuaridin-ila-ieadat-tashkil-almashhad-alsiyasi

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M