الهند نموذجًا: لماذا تصاعدت القومية الغذائية خلال الحرب الأوكرانية؟

بسنت جمال

 

أطلقت الحرب الروسية-الأوكرانية العنان لموجة جديدة من سياسات “الحمائية الغذائية” الناتجة عن مساعي الحكومات لتأمين السلع الغذائية والزراعية الأساسية لمواطنيها وسط حالة من نقص الإمدادات وارتفاع شديد في مستويات الأسعار، حيث تبدأ البلدان بإقامة حواجز تجارية جديدة لتقييد الصادرات الغذائية أو حظرها بشكل كامل، مع توقعات باستمرار تلك السياسات على مدار العام الجاري بأكمله، مما جعل الأمم المتحدة تطلق تحذيراتها بشأن مساهمة تلك القرارات في تفاقم أزمة “نقص الغذاء” التي يمر بها العالم في الآونة الأخيرة.

وكانت الهند الحلقة الأخيرة في سلسلة الإجراءات الحمائية التي اتخذتها الدول الآسيوية خلال الشهرين الماضيين، حيث قررت حظر صادرات القمح منتصف مايو الماضي رغم اتجاه المشترين العالميين لها للمساعدة في تعويض نقص الإمدادات العالمية التي تأثرت بشدة بسبب الحرب التي أدت إلى تعطل سلاسل توريد الحبوب عبر البحر الأسود، لتقرر عقب ذلك بأيام، تقييد تصدير السكر عند 10 ملايين طن اعتبارًا من الأول من يونيو الجاري.

سياسات حماية الغذاء والأزمات العالمية

يتزامن ظهور مفهوم “القومية الغذائية” عادةً مع الأزمات والكوارث الطبيعية التي تؤثر على إنتاج المحاصيل الزراعية وعلى مستويات أسعارها، مما يحفز الحكومات المختلفة حول العالم إلى الانغلاق على ذاتها، وإعطاء الأولوية لشعوبها دون أخذ انعكاسات تلك القرارات على انعدام الأمن الغذائي العالمي –الذي يتفاقم بطبيعة الحال خلال تلك الأوقات- في الاعتبار، حيث أظهرت الأبحاث والدراسات أن التدخلات التجارية خلال أزمة الغذاء العالمية عام 2008 قد ساهمت في زيادة أسعار السلع الغذائية العالمية بنحو 13%، لترتفع أسعار الأرز والقمح وحدهما بحوالي 45% و30% على الترتيب.

وأدت تلك الأسعار المرتفعة -حينذاك- إلى معاناة ما لا يقل عن 100 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم، مما ترتب عليه عواقب سياسية ملحوظة، حيث أثار تضخم الغذاء وتراجع القوة الشرائية للنقود المظاهرات وأعمال الشغب وغيرها من الاضطرابات السياسية في حوالي 48 دولة خلال عامي 2007 و2008.

ومع قيام الحرب الروسية-الأوكرانية في فبراير الماضي، بدأت الدول في تقييد التجارة الحرة للسلع الغذائية، حيث سجل عدد الدول التي فرضت قيودًا على تصدير المواد الغذائية زيادة تبلغ حوالي 25% ليصل إجمالي عددها إلى 35 دولة، وفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن البنك الدولي. وبنهاية شهر مارس، تم فرض نحو 53 تدخلًا تجاريًا يؤثر على تجارة المواد الغذائية من بينها 31 قيدًا على الصادرات و9 قيود على صادرات القمح، وهو ما يتبين من الرسم الآتي:

الشكل 1- عدد التدخلات التجارية منذ بداية عام 2022
الشكل 1- عدد التدخلات التجارية منذ بداية عام 2022

وتُعتبر أوروبا وآسيا الوسطى من أكثر المناطق التي فرضت قيودًا تصديرية، خلال الفترة التي تتراوح بين الثالث والعشرين من فبراير والسابع من أبريل، متمثلة في حظر التصدير، وتطبيق نظام الحصص التصديرية، ومطالبة المنتجين بالحصول على إذن قبل تصدير السلع الغذائية والاستهلاكية، خاصة القمح والذرة والزيوت النباتية، كما يوضح الشكل الآتي وفقًا للبيانات المُتاحة:

الشكل 2- عدد الدول التي فرضت قيودًا على الصادرات الغذائية وفقًا للمنطقة
الشكل 2- عدد الدول التي فرضت قيودًا على الصادرات الغذائية وفقًا للمنطقة

ومن شأن التدابير التجارية أن تؤثر على مستوى العرض العالمي وترفع الأسعار العالمية، وهو ما يشجع المزيد من الدول على فرض قيود جديدة على الصادرات لاحتواء ضغوط الأسعار المحلية بما يؤول في نهاية الأمر إلى حدوث “تأثير مضاعف” على الأسعار العالمية. ناهيك عن تأثيرات تلك السياسات على الدول المستوردة للغذاء والتي تعتمد على العالم الخارجي لتأمين احتياجاتها من السلع الاستراتيجية، كما يتبين من الخريطة أدناه:

الشكل 3- صافي الواردات الغذائية كنسبة من الإمدادات الغذائية المحلية
الشكل 3- صافي الواردات الغذائية كنسبة من الإمدادات الغذائية المحلية

المصدر: وحدة الدراسات المنظورية العالمية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة.

وهكذا، يتبين أن الهند ليست الدولة الأولى التي تتجه لفرض حظر على الصادرات، حيث تحركت ماليزيا قبلها لتقييد صادراتها من الدجاج البالغة نحو 3.6 ملايين دجاجة شهريًا، مؤكدة أن “أولوية الحكومة هي الشعب”، كما حظرت إندونيسيا تصدير زيت النخيل رغم أنها تمثل 60% من إنتاجه عالميًا، فيما فرضت كلٌّ من صربيا وكازاخستان حصصًا على صادرات الحبوب، حيث حددت الأخيرة حصة لتصدير القمح تبلغ 1.3 مليون طن خلال الفترة من 15 أبريل إلى 15 يونيو 2022، في حين تخطط بلغاريا لزيادة احتياطاتها من الحبوب عن طريق تقييد الصادرات. إضافة إلى ذلك، أعلنت الحكومة الأرجنتينية عن رفع معدل ضريبة الصادرات على زيت الصويا بنقطتين مئويتين إلى 33% حتى نهاية العام، كما قررت مصر حظر تصدير ثماني سلع أساسية لمدة ثلاثة أشهر. وأخيرًا، اتخذت الجزائر ومجر ومولدوفا إجراءات مماثلة مؤخًرا لتحقيق نفس الأهداف.

دوافع منطقية

بالعودة إلى الهند، ثاني أكبر منتج للقمح وأكبر منتج للسكر في العالم وثاني أكبر مصدر بعد البرازيل، يُمكن وصف قراراتها الأخيرة بشأن حظر السكر والقمح بـ”الإجراءات الوقائية” لضمان الإمدادات الغذائية المحلية، والحفاظ على مستويات معقولة من المعروض وحماية مواطنيها من مخاطر الموجة التضخمية. ولكن كانت هذه القرارات مفاجئة للعالم بأجمعه، ولا سيما بعد تأكيد المسئولين بالهند على إمكانية زيادة صادراتها الغذائية لسد الفجوة الناتجة عن الحرب الروسية-الأوكرانية، كما أنها جاءت بعدما استفادت الهند من زيادة أسعار القمح العالمية، خاصة في ضوء ارتفاع صادراتها بنحو 250% على أساس سنوي، مسجلة رقمًا قياسيًا يبلغ نحو 7 ملايين طن خلال السنة المالية المنتهية مارس الماضي. وهنا يُثار تساؤل بشأن مُحركات نكوصها عن تعهداتها السابقة، والتي يُمكن تفسيرها على النحو الآتي:

• التغيرات المُناخية: تأثرت إنتاجية المحاصيل الزراعية، خاصة القمح في الهند، نتيجة الإجهاد الحراري الذي يُمكن أن يؤثر على الإنتاجية الزراعية، حيث شهدت البلاد درجات حرارة قياسية وموجات من الجفاف على مدار الشهرين الماضيين، حيث كان شهر إبريل الأكثر سخونة على مدار 122 عامًا من 1901 حتى عام 2022، مما أضر المحاصيل الزراعية وأدى إلى تقليص الإنتاج؛ إذ أشار المزارعون إلى تأثير التغيرات المناخية على حجم الغلة الزراعية بنسبة تتراوح بين 15% إلى 20%. وقد دفع ذلك الحكومة إلى خفض توقعاتها الصادرة في فبراير بشأن إنتاجها للقمح من 111.32 مليون طن إلى حوالي 105 ملايين طن فقط، ليتم خفض التنبؤات مرة أخرى إلى نحو 100 مليون طن أو أقل مع تصاعد احتمالية عدم تحقيق خطتها لتصدير حوالي 10 ملايين طن هذا العام.

ولم تكن تلك المرة الأولى التي تأثرت فيها الهند جراء ارتفاع الحرارة، حيث توصلت إحدى الدراسات إلى مساهمة التغيرات المناخية في تقليص غلة المحاصيل الهندية بنسبة تبلغ نحو 5.3% بين عامي 1981 و2019، محذرة من أن التقاعس عن مواجهة تداعيات التغيرات المناخية قد يُكلف الحكومة خسائر اقتصادية تصل إلى 35 تريليون دولار خلال نصف القرن المقبل، فيما حذر تقرير صادر عن الأمم المتحدة من تزايد احتمالية معاناة الهند من موجات حرارة أكثر تواترًا خلال السنوات المقبلة.

• ارتفاع الأسعار المحلية: ارتفع معدل التضخم في الهند لأعلى مستوياته في ثماني سنوات مسجلًا نحو 7.79% خلال شهر أبريل، كما قفز معدل تضخم المواد الغذائية (في المناطق الحضرية والريفية مجتمعة) إلى أعلى مستوياته في 17 شهرًا عند 8.38% مقابل حوالي 7.68% خلال مارس، وجاء هذا الارتفاع مدفوعًا بشكل أساسي بارتفاع أسعار القمح لمستويات قياسية لتصل في بعض الأسواق إلى 25000 روبية للطن مقابل الحد الأدنى الثابت لسعر الدعم الحكومي البالغ 20150 روبية للطن. وعلاوة على ارتفاع أسعار المواد الغذائية، شهدت البلاد قفزات مستمرة في تكاليف الطاقة والوقود والنقل والأسمدة التي تضررت إزاء ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي. بالإضافة إلى ذلك، ارتفع معدل تضخم أسعار الجملة في الهند خلال أبريل الماضي إلى أعلى مستوياته منذ ثلاثة عقود ليصل إلى 15.08% على أساس سنوي.

وقد ساهمت الضغوط التضخمية وارتفاع أسعار النفط في تباطؤ الانتعاش الاقتصادي بعد جائحة كورونا، حيث نما الناتج المحلي الإجمالي لثالث أكبر اقتصاد في القارة الآسيوية بنحو 4.1% على أساس سنوي خلال الربع الأول من العام الجاري مقابل نمو قدره 5.4% خلال الربع الرابع من عام 2021 ونحو 8.4% خلال الربع الثالث من العام نفسه.

• الاستفادة من التجارب السابقة: تحاول الهند الاستفادة من خبراتها التاريخية فيما يتعلق بتجارة القمح خاصة الأزمة التي شهدتها خلال عام 2005/2006، حيث اعتقدت الحكومة وقتها أن امتلاكها وفرة من القمح قد يُمكنها من إطعام مواطنيها والعالم مما أدى إلى استنفاد غير مقصود للمخزون العام. وفي هذا السياق، دعمت الحكومة الصادرات بشكل كبير بين عامي 2000 و2004 مما أدى إلى الانخراط بشكل أعمق في التجارة الدولية وبيع كميات كبيرة من القمح دون التخطيط لها جيدًا، ودون أخذ الاستهلاك المحلي في الاعتبار، وهو ما ساهم في تراجع مخزون القمح إلى أدنى مستوياته منذ عام 1964 عند مليوني طن فقط، أي ما يقرب من نصف كمية المخزون المطلوب حينذاك. في نهاية المطاف، اضطرت الحكومة إلى استيراد نحو 7 ملايين طن من القمح خلال عام 2006/2007 لتأمين احتياجاتها من السلعة الاستراتيجية.

انعكاسات واسعة النطاق

رغم منطقية الأسباب الكامنة وراء الإجراءات الحمائية للحكومة الهندية وغيرها من الحكومات الآسيوية خلال الشهر الماضي، إلا أنه قد نتج عنها العديد من النتائج السلبية التي قد تطال العالم بأكمله كتفاقم الموجة التضخمية وانعدام الأمن الغذائي، كما يتضح من النقاط الآتية:

• الإضرار بالأمن الغذائي العالمي: من المُرجح أن يؤدي تقييد الصادرات الهندية من القمح والسكر إلى تَعاظم أزمة نقص المعروض الغذائي العالمي الناتجة عن الحرب الروسية-الأوكرانية واضطرابات الإمدادات بسبب الأهمية النسبية لكلٍ من موسكو وكييف في الأسواق الدولية، حيث تعتبران من أكبر موردي القمح في العالم، كما يُمكن للقرار الهندي أن يخلق المزيد من المشكلات لدول جنوب آسيا الأخرى، خاصة بنجلاديش التي تعتمد على الهند في الواردات، كما يُبين الشكل أدناه:

الشكل 4- نسبة اعتماد الدول على القمح الهندي - مارس 2021 - فبراير 2022 (%)
الشكل 4- نسبة اعتماد الدول على القمح الهندي – مارس 2021 – فبراير 2022 (%)

يُبين الشكل السابق أن بنجلاديش استوردت نحو 55.9% من احتياجاتها من القمح من الهند، تليها سريلانكا والإمارات وإندونيسيا بنحو 7.9% و6.9% و5.9% على الترتيب، وهي نسب ضئيلة مقارنة ببنجلاديش التي قد تتجه حاليًا للبحث عن بدائل لتأمين القمح.

وعلاوة على ما سبق، قد تحفز القرارات الهندية المزيد من البلدان كي تحذو حذوها عبر تقييد إمداداتها من الحبوب للحفاظ على أمنها الغذائي مما سيخلق حلقة مفرغة من القيود التصديرية وزيادة الأسعار، الأمر الذي ينتج عنه تفاقم أزمة الجوع العالمي التي وصلت إلى مستويات مرتفعة جديدة، حيث تضاعف عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد من 135 مليونًا قبل انتشار كورونا إلى 276 مليونًا حاليًا.

• تفاقم الموجة التضخمية: بطبيعة الحال، سينتج عن تراجع مستوى العرض ارتفاعات مستمرة في مستويات الأسعار، ولهذا سجلت أسعار القمح أعلى مستوياتها في شهرين فور الإعلان عن القرار الهندي، وارتفعت العقود الآجلة المتداولة في شيكاغو بنسبة 5.9% إلى 12.47 دولارًا للبوشل، كما ارتفعت العقود الآجلة للسكر الأبيض بنسبة 1% إلى 556.50 دولارًا للطن المتري مرتفعة بنحو 26% مقارنة بنفس التوقيت من العام الماضي. وقد ارتفعت الأسعار رغم عدم كون الهند أحد أكبر مصدري القمح في العالم، إلا أن الحظر الذي فرضته البلاد يمكن أن يسبب صدمات سعرية للقمح نظرًا لضعف العرض بالفعل، واتخاذ العديد من البلدان لنفس الإجراءات في الوقت ذاته، لهذا ستكون المحصلة النهائية مزيدًا من نقص الإمدادات ومزيدًا من الضغوط التصاعدية على الأسعار العالمية. وبناء على ما سبق، توقع البنك الدولي أن ترتفع أسعار المواد الغذائية بنسبة 22.9% هذا العام، مدفوعة بزيادة 40% في أسعار القمح وحدها.

• مكاسب للدول المنافسة: لم تكن الصورة قاتمة بالنسبة لجميع البلدان حول العالم على قدم المساواة، حيث استطاعت بعض الدول المُصدرة حول العالم تحقيق مكاسب طائلة نتيجة لقرارات حظر الصادرات؛ إذ أصبحت تلك الأسواق من البدائل القليلة المتبقية حول العالم التي لم تفرض حتى الآن هذه القيود. وتُعد تايلاند، وهي مصدر رئيسي للسكر والدجاج والأرز، من أبرز الأمثلة على ذلك، حيث من المُتوقع أن تجني مكاسب قياسية مع تزايد الحمائية الغذائية.

وتشير التنبؤات الصادرة عن الحكومة التايلاندية إلى ارتفاع صادرات المواد الغذائية هذا العام لتسجل 1.2 تريليون بات (35 مليار دولار أمريكي)، وكذلك صادرات السكر بنسبة 40% على الأقل في موسم 2021-2022، مع صعود شحنات الأرز، أكبر الصادرات الزراعية لتايلاند، إلى أعلى مستوى لها في أربع سنوات عند 8 ملايين طن متري بحلول نهاية العام الجاري.

وتأسيسًا على ما سبق، تتميز فترات عدم اليقين تجاه آفاق الاقتصاد العالمي بلجوء الدول إلى استخدام “سلاح الغذاء” عن طريق اتخاذ تدابير سياسية صارمة وذات مصلحة ذاتية مع التضحية بمفهوم الأمن الغذائي العالمي لصالح الأمن المحلي، وهي خطوة منطقية في أوقات الأزمات من أجل ضمان توافر المنتجات محليًا وإدارة المعدلات المرتفعة من التضخم، وهو ما يُعد إنذارًا للدول المستوردة للسلع الغذائية والأساسية لكي تتبنى استراتيجيات تهدف لزيادة حجم إنتاجها الزراعي والغذائي، وتنويع البدائل التي تعتمد عليها في تأمين حاجاتها من الخارج.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19724/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M