انسداد الأفق… ماذا بعد أحداث الأول من يوليو في ليبيا؟

محمد منصور

 

أحداث متسارعة وساخنة شهدتها عدة مدن ليبية أمس، توزعت بين الجنوب والغرب والشرق، كان عنوانها الأساسي هو تصاعد الغضب “المناطقي” من جراء تدهور الأحوال المعيشية، وتراجع الآمال في إمكانية التوصل إلى آليات فعالة وحاسمة لعقد الاستحقاقات الانتخابية المنتظرة منذ وقت طويل.

وبغض النظر عن خلفيات هذه الأحداث ومن ورائها، إلا أن وقائع أمس واليوم باتت دليلًا دامغًا على أن المشهد الليبي، الذي كان خلال السنوات الأخيرة مرتكزًا على محاولة لإيجاد توافق بين الأجسام السياسية الحالية، انتقل إلى مرحلة جديدة تتضاءل فيها رويدًا رويدًا ثقة الليبيين في هذه الأجسام، وتتزايد الأصوات الرافضة لاستمرارها.

التفاعلات التي شهدتها أمس واليوم مدن طرابلس وبنغازي وطبرق وسبها ومصراته والبيضاء وسلوق وبني وليد، تصدرتها مظاهرات كبيرة توحدت شعاراتها -للمفارقة- حول إسقاط جميع الأجسام السياسية، وإخراج كافة القوات الأجنبية والمرتزقة من البلاد، وعقد انتخابات عامة بشكل فوري.

الملاحظ هنا أن هذه المظاهرات انطلقت بشكل متزامن في كافة المدن السالف ذكرها، وتضمنت إحراق عدة مقرات حكومية من بينها مبنى مراقبة الخدمات المالية في مدينة سبها جنوبي البلاد، ومبنى بلدية مدينة براك الشاطئ، الواقعة شمال مدينة سبها، بجانب تخريب وحرق مقر مجلس النواب في مدينة طبرق أقصى شرقي البلاد. يضاف إلى ذلك إغلاق عدة مبانٍ حكومية أخرى مثل مقرات المجالس البلدية في مدن بنغازي ومصراته وبني وليد.

المشهد في العاصمة طرابلس لم يكن مختلفًا، فقد تظاهر المئات أمام مبنى رئاسة مجلس الوزراء، مطالبين برحيل حكومتي الدبيبة وباشاغا، وكافة الأجسام السياسية الأخرى، وقد صاحب ذلك انتشار كثيف للوحدات المسلحة التابعة لحكومة الدبيبة التي تواجهت مع المتظاهرين في عدة مناطق بالعاصمة، من بينها ساحة “الشهداء”.

على الرغم من الاختلافات الطفيفة في الشعارات التي تم تداولها في كل مدينة من المدن السالف ذكرها، خاصة فيما يتعلق بالانتخابات التشريعية والرئاسية، إلا أن المطلب الخاص برحيل كافة الأجسام السياسية كان هو الطاغي والأكثر تداولًا في مظاهرات كافة هذه المدن. ا

الملاحظة الثانية في هذا الصدد كانت ميل المتظاهرين في مدينة مصراتة إلى التركيز بشكل كبير على حكومة الدبيبة، ما يوحي بعمق الهوة التي بدأت في التشكل بين مصراته وطرابلس في أعقاب محاولة فتحي باشاغا الأخيرة للدخول إلى العاصمة.

ردود فعل الأجسام السياسية على ما حدث كانت في حدود المتوقع، فكان المجلس الرئاسي هو أول من بادر لإعلان موقفه من هذه الأحداث؛ وهو ما يمكن تفسيره بأنه بات يعي أن هذه التظاهرات غير موجهة بشكل مباشر له، وأنه قد يصبح فعليًا الطرف ذا الشرعية الأكبر في المسار السياسي الحالي – فأصدر بيانا قال فيه إنه تابع الأحداث الأخيرة على كامل التراب الليبي، وأنه في حالة انعقاد مستمر ودائم حتى تتحقق “إرادة الليبيين في التغيير”.

من جانبه، نشر رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، عبدالحميد الدبيبة، بيانًا قال فيه إنه يضم صوته للمتظاهرين في عموم البلاد، في ضرورة رحيل كافة الأجسام السياسية، بما فيها حكومته، وأن ذلك لن يتم إلا عبر الانتخابات.

رئاسة مجلس النواب من جانبها أصدرت بيانًا تؤكد من خلاله على حق المواطنين في التظاهر السلمي والتعبير عن مطالبهم سلميًا، لكنها أدانت قيام البعض بأعمال تخريب وحرق مقار الدولة. اللافت هنا أن بعض أعضاء المجلس، ومن بينهم العضو زياد دغيم – أطلقوا دعوة لأعضاء مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، كي يقدموا استقالة جماعية.

لقاء الفرصة الأخيرة بين المشري وصالح

بغض النظر عن كون هذه الأحداث بمثابة نتيجة طبيعية للتراكمات التي تكثفت في الملف الليبي خلال الفترة الماضية، إلا أنه يمكن القول إن السبب المباشر لها كان حدثين رئيسيين، الأول هو التدهور المعيشي غير المسبوق الذي تشهده البلاد خلال الأسابيع الأخيرة، وأفضى إلى عدة اعتصامات واحتجاجات جاءت من رحمها احتجاجات أمس، والثاني هو فشل “المحاولة ما بعد الأخيرة”، لإيجاد توافق في الوقت بدل الضائع بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، عبر اللقاء الذي احتضنته مدينة جنيف، وضم رئيس مجلس النواب المستشار عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري.

الآمال التي كانت معقودة على هذا اللقاء، كانت تتلخص في إمكانية التوصل إلى وثيقة مشتركة يمكن التصويت عليها داخل مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة تتضمن صيغة توافقية للبنود الخلافية التي لم يتم التوافق عليها خلال الجولات الأخيرة لبحث المسار الدستوري في القاهرة، وخاصة تلك المتعلقة بالسلطة التنفيذية ونظام الحكم، وشروط الترشح للانتخابات الرئاسية.

الهدف الأساسي من هذا اللقاء، الذي كانت قد دعت إليه مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفاني ويليامز، عقب انتهاء الجولة الثالثة من مباحثات المسار الدستوري في القاهرة، هو وضع توقيتات واضحة للانتخابات، على شكل خريطة يمكن البناء عليها.

بدأ مساء الخميس الماضي أن كلا الطرفين أصبحا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق اختراق مهم في هذا الصدد، إلا أنه اتضح اليوم التالي أن هذا غير صحيح، وانتهى الاجتماع دون تحقيق أي إنجاز يذكر، إلا وعودًا متبادلة بعقد اجتماع مماثل قبل عيد الأضحى.

وقد ألقى رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، بمزيد من الأضواء على ما تم خلال هذا الاجتماع، حيث قال في تصريحات تلفزيونية لإحدى الفضائيات، أنه والمستشار صالح، قد توصلا إلى حل وسط، يتم فيه اعتبار مخرجات مباحثات المسار الدستوري، بمثابة وثيقة دستورية تحال إلى الهيئة التأسيسية للدستور لاعتمادها، وهو حل -رغم وجاهته- يتجاهل حقيقة أن الهيئة التأسيسية للدستور قد أعلنت عدة مرات عدم اعترافها بأية مخرجات تتعلق بمسودة الدستور.

أضاف المشري في تصريحاته أن الخلاف حول شروط الترشح في الانتخابات الرئاسية -خاصة ملف مزدوجي الجنسية- ظل قائمًا، وكذلك الأمر بالنسبة للبنود المتعلقة بالسلطة التشريعية ونظام الحكم المحلي، لكنه أكد أنه توجد مساعٍ لعقد لقاء آخر بينه وبين المستشار صالح قبل عيد الأضحى.

هذا المعنى يقارب ما صرحت به مستشارة الأمين العام ستيفاني ويليامز، عقب انتهاء اجتماعات جنيف، حيث قالت إن نقطة الخلاف الأساسية تتمحور حول شروط الترشح للانتخابات الرئاسية، وأنه حدث تقدم كبير في التوافق حول قضايا خلافية، كتحديد المقر الرئيسي لمجلسي النواب والشيوخ، ونسب توزيع مقاعدهما، وكذلك صلاحيات الرئيس ورئيس الوزراء.

بالتزامن مع اجتماعات جنيف، لوحظ تصاعد تحركات السفير الأمريكي في طرابلس، ريتشارد نورلاند، الذي التقى خلال الأيام الماضية بشكل منفصل كلًا من، عبد الحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ونائبيه عبد الله اللافي وموسى الكوني، ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله، ووزيرة الخارجية في حكومة الدبيبة نجلاء المنقوش، ورئيس المفوضية العليا للانتخابات عماد السايح.

اللافت هنا أن نورلاند  أدلى بتصريحات صحفية تحدث فيها عن إمكانية إجراء انتخابات في ظل وجود حكومتين في الشرق والغرب، مشيرًا إلى أن الاتفاق على آلية للإشراف على الإنفاق المالي الحكومي، قد تساعد على عبور المرحلة الحالية، خاصة أن الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى، قد عقدت -حسب كلام نورلاند- اجتماعات مع شخصيات ليبية مختلفة، للتوصل إلى اتفاقات بشأن أولويات الإنفاق والشفافية، ومخصصات التمويل والإشراف على كيفية استخدام الأموال.

تصريحات نورلاند أثارت ردود فعل غاضبة في بعض الأحزاب الليبية وكذا في المجلس الأعلى للدولة، نظرًا لعدم وجود ضمانة واضحة لاعتراف كلا الحكومتين بنتائج الانتخابات، في حال انعقادها في مثل هذه الظروف.

تضمنت تصريحات نورلاند أيضًا رؤيته للوضع في حالة عدم توصل المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب، لاتفاق حول القاعدة الدستورية للانتخابات في المدى المنظور، حيث أشار إلى أن المشاورات بين الجانبين ستستمر خلال الفترة المقبلة، خاصة بعد أن تم تمديد مهمة مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفاني ويليامز، شهرًا إضافيًا.

مشهد خدمي واقتصادي متفاقم

المحور الثاني في مسببات مشهد أمس في ليبيا كان الوضع المعيشي، إذ شهدت البلاد خلال الأيام الأخيرة مجموعة من الإضرابات والاحتجاجات المتعلقة بهذا الوضع، ما بين اعتصام عمال الخدمات الأرضية في مطارات الجنوب الليبي ومطار مصراته، لحين سداد رواتبهم المتأخرة منذ أكثر من عام، وبين إغلاق عدة طرق في العاصمة طرابلس ومحيطها نتيجة الانقطاعات المتكررة للكهرباء، مثل إغلاق بوابة “وادي كعام”، التي تتوسط الطريق الساحلي بين مدينتي الخمس وزليتن، وكذلك محطة توليد الكهرباء في منطقة “بير الغنم”، التي اعتصم في محيطها أهالي المناطق المحيطة بمدينة الزاوية غربي العاصمة.

حكومة الدبيبة حاولت التعامل مع هذا الوضع عبر ما يسمى “صك الـ 150 مليون دينار”، والذي أصدره مصرف ليبيا المركزي، بإيعاز من وزارة الدفاع التابعة لحكومة الدبيبة، على أن يتم تقسيمه بواقع 30 مليون دينار لعمال وموظفي الخدمات الأرضية المعتصمين، و110 مليون دينار للمنتسبين السابقين لما يسمى “القوة الثالثة” و”القوة المساندة”، الذين تظاهروا مؤخرًا طلبًا لمخصصاتهم المالية المتأخرة، بجانب 10 مليون دينار للجرحى والمصابين.

يضاف إلى ما سبق، تفاقم ازمة القطاع النفطي، وانضمام حقول وموانئ جديدة إلى حالة “القوة القاهرة”، فقد أعلن مدير المؤسسة الوطنية للنفط خلال الأيام الماضية، عن دخول مينائي السدرة ورأس لانوف، بجانب حقل “الفيل” النفطي، إلى هذه الحالة، التي تشمل أيضًا موانئ أخرى مثل البريقة والزويتينة، وهو ما ألحق بالقطاع النفطي، خسائر تقدر بأكثر من 61 مليار دينار، حسب ما صرح به رئيس المؤسسة.

الخلاف بينه وبين وزير النفط محمد عون، انعكس بشكل أكبر على توفر المشتقات النفطية في محطات الوقود، حيث تبادل الطرفان تصريحات حول هذا الملف، أفاد فيها رئيس مؤسسة النفط أن مخزونات المحروقات والمشتقات النفطية في ليبيا أوشكت على النفاد، وأنه لم يعد في مقدور المؤسسة أن تقوم باستبدال خام النفط بالوقود، حسب الآلية التي كان متفقًا عليها سابقًا مع وزارة النفط، نتيجة لانخفاض حجم إنتاج النفط، وهو ما نفاه بشكل كامل وزير النفط محمد عون.

خلاصة القول، إن الغضب الشعبي في ليبيا من الأداء الخدمي والسياسي والاقتصادي للسلطة الحاكمة قد فرض نفسه بشكل أو بآخر على المعادلة القائمة حاليًا في البلاد، حيث تجد الأجسام السياسية نفسها لأول مرة أمام تشكيكات جدية في شرعيتها، تأتي بعضها من قواعد شعبية وحزبية ومجتمعية كانت تعد في الأساس من مناصري ومؤيدي هذه الأجسام.

وبغض النظر عن إمكانية ضلوع بعض الأطراف السياسية، في محاولة استغلال أحداث الأمس سياسيًا أو حتى انتهاز فرصة حدوثها للإيعاز لبعض مناصريها كي يهاجموا مقرات معينة، إلا أن أحداث أمس، وما سبقها من احتجاجات شعبية واعتصامات، بل وحتى اجتماعات تحمل صفة “تقسيمية”، تمت في الجنوب الليبي أواخر الشهر الماضي، جميعها تعد مؤشرات لافتة وعاجلة يجب أن تأخذها السلطة السياسية والبعثة الأممية في ليبيا في حسبانها.

أحداث أمس ربما رجحت بشكل كبير إمكانية تحرك المجلس الرئاسي بشكل فردي وعاجل، لتصدر المشهد السياسي، عبر إصدار مراسيم تنهي عمل الأجسام السياسية الأساسية، وتطرح المواد الخلافية في مسودة الدستور للاستفتاء الشعبي، وهي خطوة ربما تجابه برفض قاطع من جانب أطراف عدة، خاصة وأن اختصاصات المجلس الرئاسي في هذا الصدد تبقى محل جدل، حيث يرى البعض أن اتفاق جنيف لم يعط للمجلس الرئاسي سلطة إصدار مراسيم بقوانين، في حين يرى البعض الآخر أن سلطة المجلس الرئاسي في هذا الصدد، تنبع من القانون وليس من خارطة الطريق.

على أي حال يجب أن ننتظر الأيام القليلة المقبلة، لنرى ما إذا كان لأحداث أمس تأثير على الاجتماع المرتقب للمستشار صالح وخالد المشري قبيل عيد الأضحى -إن تم- أم أن ليبيا ستكون على موعد مع المزيد من التحركات الدراماتيكية على الأرض.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/71167/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M