بين شيخوخة العالم المتقدّم وفتوّة العالم الفقير: وقائع أزمات مقبلة

برلين: نعيش اليوم في حمأة الأحداث العالمية الكارثية المتسارعة. لم يعد العالم كما كان حتى نهاية الألفية المنصرمة، وصارت أسباب الأزمات الجمعية والفردية لا تعدّ. لم يعد العالم النامي أو الشعوب الفقيرة وحدها تعاني، بل شعوب الدول المتقدمة والدول الغنية أيضا، فالتغيرات الكبيرة التي تحصل، ترخي بظلالها على الجميع. كل أزمة تمر، تحصد الشعوب نتائجها بأشكال مختلفة، ولقد قدّمت جائحة كوفيد19 البرهان الدامغ، ودقت ناقوس الخطر، تلتها الحرب في أوكرانيا، التي دبّ الذعر من الجوع بسببها عندما انبثقت باكرا أزمة القمح والزيوت وغيرها من المواد التي يحتاج إليها معظم سكان الأرض.

هذه الأحداث الكبرى سلطت الضوء بكثافة على مشكلات ديموغرافية في العالم ظهرت بأشكال عدة مختلفة بين عالم الشمال وعالم الجنوب، أو العالم المتقدم أو الغني، والعالم الفقير أو الذي يعاني معظم شعوبه من أنظمة فاسدة أو قمعية.

طفرة المواليد ومأزق الراهن: ألمانيا نموذجا

كنت أقف في طابور الدفع أمام الصندوق في أحد المتاجر التي تبيع المواد الاستهلاكية والمعيشية في برلين. شاءت المصادفات أن يقف قبلي في الدور، رجل ثمانيني أمامه عربة تسوق كبيرة توشك أن تفيض منها المشتريات. بداية لم أنتبه إلى مشكلة صحية يعانيها، إلى أن بدأ بإفراغ حمولة العربة، مما اضطرني والطابور خلفي إلى الانتظار فترة أطول. كان يعاني من مرض الرعاش (باركنسون) الذي يتصف بسمة خاصة تدعى “الرجفان القصدي”، مما يعني أن الرجفان يواكب الحركات الإرادية لدى المصاب، هذا ما جعله يستغرق وقتا في إفراغ العربة وإعادة المشتريات إليها مرة ثانية.

 

في ألمانيا اليوم، وفي عدد من الدول المتقدمة، هناك تغيّرات ديموغرافية باتت تشكل معضلة بالنسبة إلى الجيل الحالي وقلقا استباقيا من وصوله إلى سن التقاعد

 

 

وجود المسنين في ألمانيا مشهد طاغ، أعدادهم كبيرة، ويمكن القول إن الشريحة الكبرى منهم لديها شغف بالتسوق، خاصة شراء المواد المعيشية، وهم يقومون بهذا النشاط بمفردهم في الغالب، فمن لديه تراجع في الأداء الحركي تحديدا، يلاقي ما يدعمه من الأجهزة والأدوات الشخصية، بالإضافة إلى البنية التحتية والمرافق العامة المشغولة بطريقة تسهل عليه الحياة. من الملاحظ أيضا أنهم يمارسون الدفع النقدي لعامل الصندوق، قليل منهم يستخدم البطاقة البنكية، أما أجهزة الدفع الذاتي فلا يستخدمونها إلا في ما ندر.

صورة أخرى أوردها نموذجا عن جيل آخر. بينما كنت أقف في طابور الدفع أيضا ذات يوم في متجر صغير، كانت تقف قبلي صبية في أوائل العشرينات من عمرها، كانت تحمل كوب قهوة ورقيا في يدها، وفي اليد الأخرى جزرة واحدة وضعتها على حزام الصندوق. نعم، لقد اشترت جزرة واحدة فقط.

 

Markus Scholz/dpa via Reuters Connect Markus Scholz/dpa via Reuters Connect

مسن يتسوق في سوبرماركت في ألمانيا 

هاتان الصورتان المتناقضتان تشكلان عنوان قضية إشكالية تشغل الجهات المعنية والحكومات المتعاقبة في ألمانيا، وفي العالم المتقدم أيضا، مثلما تشغل الأجيال، هي قضية ديموغرافية/ اجتماعية/ اقتصادية/ تنموية/ سياسية/ وجودية.

لم يعد مصطلح “طفرة المواليد” غريبا عن الأسماع، فقد شهد العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ازديادا ملحوظا في عدد الولادات، أطلق على المواليد بين العام 1946 والعام 1964 “جيل طفرة المواليد”، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكندا، بل يمكن القول إن ملامحه ظهرت في البلدان العربية أيضا لناحية ارتفاع مستوى الرفاهية لدى السكان، أما قضية الولادات ومعدل النمو السكاني فتلك قضية أخرى.

في ألمانيا اليوم، وفي عدد من الدول المتقدمة، هناك تغيّرات ديموغرافية باتت تشكل معضلة بالنسبة إلى الجيل الحالي وقلقا استباقيا من وصوله إلى سن التقاعد. ففي سنوات ما بعد الحرب، سجلت ألمانيا أعلى معدل من المواليد على الإطلاق، خاصة أن الشباب المؤهلين للزواج حينها كانوا لا يزالون متأثرين بالمرحلة النازية التي كانت تشجع على الإنجاب، ربما تأخر إلى بداية خمسينات القرن الماضي بسبب وضع ألمانيا المنهار بعد الحرب، وبسبب تقسيمها شطرين، لكن هذا الجيل الناشئ الذي أطلق عليه “جيل الازدهار”، اتسم بالأمل الكبير في مستقبل أفضل.

مع تشكل المعجزة الاقتصادية وانخفاض معدلات البطالة، انتشر شعور جديد بالرخاء في جميع أنحاء ألمانيا، وللمرة الأولى أصبح التعليم في متناول جميع الطبقات الاجتماعية، وكانت لدى النساء الرغبة في دخول عالم الأعمال، وبدأ دور المرأة العاملة يعم في المجتمع بينما كانت قبلها، حتى في الخمسينات والستينات، لا ينظر المجتمع إليها وإلى عملها بالترحيب. ما ميّز هذا الجيل أيضا قوة عمله، حتى إن مقولة “مدمن عمل” لم تأت من الفراغ، وعمّت الرفاهية بين الناس، وصارت ألمانيا من البلدان التي يضرب المثل بها لناحية قوة الصناعة والاقتصاد والرفاهية والتعليم والصحة، لكن في تلك الفترة لم يكن من الممكن توقع أشياء مثل نهاية الازدهار الاقتصادي، وانخفاض معدل المواليد، وحظر توظيف العمال الأجانب، ونهاية البلد المنقسم، وهجرة ملايين الألمان إلى الخارج، وزيادة الإنتاجية التي تتسبب بها أجهزة الكومبيوتر في عالم العمل.

 

AFP AFP

امرأة لاجئة تمشي مع طفلها في مركز مارينفيلده للاجئين في جنوب برلين، في 29 يناير 2015 

في الستينات تغير الوضع بشكل جذري مع تزايد تحرر المرأة والمساواة، وتغيرت النظرة الاجتماعيةإلى الزواج والأطفال، وفي الوقت نفسه أصبحت حبوب منع الحمل متاحة، مما سهل على الأزواج تجنب حدوث حمل غير مرغوب فيه، فحصل انخفاض للمواليد إلى ما دون المستوى اللازم من أجل الحفاظ على عدد السكان، فوصل إلى 2،1 طفل لكل امرأة، ومتوسط العمر المتوقع زاد بأكثر من 30 عاما في السنوات المئة الماضية، بفضل تحسين الدواء والتغذية وزيادة الازدهار، وعلى المدى الطويل سيؤدي هذا إلى انخفاض كبير في عدد السكان، ما لم تحصل الهجرة، بل إن هذا الرقم انخفض في العام الفائت بحسب تقارير المكتب الإحصائي الاتحادي إلى 1،36. ومع الوقت أصبحت الأفواج التي تغادر سوق العمل أعلى بكثير من تلك التي تتقدم إليها.

ما الذي حصل ويحصل اليوم، وينجم عنه ازدياد في حضور التيارات المحافظة واليمينية الشعبوية في أوروبا بشكل عام؟ “جيل طفرة المواليد” يغادر سوق العمل، هذا يضرب الاقتصاد بقوة. ومع تقاعده في السنوات المقبلة، سوف تتفاقم فجوة المهارات بشكل كبير، يمكن للهجرة أن تساعد، ولكن “علينا التركيز على البلدان غير الأوروبية”، كما كتب الخبير الاقتصادي فيدو جايز.

 

لم يعد الجيل الحالي يشعر بكثير من مزايا المعجزة الاقتصادية بسبب ارتفاع معدلات البطالة والأزمات الاقتصادية

 

 

لم يعد الجيل الحالي يشعر بكثير من مزايا المعجزة الاقتصادية بسبب ارتفاع معدلات البطالة والأزمات الاقتصادية وإدخال وظائف منخفضة الأجر ناجم عن ازدياد الضغط التنافسي في الاقتصاد. لم يعد العمل يتمتع بالأهمية نفسها التي كان يتمتع بها لدى “جيل طفرة المواليد”، بل إن هذا الجيل يعاني القلق من مستقبله عندما سيصل إلى سن التقاعد. فالجيل المنتج الذي يسدد الضرائب لتأمين الخدمات للكبار في السن هو في انخفاض مستمر، يواكبه شعور بالضيق وانتقادات لـ”جيل طفرة المواليد”، خاصة في ما يتعلق بالتقنيات الجديدة وقضايا المناخ والبيئة، ويتهمونه بأنه “استهلك كل شيء”. يسمي النقاد هذه الظاهرة بالتمييز العمري، وهي تنتج تباينا كبيرا في ثقافة الجيل الحالي عن السابق واهتماماته.

يقول رئيس معهد الاقتصاد الاجتماعي التجريبي الذي يقوم بإعداد تقارير بحثية نيابة عن الوزارات والبلديات والجمعيات – على سبيل المثل، حول الهيكل العمري المتغير للمجتمع، وهو أحد مجالات البحث في المعهد: “البيان الوحيد الموثوق به هو أننا جميعا ميتون على المدى الطويل”. قول يستبطن كثيرا من القلق وضبابية الرؤية بالنسبة إلى المستقبل.

طفرة المواليد المستدامة عربيا

في العالم العربي لم نكن نلتفت إلى هذه الظواهر في ما مضى، فالمجتمعات العربية لديها ثقافة خاصة، ليس في ما يتعلق بكبار السنّ فحسب، بل بالأبناء أيضا، وبالعلاقات العائلية، تنعكس على مجالات الحياة وطرائق تنظيمها، عدا الفارق في التنظيم المجتمعي المدعوم من الحكومات، والمقبول كثقافة عامة وسلوك لدى غالبية المجتمع في الدول المتقدمة. هذا الفارق يتجلى في أدوات وأساليب العناية بالكبار في العمر، وفي مفهوم الأسرة على وجه التحديد الذي لا يزال لدى فئات شعبية كثيرة يحظى بأهمية خاصة تنبني على الأعراف والموروث الشعبي والدين. فعلى الرغم من وجود دور للعجزة في بلداننا، قسم كبير منها ترعاه جمعيات خيرية، إلا أنها محدودة ولا تلقى القبول الملائم في وجدان الناس، قلائل يتركون ذويهم لدور الرعاية، حتى لو لم يكونوا قادرين على القيام بأعبائهم، فهذا يخضع لمنطق العيب والحرام.

 

AFP AFP

امرأتان سوريتان في مخيم واشوكاني، في تركيا، 16 ديسمبر 2019 

معدل الخصوبة وازدياد السكان مرتفع لدى الشعوب العربية من الأساس، وكانت هناك مبررات متنوعة لزيادة عدد الولادات لديها، منها النظام القبلي الذي لا يزال موجودا في بعض المناطق، ومنها سوريا، الذي يعتمد على زيادة أفراد القبيلة، كذلك في المجتمعات الزراعية أو الفلاحية بسبب الحاجة إلى اليد العاملة في الأرض، وشيوع الزواج الباكر وتعدّد الزوجات والموقف من قضية الإجهاض وتحديد النسل، وغيرها من العوامل الأخرى.

تظهر الدراسات الأخيرة أن معدلات الخصوبة في جميع الدول تقريبا ستكون منخفضة للغاية، بحيث لا يمكنها الحفاظ على مستويات السكان في حلول نهاية القرن الحالي، وأن معظم المواليد الأحياء حول العالم سيكونون من الدول الأكثر فقرا، ومن ضمن هذه الدول الأكثر فقرا عدد من الدول العربية التي أنهكتها الاضطرابات والحروب، ومنها سوريا على سبيل المثل، التي تعيش شريحة كبيرة من شعبها منذ العام 2011 في مخيمات نزوح ولجوء، تظهر فيها طفرة مواليد تنتج جيلا مستقبليا غير مؤهل ليكون منتجا بسبب افتقاره إلى التعليم والرعاية ومؤهلات الاندماج في الحياة العصرية الحالية القائمة بشكل رئيس على الثورة الرقمية.

 

معظم المواليد الأحياء حول العالم سيكونون من الدول الأكثر فقرا، ومن ضمن هذه الدول الأكثر فقرا عدد من الدول العربية التي أنهكتها الاضطرابات والحروب

 

 

انطلاقا من هذا الافتراض المبني على مؤشرات ودراسة علمية، يقول الباحث ستاين إميل فولسيت من معهد قياسات الصحة والتقويم في جامعة واشنطن بسياتل في بيان، إن هذا الاتجاه سيؤدي إلى تقسيم العالم بين “طفرة مواليد” و”كساد مواليد”، وإن الطفرة ستتركز في الدول المنخفضة الدخل الأكثر عرضة لعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي.

القلق المعمّم

تعاني البلدان الفقيرة والواقعة تحت تأثير النزاعات والحروب من عطالة في إدارة الموارد البشرية واستثمارها، مثل بقية الموارد لديها، لذلك نرى الهجرة تزداد في بعض منها، ومن الطبيعي العودة إلى الأزمة السورية، فعلى الرغم من طفرة المواليد “العكسية” لديها، التي لا يمكن إرجاعها إلى “معجزة اقتصادية” والرفاهية التي تنتجها، إنما إلى عوامل أخرى للحرب فيها أثر كبير، إذ تميل الكائنات إلى التكاثر في ظروف التهديد الوجودي، ومنها المجموعات البشرية، على الرغم من هذا فإن الجيل الحالي إما يهرب خارج البلاد، أو يبقى على شكل عطالة كامنة سوف تفجر مشكلة مستقبلية.

 

AFP AFP

أطفال في مدرسة ابتدائية من اللاجئين غرب ألمانيا، في 19 أكتوبر 2020 

في ظل تراجع الأمن الغذائي مدفوعا بظواهر الطقس القاسية، والصراعات السياسية، والتباطؤ الاقتصادي الذي احتدم بسبب تفشي جائحة فيروس كوفيد19، والحرب الروسية في أوكرانيا، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، والحرب الباردة الحالية بين أميركا وحلفائها من جهة والصين ومن معها من جهة أخرى، سوف تكون الهجرة مطلبا للدول الفقيرة والدول التي تعاني من الشيخوخة على حد سواء، وهذا يفسر استقبال ألمانيا لموجة اللجوء الكبيرة من السوريين في العام 2015، إذ من الطبيعي ألا يصل إلى نقطة النهاية، بحسب قانون البقاء، غير من يملكون القدرة والكفاءة التي تؤهلهم للعمل والعيش، ويمكن لألمانيا الاستثمار بهم بتأهيلهم للاندماج والعمل، فنقص العمالة الماهرة ليس ظاهرة جديدة، وتعد هذه قضية محورية بالنسبة الى الحكومة الألمانية، لذلك نرى عملها الدؤوب لوضع قوانين جديدة ناظمة لعملية الهجرة.

أخيرا، هناك مفاهيم تتبناها المجتمعات العربية كقيم عليا وتتباهى بها من دون الغوص في معناها العلمي وكيفية ضبطها واستثمارها، وهي معدل الخصوبة الذي يشير إلى عدد المواليد خلال سنة كاملة مقسوما على عدد النساء بين عمر 15 و49 سنة، ومعدل الاستبدال وهو عدد الأطفال الذين ينجبهم الأزواج خلال سنوات الإنجاب، وهذا تحديدا يفتح الباب على دراسته كظاهرة لها أبعادها النفسية والفلسفية، من أركانها المهمة النظر الى الأبناء كملكية للأهل، هذان المعدلان المرتفعان في المجتمعات العربية، لا يمكن الاعتماد عليهما كمؤشرات تجلب الطمأنينة المستقبلية، بل يندرجان في سياق الفوضى المعرفية والعيش ضمن قوالب ثقافية ماضوية تبعد المجتمع عن الحياة العصرية، وتفاقم في مشكلاته، فكيف في حال غياب الاهتمام الحكومي بقضايا المجتمع ومستقبل الأجيال، الأجيال التي أقل ما يقال عنها إنها يتيمة؟

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/314536/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%B4%D9%8A%D8%AE%D9%88%D8%AE%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%91%D9%85-%D9%88%D9%81%D8%AA%D9%88%D9%91%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D9%8A%D8%B1-%D9%88%D9%82%D8%A7%D8%A6%D8%B9-%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D9%82%D8%A8%D9%84%D8%A9

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M