تأملات_قرآنية من الآية الخامسة و الاربعين من #سورة_فاطر

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)

التأمل الأول :
أحياناً تكون الإشارات القرآنية للصفات الإلهية بشكل مباشر وصريح ، كصفة الحليم والقدير والبصير وغيرها ، وأحياناً تكون هذه الإشارات غير مباشرة ، وهذا يدعونا الى تفحص تلك الصفات المباركة بين أسطر الآيات الكريمة .
فعندما لا يؤاخذ الله تعالى الناس بما كسبوا ويؤخرهم الى أجل مسمى رغم أنهم يستحقون المؤاخذة فهذه إشارة عملية للحلم الإلهي بعباده ، وكما هو معروف أن التطبيق العملي له أثر تربوي في النفوس أكثر بكثير من الأمور النظرية ، وأن أجلهم إذا جاء فيتوقف الحلم وتبدأ القدرة الإلهية ، هذه القدرة غير بطشية بل هي حتى أنظار الرب البصير بعباده .

التأمل الثاني:
بعض الناس متورطون بحب أنفسهم ويتصورون أن الله تعالى راضياً عنهم لأسباب واهية مثل زيادة أرزاقهم أو حمايتهم من الأمراض والابتلاءات أو توفيقهم لعمل بعض الأعمال الصالحات ، ولو أنهم تدبّروا القرآن الكريم وتوغلّت معاني آياته في أرواحهم لعرفوا أن الله سبحانه لم يؤاخذهم بما كسبوا فعاشوا في ظل تلك النِعَم ، ولو آخذهم جل شأنه على ذلك لما بقوا في هذه الحياة ، خاصة وأن الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ، فالذنوب لا تفارقنا يوماً من الأيام ، فكيف نضمن رضا الله عنا ؟ هذا فضلاً عن ما إذا قارنا بين النِعم الإلهية – التي نتصور أنها جزاءاً لصلاحنا – وتلك الذنوب التي نرتكبها ، فمن يعيش في ظل نِعَمٍ أكثر ينبغي أن يبتعد عن المعصية أكثر ، وأن معصيته تعادل أضعاف ما يعصيه غيره ممن لم يتنعّم بنفس النِعم .

التأمل الثالث:
يُرّبينا القرآن الكريم على ثقافة التفكير بعواقب ما نقوم به ، كي لا يكون تفكيرُ المؤمن تفكيراً آنياً فيكون كالدابة والبهيمة التي لا تفكر إلا في لحظتها ، ولو تربى المؤمن بهذه التربية لتجنّب أي عملٍ لا يرضي الله عز وجل لأن لهذا العمل نتائج سيئة ، قد تكون دنيوية وليس أخروية فقط، وإن لم يرها في العاجل فسيقع فيها في الآجل .
وهذه الثقافة استنطقها أمير المؤمنين عليه السلام القرآن الناطق وجسّدها عندما علّم صاحبه كميل بن زياد دعاء الخضر عليه السلام الذي عُرِف فيما بعد بدعاء كميل والذي يستحب قراؤته ليلة الجمعة ، حيث ورد في فيه : اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم ، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم ، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم ، وغيرها من المقاطع التي تدعو المؤمن الى أن يحذر عواقب الذنوب فيكون إنساناً ينظر الى المستقبل نظرة عملية .

التأمل الرابع:
إن تأخير وتأجيل إتخاذ قرار معين بحق مسيء ليس دائماً أمراً مرفوضاً ، إذ أن بعض المؤمنين يتسرعون في الرد ويظنون أن هذه السرعة في رد المسيء مطلوبة كي لا تتفاقم إساءته فيصعب ردها ومنع انتشارها ، وهذا التصرف قد يكون صحيحاً أحياناً وقد لا يكون ، أو لنقل أنه صحيح ولكن هناك تصرف أصح وهو تأخير الرد ، وهذا يعتمد على تقييم المؤمن وحكمته ورؤيته وبصيرته وتقديره للأمور ، فربما يفسد الرد السريع ولا يصلح ، أو تكون نتيجته أسوأ من نتيجة التأخير ، أو ربما تقتضي الحكمة فسح المجال أمام المسيء ليكفّر عن سيئاته أو ليعتذر ، فالرد المباشر قد يجعل المسيء أكثر سوءاً وإساءة ، ولو حاسبنا كل مسيء على إساءته بشكل مباشر لما بقي مسيء عندنا فيهجرنا ويذهب الى غيرنا فيزداد إساءة وانحرافاً .

التأمل الخامس:
النظرة القاصرة لا تجعل صاحبها ينظر الى كثير من الأمور على حقيقتها ، فيتخذ مواقف وآراء خاطئة ، وقد تكون تلك المواقف والآراء مع قادة الأمة ورموزها كالأنبياء والأوصياء وعموم الأولياء والفقهاء ، بحيث ينتقد مواقف ومقولات هؤلاء القادة بسبب النظرة الضيقة للحياة ، بل قد يصل الأمر الى انتقاد رب العزة جل وعلا – والعياذ بالله – عندما لا يكون التقدير الإلهي يصب في مصلحته ، أو أنه يستغرب كيف يؤخّر الله سبحانه مؤاخذة الناس بما كسبوا وظلموا الآخرين ، وخصوصاً الحكام الظلمة ، إذ يبقى كثير من هؤلاء الحكام لسنين دون أن ينتقم منهم الله تعالى .
وغفل هؤلاء عن حقيقة أن الله بعباده بصير ، مما يجعله عالماً بما يمر به الناس أكثر من الناس أنفسهم ، وعندما يريد أن يأخذ الناس بما كسبوا فإنه ينظر الى الأمر من عدة زوايا وليس من زاوية ضيقة .

التأمل السادس:
من غير اللائق أن ينظر الإنسان – وخصوصاً المؤمن – للشيء الواحد بنظرتين ، فهذا إنسان لا يحمل مبادئاً ولا قِيَماً ، ويفكر وفق أهوائه فقط ولا يستخدم عقله في التشخيص ، فمثلاً يرفض أن يعامله مديره بسوء بلا سبب بينما يعامل مَن دونه بسوء بلا سبب ، أو ترفض زوجة الابن أسلوب أم زوجها معها بينما تعامل هي – عندما تكبر – زوجة ابنها بنفس الأسلوب ، ويريد البعض أن يؤاخذ الله تعالى الناسَ بما كسبوا من معاصي ، بينما لا يريد أن يؤاخذه الله سبحانه إذا عصى ويتجاوز عنه إذا ظلم !
وعليه لا بد أن ندرك أن تجاوز الرب جل وعلا عن ما كسب الناس هو قاعدة عامة تنطبق على الجميع بما في ذلك نحن أنفسنا ، فإن تجاوز عن الغير فسيتجاوز عنا ، وإن لم يتجاوز عنهم فسوف لن يتجاوز عنا .

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M