تحديات مُتتالية.. قراءة في احتجاجات فرنسا المُتصاعدة بعد مقتل الشاب “نائل”؟ _ عرض رواية الإعلام ونقدها_

وفقا لتغطية الإعلام العالمي (الأمريكي أساسا) تشهد فرنسا موجة جديدة من الاحتجاجات على خلفية مقتل شاب يُدعى “نائل” يبلغ من العمر 17 عامًا، على يد أحد أفراد الشرطة الفرنسية، إبان قيادته السريعة لسيارة في “نانتير” إحدى ضواحي باريس، يوم الثلاثاء الماضي، الموافق السابع والعشرين من يونيو 2023؛ إذ كانت هذه الواقعة هي الثالثة من نوعها -توقيف مروري- خلال النصف الأول من عام 2023، فيما بلغ عدد هذه الحوادث نحو 13 حادثة خلال عام 2022، ووصل عددهم  3 حوادث خلال عام 2021، فيما بلغ مجمعهم نحو  6 حالات في عام 2018، وهو رقم مُماثل لما حدث عام 2017 الذي صدر فيه قانون بموجبه يتم منح رجال الشرطة حق إطلاق النار على قائدي السيارات، وفقًا لخمس حالات مختلفة أقراها القانون الذي تم تمريره بعد تعرض باريس لمزيد من الهجمات الإرهابية في عام 2015.

وبالرغم من أن حوادث العنف الناتجة عن إطلاق النار في فرنسا ليست مُتزايدة على غرار الولايات المتحدة، إلا إنها أضحت ذات صدى وتبعات واسعة النطاق على فرنسا، وتُثير النقاش بشأن سياسات وممارسات الدولة والشعب الفرنسي تجاه المهاجرين، وأيضًا استخدام الشرطة للقوة تجاه المواطنين. إذ أسفرت الواقعة عن خروج العديد من أبناء المهاجرين إلى شوارع “نانبير” والضواحي المحيطة بها اعتراضًا على ما حدث، وسرعان ما أن امتدت هذه المظاهرات لتشمل القرى والمدن الكبرى في فرنسا، مثل ليموج، وسان بريو، ومارسيليا، وستراسبورج، هذا بجانب بعض الأراضي الفرنسية فيما وراء البحار مثل جزيرة ريونيون وغيانا الفرنسية؛ حيث انتشرت أعمال العنف، والتخريب، والنهب، وحرق المباني العامة، والسيارات، وحافلات الركاب، علاوة على الاشتباك مع الشرطة، وتزايدت حدة أعمال العنف في اليوم الرابع، وتراجعت بشكل نسبي في اليوم الخامس، ولكنها ما زالت قائمة.

هذه الرواية تصدق كلام أقصي اليسار الخاص بنظام ماكرون من ناحية وبالدولة الفرنسية من ناحية أخري، وتزعم أن فرنسا دولة ما زالت ذهنيتها استعمارية، وأن الرئيس حولها إلي دولة ديكتاتورية فهو يمرر سياساته وإصلاحاته دون حوار “حقيقي” ودون أغلبية في البرلمان، ومن الواضح أن الرئيس متسلط أكثر من سلفه، ونعم تمت الموافقة علي زيادة الحالات التي يسمح للشرطي بإخراج سلاحه واستخدامه، ولكن من ناحية هذه الزيادة تم إقرارها بعد تكاثر الحوادث الإرهابية لا سيما حادث نيس الذي شاهد سائقا إرهابيا يدهس ويقتل العشرات. ومن ناحية أخري هذه الحالات التي أقرها القانون ما زالت محدودة والمشكلة ليست في اللوائح بل في كون الضابط خالفها وأخرج سلاحه بدون توافر الشروط التي تجيز هذا وارتكب ما ارتكبه.

طبعا يعاني سكان الضواحي من أشكال شتي من التمييز أغلبها شعبي، وطبعا يمكن انتقاد سياسات الدولة تجاه الضواحي وفرضياتها. ولكنها ليست سياسة عنصرية، فيما يتعلق بعلاقة الشرطة وأبناء الضواحي هناك شكوى عامة من نسبة العرب من إجمالي الأفراد التي توقفهم الشرطة طالبة أوراقهم، هذا لا يبرر ما حدث ولا يبرر محاولات أقصي اليسار لتوظيف الاضطرابات وتشجعيها.

إدارة الأزمة بين الاحتواء والردع

تعامل الرئيس الفرنسي وحكومته مع تبعات الواقعة بشكل سريع، في محاولة لتجنب تصاعد أعمال العنف والتخريب التي انتشرت في أنحاء البلاد، من خلال اتخاذ مجموعة من الإجراءات جاء في مقدمتها إيقاف الضابط المتهم عن عمله، وذلك قبل اعتقال وتوجيه تهمة “القتل العمد” له، للحد من تنامي أعمال العنف التي اجتاحت الشوارع، وردع  أي محاولة لافتعال الفوضى والاضطراب، وخوفًا من تكرار أحداث عام 2005، التي كانت مغايرة عن ناحية الأسباب عن الواقعة الحالية، ولكنها قد تكون مُتشابهة من حيث رد فعل؛ حيث عانت فرنسا على مدار ثلاث أسابيع من الاضطرابات كانت نتيجتها، إحراق أكثر من 10 آلاف سيارة، وتضرر 233 مبنى عام و 74 مبنى خاصا في 300 منطقة مختلفة، و تم اعتقال أكثر من 4000 شخص على خلفية وفاة شابين صعقًا بالكهرباء في محطة للكهرباء إبان اختبائهما من الشرطة، هذه الاضطرابات أجبرت حكومة الرئيس الفرنسي آنذاك “جاك شيراك” لإعلان حالة الطوارئ بعد عشر أيام من بدايتها، التي بموجبها يتم السماح للسلطات بفرض حظر التجول، ومنع المظاهرات، بجانب المزيد من الصلاحيات. وبناءً عليه يمكن التطرق إلى النهج الفرنسي على المستوى الرسمي لتعاطي مع تبعات الحادث على النحو التالي:

  • بالنسبة للرئيس “إيمانويل ماكرون”، فقد ترأس اجتماع خلية الأزمة الوزارية الذي دعا إليه عقب ووصله من العاصمة البلجيكية بروكسل بعد مشاركته في قمة أوروبية. وصرح بإن الحادث “لا يمكن تفسيره” و”لا يغتفر”. ومُنددًا بالاستغلال غير المقبول له، داعيًا “أولياء الأمور إلى التحلي بالمسؤولية”، وقائلًا إنه: “من الواضح أن الوضع الذي نعيشه هو نتيجة جماعات منظمة وعنيفة ومجهزة في بعض الأحيان، ونحن ندينها ونوقفها وستُقدم للعدالة. ولكن، هناك أيضًا عدد كبير من الشباب”. بجانب الإعلان نشر قوات أمنية للسيطرة على الاضطرابات. علاوة على ذلك دعا منصات التواصل الاجتماعي إلى حذف مقاطع الفيديو ذات الصلة بالحادث، وخصّ بالذكر تطبيقي “سناب شات” و”تيك توك”. بالإضافة إلى ذلك، وفقًا لمصادر في الإليزيه، من المُقرر أن يستقبل الرئيس “ماكرون” رئيسة الجمعية الوطنية، ورئيس مجلس الشيوخ، ورؤساء البلدية التي تضررت والبالغ عددهم نحو 220 رئيس يوم الإثنين الموافق 3 يوليو الجاري.

ويُذكر؛ أن اشتباك وتفاعل الرئيس “ماكرون” مع الأزمة يُمثل استجابة سريعة، وقد يكون ذلك محاولة لتفادي أخطاء الرئيس السابق “جاك شيراك” في التعامل مع أحداث الشغب في عام 2005، الذي صرح في حينها في خطاب رسمي للشعب يوم 14 نوفمبر، قائلًا: “أولئك الذين يهاجمون … يجب أن يعلموا أنه في الجمهورية، لا يمكن لأحد أن يخالف القانون دون أن يتم القبض عليه ومحاكمته ومعاقبته”. واعتبر أن الحادث يعكس حقيقة وجود أزمة هوية في المجتمع، لكنها لا تبرر العنف. على عكس الرئيس “ماكرون” الذي حمّل الشرطي المسئولية عن الحادث.

  • فيما أدانت رئيسة الوزراء الفرنسية “إليزابيث بورن” الواقعة باعتبارها “أفعالًا غير مقبولة”، وفيما يتعلق بإعلان حالة الطوارئ، فقد قالت “ندرس كل الاحتمالات، واضعين أولوية إعادة (قانون) النظام الجمهوري على كل الأراضي الفرنسية”. كما توجهت مع وزير الداخلية إلى بلدية “لاي لو روز” بعد تعرض منزل رئيس البلدية “فانسان جونبران” للحرق من قبل مجهولين ينتمون غالبا إلي شبكات تجارة المخدرات وحاولوا قتل زوجة وأطفال العمدة. فضلًا عن ذلك تعهدت رئاسة الوزارة بالتعامل بحزم مع أعمال العنف، عبر تشديد العقوبات على الذين يستهدفون المسئولين، مُعتبرة أن ما حدث لرئيس البلدية يُعد “أمر صادم، ولن يتم التسامح معه”. مُوضحًة إنه تم توفير كافة الإمكانيات اللازمة للمواجهة التي تشمل 45 ألف شرطي، بجانب الاستعانة بطائرات بدون طيار، ومركبات مصفحة، وطائرات هيلوكوبتر.
  • أما وزير الداخلية الفرنسي “جيرالد دارمانين”، فقد حاول احتواء الوضع الذي وصفه بإنه “مروع للغاية”، مُعلنًا عبر التلفزيون الفرنسي مساء يوم الجمعة، أنه سيتم تعبئة 45 ألف شرطي. مُضيفًا إنه تم اعتقال 917 شخصًا يوم الجمعة، فيما تم توقيف نحو 719 شخصًا ليلة السبت، كما تم توقيف نحو 157 شخصًا ليل الأحد، وفقًا لما أعلنته وزارة الداخلية صباح يوم الإثنين، واتصالًا بذلك فقد أشار السيد “دارمانين” خلال زيارته لمدينة “ريمس” في نفس اليوم، إلى أن عدد الذين اعتقلوا خلال الثلاثة أيام الماضية حوالي 3200 شخصًا، وهو “وضع غير مسبوق”. وهنا يمكن الإشارة إلى أن تعاطي وزير الداخلية كانت أكثر حذرًا، وحازمًا لفرض الأمن وهو ما تجلى في الهدوء النسبي خلال اليوم الخامس، وخاصة إنه اعتمد على عدد كبير من قوات الشرطة، بجانب وحدات النخبة المتخصصة، للسيطرة على الأوضاع الراهنة. وهو ما يعد عكس تعامل وزير الداخلية نيكولا ساركوزي، إبان عام 2005، الذي وصف الشبان الذين تورطوا بأعمال شغب في المجمعات السكنية خارج باريس بأنهم “حثالة” وينبغي “التخلص منهم”. وأعتبر وقتها، ساركوزي ورئيس وزرائه، دومينيك دوفيلبان، أن الصبيين كانا من اللصوص الخارجين على القانون، ووقفا بجوار الشرطة. وكذلك سعت الحكومة لزيادة عناصر الأمن الذين وصلوا ل 45 ألف عنصر، لضمان عدم تفاقم أحداث العنف.

والجدير بالذكر في هذا السياق، أن قوى اليمين المتطرف، وأقصى اليسار حاولوا توظيف هذه الأحداث بما يتوافق مع مصالحهم، وتعبير عن تزايد استيائهم من الحكومة الحالية، وقد تمثل في اتهام “مارين لوبان” زعيمة اليمين المتطرف، والمرشحة الرئاسية السابقة، الحكومة بالتساهل في إدارة ملف الهجرة، قائلةً: “تعيد هذه الأحداث المروعة قادتنا إلى الواقع الذي فقدوه بسبب ثمل السلطة الانفرادية والبناء الأيديولوجي المجنون، خاصة فيما يتعلق بالهجرة والتراخي القضائي”. فيما رفض الزعيم اليساري المتطرف والمرشح الرئاسي السابق “جان لوك ميلينشون” وبعض مؤيديه محاولات التهدئة، داعيًا تحقيق العدالة.

مُحفزات عدّة لتصاعد أعمال العنف

ساهمت العديد من المحفزات في تنامي أعمال العنف والتخريب في البلاد، منذ اندلاع واقعة الاعتداء وحتى الآن، بالرغم من محاولة الحكومة الفرنسية السيطرة عليها، تتمثل أبرزها فيما يلي:

  • المناطق المحرومة: في فرنسا، يعيش 5.2 مليون شخص في أحياء محرومة، أي نحو 8% من السكان، وفق بيانات معهد الإحصاء الوطني (إنسي) لعام 2023. ونجد أن نحو 23.6% من سكان هذه الأحياء لم يولدوا في فرنسا، مقارنة بـ 10.3% في بقية البلد، وفق بيانات معهد الإحصاء الوطني لعام 2021. يعاني المهاجرون – وخاصة من أصول غير أوروبية – من وضع أقل مواتاه في سوق العمل، حيث بلغ معدل البطالة 13٪ في عام 2021 (مقابل 8٪ لجميع السكان). وقد ذكر المهاجرون من المغرب العربي وكذلك الرجال المنحدرين من مهاجرين من المغرب الكبير أنهم يعانون من هذا الوضع ضعف عدد الرجال الذين ليس لديهم خلفية مهاجرة. وقد كان معدل الفقر في الأحياء الشعبية عام 2019 أعلى ثلاث مرات من أي مكان آخر في فرنسا، إذ يعيش 43.3% من سكانها تحت خط الفقر مقارنة بـ14.5% في بقية المناطق. وكذلك فمعدل البطالة أعلى كثيراً في الأحياء الشعبية. ففي عام 2020، كان 18.6% من القوى العاملة عاطلين عن العمل مقارنة بـ 8% على المستوى الوطني، وفق “إنسي”.
  • القوانين والعنف: لم تكن هذه الواقعة الأولى من نوعها؛ فقد تزايدت حوادث إطلاق النار المميتة على سائقي السيارات من قبل الشرطة في فرنسا في السنوات التي أعقبت صدور قانون عام 2017 الذي يسمح للضباط بإطلاق النار على سائقي السيارات الذين لا يمتثلون للأوامر لا سيما الأوامر بالتوقف ويعرضون حياة الغير للخطر، وقد تم تمرير هذا القانون بعد سلسلة من الهجمات الإرهابية في فرنسا. (فرنسا تعاني من ممارسات بالسيارات يطلق عليها rodéo urbain). ووفقًا لـ “رويترز” أظهر إحصاء أن غالبية الضحايا منذ 2017 كانوا من السود أو من أصول عربية.
  • تنامي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي: التي لعبت دورًا واضحًا في اشعال الموقف؛ فعلى عكس أعمال العنف والاضطرابات التي وقعت في عام 2005، التي كان من الصعب انتشارها في بنفس السرعة التي حدثت خلال واقعة قتل “نائل”، فقد تم مشاركتها عبر الإنترنت ومشاهدتها من قبل عشرات الآلاف على منصات التواصل الاجتماعي مثل تيك توك، وسناب شات، وتوتير. وهو ما ساهم في التصاعد السريع لأعمال التخريب والعنف، والذي وصل نسبة المراهقين فيها لـ 30% من المخربين، وهم من القاعدة الأساسية المستهلكة لتلك الوسائل.

وبالرغم من إلقاء بعض السياسيين باللوم على وسائل التواصل الاجتماعي التي تؤدي إلى تنامي الاضطرابات، وتساهم في انتشار الحوادث على نطاق واسع، إلا إنها أضحت تلعب دورًا فاعلًا في الكشف عن ممارسات أفراد الشرطة. فقد أظهرت حادثة أخرى حديثة (لم يتم تصويرها) مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في توثيق الممارسات التي تقوم بها قوات الشرطة.

ملاحظات ختامية: 

  • مسلسل العنف الحالي سواء انتهى قريبًا أو بعد وقت ما، فإنه يعد مرآة كاشفة للأزمات الذي يعيش فيها النظام الفرنسي الحالي. فمنذ فترة قصيرة كانت هناك احتجاجات واسعة بسبب إصلاح قانون المعاشات التقاعدية، وقبلها موجات احتجاج على قانون الأمن الشامل، علاوة على السترات الصفراء، والتي تعكس أزمات نظم الرفاه الأوروبية، وعدم قدرتها على توفير الموارد وتوزيعها بوفرة على مواطنيها، على عكس العقود السابقة، وذلك نتيجة أسباب اقتصادية؛ كضعف النمو، وديمغرافية؛ كارتفاع سن السكان مقابل انخفاض عدد المواليد. لذا إن لم يتم الاشتباك ومحاولة إصلاح مواطن الخلل في النظام الاقتصادي والاجتماعي الفرنسي، لا نستبعد أن يصبح هذا المشهد بالأمر المعتاد.
  • أضحى العنف والنهب أحد آليات الضغط التي يعبر بها الفرنسيين عن استيائهم من النظام الحاكم، كما إنه يمثل مؤشر خطر على استقرار البلاد، وشرعية النظام القائم، وسمعته الدولية، فعلى خلفية هذه الاضطرابات تم إلغاء زيارة الرئيس الفرنسي لألمانيا، كما تم إلغاء زيارة ملك بريطانيا لفرنسا في أعقاب المظاهرات التي خرجت احتجاجًا على إصلاح نظام المساعدات التقاعدية. علاوة على ذلك تأتي هذه الاضطرابات قبل أكثر من عام بقليل من أن استضافة فرنسا لدورة الألعاب الأولمبية الصيفية. بالإضافة إلى ذلك امتدت تبعات الحادث إلى الدول الجوار مثل سويسرا؛ حيث قبضت الشرطة في سويسرا على ستة أشخاص تبلغ أعمارهم ما بين 15 إلى 17 عامًا، وشخص آخر يبلغ من العمر 24 عامًا، في مدينة لوزان مساء يوم السبت.

الكابشن: تشهد فرنسا موجة جديدة من الاحتجاجات على خلفية مقتل شاب يُدعى “نائل” على يد أحد أفراد الشرطة الفرنسية، الأمر الذي أثار النقاش حول سياسات وممارسات الدولة والشعب الفرنسي تجاه المهاجرين، وأيضًا استخدام الشرطة للقوة تجاه المواطنين.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/34937/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M