تحريك الجمود: أبعاد النشاط الدبلوماسي حول ملف الصحراء وآفاق التسوية

شهد ملف الصحراء حراكاً دبلوماسياً نشطاً في الآونة الأخيرة قبيل التقرير الذي سيوجهه الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن حول قضية الصحراء في نهاية أكتوبر 2023، فقد زار «المبعوث الأممي المكلف بالصحراء الغربية»، ستافان دي ميستورا، المنطقة في بداية شهر سبتمبر الجاري، وتزامنت زيارته مع جولة لمساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون شمال أفريقيا، جواشا هاريس، إلى المغرب والجزائر ومخيمات اللاجئين الصحراويين في تندوف. كما جرى عقد العديد من اللقاءات الثنائية بين مسؤولين من الدول المعنية بالنزاع وأطراف دولية كبرى على هامش الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة في سبتمبر الجاري.

 

تسعى الورقة لرصد المستجدات في قضية الصحراء، وتحليل دلالاتها، وتحديد أثرها المستقبلي في ملف الصحراء.

 

الحراك الأممي والسياق الراهن للقضية الصحراوية 

على الرغم من حالة الجمود الطويل الذي عانى منه ملف الصحراء بعد توقف مساعي استفتاء تقرير المصير في الإقليم وفق مبادرة الأمم المتحدة عام 1991، مثّل تكليف وزير الخارجية الإيطالي الأسبق ستافان دي ميستورا بمتابعة هذا الملف مبعوثاً لأمين عام الأمم المتحدة في نوفمبر 2021 نقطةَ تحول مهمة في مسار القضية الصحراوية. وبدأ المبعوث الأممي مهمته الصعبة في ظروف اتسمت بالمعطيات الآتية:

 

  • القطيعة الدبلوماسية بين المغرب والجزائر في أغسطس 2021، التي تُعد خطوة تصعيدية تنطوي على تأثير قوي في ملف الصحراء.
  • اعتراف الولايات المتحدة في ديسمبر 2020 بسيادة المغرب على الصحراء، في سياق المعادلة الشرق أوسطية الجديدة التي ولّدتها الاتفاقيات الإبراهيمية بين بعض الدول العربية وإسرائيل.
  • إعادة المغرب بناء رؤيته للحل في الصحراء بطرح خيار الحكم الذاتي النهائي بصفته الحل الوحيد الواقعي والممكن لهذا النزاع، ومن هنا انضم عدد من البلدان (أكثرها أفريقية) إلى هذا الخيار، وقرر فتح قنصليات في مدينتي العيون والداخلة. وفي مارس 2022 قررت الحكومة الإسبانية رسمياً دعم مخطط الحكم الذاتي الذي طرحته الحكومة المغربية، مُعتبرة أنه “الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية لحل النزاع”، بما يشكّل تحولاً مهماً ضمن المواقف الأوروبية التي تلتزم القرارات الأممية الخاصة بذلك الملف.

 

وقامت استراتيجية المبعوث الأممي الجديد على المرتكزات الآتية:

 

  • الزيارة الميدانية لمنطقة النزاع وللأطراف المعنية مباشرة أو بصفة غير مباشرة بالصراع (مثل الجزائر وموريتانيا). وقد تعددت زيارات دي ميستورا للأطراف المعنية، وكان آخرها جولته في بداية سبتمبر 2023، التي شملت المغرب بما فيه المدن الصحراوية، والجزائر ومخيمات تندوف، وموريتانيا.
  • تبنّي خط الحل الواقعي المرن بدل التشبُّث بخط الاستفتاء الذي ظهر أنه مستحيل عملياً. وقد انعكست هذه الرؤية الجديدة في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2654، بتاريخ 27 أكتوبر 2022، الذي نصّ على “تحقيق حل سياسي واقعي وعملي ودائم ومقبول من الطرفين لمسألة الصحراء الغربية على أساس التوافق”، كما دعا إلى الالتزام بوقف إطلاق النار والعودة إلى المفاوضات المباشرة بين الأطراف المعنية بالنزاع. وبينما تحمَّس المغرب لهذا القرار، رفضته الجزائر وجبهة البوليساريو.
  • ربط موضوع الصحراء بأزمات المنطقة في جوانبها السياسية والأمنية، انطلاقاً من تجارب المبعوث الأممي السابقة في سورية والعراق وأفغانستان، بما يعني إخراج الملف من بعده الإقليمي الضيق (شمال أفريقيا) إلى المجال الشرق أوسطي الأوسع الذي يعرف راهناً حركية متسارعة، من أبرز عناصرها التقارب العربي-الإسرائيلي الذي كان له تأثير مباشر على المواقف الدولية من نزاع الصحراء.

 

ومن المتوقع أن يصدر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في نهاية شهر أكتوبر 2023 تقريره الجديد حول الصحراء في ضوء جولة مبعوثه في المنطقة، بما يُفسِّر النشاط الدبلوماسي المحموم من أجل استباق توجهات التقرير المرتقب وآثاره.

 

المواقف الإقليمية الراهنة من نزاع الصحراء 

تتمثل الأطراف الإقليمية المعنية بالنزاع في المغرب، والجزائر، وجبهة والبوليساريو، وموريتانيا.

 

يرى المغرب أن سقف أي حل منشود في الصحراء هو مشروع الحكم الذاتي الذي أصبح المقياس العملي في علاقات المغرب الخارجية، ويسعى بوضوح إلى أن يعتمده مجلس الأمن الدولي مدعوماً من الإدارة الأمريكية. واستطاع المغرب أن يحقق اختراقاً متزايداً للساحة الدبلوماسية الدولية، وضمن الأمم المتحدة، بما يدعم رؤيته لحل قضية الصحراء.

 

وتتبنى الجزائر خطاً متشدداً في ملف الصحراء منذ قطع العلاقات مع المغرب، وبذلت جهوداً واسعة لمواجهة المكاسب الدبلوماسية المغربية في أفريقيا من خلال توطيد التحالف مع نيجيريا ودولة جنوب أفريقيا في هذا الملف الحيوي بالنسبة لها، كما حاولت التأثير في الموقف الأمريكي الجديد الذي يعترف بسيادة المغرب على الصحراء، وفق ما تسرَّب من لقاء وزيرَي الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، والجزائري أحمد عطاف، في واشنطن، يوم 9 أغسطس 2023، وإن كان بلينكن اكتفى في تغريدته حول اللقاء بالحديث العام عن دعم جهود الأمم المتحدة في حل نزاع الصحراء.

 

أما جبهة البوليساريو، التي أعلنت في نوفمبر 2020 انسحابها من اتفاق وقف إطلاق النار الموقع مع المغرب عام 1991، فتبدو عاجزة عن تحقيق مكاسب عسكرية حقيقية على الأرض، وقد أعلنت في مؤتمرها السادس عشر المنظَّم في يناير 2023 التشبُّث بخط الانفصال عن المغرب وتكثيف الحرب الهجومية ضده، بما يفسَّر بأنه صعود للخط الراديكالي في الجبهة ضد تيار الحوار والحل التوافقي الذي ضعف كثيراً في الآونة الأخيرة.

 

وأما موريتانيا، التي كانت تسيطر على إقليم وادي الذهب في الصحراء قبل انسحابها منه في أغسطس 1979، فقد انتقلت بعد وصول الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواتي للسلطة من خط الموالاة للجزائر والبوليساريو إلى موقف أكثر حيادية ومرونة، وإن كانت تكتفي في موقفها الرسمي بدعم مسار التسوية الأممية للنزاع دون تفصيل، أو من دون تحميل طرف بعينه مسؤولية الاحتقان القائم في المنطقة.

 

المواقف الدولية الراهنة إزاء ملف الصحراء 

نجح المغرب في استمالة طرفين أساسيَّين لصالح موقفه من الصحراء، هما الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا (المستعمر السابق)، كما أن ألمانيا -في الموقف الذي عبّرت عنه وزيرة خارجيتها، أنالينا بيربوك، خلال لقائها نظيرها المغربي، ناصر بوريطة، في أغسطس 2022- باتت أقرب إلى تبنّي الرؤية المغربية، وإن كان الموقف الفرنسي لا يزال دون المأمول مغربياً على الرغم من مناشدة 94 نائباً برلمانياً فرنسياً حكومة ماكرون الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء.

 

وإذا كان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز اكتفى في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بدعم المخطط الأممي للحل في الصحراء، بما اعتبرته الأوساط الجزائرية مراجعة عملية لقرار الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء، إلا أن هذه التصريحات لابد من أن تُربَط بسياقها الإسباني الداخلي (مناورات تشكيل الحكومة الجديدة)، وبسياق الخطابات الرسمية في المنتدى الأممي التي تكتفي عادة باعتماد قرارات الهيئة الدولية.

 

أما روسيا فتبدو أقرب إلى الموقف الجزائري بحسب ما أعلن مندوبها في الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، في اجتماع مشترك بين مجلس الأمن وجامعة الدول العربية في نيويورك، بتاريخ 12 يونيو 2023. إلا أن المغرب يحرص على الإبقاء على علاقات متميزة مع روسيا، من أجل تحييدها في هذا الملف الحيوي، وتجنُّب إدماجه في أزمات العلاقات الدولية الراهنة. ومن ناحيتها، صادقت الصين على قرار الأمم المتحدة الأخير بخصوص الصحراء، وتكتفي عادة بسياسة الحياد في هذا النزاع مع دعم جهود الأمم المتحدة لحله، وتحتفظ بعلاقات جيدة مع كل الأطراف المعنية به.

 

آفاق الحل في الصحراء 

يمكن في ضوء المستجدات الراهنة استشراف ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل القضية الصحراوية:

 

1. سيناريو الحل الدولي من خلال دعم الخطة المغربية في الحكم الذاتي، مع إمكانية مراجعتها لتوسيع اختصاصات الحكومة المحلية في الصحراء تحت السيادة المغربية. ومن الواضح أن الولايات المتحدة تتبنّى هذا الحل، بالإضافة إلى عدد من الدول الأوروبية، كما أن الأمين العام للأمم المتحدة يبدو قريباً من هذا الحل، إلا أنه يصطدم راهناً بمعادلة الاستقطاب الدولي التي تَحدّ من إمكانية التوافق بين القوى الكبرى حول الأزمات العالمية الساخنة.

 

2. سيناريو الحلول البديلة، مثل حل الدولة المستقلة في إقليم وادي الذهب (الجزء الذي كانت تسيطر عليه موريتانيا) الذي ثمة تسريبات عن طرحه على طاولة النقاش من قبل الأوساط الرسمية الجزائرية، أو حل تنازل المغرب عن ممر أطلسي لصالح الجزائر في إطار عملية توافق إقليمي واسعة؛ إلا أن حظوظ هذه الحلول البديلة تبدو ضعيفة ومحدودة.

 

3. سيناريو تصاعد التوتر والاحتقان في الصحراء بعودة الحرب إلى الإقليم، وتزايد التسابق نحو التسلح بين المغرب والجزائر بما قد يُفضي إلى اندلاع حرب بين الدولتين. لا يبدو هذا السيناريو قوياً في الوضع الحالي، نتيجة لتوازن القوة بين الدولتين وعجز جبهة البوليساريو عن استهداف القوات المغربية في الصحراء.

 

لذا فإنه من الراجح أن يستمر مشهد الجمود في الصحراء، وإن كان من المتوقع أن يستمر المغرب في تحقيق مكاسب دبلوماسية متزايدة قد تؤدي إلى إنضاج صيغة الحكم الذاتي وتحويلها إلى خيار أوحد للحل في الصحراء مستقبلاً.

 

استنتاجات 

لوحظ في الآونة الأخيرة نشاط دبلوماسي كثيف حول ملف الصحراء، من مؤشراته زيارة المبعوث الأممي في الصحراء للمنطقة، وجولة نائب وزير الخارجية الأمريكي المكلف بشمال أفريقيا في الإقليم. وعلى الرغم من الجهود الأمريكية لدعم مشروع الحكم الذاتي المغربي، إلا أن المعادلة الدولية لا تبدو ملائمة لتمرير هذا الخيار، كما أن انفجار الموقف العسكري في المنطقة لا يبدو وارداً، ومن هنا يظل السيناريو الأرجح هو جمود الموقف في ملف الصحراء حتى لو كان المشروع المغربي سجّل مكاسب متزايدة دولياً.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/scenario/abaad-alnashat-aldiblumasi-hawl-milaf-alsahra-wafaq-altaswia

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M